محمد عبدالوهاب... مجدد الموسيقى والغناء في القرن العشرين

محمد عبدالوهاب... مجدد الموسيقى والغناء في القرن العشرين

في آخر ربيع العام الماضي 2016، وبالتحديد يوم الرابع من شهر مايو، مر ربع قرن بالضبط على رحيل موسيقار الأمة العربية ومطربها في القرن العشرين: محمد عبدالوهاب (1898 - 1991).

عندما‭ ‬وضع‭ ‬شيخ‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الراحل‭ ‬كمال‭ ‬النجمي،‭ ‬كتاباً‭ ‬رائعاً‭ ‬عن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬بفترة‭ ‬وجيزة،‭ ‬اختار‭ ‬له‭ ‬العنوان‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬مطرب‭ ‬المائة‭ ‬عام‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬تعبيراً‭ ‬موسيقياً‭ ‬ومعنوياً‭ ‬دقيقاً،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬تاريخي‭ ‬دقيق‭ ‬بالأرقام‭. ‬فظهور‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الفني‭ ‬وتربّعه‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين‭ ‬لم‭ ‬يكتملا‭ ‬قبل‭ ‬انقضاء‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وبداية‭ ‬ربعه‭ ‬الثاني‭ (‬1927‭). ‬لكن‭ ‬ظاهرة‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬لم‭ ‬تغادر‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ (‬بل‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭)‬،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬اعتزل‭ ‬الغناء‭ ‬رسمياً‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬بسبب‭ ‬التقدم‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬حنجرته‭ ‬كمطرب‭ ‬أول،‭ ‬لكن‭ ‬قريحته‭ ‬الموسيقية‭ ‬بقيت‭ ‬على‭ ‬تدفقها‭ ‬وحيويتها‭ ‬وتجددها‭ ‬وتألقها،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬رحيله،‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬الرابعة‭ ‬والتسعين‭.‬

أهم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أن‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬الذي‭ ‬تربع‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬بعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬رحيل‭ ‬أستاذه‭ ‬مؤسس‭ ‬مدرسة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬قد‭ ‬مارس‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬تألقه،‭ ‬وحتى‭ ‬رحيله‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬موسيقية‭ ‬وغنائية‭ ‬امتدت‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وعرضه،‭ ‬تأثيراً‭ ‬مباشراً‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬مجايليه‭ ‬وتلاميذه‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬موسيقيين‭ ‬ومطربين‭ ‬ومطربات،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬مبدعي‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الجيلين‭ ‬الثاني‭ ‬والثالث،‭ ‬قد‭ ‬تخرجوا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الموسيقية،‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬فوزي‭ ‬وفريد‭ ‬الأطرش‭ ‬إلى‭ ‬محمود‭ ‬الشريف،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬كمال‭ ‬الطويل‭ ‬ومحمد‭ ‬الموجي‭ ‬وبليغ‭ ‬حمدي‭ ‬ومنير‭ ‬مراد،‭ ‬وحتى‭ ‬نجم‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬قد‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬مدرسة‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية،‭ ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬جميع‭ ‬عباقرة‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬النهضة‭ ‬الموسيقية‭ ‬العربية‭ ‬المشرقية‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬من‭ ‬الأخوين‭ ‬رحباني‭ ‬إلى‭ ‬زكي‭ ‬ناصيف‭ ‬وتوفيق‭ ‬الباشا،‭ ‬في‭ ‬الموسيقى،‭ ‬ووديع‭ ‬الصافي‭ ‬وفيروز‭ ‬وصباح‭ ‬ونور‭ ‬الهدى‭ ‬في‭ ‬الغناء‭.‬

ولو‭ ‬بحثنا‭ ‬عن‭ ‬الميزة‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬الظاهرة‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية‭ ‬التي‭ ‬مثلها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فهي‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬كونه‭ ‬بعد‭ ‬عاصفة‭ ‬التجديد‭ ‬قصيرة‭ ‬العمر‭ ‬عظيمة‭ ‬الأثر‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1917‭ ‬و1923،‭ ‬مثل‭ ‬جسراً‭ ‬أساسياً‭ ‬بين‭ ‬مدرستي‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬ونهضة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬التي‭ ‬يعتبر‭ ‬عموداً‭ ‬أساسياً‭ ‬من‭ ‬أعمدتها‭.‬

عبدالوهاب،‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬حياته‭ ‬الفنية‭ ‬مطرباً‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأولى،‭ ‬حتى‭ ‬اكتشف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬موهبته‭ ‬الموسيقية،‭ ‬هو‭ ‬تلميذ‭ ‬نجيب‭ ‬من‭ ‬تلاميذ‭ ‬المدرسة‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية‭ ‬للقرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬أكمل‭ ‬اطلاعه‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أعمال‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬وعمل‭ ‬معه‭ ‬فترة،‭ ‬ربما‭ ‬امتدت‭ ‬بين‭ ‬عامين‭ ‬وثلاثة‭ ‬أعوام،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭: ‬أدركت‭ ‬بعد‭ ‬انتهائها‭ ‬أنني‭ ‬أصبحت‭ ‬أدرك‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬الموسيقي‭ (‬سيد‭ ‬درويش‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬أتعرف‭ ‬إلى‭ ‬جدودي‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ (‬مدرسة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭).‬

لم‭ ‬يكتف‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬نشأته‭ ‬الأولى،‭ ‬وتكونه‭ ‬الأول،‭ ‬بالاطلاع‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬العبقري‭ ‬المخضرم‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين‭ (‬سلامة‭ ‬حجازي‭)‬،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬سجل‭ ‬على‭ ‬أسطوانات‭ ‬اثنتين‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬أغنياته‭ ‬‮«‬ويلاه‭ ‬ما‭ ‬حيلتي‮»‬،‭ ‬و«أتيت‭ ‬فألقيتها‭ ‬ساهرة‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يدمن‭ ‬فقط‭ ‬حضور‭ ‬حفلات‭ ‬الطرب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقيمها‭ ‬منشدو‭ ‬تراث‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ (‬مثل‭ ‬حفلات‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحي‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬التصق‭ ‬بكبار‭ ‬المشايخ‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬حفظة‭ ‬تراث‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الشيخ‭ ‬درويش‭ ‬الحريري،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفضل‭ ‬مجلسه،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مذكراته،‭ ‬على‭ ‬مجالس‭ ‬الترف‭ ‬والبذخ‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الأمير‭ ‬يوسف‭ ‬كمال‭ (‬أحد‭ ‬أمراء‭ ‬العائلة‭ ‬المصرية‭ ‬المالكة‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أوائل‭ ‬المغرمين‭ ‬بصوت‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬ومنهم‭ ‬أيضاً‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الشيوخ‭ ‬عباقرة‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني،‭ ‬الذي‭ ‬اتخذه‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬مستشاراً‭ ‬موسيقياً‭ ‬له،‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬أي‭ ‬حتى‭ ‬مرحلة‭ ‬النجومية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬كمطرب‭ ‬وملحن‭ ‬ونجم‭ ‬سينمائي‭.‬

ولو‭ ‬تفحّصنا‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬لنا‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬موسيقي‭ ‬وغنائي‭ ‬في‭ ‬عقدي‭ ‬العشرينيات‭ ‬والثلاثينيات،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬حياته‭ ‬الفنية،‭ ‬فإننا‭ ‬سنلاحظ‭ ‬عمق‭ ‬تأثير‭ ‬مدرسة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ (‬مدرسة‭ ‬الارتجال‭)‬،‭ ‬ومدرسة‭ ‬الإنشاد‭ ‬الديني‭ ‬معاً‭ ‬على‭ ‬غناء‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وموسيقاه،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬مثل‭ ‬قصائده‭ ‬الغنائية،‭ ‬في‭ ‬الرحلتين‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي‮»‬‭ ‬والثانية‭ ‬‮«‬جفنه‭ ‬علّم‭ ‬الغزل‮»‬،‭ ‬و«سهرت‭ ‬منه‭ ‬الليالي‮»‬،‭ ‬و«أعجبت‭ ‬بي‮»‬‭. ‬أي‭ ‬إنه‭ ‬بقي‭ ‬ملتصقاً‭ ‬بجذوره‭ ‬العميقة‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يخوض‭ ‬مجالات‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬التلحين‭ ‬والغناء‭. ‬ولعل‭ ‬ذروة‭ ‬ذلك‭ ‬الانتماء‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬عشرات‭ ‬المواويل‭ ‬التي‭ ‬ابتكر‭ ‬فيها‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عملية‭ ‬فصل‭ ‬الموال‭ ‬عن‭ ‬الوصلة‭ ‬الغنائية،‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬موسيقي‭ ‬وغنائي‭ ‬مستقل،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬الغناء‭ ‬الحي‭ ‬التي‭ ‬ظل‭ ‬ينافس‭ ‬بها‭ ‬الحفلات‭ ‬الحية‭ ‬لأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1939،‭ ‬ويروي‭ ‬الموسيقار‭ ‬اللبناني‭ ‬خالد‭ ‬أبوالنصر،‭ ‬أنه‭ ‬حضر‭ ‬حفلة‭ ‬حية‭ ‬لعبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬حلب،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬غنى‭ ‬خلالها‭ ‬مونولوج‭ ‬‮«‬كثير‭ ‬يا‭ ‬قلبي‮»‬،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ساعتين،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الأغنية‭ ‬على‭ ‬الأسطوانة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الدقائق‭ ‬الست‭.‬

وقد‭ ‬بقيت‭ ‬معالم‭ ‬تأثر‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬هذا‭ ‬بجذور‭ ‬الغناء‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي،‭ ‬ترافقه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬أيامه،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يغرق‭ ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬تجديد‭ ‬وتطوير‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬والغناء‭ ‬العربي‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الملامح‭ ‬التكوينية‭ ‬الأولى‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬عباقرة‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬ورياض‭ ‬السنباطي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬فإن‭ ‬آفاق‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬قد‭ ‬امتدت،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة،‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية،‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬مدمن‭ ‬على‭ ‬سماع‭ ‬تحفها‭ ‬الموسيقية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬التقط‭ ‬العدوى‭ ‬من‭ ‬جلساته‭ ‬مع‭ ‬أبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الراقية‭ ‬من‭ ‬المعجبين،‭ ‬وبعد‭ ‬إدمانه،‭ ‬مع‭ ‬أستاذه‭ ‬في‭ ‬العود‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬على‭ ‬جلسات‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬روائع‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬يحتضن‭ ‬عوده،‭ ‬ويرافق‭ ‬الأوركسترا‭ ‬في‭ ‬الألحان‭ ‬الرئيسة‭ ‬والثانوية‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أدمن‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقابلاته،‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬أذن‭ ‬كبيرة‮»‬،‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬موسيقى‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب‭ ‬الشرقية‭ ‬والغربية،‭ ‬القريبة‭ ‬والبعيدة،‭ ‬وكان‭ ‬يتأثر‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يسمعه،‭ ‬ويحول‭ ‬هذه‭ ‬التأثرات‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬تجديدية‭ ‬في‭ ‬ألحانه،‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬بجذوره‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬ظلت‭ ‬المقامات‭ ‬العربية‭ ‬الأصيلة‭ ‬هي‭ ‬صلب‭ ‬كل‭ ‬إبداعاته‭ ‬الموسيقية،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المراحل،‭ ‬ومختلف‭ ‬التقلبات‭ ‬الفنية‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المزايا‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬تفاصيل‭ ‬الشخصية‭ ‬الفنية‭ ‬لمحمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يتفرّد‭ ‬بميزة‭ ‬خاصة‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬أقرانه‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الموسيقيين‭ ‬والمطربين‭ ‬العرب،‭ ‬وهي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مسكوناً‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬بروح‭ ‬التجديد،‭ ‬منذ‭ ‬بداياته‭ ‬الأولى،‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬نماذجه‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يولد‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬شخصية‭ ‬جديدة،‭ ‬كل‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬تنضم‭ ‬إلى‭ ‬شخصيته‭ ‬الرئيسة،‭ ‬قصيدته‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬في‭ ‬الليل‭ ‬لما‭ ‬خلي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬نظمها‭ ‬له‭ ‬خصيصاً‭ ‬بالعامية‭ ‬المصرية‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬موسيقاها‭ ‬وغنائها،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬نموذجاً‭ ‬شامخاً‭ ‬لينابيع‭ ‬التجديد‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬زمانها‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولا‭ ‬تفقد‭ ‬نضارتها‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬السنين‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التجديد‭ ‬والحيوية‭ ‬الواضحة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الفنية،‭ ‬أنه‭ ‬الملحن‭ ‬المصري‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬انصرف‭ ‬إلى‭ ‬تزويد‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الحناجر‭ ‬اللبنانية‭ ‬التاريخية،‭ ‬بأروع‭ ‬الألحان،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وخصائص‭ ‬الغناء‭ ‬المشرقي‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬مثل‭ ‬ألحانه‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬نور‭ ‬الهدى‭ ‬وصباح‭ ‬وفيروز‭ ‬ووديع‭ ‬الصافي‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭.‬

 

مزايا‭ ‬شخصيته‭ ‬الفنية

إذا‭ ‬حاولنا‭ ‬أن‭ ‬نصنّف‭ ‬الميزة‭ ‬الأبرز‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬المزايا‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬الشخصية‭ ‬الفنية‭ ‬لمحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الموسيقار‭ ‬والمطرب،‭ ‬فهي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬قدماً‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬جذور‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين‭ ‬التقليديين،‭ ‬وقدماً‭ ‬أخرى‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬آفاق‭ ‬التجديد‭ ‬التي‭ ‬بقي‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬مهووساً‭ ‬بها،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاوز‭ ‬التسعين‭ ‬من‭ ‬عمره‭.‬

وهو‭ ‬يفسر‭ ‬توقفه‭ ‬المبكر‭ ‬عن‭ ‬حفلات‭ ‬الغناء‭ ‬الحي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1939،‭ ‬بأنه‭ ‬بدأ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬ذوقه‭ ‬الشخصي‭ ‬يسبق‭ ‬ذوق‭ ‬جمهوره،‭ ‬فحين‭ ‬يحاول‭ ‬إسماعهم‭ ‬جديده‭ ‬العبقري‭ ‬في‭ ‬قصيد‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الجندول‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬الجمهور‭ ‬يطالبه‭ ‬بأغنيات‭ ‬من‭ ‬أواخر‭ ‬العشرينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬مين‭ ‬عذّبك‮»‬،‭ ‬و«لما‭ ‬انت‭ ‬ناوي‮»‬‭. ‬عندئذ‭ ‬أدرك‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬أن‭ ‬مسايرة‭ ‬ذوق‭ ‬الجمهور‭ ‬بدأت‭ ‬تشكّل‭ ‬قيداً‭ ‬على‭ ‬رغباته‭ ‬الجامحة‭ ‬في‭ ‬التجديد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬حدوداً‭.‬

هذه‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬الشخصية‭ ‬الفنية‭ ‬الأعمق‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬العربيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬التي‭ ‬مرّ‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬رحيلها‭ ‬