الطوابع الليبية حافظة تاريخ الشعب ونضاله ضد الاستعمار

الطوابع الليبية حافظة تاريخ الشعب ونضاله ضد الاستعمار

لماذا نستذكرُ  اليومَ بالذات ليبيا الأمس، ليبيا عمر  المختار، وليبيا البطولات والجهاد التي اجتمعت مدنها ومناطقها لمقارعة أشكال الاستبداد؟ ولماذا نلقي الضوءَ على نماذج من مجموعاتها الطوابعية البريدية، ونكشف للقرّاء العرب ما انطوت عليه من جماليات تصويرية بديعة سَطَّرت ملامح مقاومة مشرِّفة لغزو استعماري غاشم واعتداء آثم على أراضٍ وطنية؟ وهل يستوي الكلامُ عن الموروث التاريخي المشرّف لقطر  عربي متخم بالجراح، طابعًا ورسمةً وعنوانًا وتاريخًا مجيدًا، والبلادُ تنوءُ حاليًا بالجراح.

كي نردَّ على تساؤلات منطقية تتبادرُ إلى الأذهان نقول: الطابعُ البريدي الذي نسلنا نماذجَ منه من خزائن الذاكرة الرسمية الليبية، نظامًا وشعبًا، شئنا أن يجلو صورةً مشرّفة لهذا البلد العربي المغاربي. فهو في يقيننا وفي كنه الثقافة التوثيقية والمدرسة الطوابعية التي تحرّك أقلامنا وتستحث عقولنا، واحدٌ من أهم أنسجة الإثبات والتغيير  على تبدّل أحوال العباد والبلاد. بوظائفه الإجرائية الرسمية، وبأوصافه هذه وسواها، فهو كان ولايزال موضعَ اهتمام متقدّم عند الأمم الراقية التي تتطلعُ حكوماتها وإداراتها البريدية إلى حفظ تراثها القومي، المتمثل برموزها وأعلامها وأبطالها، فضلا عن إنجازاتها ومشاريعها وبطولات شعبها، وكنوزها الأثرية ومرافقها الحيوية ومدنها وثرواتها الطبيعية. وأحسبُ أن أدوارنا نحن الباحثين تتمثل في تسخير  الأداة العلمية لكشف النقاب عن «مخبوءات» الطوابع البريدية وجمالياتها المكنوزة. للشعب الليبي تاريخ حافل في مقاومة الاستعمار والاستبداد؛ فمنذ مئة عام ونيف بدأ جهاده ضد قوات الغزو الإيطالية، وخاض المجاهدون الليبيون معارك عدة امتدت لفترة تتراوح بين عامي 1911 و1949.
في عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، وبدأت إنزال قواتها في مدينتي طرابلس  وبنغازي على التوالي في 3 و19 أكتوبر. وفي 18 أكتوبر 1912 أبرمت معاهدة بين الدولتين تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن ليبيا لإيطاليا؛ فبادر الليبيون إلى الاعتماد على أنفسهم ومقاومة الاستعمار، الأمر الذي أبقى على سيطرة الطليان على المدن الساحلية وحال بينهم وبين العمق الليبي. 
تشكل لنا الطوابعية الليبية، وخصوصاً تلك المجموعات التي صدرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، سجلاً حافلاً عن هذه المعارك. وتميزت بالتصاوير الشديدة التعبير الحاملة أسماء أهم المعارك التي خاضها المجاهدون الليبيون ضد الغزاة الإيطاليين.
وقد انتقينا منها هذه المجموعة من الطوابع البريدية التذكارية العائدة لمعارك المجاهدين في الفترة من 1911 إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي أرخت لنا أهميتها وهي: «الهاني (الشط)»–  و«الكويفية» - التي نشبت في عام 1911. أما من المعارك التي نشبت في عام 1912 فسجلت الطوابع لـ  «زوارة» و«سرت» و«درنة». ومن عام 1913 لـ «زاوية اسقفة» و«قار يونس» و«شغاب (شحات)» و«محروقة». ومن عام 1914 «سبها». أما معارك «مصراتة (فندق الجمل)» و«القصبات (سيدي الخمري)» و«يفرن» و«رأس الحمام» و«القرضابيه»، فقد نشبت في عام 1915.
تعتبر معركة الهاني (شارع الشط)، الواقعة يوم الاثنين 23 أكتوبر 1911 أول معركة كبرى حدثت حول مدينة طرابلس، وقد طالت أحداث المعركة كافة أجزاء المدينة من قرقارش غرباً حتى بوستة شرقا،ً مروراً بجنوب المدينة حيث المنشية التي كانت تضم منطقة فشلوم الظهرة وتمتد حتى ميدان التحرير حالياً. 
في الفترة ما بين الحربين الأولى والثانية قامت معارك ضارية، منها ما حفظت لنا الطوابع أسماءها وتواريخها وهي:
«سيدي السائح» و«أبو غيلان» و«فندق الشيباني» التي وقعت عام 1922. 
معركة «المشرك» وقعت في ضواحي مدينة تورغاء في 4 مايو 1923. وقد ذكرها القائد العام العسكري الإيطالي غراتسياني في مذكراته، حيث كتب: «كنا قرابة 12000 مقاتل، منهم 3000 من المجندين الليبيين، يقودهم يوسف خربيش، وكان سعدون السويحلي يقود 4000 مجاهد، منهم حوالي 800 من دون سلاح، ومع ذلك بدأ السويحلي الهجوم ولاقينا مقاومة شديدة»، واستشهد في هذه المعركة المجاهد السويحلي. 
«غرارة (مزده)» عام 1925، و«بئر عثمان» في غدامسو عام 1926. 
معركة «بئر تاقرفت» التي وقعت في عام 1928 هي واحدة من المعارك الكبيرة، استمرت يوماً كاملاً، وانتهت بتقهقر القوات الإيطالية وتردي أوضاعها. وكانت هذه المعركة واحدة من أبرز معارك المجاهدين، إذ استطاع حوالي 300 مجاهد دحر قوة كبيرة يزيد عددها على 4000 جندي إيطالي. 
ينقلنا طابع آخر  إلى عام 1929، ومعركة قيرة تحديداً، حيث تعرضت القوات الإيطالية الزاحفة على مدينة براك لهجمات متوالية من المجاهدين. 
معركة «وادي السانية» التي نشبت بمنطقة الجبل الأخضر في أكتوبر من عام 1930؛ وتقول بعض المصادر إن الشيخ عمر المختار أضاع فيها نظارته، فلمّا وجدها أحد الجنود الإيطاليين أوصلها لقيادته. فقال القائد غراتسياني جملته المشهورة «الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يوماً ما». 
معركة «أبو نجيم» التي وقعت في الكوفية في عام 1940، وكانت آخر ما سجلته لنا الطوابع الليبية من معارك الجهاد ضد الاستعمار. 
لا تستقيم المشهدية الطوابعية ويظهر للعيان تآلفها مع التاريخ والذاكرة الجماعية من دون التوقف عند شخصية محورية لا تزال إلى يومنا هذا تشكل أيقونة ترمز دوماً للبطل الشهيد، وعلى نطاق عالمي، ونعني شيخ المجاهدين السيد عمر مختار بن عمر المنفي الهلالي (1858 - 1931) الذي تمركز في قلب الشعب الليبي ونضاله من أجل الحرية؛ فهو وفي سنّ الـ 53 حارب الإيطاليين بضراوة وبسالة، لمدة عشرين عاماً، إلى أن قبض عليه وأجريت له محاكمة صورية انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقاً، فنفذت فيه العقوبة وهو في الـ73 من عمره. 
نختم بالقول إن المقاربة الطوابعية لمبدأ جهاد النفس في سبيل تحرّر الأوطان الذي تمحورت حوله مقالتنا، وأبرزت تفاصيله النماذج المدروسة في متنها، ما هو إلا عمل توثيقي واجب؛ لا بل هو وقفةُ عزٍ وفخرٍ ولحظةُ تأملٍ. وقد رغبنا في استحضارها بالكلمة المأنوسة الشارحة والمشهدية الطوابعية، لنذكِّرَ إن نفعت الذكرى بأهمية الثروة الطوابعية وأدوارها التحفيزية لوعي محطات الماضي. فلفتُ أنظار الجمهور إلى القيم الجمالية وتلك الوطنية والقومية التي تختزنها الطوابع في وريقاتها الضئيلة الحجم والمكثفة الدلالة، وتنضح بها، لونًا ورمزًا وعنواناً موحيًا، تؤهلها بلا ريبٍ لتخليد اسمها في السجل التاريخي للأمم ■