دييجو فيلاسكيز رسَّام العصر الذهبي الإسباني

دييجو فيلاسكيز رسَّام العصر الذهبي الإسباني

دييجو فيلاسكيز (دييجو رودريجز ده سيلفا إي فيلاسكيز
Diego Rodríguez de Silva y Velázquez (1660–1599) أشهــــــر رســــامـــــــي المدرسة الإسبانية. ولد بإشبيلية من أصل برتغالي، فقد كان جده لأبيه نبيلاً برتغالياً رحل عن أوبورتو إلى إشبيلية بعد أن فقد كل ثروته. تتلمذ على يد فرانسيسكو دي هريرا وفرانسيسكو باتشيكو، ثم نزح إلى مدريد عام 1622، وأصبح الفنان الرئيس والرسمي في بلاط الملك فيليب الرابع، واحتفظ بهذا المنصب طوال حياته. حظي فيلاسكيز  دائماً بصداقة الملك، وعاش طوال حياته في إسبانيا فيما عدا زيارتين لإيطاليا في 1629 و1649. يتميز أسلوبه بتغليب القيم الفكرية على القيم العاطفية، وببراعته الفريدة في استخدام الألوان، ولمع كرسام بورتريه. أخرج صوراً كثيرة للأسرة المالكة وشخصيات البلاط، إلى جانب لوحاته عن موضوعات دينية، وأخرى تتصل بالتاريخ أو الميثولوجية الإغريقية. 

يعتبر‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬فناناً‭ ‬انفرادياً‭ ‬معاصراً‭ ‬لفترة‭ ‬عصر‭ ‬الباروك،‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬رسمه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناظر‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية،‭ ‬رسم‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬البورتريهات‭ ‬للعائلة‭ ‬المالكة‭ ‬الإسبانية،‭ ‬ولشخصيات‭ ‬أوربية‭ ‬بارزة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولعوام‭ ‬الناس‭ ‬أيضاً،‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬رائعته‭ ‬لاس‭ ‬منيناس‭ ‬أو‭ ‬‮«‬وصيفات‭ ‬الشرف‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1656م؛‭ ‬وهي‭ ‬اللوحة‭ ‬المعروضة‭ ‬في‮ ‬موزيو‭ ‬دل‭ ‬برادو في‭ ‬مدريد،‮ ‬بإسبانيا،‭ ‬والتي‭ ‬اعتُبرت‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬رسم‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬وأطلق‭ ‬عليها‭ ‬الرسام‭ ‬الإنجليزي‭ ‬توماس‭ ‬لورنس‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الفن‮»‬‭.‬

ومازال‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬يعتبر‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الباروك‭ ‬بإسبانيا‭ ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬تاثيراً‭ ‬كبيراً‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬وأهمهم‭ ‬‮«‬غويا‮»‬،‭ ‬وتحتل‭ ‬لوحاته‭ ‬متاحف‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

 

نبــــوغ‭ ‬مبكــــر‭ ‬

في‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬سنة‭ ‬1599م‭ ‬ولد‭ ‬دييجو‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬لوالدين‭ ‬من‭ ‬صغار‭ ‬النبلاء،‭ ‬وكان‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أطفالهما‭ ‬الستة،‭ ‬و«سميدييكو‭ ‬رودريكز‭ ‬ده‭ ‬سيلفا‮»‬‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬عائلة‭ ‬والدة‭ ‬فيلاسكيز؛‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬أبيه‭ ‬حسب‭ ‬العرف‭ ‬الإسباني؛‭ ‬فهي‭ ‬عادة‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬جنوبي‭ ‬إسبانيا‭.‬

‮ ‬حظي‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬بتعليم‭ ‬جيد،‭ ‬وتعلم‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬اللاتينية‭ ‬والفلسفة،‭ ‬وجرب‭ ‬دراسة‭ ‬العلوم‭ ‬حيناً،‭ ‬ثم‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬الرسم،‭ ‬وعندما‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭,‬‭ ‬أرسله‭ ‬والده‭ ‬ليتدرب‭ ‬على‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬خوان‭ ‬دي‭ ‬هيرير،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الرسامين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬حيث‭ ‬قضى‭ ‬معه‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ (‬ست‭ ‬سنوات‭)‬‭,‬‭ ‬أتقن‭ ‬خلالها‭ ‬أساليب‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الأسلوب‭ ‬الواقعي‭ ‬الإيطالي‭. ‬ثم‭ ‬قضى‭ ‬فترة‭ ‬أطول‭ ‬في‭ ‬التدرب‭ ‬على‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬باتشيكو‭. ‬

حصل‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬على‭ ‬رعاية‭ ‬معلمه‭ ‬باتشيكو‭ ‬الذي‭ ‬قدر‭ ‬نبوغه‭ ‬وعرَّفه‭ ‬بكبار‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬في‭ ‬إشبيلية‭,‬‭ (‬وهؤلاء‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬اللاحقة‭ ‬ذات‭ ‬المواضيع‭ ‬الأسطورية‭ ‬الكلاسيكية‭)‬،‭ ‬وفيما‭ ‬بعد‭ ‬تزوج‭ ‬من‭ ‬ابنة‭ ‬أستاذه‭. ‬يقول‭ ‬باتشيكو‭: ‬‮«‬زوّجْته‭ ‬لابنتي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أغراني‭ ‬شبابه‭ ‬ونزاهته‭ ‬وخصاله‭ ‬الحميدة‭ ‬وما‭ ‬يرجى‭ ‬لنبوغه‭ ‬الطبيعي‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬مستقبل‭ ‬مرموق‮»‬‭.‬

أقام‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬مرسمه‭ ‬الخاص،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬النظر‭ ‬بإيثاره‭ ‬للمواضيع‭ ‬الدنيوية‭. ‬وقد‭ ‬اختلط‭ ‬بالدهماء،‭ ‬وكان‭ ‬يغتبط‭ ‬بنقل‭ ‬أفكارهم‭ ‬وترجمة‭ ‬حياتهم‭ ‬إلى‭ ‬وجوههم‭. ‬ورسم،‭ ‬وهو‭ ‬مازال‭ ‬فتى‭ ‬في‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬لوحة‭ ‬رائعة‭ ‬أسماها‭ ‬‮«‬سقاء‭ ‬إشبيلية‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬لوحة‭ ‬تُظهر‭ ‬سقاء‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬رث‭ ‬وفي‭ ‬ملامحه‭ ‬يبدو‭ ‬الصبر‭ ‬الجميل،‭ ‬صورة‭ ‬ترمز‭ ‬للفقر‭ ‬مع‭ ‬الأمانة‭.‬

 

فــــورة‭ ‬من‭ ‬الطمــــوح

في‭ ‬عامه‭ ‬الثالث‭ ‬والعشرين‭ ‬سافر‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬الإسبانية‭ ‬مدريد،‭ ‬لرؤية‭ ‬مجموعة‭ ‬اللوحات‭ ‬الملكية‭,‬‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭,‬‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬نوى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬وظيفة‭ ‬راقية،‭ ‬فقد‭ ‬ساقته‭ ‬فورة‭ ‬من‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬مدريد،‭ ‬فانطلق‭ ‬إليها‭ ‬1622‭ ‬يتأبط‭ ‬فرشاته‭ ‬وألوانه‭. ‬وهناك‭ ‬حاول‭ ‬التقرب‭ ‬من‭ ‬البلاط‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يفلح‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬فيليب‭ ‬الرابع‭ ‬وأوليفارس‭ ‬كانا‭ ‬مشغولين‭ ‬بالسياسة‭ ‬والزيجات‭ ‬والحروب،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬فنانين‭ ‬يتسلقون‭ ‬السلم‭ ‬نفسه‭. ‬وفوق‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬كانت‭ ‬إشبيلية‭ ‬وكهانها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أضيق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتسعا‭ ‬نبوغه‭!‬

وعندما‭ ‬أخفق‭ ‬دييجو‭ ‬في‭ ‬مسعاه،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬إشبيلية‭. ‬وخلال‭ ‬زيارته‭ ‬الأولى‭ ‬تلك‭ ‬صور‭ ‬الشاعر‭ ‬جونجورا‭ (‬بوسطن‭)‬،‭ ‬ببصيرة‭ ‬اكتمل‭ ‬نضجها،‭ ‬فالعينان‭ ‬تنبضان‭ ‬بالحياة‭ ‬والأنف‭ ‬نافذ‭ ‬إلى‭ ‬صميم‭ ‬الواقع‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬انقضى‭ ‬عام،‭ ‬وفد‭ ‬الأمير‭ ‬تشارلز‭ ‬ستيوارت‭ ‬إلى‭ ‬مدريد،‭ ‬وتردد‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬بنات‭ ‬الملك،‭ ‬وأبدى‭ ‬تذوقاً‭ ‬للفن،‭ ‬فأرسل‭ ‬أوليفارس‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬فيلاسكيز‭. ‬وهكذا؛‭ ‬ركب‭ ‬الفتى‭ ‬الأسود‭ ‬العينين‭ ‬والشعر‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهناك‭ ‬رسم‭ ‬لوحة‭ ‬بورتريه‭ ‬للملك‭ ‬فيليب‭ ‬الرابع‭ ‬نالت‭ ‬إعجابه،‭ ‬فقد‭ ‬استهوى‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬صوره‭ ‬فارساً‭ ‬باسلاً‭ ‬يمتطي‭ ‬فرساً‭ ‬يطفر‭. ‬وعلى‭ ‬الفور؛‭ ‬عينه‭ ‬مصوراً‭ ‬رسمياً‭ ‬للبلاط‭ ‬الملكي،‭ ‬ولم‭ ‬يقنع‭ ‬فيليب‭ ‬بمجرد‭ ‬الجلوس‭ ‬أمام‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬ليصوره‭ ‬مراراً‭ ‬وتكراراً،‭ ‬ولكنه‭ ‬شجع‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة‭ (‬الإخوة‭ ‬والأخوات‭ ‬والأطفال‭) ‬ورجال‭ ‬البلاط‭ (‬الوزراء‭ ‬والقادة‭ ‬والشعراء‭ ‬والمضحكين‭ ‬والأقزام‭) ‬أن‭ ‬يجلس‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬بدوره‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الريشة‭ ‬الخالدة‭. ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬منحه‭ ‬مرسماً‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الملكي،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المرسم‭ ‬رسم‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬للملك‭ ‬ولأفراد‭ ‬أسرته‭ ‬ولرجال‭ ‬البلاط؛‭ ‬وداخله‭ ‬وعلى‭ ‬مقربة‭ ‬منه،‭ ‬أنفق‭ ‬أكثر‭ ‬السنين‭ ‬السبع‭ ‬والثلاثين‭ ‬الباقية‭ ‬من‭ ‬عمره‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬فرصة‭ ‬رائعة،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬سجناً‭ ‬مضيقاً‭ ‬للأفق‭ ‬الفني‭ ‬لمبدع‭ ‬مثله،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مؤثراً‭ ‬كبيراً‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬توسع‭ ‬آفاق‭ ‬وأنماط‭ ‬الرسم‭ ‬لديه،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الرسام‭ ‬روبنز،‭ ‬أشهر‭ ‬فناني‭ ‬العالم‭ ‬يومئذ‭ ‬والمصور‭ ‬المستهتر‭ ‬للأرباب‭ ‬الوثنية‭ ‬والأجساد‭ ‬العارية‭ ‬الشهوانية،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬زار‭ ‬مدريد‭ ‬عام‭ ‬1628‭. ‬وتأثر‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬بفن روبنز‭ ‬الذي‭ ‬نصحه‭ ‬بأن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وإلى‭ ‬البندقية‭ ‬خاصة،‭ ‬ويدرس‭ ‬أعمال‭ ‬نوابغ‭ ‬التلوين‭. ‬والتمس‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬الإذن‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬فيليب،‭ ‬فوافق‭ ‬ومنحه‭ ‬إجازة‭ ‬وأربعمائة‭ ‬دوكاتيه‭ ‬ثمينة‭ ‬لنفقات‭ ‬الرحلة‭.‬

 

السفر‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬

سافر‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬عام‭ ‬1629،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬فيرارا‭ ‬وروما،‭ ‬ونسخ‭ ‬صور‭ ‬التماثيل‭ ‬الرخامية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬روما‭ ‬العامة،‭ ‬وحسد‭ ‬مايكل‭ ‬أنجلو‭ ‬على‭ ‬رسمه‭ ‬الصور‭ ‬الجصيّة‭ ‬على‭ ‬سقف‭ ‬كنيسة‭ ‬السيستين‭ ‬الصغيرة‭. ‬وقد‭ ‬أعانت‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الفخمة‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬ظلال‭ ‬كارفادجو‮ ‬القائمة‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬أكثر‭ ‬حدة‭ ‬للأشكال‭ ‬في‭ ‬الضوء‭ ‬الواضح،‭ ‬ثم‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬نابولي‭ ‬ليزور‭ ‬ريبيرا،‭ ‬ومنها‭ ‬قفل‭ ‬راجعاً‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1631م؛‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أمضى‭ ‬سنتين‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬ودراسة‭ ‬أعمال‭ ‬كبار‭ ‬فناني‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬والفنانين‭ ‬المعاصرين،‭ ‬فأتقن‭ ‬أساليبهم‭ ‬الفنية،‭ ‬مثل‭ ‬رسم‭ ‬تأثير‭ ‬الضوء‭ ‬والظل‭ ‬ومراقبة‭ ‬الطبيعة‭ ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬وظهر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬يوسف‭ ‬وإخوته‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬أثناء‭ ‬رحلته‭ ‬عائداً‭ ‬من‭ ‬إيطاليا،‭ ‬التقى‭ ‬بالجنرال‭ ‬الإسباني‭ ‬أمبروكيو‭ ‬سبينولا،‭ ‬ووقع‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬موقعاً‭ ‬جميلاً‭ ‬ذلك‭ ‬النبل‭ ‬الفروسي‭ ‬الذي‭ ‬اتسم‭ ‬به‭ ‬القائد‭ ‬الكبير،‭ ‬فسجل‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬الرائعة‭  ‬‮«‬استسلام‭ ‬بريدا‮»‬‭ ‬La‭ ‬rendición‭ ‬de‭ ‬Breda؛‭ ‬وتصور‭ ‬تلك‭ ‬التحفة‭ ‬انتقال‭ ‬مفتاح‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬الهولنديين‭ ‬إلى‭ ‬الجيش‭ ‬الإسباني‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حصار‭ ‬بريدا‭. ‬بدا‭ ‬فيها‭ ‬الرماحون‭ ‬الإسبان‭ ‬المنتصرون‭ ‬يرفعون‭ ‬حرابهم‭ ‬عالياً،‭ ‬والمدينة‭ ‬تحترق،‭ ‬والقائد‭ ‬المهزوم‭ ‬المستسلم‭ ‬جوستين‭ ‬الناساوي‭ ‬يقدم‭ ‬مفاتيح‭ ‬المدينة‭ ‬إلى‭ ‬سبينولا،‭ ‬والفاتح‭ ‬الشهم‭ ‬يهنئ‭ ‬الرجل‭ ‬المغلوب‭ ‬على‭ ‬بسالة‭ ‬دفاعه‭.‬

وقد‭ ‬حقق‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬في‭ ‬مفارقات‭ ‬اللون‭ ‬العجيبة‭ ‬وفي‭ ‬تمييز‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬الأتباع‭ ‬تفوقاً‭ ‬جعل‭ ‬الملك‭ ‬فيليب‭ ‬الرابع‭ ‬يعرض‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬بوين‭ ‬ريتيرو‭.‬

وتعتبر‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬لوحات‭ ‬فيلاسكيز؛‭ ‬حيث‭ ‬تُظهر‭ ‬جنرالاً‭ ‬إسبانياً‭ ‬عظيماً‭ ‬يلتقي‭ ‬قائد‭ ‬الجيش‭ ‬المنهزم،‭ ‬وفيها‭ ‬برع‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬برسم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التعابير‭ ‬والأحاسيس‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬الأشخاص‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬واحدة،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬أشهر‭ ‬لوحة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الباروك‭ ‬الإسباني‭.‬

 

العودة‭ ‬إلى‭ ‬مدريد‭ ‬

عاد‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬إلى‭ ‬مدريد‭ ‬ليتابع‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الملكي،‭ ‬فرسم‭ ‬لوحات‭ ‬كثيرة‭ ‬للملك‭ ‬وأفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬الملكية‭ ‬والحاشية‭. ‬وكان‭ ‬ألطف‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬لوحة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬بلتازار‭ ‬كارلوس‭ ‬مع‭ ‬قزم‮»‬،‭ ‬عبر‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الحزن‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬موت‭ ‬الأمير‭ ‬الصغير‭ ‬الدون‭ ‬بلتازار‭ ‬كارلوس‭ ‬الصغير،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مناط‭ ‬آمال‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة‭. ‬وكان‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬قد‭ ‬رسم‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬الجميل‭ ‬المرة‭ ‬بعد‭ ‬المرة؛‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وافته‭ ‬المنية‭. ‬وجاءت‭ ‬سلسلة‭ ‬صور‭ ‬الأمير‭ ‬تترى؛‭ ‬مرة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬اغتباط‭ ‬واضح،‭ ‬ومرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1631‭ ‬ومعه‭ ‬قزم‭ ‬تابع،‭ ‬ومرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1632‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬فتنة‭ ‬البلاط،‭ ‬ومرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1634‭ ‬وهو‭ ‬يلوح‭ ‬بعصا‭ ‬المارشالية،‭ ‬ممتطياً‭ ‬في‭ ‬كبرياء‭ ‬جواداً‭ ‬ضخماً‭ (‬وهو‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬صياداً‭ ‬يمسك‭ ‬بندقيته‭ ‬بعناية،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمير‭ ‬اللطيف‭ ‬المحبوب‭ ‬كان‭ ‬أرق‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقتل‭ ‬أو‭ ‬يحكم؛‭ ‬فقد‭ ‬أصابته‭ ‬الحمى‭ ‬وقضت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬عامه‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬البريء‭ ‬خير‭ ‬رد‭ ‬على‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬رأوا‭ ‬أن‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬لم‭ ‬يرسم‭ ‬غير‭ ‬السطوح‭ ‬الظاهرية‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭. ‬

 

فخ‭ ‬المنصب‭ ‬الملكي

علا‭ ‬شأن‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الملكي؛‭ ‬وتم‭ ‬تكليفه‭ ‬بعمل‭ ‬الديكور‭ ‬لقاعة‭ ‬العرش‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الملكي‭ ‬الجديد‭,‬‭ ‬وكان‭ ‬الديكور‭ ‬مؤلفاً‭ ‬من‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬مشهداً‭ ‬لمعارك‭ ‬انتصرت‭ ‬فيها‭ ‬الجيوش‭ ‬الإسبانية‭. ‬وقام‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬بتكليف‭ ‬أشهر‭ ‬الفنانين‭ ‬برسمها،‭ ‬ورسم‭ ‬هو‭ ‬إحداها؛‭ ‬فكانت‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬استسلام‭ ‬بريدا‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬لوحات‭ ‬قاعة‭ ‬العرش‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬بوين‭ ‬ريتيرو‭.‬

وهكذا؛‭ ‬نال‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬ما‭ ‬تمنى؛‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬‮«‬مدير‭ ‬للقصر‭ ‬الملكي‮»‬؛‭ ‬وأمضى‭ ‬السنوات‭ ‬العشرين‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬يعمل‭ ‬كمسؤول‭ ‬القصر‭ ‬ومهندس‭ ‬الديكور‭ ‬الأول‭ ‬للبلاط‭ ‬الملكي‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الحقيقة؛‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬تشريفاً‭ ‬لفنان‭ ‬مثله،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬اقترف‭ ‬أفدح‭ ‬خطأ‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬حين‭ ‬التمس‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬الإدارية‭ ‬في‭ ‬القصر،‭ ‬فقد‭ ‬تطلبت‭ ‬منه‭ ‬الإشراف‭ ‬الشخصي‭ ‬على‭ ‬القصر،‭ ‬على‭ ‬أثاثه‭ ‬وزينته،‭ ‬وعلى‭ ‬تدفئته‭ ‬وصيانته‭ ‬الصحية‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬ترتيب‭ ‬ما‭ ‬يقام‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬من‭ ‬مسرحيات‭ ‬ومراقص‭ ‬ومباريات،‭ ‬وتوفير‭ ‬الإقامة‭ ‬للحاشية‭ ‬خلال‭ ‬أسفار‭ ‬الملك‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرافق‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬رحلاته‭ ‬الكبيرة،‭ ‬سواء‭ ‬للهو‭ ‬أو‭ ‬السياسة‭ ‬أو‭ ‬الحرب‭. ‬

ولعل‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سئم‭ ‬الرسم،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬أحس‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬منتهى‭ ‬إمكاناته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الميدان،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬زهو‭ ‬المكانة‭ ‬الملكية‭ ‬وأُبهة‭ ‬المنصب‭ ‬قد‭ ‬طغيا‭ ‬على‭ ‬شعوره‭ ‬بالإبداع‭ ‬والعبقرية‭.‬

 

السفر‭ ‬لإيطاليا‭ ‬من‭ ‬جديد

في‭ ‬عام‭ ‬1649؛‭ ‬قام‭ ‬الملك‭ ‬فيليب‭ ‬بدفع‭ ‬نفقات‭ ‬زيارة‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬الثانية‭ ‬لإيطاليا‭ ‬مكافأة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬جهد‭ ‬ستة‭ ‬وعشرين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬التفاني‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬البلاط‭ ‬الملكي‭. ‬وكلف‭ ‬الملك‭ ‬الفنان‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬مصبوبات‭ ‬من‭ ‬التماثيل‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬وشراء‭ ‬لوحات‭ ‬بريشة‭ ‬أئمة‭ ‬الفن‭ ‬الإيطاليين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تكوين‭ ‬مجموعة‭ ‬الملك‭ ‬الفنية‭. ‬وبقي‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬مدة‭ ‬سنة‭ ‬كلف‭ ‬خلالها‭ ‬برسم‭ ‬البابا‭ ‬‮«‬إنوسنت‭ ‬العاشر»؛‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬أفضل‭ ‬صورة‭ ‬رسمت‭ ‬في‮ ‬إيطاليا في‭ ‬عام‭ ‬1650‭.‬‭ ‬

 

اللوحات‭ ‬الملكية‭ ‬

في‭ ‬السنوات‭ ‬التسع‭ ‬المتبقية‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬العمر؛‭ ‬لم‭ ‬يمنح‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬الرسم‭ ‬غير‭ ‬الوقت‭ ‬القليل‭ ‬الذي‭ ‬اقتطعه‭ ‬من‭ ‬مهامه‭ ‬الرسمية‭ ‬الثقيلة‭. ‬فاستأنف‭ ‬تصوير‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة،‭ ‬وكبار‭ ‬رجال‭ ‬البلاط،‭ ‬والملك‭ ‬نفسه‭. ‬ورسم‭ ‬ثلاث‭ ‬لوحات‭ ‬جميلة‭ ‬للأميرة‭ ‬مارجاريتا،‭ ‬وصورها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وهي‭ ‬تمثل‭ ‬مركزاً‭ ‬لإحدى‭ ‬روائعه‭ ‬المسماة‭ ‬‮«‬لاس‭ ‬منيناس‮»‬‭ ‬Las‭ ‬Meninas‭ ‬وبالعربية‭: ‬‮«‬وصيفات‭ ‬الشرف‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬صديقات‭ ‬العروس‮»‬،‭ ‬وفيها‭ ‬رسم‭ ‬الأميرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬محاطة‭ ‬بوصيفات‭ ‬الشرف‭ ‬والخدم‭ ‬والأقزام‭ ‬والمهرجين‭ ‬والكلب‭,‬‭ ‬وفي‭ ‬مؤخرة‭ ‬اللوحة‭ ‬مرآة‭ ‬ظهر‭ ‬فيها‭ ‬الملك‭ ‬والملكة؛‭ ‬ورسم‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬ذاته‭ ‬بينما‭ ‬يرسمهم‭ ‬أمام‭ ‬اللوحة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة؛‭ ‬رسم‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬نفسه‭ ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬سنيه‭ ‬الأخيرة؛‭ ‬رجلاً‭ ‬له‭ ‬شعر‭ ‬غزير،‭ ‬فخوراً‭ ‬بشاربه؛‭ ‬ذا‭ ‬عينين‭ ‬فيهما‭ ‬أثر‭ ‬من‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬أما‭ ‬الفم‭ ‬فيبدو‭ ‬شهوانياً‭. ‬ومع‭ ‬ذلك؛‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬سجله‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الانحرافات‭ ‬الجنسية‭ ‬والصراعات‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الفنانين،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬يحظى‭ ‬بمقام‭ ‬رفيع‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬بفضل‭ ‬آدابه‭ ‬العالية،‭ ‬وروحه‭ ‬المرحة،‭ ‬وحياته‭ ‬الأسرية‭ ‬المهذبة‭.‬

بعد‭ ‬ذلك؛‭ ‬قام‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬برسم‭ ‬الأميرة‭ ‬مارجاريتا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬تنورتها‭ ‬الزرقاء‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬ساقيها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬سراً‭ ‬مقدساً‭ ‬يكتنفه‭ ‬الغموض‭. ‬وقبيل‭ ‬موته‭ ‬رسمها‭ ‬مرة‭ ‬أخيرة‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬جسدت‭ ‬البراءة‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬مخرم‭. ‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1657‭ ‬زاغ‭ ‬من‭ ‬القصر‭ ‬ليرسم‭ ‬لوحة‭ ‬‮«‬نساجي‭ ‬القماش‭ ‬المرسوم‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تُظهر‭ ‬وجوهاً‭ ‬رائعة‭ ‬اقتنصها‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬ضجيج‭ ‬العمل‭ ‬ووقاره‭. ‬وفي‭ ‬السنة‭ ‬ذاتها‭ ‬تحدى‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬محكمة‭ ‬التفتيش،‭ ‬وصدم‭ ‬احتشام‭ ‬إسبانيا،‭ ‬برسمه‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬فينوس‭ ‬أمام‭ ‬مرآتها»؛‭ ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬فيها‭ ‬ظهر‭ ‬فينوس‭ ‬الجميلة‭ ‬وأردافها‭ ‬العارية،‭ ‬وقد‭ ‬أُطلق‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬فينوس‭ ‬روكي‮»‬‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬لطول‭ ‬ما‭ ‬مكثت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أسرة‭ ‬إنجليزية‭ ‬تحمل‭ ‬هذا‭ ‬الاسم،‭ ‬اشترتها‭ ‬بمبلغ‭ ‬500‭ ‬جنيه‭ ‬استرليني،‭ ‬ثم‭ ‬باعتها‭ ‬لقاعة‭ ‬الفن‭ ‬الأهلية‭ ‬بلندن‭ ‬بمبلغ‭ ‬45‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬استرليني‭. ‬وبقي‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الملك‭ ‬كرسام‭ ‬ورجل‭ ‬بلاط‭ ‬وصديق‭ ‬وفي‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬حياته‭. ‬وفي‭ ‬التاسعة‭ ‬والخمسين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬أنعم‭ ‬عليه‭ ‬الملك‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬فارس‭ ‬سانتياغو‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬تقديراً‭ ‬كبيراً‭ ‬تمناه‭ ‬وانتظره‭ ‬طويلاً‭.‬

وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬اللوحات‭ ‬الملكية؛‭ ‬خلف‭ ‬لنا‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬لوحات‭ ‬لزوجته‭ ‬خوانا‭ ‬وابنته‭ ‬فرانسسكا،‭ ‬ولعل‭ ‬النموذج‭ ‬الذي‭ ‬نقل‭ ‬عنه‭ ‬لوحته‭ ‬‮«‬السيدة‭ ‬ذات‭ ‬المروحة‮»‬‭ ‬يرجع‭ ‬لابنته‭ ‬فرانسسكا‭. ‬كما‭ ‬رسم‭ ‬زوجها‭ ‬خوان‭ ‬باوتستا‭ ‬ديل‭ ‬ماتو‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬أسماها‭ ‬‮«‬أسرة‭ ‬الفنان‮»‬‭ ‬يبدو‭ ‬فيها‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬وفي‭ ‬خلفيته‭ ‬مرسم،‭ ‬ومعه‭ ‬خمسة‭ ‬أطفال‭ ‬أعانوا‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الأسرة‭.‬

 

المهمة‭ ‬الأخيرة

أما‭ ‬المهمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬فيلاسكيز،‭ ‬فكانت‭ ‬ترتيب‭ ‬المراسم‭ ‬والاحتفالات‭ ‬المعقدة‭ ‬لحفل‭ ‬زواج‭ ‬الأميرة‭ ‬ماريا‭ ‬تريزا‭ ‬ابنة‭ ‬ملك‭ ‬إسبانيا،‭ ‬من‭ ‬ملك‭ ‬فرنسا‭ ‬لويس‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭. ‬جرى‭ ‬الاحتفال‭ ‬سنة‭ ‬1660م‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬إسبانيا‭ ‬وفرنسا؛‭ ‬حيث‭ ‬تقرر‭ ‬أن‭ ‬يصاحب‭ ‬الحفل‭ ‬توقيع‭ ‬معاهدة‭ ‬البرانس‭ ‬على‭ ‬جزيرة‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬بداسوا‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬الحدود،‭ ‬حيث‭ ‬استقبل‭ ‬ملك‭ ‬فرنسا‭ ‬عروسه‭ ‬ووقع‭ ‬الملكان‭ ‬معاهدة‭ ‬البرينيه‭ ‬التي‭ ‬أنهت‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وإسبانيا‭. ‬

وكان‭ ‬على‭ ‬فيلاسكيز‭ ‬أن‭ ‬يدبر‭ ‬نقل‭ ‬الحاشية‭ ‬إلى‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬عبر‭ ‬إسبانيا‭ ‬إلى‭ ‬سان‭ ‬سباستيان،‭ ‬ويجهز‭ ‬أربعة‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬بغال‭ ‬النقل‭ ‬لحمل‭ ‬الأثاث‭ ‬والصور‭ ‬وقطع‭ ‬النسيج‭ ‬المرسوم‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬زينات‭ ‬وتحف‭ ‬العرس‭ ‬الملكي‭.‬

ولدى‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬مدريد‭ ‬مرض‭ ‬الرسام‭ ‬التائه‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬الموظف،‭ ‬‮«‬وقد‭ ‬أضناه‭ ‬سفر‭ ‬الليل‭ ‬وكد‭ ‬النهار‮»‬‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬لصديق،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬والستين‭ ‬من‭ ‬عمره‭. ‬وفي‭ ‬31‭ ‬يوليو‭ ‬لزم‭ ‬الفراش‭ ‬مصاباً‭ ‬بحمى‭ ‬ثلثية،‭ ‬وفي‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬أغسطس‮ ‬سنة‭ ‬1660م،‭ ‬أو‭ ‬بعبارة‭ ‬أول‭ ‬مترجم‭ ‬لحياته‭ ‬‮«‬في‭ ‬عيد‭ ‬تجلي‭ ‬المسيح‭... ‬أسلم‭ ‬روحه‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬خلقها‭ ‬لتكون‭ ‬أعجوبة‭ ‬من‭ ‬أعاجيب‭ ‬الدنيا‮»‬‭. ‬وما‭ ‬مضت‭ ‬ثمانية‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬ووريت‭ ‬زوجته‭ ‬الثرى‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬