علاقة السيوطي بالخلفاء العباسيين في مصر وأثر ذلك على كتاباته

علاقة السيوطي بالخلفاء العباسيين  في مصر وأثر ذلك على كتاباته

لا شك في أن معرفة الحياة الشخصية للمُؤلِّف مهمة لفهم مؤلّفاته والحُكم عليها، لانعكاس أضواء هذه الحياة عليها، سواء في اتجاه التأليف أو محتواه، ورغم كثرة الدراسات التي كُتِبَت عن السيوطي (ت:911هـ/ 1505م) فإن أحداً - على حدّ علمي - لم يتعرض لطبيعة علاقته بالخلفاء العباسيين، وأثر ذلك على إنتاجه المعرفي ومحتواه. 

لم تكن علاقة السيوطي بالخلفاء العباسيين وليدة اللحظة، بل كانت استكمالاً لعلاقة والده، كمال الدين أبوبكر، القوية بهم، وخاصة الخليفة المستكفي بالله سليمان قبل ولايته الخلافة.
لما حضرت أخيه المُعتضد بالله داوود الوفاة، عهد إليه بالخلافة سنة 845هـ/1441م، وكان والد السيوطي هو الذي كتب له نَصّ عهد تولية الخلافة، وظلت علاقة والد السيوطي خصيصاً بالمستكفي بالله حتى مات سنة 854هـ/1450م، وتبعه والد السيوطي بعد أربعين يوماً.
تنقلت الخلافة بعد المستكفي بالله في عدد من أفراد البيت العباسي، كان آخرهم الخليفة المستنجد بالله يوسف، الذي بويع بالخلافة سنة 859هـ ـ/1455م، وكانت علاقة السيوطي به ممتازة، لدرجة أنه لمَّا قدم ملك بلاد التكرور إلى القاهرة في سنة 882هـ /1477م زار السيوطي، وسأله بحكم منزلتهِ عند الخليفة أن يكتب له تقليداً بحُكم بلادهِ لتكون صحيحة الشرع؛ فأرسل إلى الخليفة في ذلك ففعل، وكتب السيوطي التقليد له. 
وقد عهد الخليفة المستنجد بالله يوسف بالخلافة قبل موتهِ (في شهر المحرم سنة 884هـ/ مارس1479م) إلى ابن أخيهِ المتوكل على الله عبدالعزيز، وكانت علاقته بالسيوطي قديمة قبل أن يتولى الخلافة، فقد تعلّم على يد والد السيوطي وغيره من المشايخ، وقد أجاز له باستدعاء السيوطي عدداً من المُسندِين، وقد خرّج لهم عنه جزءاً حَدَّثَ به الخليفة سماه «مرويات أمير المؤمنين العباس»، ولهذا الجزء نسخة خطية مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة برقم 641 حديث ومصطلح عن أصل نسخة الرباط رقم 1027 ك، وتقع في ورقتين.

كبير القضاة
كانت حال السيوطي مع الخليفة المتوكل على الله كحال والده مع المستكفي بالله، وظلت هذه العلاقة حتى وفاة الخليفة سنة 903هـ /1497م، ففي صفر سنة 902هـ/ أكتوبر1496م عهد الخليفة إلى الإمام السيوطي بوظيفة لم يُسمع بها قط، وهو أنه جعله قاضياً كبيراً على سائر القضاة، يُولِّي منهم مَن شاء، ويعزل مَن شاء مطلقاً في سائر ممالك الإسلام. 
فلما بلغ القضاة ذلك شقّ عليهم الأمر، واستخفوا عقل الخليفة على ذلك، وقالوا: «ليس للخليفة مع وجود السلطان حل ولا ربط ولا ولاية ولا عزل، لكنّ الخليفة استخف بالسلطان لكونه حديث السن، وقصد أن يكون الأمر مغدوقاً به دون السلطان».
فلما قامت الدائرة على الخليفة رجع عن ذلك، وقال: «أيش كُنت أنا؟ الشيخ جلال الدين هو الذي حسّن لي ذلك، وقال: هذه كانت وظيفة قديمة، وكان الخلفاء يولونها لمن يختارونه من العلماء». ثم أشهدوا على الخليفة بالرجوع عن ذلك، وبعث أخذ العهد الذي كان كتبه للشيخ جلال الدين السيوطي، وكادت تكون فتنة كبيرة بسبب ذلك، حتى سكنت الحال بعد مدة. 
وقد نتج عن علاقة الودّ هذه تأليف السيوطي خمس رسائل فيما يتعلق بشؤون الخلافة وتاريخ بني العباس وفضائلهم، وانقسمت هذه الرسائل إلى قسمين؛ الأول منها جاء بطلب من الخليفة، كما هي الحال مع رسالة «الأساس في فضل بني العباس»، التي ألّفهَا السيوطي بطلب من الخليفة المتوكل على الله ليُهديها إلى ملك الهند الذي أرسل رسولهُ ليطلب التقليد من الخليفة، فكُتِبَت الرسالة بالذهب واللازورد. 

العمامة والسواد
أتبع السيوطي هذه الرسالة برسالة أخرى هي «رفع الباس عن بني العباس»، وجعلهما برسم الخليفة المتوكل على الله، وقد ترجم في رسالة «رفع الباس» لمئتين وخمسة وأربعين علَماً من نجباء بني العباس الذين عاشوا في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي من القرن الأول حتى الثامن الهجري، وشملت هذه التراجم المُختصرة ترَاجِم خمس نساء، ولم يترجم السيوطي لأحد من الخلفاء، لأنه كما قال في المقدمة أفرد لهم كتاباً مستقلاً، ، وهذا يعني أن تأليف هذه الرسالة جاء تالياً لتأليف كتاب «تاريخ الخلفاء»، وقد حقق هذه الرسالة يحيى بن محمود بن جنيد على نسختي مكتبة الإسكندرية وعارف حكمت بالمدينة المنورة. 
أما القسم الثاني فقد ألّفه السيوطي تطوعاً وإهداءً للخليفة حُباً وتَقرُّباً، وشمل: رسالة «ثلج الفؤاد في أحاديث لبس السواد»؛ وهي رسالة حديثية صغيرة فيما ورد من أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة في لبسهم السواد، وخاصة العمامة، والسواد هو شعار خلفاء بني العباس، وقدرت هذه الأحاديث والآثار بخمسين تقريباً. 
كما شمل رسالة «الإنافة في رتبة الخلافة»؛ وهي رسالة صغيرة من بضع ورقات، أعتقد أنها إعادة ترتيب لمقدمة تاريخ الخلفاء، أو بعض الفصول الواردة في كتابه «حسن المحاضرة» مثل: «فصل في قواعد الخلافة»، و«الفرق بين الخلافة والمُلك والسلطنة من حيث الشرع». 

تحفة الظرفاء
هذا إضافة إلى رسالة «تحفة الظرفاء بأسماء الخلفاء»؛ وهي قصيدة رائية في 116 بيتاً. بدأها السيوطي بذكر النبي [ ثم الخلفاء الراشدين، ثم خلفاء بني أمية، ثم خلفاء بني العباس في العراق، ثم بقيتهم في مصر حتى موت الخليفة المتوكل على الله عبدالعزيز سنة 903هـ /1497م وخلافة ابنه المستمسك بالله يعقوب (ت:927هـ /1521م)، وقد ألحقها بآخر كتابهِ «تاريخ الخلفاء»، ليكون الكتاب نثراً وهي نظماً. 
وهذه القصيدة من آخر المُؤلفات التي وضعها السيوطي في هذا الفنّ، فبموت الخليفة المتوكل على الله، ومن قبله السلطان الأشرف قايتباي سنة901هـ /1496م، وحدوث الفتن بين الأمراء والصراع على السلطنة، اعتزل السيوطي في بيته بجزيرة الروضة - للكتابة والتأليف - بل اختفى فترة خوفاً من السلطان طومان باي الأول، الذي توعده بالعقاب، ولم يظهر إلا في شوال سنة 906هـ/ أبريل1501م، بعد موت السلطان. 
وبخلاف هذه الرسائل، لم يضع السيوطي في شأن بني العباس إلا كتاباً واحداً سماه «تاريخ الخلفاء»، تناول فيه ما تناولته قصيدته «تحفة الظرفاء»، وهو كتاب عُمدة في بابه فيما يتعلق بأخبار بني العباس في مصر، ويُتممه رسالة «رفع الباس عن بني العباس» التي تناولت الأعيان من غير الخلفاء.

نقل وإيجاز
كما خصص في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» عِدَّة مباحث تتعلق بالخلافة العباسية وخلفائها هي: الأول في «ذكر من قام بمصر من الخلفاء العباسيين»، والثاني «فصل في قواعد الخلافة»، والثالث «في ذكر سلاطين مصر الذين فوض إليهم خلفاء مصر العباسيون»، والرابع «الفرق بين الخلافة والمُلك والسلطنة من حيث الشرع». 
من خلال ما سبق نستطيع القول إن هذه الرسائل بعضها من بعض، وإن كتاب «تاريخ الخلفاء» هو الكتاب الأهم الذي دار في فلكهِ عدد من الرسائل فـ «رفع الباس» مُتممه، و«تحفة الظرفاء» نظمٌ له، وأن ما ذكره السيوطي عن الخلفاء حتى عصره هو ناقل فيه عن السابقين، فضلاً عن إيجاز التراجم وبساطتها، ولا تكمن أهمية كتاباته إلا فيما أورده من أخبار عمّن عاصرهُ منهم، وخاصة الخليفة المتوكل على الله.
ولم يقتصر الأمر على هذه المؤلفات سالفة الذكر، وما بها من معلومات تاريخية، بل حفظ لنا السيوطي عدداً من النصوص الوثائقية المُتعلقة بعدد من خلفاء بني العباس في مصر ممن كانت تربطه بهم علاقات طيبة، أولها ما يُكتب للخليفة العباسي حال التولية، ومثاله عهد تولية الخلافة للمستكفي بالله سليمان، وقد دوّنه السيوطي في مؤلفاته، وثانيها ما يَصدُر عن الخليفة من قرارات، ومثاله عهد بتولية السيوطي قاضياً لكل قضاة مصر والشام، وهذه النصوص نُقِلَت بحروفها ■