سؤال الضحك في فلسفة برغسون
هناك موضوعات ملازمة لحياتنا أو بالأحرى هي جزء لا يتجزأ منها، بيد أننا قليلا ما نستوقفها قصد التفكير فيها، إن صح التعبير، فهي تدخل ضمن المجال اللامفكّر فيه ضمن حياتنا، ولكن كيف نقوم بذلك بالرغم من قيامنا بها صباح مساء؟
لا شك في أن مفهوم الضحك يندرج ضمن هذه الموضوعات الخفية - إن صح تسميتها بهذا الاسم - ، فسؤال الضحك عند برغسون الذي نحن بصدد مقاربته في هذه المساهمة يحملنا بدوره إلى الغوص في عالم الضحك، ويزج بنا في خباياه وأسراره العميقة، وبالرغم من قلة نقاشاته في الفلسفة، فإن المحطة الأهم التي ناقشت هذه القضية بطريقة علمية، في نظرنا، هي محطة هنري برغسون، الذي خص هذا الموضوع بكتاب عنونه بـ «الضحك» (1900)، وترجمه إلى «العربية» علي مقلد، ضمن منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
إذن، فماذا يعني مفهوم الضحك عند برغسون؟ وما هي أشكاله؟ وهل الضحك خاصية إنسانية يمتاز بها الإنسان بالمقارنة مع الكائنات الأخرى؟ إذا كان الجواب بالتأكيد، فكيف ذلك؟ أما إذا كان على عكس ذلك، بمعنى أن الضحك مشترك بين جميع المخلوقات، فكيف يمكن أن يحصل هذا الأمر؟ وهل يمكن اعتبار الضحك ظاهرة اجتماعية؟
من الواضح أن الطرح البرغسوني في أشكال الضحك يدافع عن الفكرة القائلة إنه لا وجود للهزلي خارج ما هو بشري، إذ يصبح من هذا المنطلق الضحك خاصية بشرية، ويصبح الضحك أيضًا داخل جماعة معيّنة، إذ لا يمكن أن يتسنى للفرد أن يضحك خارج جماعة معيّنة.
يقول برغسون في كتابه الضحك صفحة 13: الفهم الضحك يجب وضعه في وسطه الطبيعي الذي هو المجتمع، ويجب - بشكل خاص - تحديد وظيفته المفيدة، التي هي وظيفة اجتماعيةب، وهذه هي الفكرة الأساسية التي تبناها برغسون في تصوره لمفهوم الضحك ضمن كتابه السالف الذكر، والتي مفادها أن الضحك يجب أن تكون له وظيفة اجتماعية، فخارج ما هو اجتماعي لا يمكن فهم ظاهرة الضحك.
عملية عقلية
غني عن البيان، إذن، أن برغسون ينتقد التصورات التي تسعى إلى اعتبار الضحك هو عملية عقلية (أرسطو كما سنرى فيما يلي من القول) وليس وجدانية، بحيث يصبح الضحك إعمالًا للعقل، فبرغســـــون لا يتفق مع هذا القول، إذ يصبح الضحك من وجهـــــة نظره مسألة اجتماعية تخضع للخصــوصيات الثقافية لكل مجتمع على حدة.
فالضحك حسب برغسون وكما هو مبين في كتابه االضحكب صفحة 89، اله معـــــنى وله مدلول اجتـــــماعيانب، وينـــــتج عن هذا القــــول كون الهزل هو خاصــــية إنسانيــــة اإن الهزل يعبّر قبل كل شيء عن نـــوع من اللاتكيّف الخاص الكامن في الشخص، تجاه المجتمع، وإن لا هزل أخيرًا إلا في الإنــــسان، إن الهزل هو الإنسانب.
إذن، فالهزل لا يمكن له أن يكون خارج ما هو إنساني أو بالأحرى الهزل هو الإنسان ذاته، ولكن، ما هي الشخصية التي تثير فينا الضحك؟
يجيبنا برغسون في الصفحة 89: ايعتبر المضحك الذي يسير بصورة أوتوماتيكيةب، لأن الضحك موجود لكي يصحح له سهوه، ولكي يصحيه كذلك من حلمه، ويقدم مثالاً على ذلك في الصفحة 13 ارجل يركض في الشارع، يعثر، فيقع، المارة يضحكون، إنهم لا يضحكون عليه، حسب ما اعتقد، إذا أمكن الافتراض بأنه خطر له، فجأة، أن يجلس على الأرض، إنهم يضحكون، لأنه جلس رغمًا عنهب.
أشكال الضحك
من هنا فليس التغيير المفاجئ الذي حدث في وضعه هو المضحك، بل - وفق برغسون - الشيء غير الإرادي في التغيير، إنها االرعونةب إنها االغشمنةب، إذن، من خلال ما سلف ما هي أشكال الضحك؟
أشكال الضحك وفق برغسون ثلاثة أساسية، نرصدها فيما يلي:
في البداية، يرفض الرجل أن يحضر المضحك في تعريف محدد، فيعتبره كيانًا حيًّا يقبل كل شيء، ومهما يكن هذا الشيء خفيف الوزن فهو يستحق الاحترام الذي تستحقه الحياة، ولهذا فهو ينظر إليه ككائن حيّ يكبر ويزدهر، فيتدرج من صورة إلى أخرى تدرجًا لطيفًا لا يكاد يرى، لأنه الأساس في العملية الداخلية التي نتعرف عليها من طول معاشرتنا لديها وتعودنا بها، وفي السياق نفسه يرفض أن يوصف الضحك باللهو والعبث، إذ يرى أن له من المعقولية الخاصة حتى في أبعد فلتاته، كما أنه في جنونه ذو منهج، وهو ما لم يستحضر في حلم مرويّ يفهمه ويقبله مجتمع برمته. وفي السياق نفسه يؤكد برغسون، في الصفحة 8 من كتابه، أن هناك ثلاثة مستويات أساسية تمر منها عملية الضحك، وهي:
امستوى أول؛ لا شيء ما خارج ما هو بشري بشكل خاص، ومستوى ثان يتمثل في منظر قد يكون جميلاً ولطيفًا وساميًا وتافهًا أو قبيحًا، لكنه لا يكون أبدًا مضحكًا، ومستوى ثالث ربما تضحك من حيوان، لأننا نكون قد عثرنا فيه على موقف كموقف الإنسان أو على تعبير كتعبير البشرب.
وظيفة اجتماعية
هذه هي عمليات مستويات الضحك عند برغسون بشكل وجيز، فهو إذن، كما لاحظنا، يدافع عن فكرة أنه لا شيء هزلي خارج ما هو إنساني، ومن هذا المنطلق، تصبح وظيفة الضحك، وفق برغسون، وظيفة اجتماعية، كما أن الضحك - كما يرى - لا يكون إلا خارج ما هو واقعي، بمعنى أن الضحك هو تعثّر للإرادة أمام جلاميد الواقع، وفي الوقت نفسه نجد برغسون يميّز بين الضحك والفن، فيقول االضحك هو ليس من الفن تمامًا وهو من الحياة تمامًاب (كتاب الضحك ص 9).
فملاحظ إذن، أن تفكير برغسون حول مفهوم الضحك هو تفكير متميز؛ سواء للذين سبقوه في هذا الباب أو الذين سيأتون من بعده، الذين يربطهم خيط ناظم هو أنهم فكروا في موضوع الضحك بربطه بمشاريعهم وأنساقهم الفلسفية العامة المؤطرة لهذا التفكير، فهذا أرسطو نجده يربط الضحك بالعقل، معتبرًا أن االإنسان حيوان ضحاكب.
أما في كتابه فن الشعر الصفحة 16 فيعرّف الكوميديا بـأنها اهي محاكاة الأراذل من الناس لا في كل نقيصة، ولكن في الجانب الهزلي الذي هو جزء من القبيحب.
أما أنواع الكوميديا فهي ثلاثة: الكوميديا القديمة التي تبالغ في عرض الأشياء المضحكة، والكوميديا الجديدة التي تتجه إلى ما هو رفيع أو عظيم أو مهمّ، والكوميديا الوسطية التي تأتي وسطًا بين النوعين السالفين، فيفضي به البحث في هذا المجال إلى تحريم الضحك عن المعوقين جسديًّا وعقليًّا، أما دور الضحك عنده فهو ترويح عن الروح وتلطيفها. وهذا هوبز، ينظر إلى الضحك باعتباره نوعًا من الإعجاب والتباهي والبهجة المفاجئة بالذات، وهذا اسبنوزا الذي اعتبر أن الضحك هو تعبير عن الفرح، وهذا الأخير هو افرح خاصب.
أعظم وسيلة للتربية
أما نيتشه فيقر بأنه يغامر بتصنيف الفلاسفة حسب ضحكهم، لأن الضحك - وفق ما يرى - هو أعظم وسيلة للتربية، وهو ما يميز الإنسان. وهذا فرويد نظر إلى الضحك باعتباره علاجًا، والفكاهة وفق رؤيته هي واحدة من أبرز الإنجازات النفسية للإنسان، وميّز بين النكتة العدائية التي تخدم أغراض التعبير عن العدوان والنكتة البذيئة التي تخدم الأغراض الخاصة بالاستعراض أو الكشف عن الرغبة.
وبالرغم من هذه النقاشات عند الفلاسفة حول مفهوم الضحك، فإن موقف برغسون - من وجهة نظرنا - يبقى موقفًا متميزًا، ولعل ما يبرر قولنا هذا هو أن هذا الفيلسوف هو أول من وضع إشكالية الضحك كظاهرة علمية من خلال الوقوف على دلالتها وأنواعها، وأهم إشكالاتها بارتباطها بالوجود الإنساني والانفتاح عليه، لاسيما فيما يخص علاقة الذات بالآخر (الجماعة)، من خلال زعمه بأن الضحك هو ظاهرة إنسانية/ اجتماعية، التي وضعت برغسون في موقع امتياز، ولحظة تفكير ومساءلة ما تفتأ تتجدد .
هنري برغسون