أطفالنا واضطراب نقص الطبيعة

أطفالنا واضطراب نقص الطبيعة

اطلب من أي شخص يزيد عمره على 40 سنة أن يروي ذكرياته الأعز على قلبه من مرحلة الطفولة، وسيكون أكثرها في الغالب في أوقات قضاها في أحضان الطبيعة، في شكل ألعاب حرة في الهواء الطلق بعيداً عن عيون الكبار.
لكن في أيامنا الحالية، من المستبعد أن يعتز أطفال اليوم بذكريات كهذه. وتشير الإحصاءات إلى أن 21 في المئة من أطفال اليوم يلعبون بانتظام خارج المنزل، مقارنة بـ 71 في المئة من آبائهم.

في حين أن الأجيال الأكبر سناً كانت تمضي ما معدله 8.2 ساعات في اليوم خارج المنزل عندما كانوا صغاراً، فإن أطفال اليوم يقضون ما لا يزيد على أربع ساعات فقط في الأسبوع خارج المنزل. وهذا انخفاض كبير ألقى به العصر الحديث، ومعه أوجد مفارقة صارخة عرفت أخيراً بـ «اضطراب نقص الطبيعة».
يشير ريتشارد لوف، مؤلف دراسة حول موضوع علاقة الأطفال بالطبيعة، وصاحب كتاب «آخر طفل في الغابة»، إلى أن أطفال اليوم يتعلمون عن الطبيعة، ولكن فقط عن بُعد، ويقول إنه «من المحتمل أن يخبرك أطفال اليوم عن غابات الأمازون المطيرة وكل ما يميزها، ولكن ليس عن آخر مرة قاموا فيها باستكشاف غابة من الغابات، أو عن وقت استلقوا فيه بالحقول وهم يستمعون إلى صوت الريح ويراقبون حركة الغيوم... فبالنسبة إلى الجيل الجديد، فإن الطبيعة هي فكرة مجردة أكثر من كونها واقعاً ملموساً، هي شيء يراقبونه، ويستهلكونه، ويستفيدون منه، ومن ثمّ يتجاهلونه».

على مَن يقع اللوم؟
إذا كانت هذه هي الحال بالفعل، فما الذي حدث؟ متى وكيف فقدنا الرابط الذي يربط بين الأطفال والعالم الطبيعي؟ ليس لدى لوف أدنى شك أين يقع اللوم: «مجتمعنا يعلّم الأطفال تجنّب التجربة المباشرة في الطبيعة». 
من الواضح أن التكنولوجيا واحدة من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، خاصة أن تقريراً صدر عن مؤسسة كايسر للعائلة في الولايات المتحدة يشير إلى زيادة كبيرة في الوقت الذي يمضيه الأطفال في استخدام هذه التكنولوجيا، وأن ​ الأمريكي البالغ من العمر 8 إلى 18 عاماً، مثلاً، يقضي الآن أكثر من 53 ساعة أسبوعياً في استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة.
ولكن من السهل إلقاء اللوم، فيما يتعلق بهذا الانفصال عن الطبيعة، على النظام اليومي لأطفالنا من التلفزيون وألعاب الكمبيوتر والأدوات الإلكترونية الأخرى، وجعلها كبش فداء مناسب للذنب الأبوي، فالأسباب أكثر تعقيداً من مجرد الإدمان على وسائل التكنولوجيا الحديثة.

أنشطة عفوية
في الوقت الحاضر، لم يصبح وقت الأطفال مليئاً بالضغوط فحسب، بل من المطلوب منهم أيضاً أن يستخدموه بشكل بنّاء ومنظم طوال الوقت، حيث يجب أن يكون لكل هواية هدف. وإذا كان كل شيء في حياة الطفل منظماً وتفاعلياً ومبنياً على خبرات خاضعة للإشراف من البالغين، فعندئذٍ لن يكون هناك مجال لأنشطة عفوية وغير منظمة، مثل اللعب بالكرة مثلاً أو بناء عرزال (وهو كوخ يُتخذ من الأغصان وبعض الأخشاب) على شجرة عالية، أو ببساطة التجول في أي قطعة أرض مجاورة للمنزل دون هدف يُذكر. 
وتؤكد هذا كله الكاتبة الألمانية سارة زاسكي في كتابها عن التربية على الطريقة الألمانية، بعنوان «انتبه للطفل»، وتقول عن التنشئة الحديثة:
«لقد أوجدنا ثقافة التحكّم بأطفالنا بداعي السلامة والإنجاز الأكاديمي، وحرصنا على تجريدهم من الحقوق والحريات الأساسية، مثل حرية التنقل والبقاء وحدهم دون إشراف الكبار والمجازفة واللعب، وأن يفكروا بأنفسهم. وليس الآباء وحدهم هم الذين يقومون بذلك، بل إنها ثقافة عامة تشمل المدارس أيضاً التي قلصت أوقات العطل واللعب الحُر، وفرضت ضغوطاً على وقت الأطفال، وصلت إلى تحديد وقتهم خارج المدرسة عن طريق فرض عديد من الواجبات المنزلية».
 
عواقب سلبية
لكن «اضطراب نقص الطبيعة» يطرح مشكلة كبيرة لأسباب عدة، أولها أن الطبيعة غير مسبوقة كبيئة تعليمية، كما يقول عالِم البيئة الاجتماعية ستيفن كيلرت، الذي يؤكد أن المرج أو شاطئ البحر أو أي مكان طبيعي آخر يقدم تجربة غامرة بالنسبة إلى الطفل، ويمثّل تحدياً جسدياً واجتماعياً ومعرفياً وعاطفياً. فالتجربة الطبيعية معقّدة، دائماً ما تحمل معها ما هو غير متوقع من دراما من المطر أو الرياح، أو سرب من الطيور يحلّق في الفضاء الواسع والسير في الوحول، وكل ذلك يغذي شرارة الفضول لدى الأطفال مع كل التفاصيل التي تحملها ساحات اللعب الحُر في الطبيعة وآفاقها البعيدة.
والطبيعة هي أداة لجعل الأطفال يختبرون ليس فقط العالم الأوسع، بل أنفسهم أيضاً، حيث إن تسلّق الشجرة، مثلاً، يعني تعلّم كيفية تحمّل المسؤولية عن الذات، وكيفية قياس المخاطر، كما أن السقوط من الشجرة يعطي للأطفال درساً جيداً جداً في المخاطرة ونتائجها.
ويذهب الكاتب والمؤلف الأميركي الحائز جائزة بوليتزر، إدوارد ويلسون، إلى أبعد من ذلك ليقول إن حب الطبيعة غريزة بشرية ضرورية، كما أكد في كتابه الذي يحمل عنوان Biophilia، بحجة أن البشر لديهم تقارب فطري بيولوجي مع العالم الطبيعي يسمى بالـ biophilia - التي تعرف بأنها «الرغبة في الانتساب إلى أشكال أخرى من الحياة»، وأن الحرمان من هذا الانتساب أو هذا التواصل مع العالم الطبيعي يؤدي إلى عواقب سلبية عديدة على جميع المستويات.
أولى هذه العواقب مشكلات مؤكدة في الصحة الجسدية والنفسية على حد سواء. يعتقد العلماء أنه مثلما يحتاج الأطفال إلى التغذية الجيدة والنوم الكافي، فإنهم يحتاجون أيضاً إلى تواصل دائم مع الطبيعة، من أجل الحصول على الحركة الجسدية وتفادي مشكلة السمنة. 

الأطفال والسمنة
أما في عصرنا الحديث فقد بدأت المشكلات الجسدية لدى الأطفال واضحة، وفي العقد الماضي تضاعفت مستويات السمنة لدى الأطفال في سن السادسة، وازدادت النسبة ثلاث مرات بالنسبة لمن هم في سن 15 عاماً. 
كما أن المؤشرات الأساسية بالنسبة إلى الصحة النفسية عند الأطفال تعطي سبباً آخر للقلق. وتشير الإحصاءات إلى أن واحداً من كل 8 فتيان وواحدة من كل 10 فتيات، تتراوح أعمارهم بين 11 و17 عاماً، تم تشخيصهم بنوع من أنواع المشكلات النفسية.
وعلى الرغم من أن الارتباط بين الصحة النفسية والتواصل مع الحياة البرية لا يبدو واضحاً، فإنه وفقاً لتقرير بعنوان «الطبيعة والرفاه النفسي» صدر عام 2003 عن مؤسسة «الطبيعة الإنجليزية» (المؤسسة الحكومية المكلفة بالحفاظ على الأماكن الطبيعية)، فإن التواصل مع الطبيعة لا يجلب منافع جسدية فحسب، بل يمكنه أن يحسّن بشكل كبير صحتنا العاطفية والعقلية والروحية أيضاً، حيث يؤكد التقرير أن «العالم الطبيعي له تأثير إيجابي كبير على الرفاهية النفسية الفردية والجماعية».
وهنالك عشرات الدراسات من جميع أنحاء العالم التي تُظهر أن الوقت الذي يقضيه الأطفال خارج المنزل في أحضان الطبيعة ينتج عنه تحسينات ملحوظة في اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة والقدرة على الإبداع، ويعزز مهارات حل المشكلات، ويساعد على التركيز والانضباط. 
ومن الناحية الاجتماعية فهو يحسّن القدرة على التعاون والمرونة ويخفض مستوى العدوانية. وفيما يتعلق بالناحية الاجتماعية بالذات، فقد خلُصت إحدى الدراسات التي نشرتها الجمعية الطبية الأمريكية في عام 2005 إلى أن «الأطفال سيكونون أكثر ذكاءً وقدرة على التوافق مع الآخرين وأكثر صحة وسعادة عندما تكون لديهم فرص منتظمة للعب الحُر وغير المنظم في الخارج». 
وإلى جانب التأثير الإيجابي للطبيعة على الصحتين الجسدية والنفسية، هناك فائدة مهمة أخرى، وهي زيادة الوعي البيئي. فكيف نتوقع أن يواجه أطفالنا التحديات التي يفرضها تغيّر المناخ العالمي إذا لم يشعروا بأي ارتباط حقيقي بتراثهم الطبيعي؟ وكما أشار جيم بيرت من مؤسسة «الطبيعة الإنجليزية» إلى أنه «إذا أردنا الحفاظ على البيئة وتبني أساليب عيش أكثر استدامة، فإننا نحتاج إلى إيجاد طرق لإعادة ربط أبنائنا بالعالم الطبيعي».

كيف نعيد ربط أطفالنا بالطبيعة؟
قد يشعر كثير من الآباء والأمهات بالإحباط في مواجهة كل هذه الأدلة، لكن هناك خطوات بسيطة وعملية يمكننا اتخاذها جميعاً لبدء عملية إعادة أطفالنا إلى أحضان الطبيعة. 
يمكننا - بداية - فتح باب المنزل ودفع الأطفال لاستكشاف الموطن الطبيعي الأقرب إليهم، وهي حديقة المنزل الخلفية في حال وجودها، وهي التي تعد المكان المثالي لبدء رحلة الطفل إلى الطبيعة، لكونها آمنة وقريبة، ويمكنها أن تضم بعض أنواع الحيوانات من الكلاب إلى الطيور المغردة والنحل والفراشات. وإذا لم تكن هناك حديقة خلفية، فأقرب فسحة أو حديقة عامة مجاورة للمنزل يمكنها أن تفي بالغرض.
لكن اصطحاب الأطفال إلى أي موقع طبيعي ليس سوى الخطوة الأولى. بعد ذلك نحتاج إلى السماح لهم باستكشاف الأماكن البرية بمفردهم؛ ليس للاستمتاع بها فقط، بل من أجل رفاههم في المستقبل. 
كما يمكن لجميع الدول الاستفادة من فكرة مشاريع مختلفة تمهد الطريق إلى الأمام، وتسهّل عملية تواصل الأطفال مع الطبيعة، كمشروع أقيم في مدينة سومرست جنوب غرب إنجلترا، حيث تم تأسيس «خدمة اللعب والمشاركة في سومرست»، وهو برنامج يهتم بتخصيص الوقت والمال لتشجيع الأطفال على اللعب في الخارج بشكل مستقل.
وجزء من المخطط هو موقع ويب يحمل عنوان somersetoutdoorplay.org.uk، الـــذي يـــعــــرض بالتفصيل أكثر من 30 موقعاً عبر المقاطعة، من قمم التلال والغابات والمروج والشواطئ، حيث يمكن للأطفال اللعب من دون إشراف. 
وعن البرنامج تقول كريستين لامبرت، إحدى المسؤولات فيه: «نهدف إلى أن يختبر الأطفال اللعب الحر الحقيقي، إذ لم يتم إعداد أي نظام مسبق وفقاً لأجندة البالغين. فلا توجد أنشطة محددة ولا معدات ثابتة ولا مناطق محددة للعب؛ بل هناك غابات ومساحات مفتوحة، وهناك فروع الأشجار والمنحدرات الموحلة. 
وهناك يضع الأطفال التحديات التي سيواجهونها ويحددون المغامرات التي سيخوضونها ويقيّمون المخاطر ويتحملون مسؤولياتهم الخاصة. وهناك يجد الأطفال الحرية والخيال والخصوصية في مكان بعيد عن عالم الكبار» ■