خطوطٌ عريضةٌ

خطوطٌ عريضةٌ

 ماذا يفعلُ الكاتبُ المفلس أمام ورقةٍ بيضاء؟ لم تعد الأوراقُ في متناول اليد ليتم تمزيقها أو تكويرها وإلقاؤها عنك بحركةٍ مسرحيةٍ تختزلُ الكثيرَ من التنفيس؛ فالبياضُ أمامك يطلُّ عليك من شاشةٍ محايدةٍ ترقبُ احتضارك بلا انتظار، ولا تتقن التعاطفَ حتى إنْ نسيتَ الحفظ؛ فضاعتْ حروفُكَ بلا رجعة.

هي مجردُ ورقةٍ تتبع الأوامرَ، أوامرَك ظاهرياً، لكنها في الواقع أوامر الحاسوب الّذي يتربعُ أمامكَ على الطاولة، يستمعُ لتُرّهاتكَ، تظل الشاشةُ على حيادِها وإن تأثرتَ وانفعلتَ أو حتى بكيتَ، وقد تخذلكَ حين تنفد البطاريةُ فتنطفئُ في لحظةٍ، بعد أن ظهرَ مستطيلٌ يحذرك كأنه شرطيٌ يقوم بمهامه بحرفيةٍ وحياديةٍ تامة.
لماذا لا تستخدم الشاشةُ صوتاً كزامور الخطر حين اقتراب البطاريةِ من النفاد؟ أو وأنت تضع مؤشرَ «الماوس» قربَ إشارة الإغلاق، وقد نسيتَ أن تحفظ ما كتبته تحت وطأةِ الحنينِ أو الحزنِ، أو حتى لحظة تجلٍّ؟   
 لا عليكَ، يبدو أن لا وحي اليوم لك لتكتبَ، ربما تستحضر الوحي من تصفّح «فيس بوك»، هكذا تفعل كلَّ يومٍ، فتنسى وتأخذك الصورُ والعباراتُ التي تجدُ بعضها يتكرر بين صفحةٍ وأخرى، حتى صورتك تتأملها بإشفاقٍ، فهي تحافظُ على الابتسامة المعلّقة على الشفتين، ربما كنتَ تبكي لحظتها، وهي تنظرُ إليكَ بحيادٍ وتواصل الابتسام، تمارسُ خداعَها كلَّ الوقت، كلُّ شيءٍ محايد هنا وخادع، حتى مشاعر الحب التي تتوالدُ في بيئةٍ مزيفةٍ من كثرة التواصل والاطلاع على التفاصيل التي تنسجُ - مثل نول افتراضي - بساطَ تلاقٍ مزيفاً.  
ربما من الأفضل التواصل مع الأصدقاء، لكن يبدو أن الحديث يجرُّكَ إلى منطقةِ التأثر السلبي، فالناسُ - على ما يبدو - لا تحبُ الحديثَ إلا عمّا يشغلُها، ولا تكترث فعلياً لما يشغلُكَ، وتمدك بطاقةٍ سلبيةٍ تدفعُكَ إلى السقوط في هوةِ الكآبةِ، لكن في المقابل تجد الصفحات الافتراضية تمتلئُ بالفرحِ والفخامةِ والمثاليةِ والصور المنتقاة بعنايةٍ من ألبوم الحياة الحافل.
ما جدوى الفلسفة أمامَ سيل التكنولوجيا؟ لِمَ لا أكتبُ عن آثارِها وكيف تتغلغلُ في فواصلِ الحياةِ المعاصرة وتغيّرُ في العلاقات الاجتماعيةِ وتزيدها تعقيداً؟ 
لِمَ لا أكتبُ قصتي مثلاً حين تمت خطبتي لفتاة، بعد أن رأيتُ صورتها على “فيس بوك”، وأعجبتُ بها حين صدتني عن الحديث معها على “الخاص”، وحين ألححتُ، حظرتني بـ “بلوك”! فما كان مني إلا التقدم لخطبتها في الأسبوع التالي، لكن... آه، ماذا أقول؟
صرت أراقبُ صفحتَها وتعليقات الأصدقاء بحالةٍ أقرب إلى الهوس، لكن ليس بالضرورة أن تكون القصة التي أكتبُها مطابقة للواقع، ربما أجعل البطل يضعُ الخطوطَ العريضةَ لما يراه مقبولاً ومعقولاً في تعاطي زوجته المستقبلية مع منصات التواصل الاجتماعي.
غير منطقي ما أكتبه هنا! لن يرضى القارئ بكلامٍ يشبه واقعَه المأزوم، هو يبحثُ عن ملاذٍ من الجفافِ العاطفي وأزمةِ الثقة وتخلخلِ القيمِ الاجتماعية ونكوصِ الاستقرار الاجتماعيّ والأسريّ لمدى أرحب من الصفاء والحلم والخيال.
يبدو أنّنا وصلنا إلى منطقةٍ مسدودةٍ، ربما يتخلى القارئُ عن إتمامِ النص؛ القرّاء متطفلون يعيشون على دم الكاتب الذي يعجبهم ويتنقلون بعدها كالقراد إلى آخر، سأكسر عنق القصة وأجعل البطل يصرخُ في وجهِ خطيبته، بمجرد أن تتمّ مراسم الخطبة الرسمية، أن أغلقي صفحة “الفيس” وإلا.... وإلا ماذا؟! سأتركُ القارئَ معلقاً في آخر السطرِ ينتظرُ من كاتبٍ لم يعد يعنيه من الأمرٍ شيء! ■