كتاب الحدود (الطبية) لابن هبة الله

كتاب الحدود (الطبية) لابن هبة الله

لا تدخل هذه المخطوطة النفيسة في نطاق (الألفية) بالمعنى الدقيق، فهي لم تكتب منذ ألف عام. لكنها تقف على حدود الألفية وتكاد تدخل في نطاقها، إذ كُتبت - كما سنرى - في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.. دعونا نتعرف أولاً إلى المؤلّف، ثم نعرِّف بمخطوطته الفريدة.

للزمان في حياة وتراث العلماء العرب - المسلمين تصاريف عجيبة. فبعضهم يصفو زمانه حيًا ويشتهر تراثه بعد مماته، مثلما جرى مع ابن طفيل (الفيلسوف) والغزالي (الصوفي الفقيه) وابن حزم (الفقيه الأديب) وغيرهم.. وبعضهم تتكدّر أوقاته دون أن تعوق شهرته في حياته ثم ازديادها بعد وفاته، مثلما كان حال أمثال ابن سينا (الفيلسوف الطبيب) وأبي بكر الرازي (الطبيب الفيلسوف) وشهاب الدين السهروردي (الحكيم المتألّه).. وبعضهم ينال في حياته شهرة كبيرة ثم ينطمس ذكره بعد الوفاة، مثل غالبية فقهاء السلطان في كل زمان.. وبعضهم لا يؤبه له في حياته ويُعترف بفضله بعد وفاته، مثلما هو الحال مع النفري (الصوفي) وأبي عبدالرحمن الصوفي (الفلكي) وأبي حيان التوحيدي (الأديب).. وبعضهم ينزوي خبره، حيًا وميتًا، مع أهميته! كما هو الحال مع أبي العباس الإيرانشهري الذي وصفه (البيروني) بأنه كان أفضل من كتب في الديانات والعقائد وليس بأيدينا اليوم أي شيء مما كتبه! والأمثلة على كل نوع من أولئك وهؤلاء، لا تكاد من كثرتها تقع تحت الحصر.. وسنورد منها الآن، مثالاً لافتًا للنظر:

هو طبيب نابه، صار في عصره رئيس أطباء وهو منصب يشابه من نسميه اليوم وزير الصحة. بل هو رئيس للأطباء في عاصمة الخلافة بغداد وطبيب خاص للخليفة العباسي المقتدي بأمر الله ولخليفته المستظهر بالله وهو صاحب مؤلفات عدة في الطب والصيدلة. ومع ذلك، فلا يكاد اسمه يُذكر اليوم في الدراسات الخاصة بتاريخ العلوم، ولا توجد ورقة واحدة منشورة من أعماله العلمية! ذلك هو: سعيد بن هبة الله.

حياته ومؤلفاته

تنزوي آثار ابن هبة الله اليوم في نسخ خطية متوازية خلف جدران الخزانات العتيقة، في اسطنبول ودبلن والإسكندرية.. ومخطوطة الإسكندرية، كما سنرى، تمثل واحدة من أهم الأعمال العلمية لابن هبة الله، وأظنها (أقدم) مخطوطة باقية من أعماله التي سنذكرها بعد قليل.

المخطوطة محفوظة بمجموعة بلدية الإسكندرية تحت رقم 2017/د (فلسفة) وتقع في 39 ورقة، وقد بدت عليها آثار الزمن. يظهر ذلك من حالة المخطوطة، ومن التملكات الكثيرة التي تناثرت حول العنوان. وهو أمر طبيعي في مخطوطة عاشت قرابة ألف عام، فقد كتبت في حياة مؤلفها، الذي توفي باتفاق الآراء سنة 495 هجرية.

فلنتعرّف من خلال الشذرات القليلة التي تصادفنا في المصادر القديمة، إلى هذا المؤلف الذي انطمس ذكره في عصرنا الحالي، ونسيته البحوث والدراسات العربية والمراجع الاستشراقية.

هو شيخُ أطباء العراق في وقته، أبو الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسين. ولد سنة 436 هجرية، ونشأ ببغداد (عاصمة العالم في زمانه) وفيها درس الطب على يد أشهر أطباء زمانه ابن التلميذ ثم جمع بين دراسة الطب والفلسفة والمنطق. لكنه نبغ واشتهر في مجال الطب خاصة، ووضع فيه أكثر مؤلفاته. ولما ذاعت مهارته كطبيب، صار طبيبًا خاصًا للخلفاء المعاصرين له.

ومما يدل على مكانة سعيد بن هبة الله في زمانه، تلك العبارة التي تناقلها المؤرخون. يروي ابن أبي أصيبعة في كتابه الشهير (عيون الأنباء) عن أحد كبار أطباء القرن الخامس الهجري، قوله: «الطب انتهى في عصرنا إلى أبي الحسن سعيد بن هبة الله».

ويصفه ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) بأنه: «شيخ الأطباء بالعراق».

ومع ذلك، فالظاهر أن الرجل كان متواضعًا تواضع العلماء، وهو ما تظهره تلك الحكاية الطريفة التي رواها ابن أبي أصيبعة:

كان أبو الحسن سعيد يتولى مداواة المرضى في البيمارستان (المستشفى) العضدي، وبينما هو يتفقد الممرورين (مرضى الكبد والمرارة) إذ بامرأة قد أتت إليه تسأله فيما تعالج به ولدًا لها، فقال: ينبغي أن تلازميه بتناول الأشياء المبرّدة المرطّبة. فهزأ به أحد المرضى المقيمين في القاعة، وقال له: هذه وصفة يصلح أن تقولها لأحد تلاميذك ممن يكون قد اشتغل بالطب، وأما هذه المرأة فأي شيء تدري عما هو من الأشياء المبردة المرطبة؟ فكان يجب أن تصف لها شيئًا معينًا تعتمد عليه. ثم أضاف المريض المتحذلق: ولا ألومك في قولك هذا، فإنك قد فعلت ما هو أعجب منه، فقد صنفت كتابًا مختصرًا وسميته (المغنى في الطب) ثم صنفت كتابًا على قدر أضعاف كثيرة من هذا الكتاب الأول وسميته (الإقناع) وكان الواجب أن يكون الأمر على خلاف (بعكس) ما فعلته من التسمية! فاعترف سعيد بن هبة الله بذلك لمن حضره، وقال: والله لو أمكنني تبديل اسم كل واحد منهما بالآخر لفعلت، وإنما قد تناقل الناس الكتابين، وعُرف كل واحد منهما بما سميته به.

وتدل هذه الواقعة على أمور، منها أن المرضى كانوا في ذلك الزمان القديم على دراية بعلم الطب والكتب المؤلفة فيه، بل و(الإصدارات) الحديثة منها! ولا عجب في ذلك، إذ كان الطب يكتب آنذاك ويُتداول باللغة العربية.. ومنها، أن أعمال سعيد بن هبة الله كانت سريعة الانتشار والتداول، بحيث لم يمكنه تعديل عنوانها. وظاهر أنه كان يحترم عملية (الضبط الببليوجرافي) لمؤلفاته، فلا يتلاعب يعناوينها مع كل طبعة جديدة، مثلما يفعل بعض مؤلفي الكتب في أيامنا هذه، وتدل الحكاية، أخيرًا، على القدر الكبير من التواضع الذي تميّز به هذا الرجل، فهو لم يحاجج أويجادل في الخطأ، بل اعترف به فور سماعه، مؤكدًا صواب كلام الرجل المريض القعيد في البيمارستان.

وبالإضافة إلى هذين الكتابين المذكورين في الحكاية السابقة: المغنى، والإقناع، ترك لنا سعيد بن هبة الله عديدًا من المؤلفات، مثل: مقالة في تركيب الأدوية، التلخيص النظامي في الطب، كتاب خلق الإنسان، مقالة في تحديد مبادئ الأقاويل الملفوظ بها، مسائل طبية، كتاب اليرقان.. واليرقان في اللغة هو الاصفرار (أصله من صفرة أوراق النبات) وقد استخدمه الأطباء العرب كمصطلح يشير إلى ما نسميه اليوم: الأنيميا.

الحدود

هي واحدة من أهم أعمال هبة الله العلمية. ولكن هناك اختلافًا في عنوان مخطوطتنا هذه، فقد جاء على غلافها أنها كتاب الحدود الطبية بينما ذكرتها المصادر بعنوان آخر هو «الحدود والفروق» وهو عنوان أكثر انطباقًا على محتواها، فقد بدأها سعيد بن هبة الله بقوله:

«الحدّ، ما هو؟ الحدّ: قول وجيز غاية الإيجاز، دال على طبيعة الشيء المحدود. والفرق بين الحد والرسم، أن الحدّ يؤلف من الأشياء الجوهرية، والرسم يؤلف من الأشياء الخاصية..» وهو ما يرجّح أيضًا، أن تكون هذه المخطوطة بذاتها، هي (مقالة في تحديد مبادئ الأقاويل الملفوظ بها) بحسب ما أشارت إليه بعض المصادر القديمة التي عدّدت مؤلفات ابن هبة الله، ومن بينها هذه (المقالة) التي لم نجد لها أي نسخ خطية، ويتطابق مفهوم عنوانها مع ما ورد في: الحدود.وإذا نظرنا في الورقة الأولى من المخطوطة، فسوف نلحظ أن ناسخها يصف المؤلف بأنه: الشيخ الجليل الكامل (الفيلفوسي) ويدعوه بسعيد بن هبة الله (ابن الحسن) ويدعو له بقوله (أطال الله بقاءه) وذلك كله يكشف عن أن الناسخ لم يكن من النُسّاخ المحترفين، ولا يكاد يكون من الأطباء! وإلا لكان قد كتب كلمة (الفيلسوف) صحيحة، وماكان يخطئ في كُنية سعيد بن هبة الله.

كما تدل الديباجة التي كتبها (الناسخ) على أنه كان معاصرًا للمؤلف، وأنه كتب المخطوطة في حياته، ولذا قال: أطال الله بقاءه.. كما أن هناك شواهد كثيرة تدل على أن المخطوطة ترقى إلى عصر مؤلفها، مثل حالة أوراقها وآثار الترميم القديم ونمط الخط المكتوبة به. فهي إذن مكتوبة قبل وفاة ابن هبة الله في التاريخ الذي ذكره ابن أبي أصيبعة بوضوح، بقوله: مات ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وأربعمائة (عيون الأنباء، ص314) وقد اتفق المؤرخون على أن وفاة ابن هبة الله كانت في السنة المذكورة. غير أن إسماعيل باشا البغدادي شذّ عنهم، فقرر من دون دليل أن وفاته كانت سنة 494 (هدية العارفين 2 / 390).

ومخطوطة الحدود التي لم تنشر من قبل - فيما نعلم - واحدة من أطرف النصوص التراثية وأكثرها فائدة للمعلمين، فهي تجمع التعريفات التي يجب أن يعرفها كل متعلم وعالم. ومع كونها تعريفات موجزة، إلا أنها تكشف عن عميق دراية المؤلف بلغة العلم في عصره، وعن قدرته العالية على تكثيف العبارة وتحرير الصيغ التعريفية. انظر إلى هذه الأمثلة التي اخترناها مما ورد بالمخطوطة:

«الفرق بين العلم والمعرفة واليقين، أن العلم يتم بالمبادئ القريبة، والمعرفة بالمبادئ البعيدة والأعراض، واليقين - والحقيقة - يكون بالمبادئ الخاصية الجوهرية للشيء الذي لا يشرك الشيء فيها غيره».

ثم يعرّف سعيد بن هبة الله معنى الصناعة من حيث الدلالة التفصيلية للكلمة، بقوله: «الصناعةُ على الإطلاق، قوة موجزة في النفس، شأنها أن تفعل بترتيب موضوع، نحو غرض من الأغراض»، ثم يقول معرفا الإصلاحات (الهندسية) الأساسية:

«حد النقطة: ما لا جزءَ له.حد الخط: مقدارٌ ذو بعد واحد، أعني طولاً لا عرض له. حدّ السطح: مقدار ذو بعدين لهما طول وعرض. حدّ الجسم: ذو الثلاثة أبعاد، أعني الطول والعرض والعمق.. حد الزمان: إحصاء عدد حركة الفلك مع الساعات الأيام والشهور والسنين. والفرق بين الساعات، أعني بين الساعة الزمنية والمستوية، أن الساعات المستوية يختلف عددها وتستوي أجزاؤها، ولأن كل واحدة منها - أبدًا - خمسة عشر درجة (هكذا في المخطوطة) - وصحتها بالطبع: خمس عشرة درجة - من دور الفلك، والساعة الزمانية هي التي يستوي عددها أبدًا، وتختلف أجزاؤه، فيكون عددها شتاءً وصيفًا وليلاً ونهارًا اثنا عشر ساعة (!) - الصحيح لغة: اثنتي عشرة ساعة - إلا أن أجزاءها تختلف. والفرق بين الزمان والدّهْر والوقت، أن الدهر هو عدد الحركة مطلقًا، والزمان عددها مفصلاً بيوم وشهر وماض ومستقبل، والوقت هو قطعة من الزمان يفتقر إليها في الأعمال..» ولابد أن ننتبه إلى أنه يتحدث عن (الساعة) بمفهومها القديم، وليس عن (الدقائق الستين) التي نعرفها اليوم!

ثم ينتقل ابن هبة الله من التعريفات الرياضية، إلى الفلكية، ثم إلى التعريفات الفلسفية. وهو في موضع آخر من مخطوطته، يسرد من التعريفات الطبية شيئًا كثيرًا، ويصف الأمراض المختلفة، ويفرّق بين المتشابه منها، فيقول: «ما هو اليرقان الأصفر؟ صفرة تملأ جميع البدن لزيادة المرّة. ما هو الجدري؟ فضلة الانطباخ الطبيعي. والفرق بين الجدري والحصبة، أن الفضلة الباقية من طبيخ الحارّ الغريزيّ للمرطب الغريزي، تختلف بحسّ مزاج البدن، إن كان حارًا رطبًا حدث من ذلك الجدري، وإن كان حارًا يابسًا حدث عن ذلك الحصبة. والفرق بين الجدري والحصبة، دخانية البثور الحادثة في البدن، كالجرب وما يشبهه، ذلك أن الجدري والحصبة يحدثان دفعة واحدة، وبقية البثور لما كانت تحدث عن فضلات الغذاء ورداءة مزاج البدن، صار حدوثها في سائر الأوقات».

ثم يختتم سعيد بن هبة الله مخطوطته هذه، التي كادت نسختها الخطية تتم الألف سنة من عمرها، بقوله: فهذا كافٍ (في المخطوطة: كافي) فيما رمناه ومقنع فيما قصدناه، ولواهب العقل ومانح الفضل، الحمدُ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقوله (واهب العقل) يقصد به الخالق عز وجل.. وهو وصف لله استخدمه الفلاسفة وقدماء الحكماء، لتأكيد الصفة الأولى للنوع الإنساني: العقل.

***

ومع أن التراث العربي يحفل بالعديد من الأعمال التي اهتمت ببيان دلالات الألفاظ الاصطلاحية، وهو ما يشهد باهتمام علماء العرب بقضية المصطلح، إلا أن (الحدود) تبقى واحدة من أهم الأعمال في هذا الباب، نظرًا لأهمية مؤلفها ولكونها من الأعمال المبكرة في هذا الميدان.

 

يوسف زيدان