رحلة إلى «قبر الغريب» في أغمات

رحلة طافت بنا أحداثها فوق أمكنة تباعدت في مسافاتها وتنافرت في أحوالها ما بين الخصب والجدب، والرخاء والشدة، سار في طريقها من ذهبنا إلى قبره في أغمات، وشاطرنا أهل إشبيلية في يوم الوداع الأخير ألمَ الفراق وتقلّبات الرفاق، ملك شاعر كان يأمر دهره فيمتثل، حتى ردّه دهره مَنهيًّا وَمأمورًا، مصيره صار عِبرة لمن لا يعتبر، ولأنه استوعب الدرس فقد حذّر من سيأتون بعده شعرًا :
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ
فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
رحلتنا كاللوحة، لا تكتمل رؤيتها دون النظر إلى كل أجزائها، ومَن يكتفِ بجزء يكون كالذي سمع شطرًا من الحكاية وأهمل بقيتها، من إشبيلية جنوب الأندلس انطلقنا، وعلى مراكش مررنا، وفي قرية أغمات، وسط المغرب، انتهينا.
زمان الشقندي وزماننا
لم يكن بالإمكان تنفيذ هذه الرحلة دفعةً واحدة، ليس لصعوبة الأمر، ففي هذا الوقت أصبحت أمور السفر والتنقل من مكان إلى آخر أكثر سهولة ومرونة مما كانت عليه من قبل، المسألة باختصار كانت مرتبطة بالمدة الزمنية المتاحة والظروف المواتية لتنفيذ رحلة مكتملة بأبعادها المكانية.
جدول الرحلة تضمن ثلاث محطات رئيسة، أولاها في إسبانيا، وثانيتها والأخيرة في المغرب، وهما - كما ذكرنا - مراكش وأغمات، كانت إشبيلية محطتنا الأولى، وبعدها بأشهر قليلة توجّهنا إلى مراكش، ومنها توغلنا إلى بلدة أغمات.
ليس في إشبيلية اليوم آثار باقية مشهودة تخلّد سيرة بني العبّاد الذين حكموها في أعقاب نهاية الخلافة الأموية، فملكهم لم يعّمر طويلًا، إذ لم يدُم أكثر من سبعة عقود وبضع سنين، مثلهم مثل بقية ملوك الطوائف الذين تقاسموا مدن وبلدان وحصون الدولة المركزية التي حكمت من قرطبة معظم أجزاء الدولة الأيبيرية.
إشبيلية هي أول عاصمة للحكم الإسلامي، واختيرت في عهد الوالي عبدالعزيز بن موسى بن نصير، وأول جنود دخلوها من جنود الفتح كانوا من حمص، ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق، وبها استقروا.
وصفها الشقندي قائلًا: من محاسنها اعتدال الهواء، وحُسن المباني، وتزيين الخارج والداخل، وتمكّن التمصر، حتى أن العامة تقول: الو طلب لبن الطير في إشبيلية وُجدب، وكلام الشقندي عن اعتدال الهواء صحيح وقت المساء فقط، وفي فصل الربيع من أيام فصول السنة، لأن إشبيلية التي زرناها في فصل الصيف وتجولنا في شوارعها عدة أيام حارّة جدًا وقت الظهيرة، ربما لأن زمان الشقندي، الذي عاش في زمن دولة الموحدين، وتوفاه الله في عام 1232م، كان يخلو من التلوث وظاهرة الاحتباس الحراري وانبعاث الغازات الدفيئة.
«بنسيون» عبّاد
لم ترشدنا أبحاثنا عن مَعْلَم لبني عبّاد مثل قصر الحمراء في غرناطة، أو الجامع الكبير في قرطبة، كانت الخرائط والمرشدون يركّزون على برج االخيرالداب، أو المئذنة المهيبة التي بنيت في زمن الموحدين، وتحولت بعد سقوطهم إلى برج لأجراس كنيسة إشبيلية، وحتى القصور التي بنيت أيام المعتمد؛ مثل قصر المورق الذي لا يبعد كثيرًا عن االخيرالداب لم تبقَ على صورتها القديمة؛ فمنها ما تهدّم ومنها ما تبدلت معالمه بالكامل، هذا الوضع أجد له مبررات غير المدة الزمنية القصيرة، ذلك أن نفقات العمران والحروب لا تتفق في دفتر واحد، ولا بد لأحدهما أن يطغى على الآخر، وفي حقبة طموحات ملوك الطوائف للتوسع على حساب بعضهم البعض من جهة، ودفع الجزية للممالك المسيحية في الشمال، بات الصرف على الحرب ومجالس الشعراء واجتذاب العلماء أكثر من أي شيء آخر.
ومن سخريات القدر أن تقودنا المصادفات، ونحن نتجول داخل الشوارع المحيطة بـ االخيرالداب، نحو لوحة إرشادية لفندق صغير جدًا (بنسيون) حمل اسم عبّاد! إذ لم يتبقّ لنا غير النهر لنسأله، وإليه توجهنا.
وحملتهم الجوارٍ المنشآت
كان نهر الوادي الكبير هو الراوي لحكايا من عاشوا على ضفتيه، وهو أحد أبطال مشهد رحيل الملك المخلوع وأسرته الذي رسمه لنا صاحب كتاب قلائد العقيان ومحاسن الأعيان بيوم مهيب:
اثم جمع هو وأهله، وحملتهم الجوارِ المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم...ب يا ترى لماذا ارتدَت إشبيلية السواد في ذلك اليوم؟ أهو الحزن على مليكها الذي كان أرحم من والده المعتضد الطاغية، وأكثر جرأة في استدعاء المرابطين لمقاتلة ألفونسو السادس في موقعة االزلاقةب؟ أم كان حزنًا على أيامهما القادمة مع حكامهم الملّثمين الذين أتوهم من بيئة مختلفة، ولهم طرائق مختلفة في العيش لم يألفوها من قبل؟!
ولد المعتمد في قصر منيف وعاش حياة رغيدة ليس فيها للهمّ أو الكدر موطئ قدم، تولّى الحكم بعد أبيه وجدّه، وهو الأخير في سلسلة حكام بني عبّاد، وكان وصول جده القاضي إسماعيل إلى الحكم واستقلاله بإشبيلية من ضمن جملة من التحولات في موازين القوى داخل الجزيرة الأيبيرية، ومع انفراط عقد الخلافة الأموية في بلاد الأندلس، طمح أكثر من حاكم مستقل - ومن ضمنهم ابن عباد - إلى سد فراغ الخلافة بالقوة أو بالحيلة عندما نصّب شخصًا يشبه الخليفة الأموي هشام المؤيد لتولي الحكم باسمه، تلك الحيلة سال لأجلها كثير من الدماء، وبينما نجح المعتضد في ضم بعض دويلات الطوائف، تمكّن المعتمد من تحقيق ما عجز عنه والده وجده، وذلك بانتزاع قرطبة عاصمة الخلافة السابقة من حكّامها بني جهور.
كانت شرارة حرب الاسترداد قد انطلقت بعد رحيل الملك المنصور محمد بن أبي عامر، وملوك الطوائف منهمكون في توسيع رقعة دويلاتهم، حتى رجّت الأرض من تحت أقدامهم رجًّا، عندما استولى ملك قشتالة ألفونسو السادس على طليطلة (1085م) التي تقع في قلب الأندلس، وتشغل مساحتها ربع مساحة الجزيرة الأيبيرية، ليطلق ابن العسال الإنذار الأول للرحيل:
يا أهل أندلس حثّوا مطيّكُمُ
فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسولًا من الوسط
كان نصرًا مدويًّا استقوى به ألفونسو على بقية ملوك الطوائف، وزاد من عزيمته ووقاحته لضمّ ما استطاع منها، في مجلس صاحب إشبيلية تزحف الدقائق ككائن منزوع اليدين والأرجل، لقد تزايدت الضغوط على المعتمد من الداخل والخارج، حتى ثقُل رأسه وشعر بالاختناق، كان ملك قشتالة يزداد صلافة، وابن عبّاد يقلّب بين خيارات مرّة لكل منها مصير مظلم.
كان مشهد سقوط طليطلة، وهي أكثر قواعد الأندلس تحصينًا، يدق ناقوس الخطر فوق عروش ملوك الطوائف، وخيار المواجهة مع ألفونسو، اعتمادًا على النفس، أشبه بالانتحار، كما أن فكرة التعاون بين الممـــالك المجاورة كغرناطة وباطليوس تفتقر إلى الثقة الكافية بين خصوم ألدّاء، إذًا لابد من الاستعانة بقوة خارجية تضاف إلى قدرات ملوك الطوائف لدرء خطر الجيش القشتالي، وإيقاف طموحات ألفونسو السادس عند حدها، لقد كان ذلك الخيار مطلب الناس من قبل، لكن أمير المرابطين يوسف بن تاشفين رفض أن يعبر إلى عدوة الأندلس دون طلب من ملوكها.
وقد تم تخويف المعتمد من ابن تاشفين وما قد يطول ملكه إذا ما طمع فيه الأخير، فردّ بحضرة الوزراء والقضاة والفقهاء والأعيان بما خلّده اتالله إني لأوثر رعي الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعًا لملـــــك النصــارى، وأن أؤدي له الجزية، إنَّ رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازيرب، وتم الأمر كما اشترط ابن تاشفين وتجمّعت جيوش المرابطين وملوك الطوائف على خطة واحدة، ووقعت المواجهة في االزلاقةب التي هزم فيها جيش قشتالة شرّ هزيمة.
لقد رسم المعتمد مصير ملكه، وحدث ذلك بعد أن غادر ابن تاشفين الأندلس، وعاد المعتمد بعد عدة سنوات لمصالحة ألفونسو، وعندما علم أمير المرابطين بذلك عزم أمره على خلع ملوك الطوائف، لينهيَ فصلاً من فصول الوجود الإسلامي في بلاد الأندلس، وفي هذه المرة لم يجد ملك إشبيلية من يستنجد به لمواجهة جيش ابن تاشفين غير جيشه الضعيف الذي هزم سريعًا أمام جحافل المرابطين، وظل المعتمد يقاتل ببسالة من حاصروا قصره حتى توقّف عن القتال في معركة نتيجتها محسومة سلفًا، وهكذا تم أسره ونفيه وأهله في رحلة طويلة إلى أغمات، عند هذا الحد انتهت المرحلة الأولى في رحلتنا.
تاريخ طويل
نزلنا مراكش، والشوق يحدونا لزيارة قبر الملك الشاعر، لكن كيف يمكن البقاء في مراكش دون المرور على ساحة الفناء والأسواق المحيطة بها؟ هذا ضرب من التفريط بمتعة لا تحققها قراءة كتب التاريخ أو مشاهدة برنامج وثائقي عن مراكش.
في مراكش تنفتح أمامنا بوابة على تاريخ طويل، بدأ منذ تأسيس هذه المدينة على أيدي المرابطين لكي تكون عاصمة دولتهم الفتيّة، وعاصمة القرار في أقصى المغرب ونصف بلاد الأندلس بعد ضمّها تحت راية الدولة المرابطية، وكان المرابطون قبل ذلك متمركزين في أغمات.
لم نكن بحاجة إلى أكثر من الوقت وسائق ماهر ننهي معه زيارة أهم معالم مراكش بعد زيارة أغمات، كانت اساحة الفناب أو ساحة فناء جامع الكتبية هي المحطة التي أتى ذكرها على لسان من سألناهم ومَن لم نسألهم عن أهم معالم مراكش، كانت الإجابات متنوعة، قبور السعديين، قصر الباهية، جامع المنصور، باب أكناو، أسواق مراكش التراثية، حديقة ماجوريل... إلخ. لقد تمكّنا من زيارة معظمها، ولكل واحدة منها قصة ودروس وعِبَر، ولكن بقي لساحة االفناب سحر وجاذبية لا يقاوَمان.
ساحة الفنا... عالم لا يعرف الخَرس
تتفجّر سحرًا، خريطة يرسمها صراع سرمدي بين عالَمَي النهار والليل، فيها تتجمد عقارب الزمن وتنزوي أشعار المديح عن الوصف، يدخلها المكدور فيتهشم حزنه وتقف البهجة عند حدودها لمعانقة الزوّار والعابرين والتائهين، إنها ساحة االفناب المكان المفتوح الذي لا يعرف الخرس.
قيل إن االفناب يعني فناء المنزل، وقيل إنها تعني الموت، لأن الساحة في الزمن البعيد كانت مسرحًا لتنفيذ عمليات الإعدام، كما كانت قاعدة استعراض وانطلاق الحملات العسكرية لجيوش المرابطين.
ومنذ عام 2001م تم ضم ساحة االفناب لتكون في قائمة التراث الإنساني العالمي التي ترعاها منظمة اليونسكو، واليوم تزيد مساحتها على 40 ألف كيلومتر مربع.
وقت الظهيرة شمس مراكش ليست بالهيّنة، والتجول في أزقة الأسواق التراثية المظللة خيار ممتاز لالتقاط الصور والاطلاع على محتويات المتاجر بصورة أفضل، لأن حركة الناس في المساء تكون مضاعفة، أما من أراد السير تحت الشمس في ساحة االفناب فسوف يجد عشرات العربات المتحركة لبيع عصير البرتقال البارد، الذي أعتقد أنه يحتوي على خلطة سريّة تجبر المشتري على طلب الكأس الثانية والتفكير بالثالثة، لشدة حلاوة ذلك العصير.
عالَم ساحة الفنا الليلي ينهض من العدم، ليحتل كل شبر من عالَم النهار، يختلط فيه الواقع بالسحر، وربما تمرّ بكم أطياف على هيئة بشر، لكنها في الحقيقة أطياف من التاريخ تأبى الخروج من هذه البقعة الساحرة، دكاكين متنقلة تتخذ مواقعها المحددة، أدخنة رطبة تحجب ما وراءها، وروائح مغناطيسية تثير فضول المارة للاقتراب، إنها المطاعم الشعبية التي لا تظهر إلا في المساء، تقف متجاورة بشكل منظم، وباعتها يعدّون أطعمتهم في الهواء الطلق ليقدّموها طازجة إلى الزبائن، وخاصة الأجانب منهم، لكي يخوضوا تجربة تذوّق الأطعمة التقليدية من المطبخ المغربي، في جلسة بسيطة على طاولات وكراسي خفيفة.
الحلقات االجماهيريةب هي المحركات التي تمد ساحة االفناب بالحيوية والدهشة المتواصلة، فرق موسيقية باللباس التراثي تعزف وتغني ما يثير حماس الجمهور، عرّافون وقارئات ابختب ومرقّصو قرود وأفاعي يبهرون من تحلّقوا حولهم، لديهم مخزون تراكم مع الزمن واللغة من أجل التواصل، ليست هي المشكلة، ولكن لا بد من دفع بضعة دراهم لإطالة أمد العروض الممتعة.
ولكن الكل شيء من الأشياء ميقاتُب، على رأي الشاعر ابن اللبانة، لقد مضت بنا الساعات دون أن نشعر بها، ونحن نتنقل من افرجةب إلى افرجةب كان لا بد أن نغادر ساحة االفناب، ففي اليوم التالي سنذهب إلى خاتمة رحلتنا التي بدأت في إشبيلية وستنتهي في أغمات.
تحت إمرة الحرّاس الملثمين
وجدنا ضالتنا في عبدالسلام، وهو سائق أجاد التنقل بنا بين معالم مراكش بطريقة مكّنتنا من زيارة مواقع عدة خلال رحلتنا التي لم تدم سوى أيام معدودات، كنت أغالب شيئًا من النعاس دهمني ونحن في أول الطريق، كنت قد شربت ما يكفي من القهوة الـاكحلةب، كما يقال بالدارجة المغربية، لكن من دون فائدة، لأنني من النوع الذي لا ينام جيّدًا سوى في مكانه المعتاد.
تستغرق المسافة بين مراكش وأغمات أقل من ساعة، وتبلغ المسافة بينهما نحو 30 كيلومترًا، جلست أرقب جانبَي الطريق، حركة الناس، الأشجار المتراكضة، الدكاكين، التنافر في الملابس بين التقليدي والحديث، الباعة المتجولين، العلامات الإرشادية التي تقيس ما تبقّى من مسافة رحلتنا.
نعاسي امتزج مع خيالات نسجتها صفحات التاريخ وتأثيرات المكان الذي لم يعد اهناكب بالنسبة لنا، لأنه صار اهناب ويقاس بالأمتار، وفجأة توقفت بنا السيارة، لأن هناك مجموعة من الحرّاس الملثّمين قطعوا طريقنا، أحدهم طرق على زجاج نافذتي، عبدالسلام لم ينبس ببنت شفة، سألني الملثم: ماذا تفعلون هنا؟ ما وجهتكم؟ رددتُ نحن زوار لمدينة مراكش، ووجهتنا قبر المعتمد بن عبّاد، سمعت كلمات شعرت أنها نبرة تذمّر مما قلته، الحارس الذي كلّمني تراجع للوراء وتقدّم مكانه مَن بدا لي أنه رئيسهم، سألني بصيغة الجمع مستنكرًا، ما بالكم؟ لقد مات صاحبكم ولم يعد ينثر الدراهم كما كان يفعل! قلت: لا نريد غير قراءة الفاتحة على قبره، اقترب رئيس الحراس منّي ووضع يده اليسرى فوق سقف السيارة وقال: أليس من الأَولى أن تزور قبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي نصر الإسلام والمسلمين في االزلاقةب؟ ونظر في عينيّ وأكمل: أليس هو من قال فيه صاحبكم المعتمد بعد الزلاقة:
ولولاك يا يوسف المتقي
رأينا الجزيرة للكفر دارًا
قلت بلى والله، وهذا ما سنفعله الآن و... وفجأة تبخَر من أحاطوا بنا وتداخل الخيال مع الواقع على صوت عبدالسلام الذي أفقت على صوته وهو يسألني: هل نتوقف عند ضريح ابن تاشفين؟
مثوى بطل الزلاقة وفخر المرابطين
لقد وصلنا بالفعل إلى المكان الذي دفن فيه ابن تاشفين وبُني له ضريح يخلّد ذكراه، توقفنا في مكان ليس بالبعيد، وتوجهنا صوب بوابة الضريح، رأيت لوحة بيضاء مكتوبًا عليها باللون الأسود اضريح يوسف بن تاشفينب دون ألقاب، لم يكن في المكان شيء لافت غير البساطة والهدوء وروح التقشف التي سكنت حياة ابن تاشفين، وأزعم أن من صمم هذا المكان استلهمه من شخصية لم يعرف عنها غير لبس الصوف وأكل الشعير ولحم الإبل وشرب ألبانها.
عندما اقتربنا لقراءة الفاتحة على روح ابن تاشفين، وجدت لوحة رخامية وضعت عند رأسه كتب فيها ما سأنقله هنا حرفيًا:
امثوى بطل الزلاقة وفخر المرابطين... يوسف بن تاشفين... ولد سنة 410 هجرية، ونشأ نشأة الأبطال، أسس مدينة مراكش سنة 454 هـ، وكان له أعظم الفضل في توحيد كلمة المسلمين في الأندلس وتطهير هذه البلاد من رجس الكفر، وأشهر معاركه البطولية معركة الزلاقة 474 هـ، توفي يوم الاثنين ثالث محرم سنة 500، وهذا قبره الذي كاد يمحى أثره لولا أن تداركه بعنايته أمير المؤمنين جلالة الملك محمد الخامس، الذي أمر بتشييد هذا الضريح تقديرًا لما أسداه من خير للإسلام والمسلمين. وذلك بتاريخ تاسع وعشري ربيع النبوي عام 1379 الموافق لثالث أكتوبر سنة 1959، أدام الله بطل الحاضر السعيد، ورحم مفخرة الماضي المجيدب. بعد أن أدينا الواجب تجاه أمير المسلمين، خرجنا متجهين إلى أغمات.
وفاء الشعراء للملك الشاعر
في الطريق إلى اقبر الغريبب تذكّرت من ساروا قبلنا إليه وهم كثر، وأنا لا أعني من زاروا قبره بعد مماته، لكنني أعني من تكبّدوا مشاق السفر وخطر نقمة المرابطين لأجل زيارة المعتمد وهو في أسره، ووجدت أن بعض الشعراء ضربوا أعلى درجات الوفاء لرجل لم يبخل عليهم بكرمه وقربه عندما كان ملكًا، فلم يجدوا ما يقدمونه له في المقابل سوى المغامرة بحياتهم لأجله، وإهدائه بعض القصائد التي خلّدت وفاءهم له.
وقد برز في هذا الأمر شاعران؛ هما أبو محمد عبدالجبار بن أبي بكر الصقلي، المعروف بابن حمديس الصقلي، وأبوبكر الداني محمَّد بن عيسى بن محمد اللخمي، المعروف بابن اللبَّانة، لم تتبدل أقوالهم مع تبدُّل أحوال من مدحوه، يقول ابن حمديس:
غريبٌ بأرض المغربين أسيرُ
سيبكي عليه منبر وسرير
إذا زال لم يسمع بطيِّب ذكره
ولميرَ ذاك اللهوَ منه منيرُ
وتندبه البيض الصوارمُ والقنا
وينهلَّ دمعٌ بينهنَّ غزيرُ
سيبكيه في زاهيه والزاهرِ الندى
وطلابُه والعرفُ ثم نكيرُ
إذا قيل في أغمات قد مات جوده
فما يرتجى للجود بعد نشورُ
مضى زمنٌ والملك مستأنس به
وأصبح عنه اليومَ وهو نَفورُ
أذلَّ بني ماء السماء زمانُهم
وذُلُّ بني ماء السماء كثيرُ
برأيٍ من الدهر المضلل فاسدٍ
متى صلحت للصالحينَ دهورُ
فما ماؤها إلا بكاءٌ عليهمُ
يفيض على الأكباد منه بحورُ
فيا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً
أمامي وخلفي روضةٌ وغديرُ
بمنبتة الزيتون مورثة العلى
تغنّي حمامُ أو ترفُّ طيورُ
بزاهرها السامي الذي جاده الحيا
تشيدُ الثريا نحونا وتشيرُ
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده
غيورين والصبُّ المحبُّ غيورُ
تراه عسيرًا أو يسيرًا منالُه
ألا كلُّ ما شاء الإله يسيرُ
أما ابن اللبانة فيقول عنه:
لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِيقَاتٌ
وَلِلْمُنَى مِنْ مَتَائِيهِنَّ غَايَاتُ
وَالدَّهْرُ فِي صِبْغَةِ الْحِرْبَاءِ مُنْغَمِسٌ
أَلْوَانُ حُلَّتِهِ فِيهَا اسْتِحَالاَتُ
انْفُضْ يَدَيْكَ مِنَ الدُّنْيَا وَسَاكِنِهَا
فَالْأَرْضُ قَدْ أَقْفَرَتْ وَالنَّاسُ قَدْ مَاتُوا
وَقُلْ لِعَالِمِهَا الْأَرْضِيِّ قَدْ كَتَمَتْ
سَرِيرَة َ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَغْمَاتُ
مَنْ كَانَ بَيْنَ النَّدَى وَالْبَأْسِ أَنْصُلُهُ
هِنْدِيَّةٌ وَعَطَايَاهُ هُنَيْدَاتُ
رَمَاهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَسْتُرْهُ سَابِغَةٌ
دَهْرٌ مُصِيبَاتُهُ نُبْلٌ مُصِيبَاتُ
وَكَانَ مِلْءَ عِيَانِ الْعَيْنِ تُبْصِرُهُ
وَلِلْأَمَانِيِّ فِي مَرْآهُ مِرْآةُ
أَنْكَرْتُ إِلّا الْتِوَاءَاتِ القُيُودِ بِهِ
وَكَيْفَ تُنْكَرُ فِي الرَّوْضَاتِ حَيَّاتُ
لَهْفِي عَلَى آلِ عَبَّادٍ فَإِنَّهُمُ
أَهِلَّةٌ مَا لَهَا فِي الْأُفْقِ هَالاَتُ
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعـشِ أَعلَمُـهُ
وأخيرًا وصلنا إلى أغمات، وتوقفنا عند ضريح المعتمد بن عبّاد، للوهلة الأولى لم تكن هناك أيّة مقارنة بين ضريحه وضريح يوسف بن تاشفين، حيث بدا ضريح المأسور أكثر فخامة من ضريح مَن أسَره، دخلنا، وكأي مقبرة حلّت الرهبة مكان الشغف، فلا شيء أجدى من طلب المغفرة لمن رحلوا، ولا حكمة تتجلى أفضل من حكمة ميّت رثى نفسه، ووعظنا بأن دوام الحال من المحال.
ضريح المعتمد فوق القبة الصغيـــــرة يضم إلى جانبه قبر زوجته المعروفـــة باعتماد الرميكية، وكتب فوقه (هنا قبر اعتماد الرميكية زوج المعتمد التي شاركته في نعيمه وبؤسه)، أما القبر الثالث فهو لابنهما، ويدعى أبو سليمان الربيع.
أيام المعتمد في أغمات عبأت صدره بالحزن والأسى ليُخرج منه شعرًا لم يقل أجمل منه أيام عزّه وافتخاره، ولأنه أدرك النهاية، فقد كتب أبيات قصيدة رثى فيها نفسه، وأوصى بأن تعلّق عند قبره، وهذا ما كان، يقول في تلك القصيدة:
قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغـادي
حَقًّا ظَفَرتَ بِأَشـلاء ابـن عَبّـادِ
بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمـى إِذِ اِتّصلَـت
بِالخَصبِ إِن أَجدَبوا بالريّ لِلصادي
بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اِقتَتَلوا
بِالمَوتِ أَحمَرَ بالضرغـامة العـادي
بالدَهر في نِقَم بِالبَحـر فـي نِعَـمٍ
بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النـادي
نَعَم هُوَ الحَـقُّ وَافانـي بِـهِ قَـدَرٌ
مِـنَ السَمـاءِ فَوافانـي لِميـعـادِ
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعـشِ أَعلَمُـهُ
أَنَّ الجِبال تَهـادى فَـوقَ أَعـوادِ
كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ
رَوّاكَ كُلُّ قَطـوب البَـرق رَعّـادِ
يَبكي أَخـاهُ الَّـذي غَيَّبـتَ وابِلَـهُ
تَحتَ الصَفيحِ بِدَمعٍ رائِـح غـادي
حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَـلّ مُنهَمِـرًا
مِن أَعيُن الزَهرِ لم تَبخَل بِإِسعـادِ
وَلا تَـزالُ صَـلاة اللَـهِ دائِـمَـةً
عَلى دَفينـكَ لا تُحصـى بِتعـدادِ
أسيرٌ ليس كأيّ أسير
لقد سجلت قصائد المعتمد بن عباد إشارات واضحة حول حياته وأسرته في الأسر، فضلًا عن ظروفه المعيشية، فهو على سبيل المثال لم يحبس وحده وتُرك يعيش مع أفراد أسرته، وبابه لم يُغلق أمام زواره، كما حصل مع ابن حمديس وابن اللبانة، وكان يكتب الرسائل ويستقبلها.
تلك الأوضاع لا تعني أن المعتمد بالغ في شكواه، فهو ملك ولد وعاش حياة القصور ورغد العيش، وأي بديل لن يرضيه عمّا كان فيه، فهو عندما يقول:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورًا
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
علينا أن نفهم ما يشعر به كملك وليس كأي شخص آخر، حتى لو كان وزيرًا.
وعندما يتأسى وهو يرى حال بناته:
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرًا
فهو يعاني الأمرَّين من عجزه عن فعل أي شيء ومن شريط الذكريات الذي يذكره بكل تفاصيل حياة النعيم التي توافرت لبناته من أثواب لا عدد لها وحليّ وجواهر منثورة تحت أقدامهن وطعام وشراب يكفي أغمات ويزيد.
ولعل في قصيدته عن سرب طيور القطا دليل وجود فضاء ما يجلس فيه داخل مكان أسره، إذ يقول:
بكيتُ إلى سرب القطا إذ مررن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
أما توقه للحرية وشعوره بضيق المكان فقد جعله يبكي لطيور لا تعرفه ولا تعرف من بكى لرؤيتها، فأيّ حزن وكمد كان يتجرعه المعتمد كل يوم وكل ساعة؟! .
إشبيلية هي أول عاصمة للحكم الإسلامي واختيرت في عهد الوالي عبدالعزيز بن موسى بن نصير، وأول جنود دخلوها من جنود الفتح كانوا من حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق وبها استقروا، وصفها الشقندي قائلاً: «من محاسنها اعتدال الهواء، وحسن المباني، وتزيين الخارج والداخل، وتمكن التمصر، حتى أن العامة تقول: لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد»
كان المرشدون يركزون على برج «الخيرالدا» أو المئذنة المهيبة التي بنيت في زمن الموحدين وتحولت بعد سقوطهم إلى برج لأجراس كنيسة إشبيلية
جامع المنصور الذي بني في عهد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الموحدي، ويحمل هذا الجامع أكثر من اسم، مثل المنصور والجامع الكبير وجامع القصر