الهويات الإسلامية في أوربا

الهويات الإسلامية في أوربا

يعد المسلمون - وفق الدراسات الحديثة - من أكبر الأقليات في أوربا، جاء ذلك نتيجة طبيعية للهجرة، هذا الكم إذن من دون شك طرح ولا يزال يطرح إشكالات عدة، خصوصاً المتعلقة منها بقضية الاندماج والتأقلم والتعايش ببلاد المهجر، وعلاقة بهذه القضية تحضر في الوقت نفسه قضية الهوية الإسلامية، وذلك ما سنتوقف عنده منطلقين من رؤية الباحثة جوسلين سيزاري مديرة برنامج «الإسلام في الغرب» بجامعة هارفارد، وحديثها عن «الهويات الإسلامية في أوربا».

لدراسة طرق المسلمين في تحديدهم لهويتهم وتجربتها، من الضروري أن نأخذ في الحسبان إطارات العمل والبنيات التي فرضتها السرديات الكبرى المهيمنة حول الإسلام.
ومن المعلوم أن المسلمين الأوربيين والأمريكيين كلاهما قد واجه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من يربط بين الإسلام - الذي أصبح يُنظر إليه على أنه مصدر تهديد سياسي - والمسلمين بصفة عامة. وهذا الأمر - وفق جوسلين - يدل على ثبات الفهم القديم للإسلام والمسلمين المستقر في الأذهان على مدى قرون من المواجهة بين العالم الإسلامي وأوربا. 
وتقول في ذلك «إن ما نزعم أننا نعرفه عن الإسلام هو - في جزء كبير منه - نتاج رؤية تم تشييدها على مدى قرون من الخلاف والنزاع، على الصعيد السياسي كما على الديني، وإن واقع المسلمين المتغير والمفارق يميل إلى الاختفاء تحت وطأة المفاهيم التي ترسبت بتؤدة عبر القرون، فقد تكونت هذه المفاهيم في لحظات تاريخية محددة ومواجهات تبلورت عنها في النهاية جملة من التصورات المختلفة، وأحياناً المتناقضة، منها: العنف والهرطقة والفسوق والانغماس في الملذات الحسية والنزعة الوحشية والقسوة».
هذا الخطاب تراه جوسلين يعزف على أوتار المواجهة بين الإسلام والغرب، ووضع الإسلام بوصفه مشكلة أو عقبة نحو التحديث.
إذن يمكن القول إن المنهج الماهيوي هو المنهج المنتشر، فمنذ الثمانينيات اتخذت النزعة لاعتبار الإسلام عامل خطورة في العلاقات الدولية صبغة شرعية، من خلال المفاهيم المترسبة عبر القرون، وهي مفاهيم كانت مألوفة عند أي شريف أو سيد ماجد عاش في القرن الثامن عشر.
فالهويات الإسلامية يتم تشييدها في القلب من هذه السياقات، وهناك مساحة فارغة واقعة بين التصوير والوجود الفعلي للمجتمع الإسلامي، في داخل هذه المساحة يستطيع المسلمون القيام بالفعل، وفي سياق كهذا - وفق جوسلين - توجد ثلاثة سيناريوهات ممكنة؛ القبول والاجتناب والمقاومة.
هذه السيناريوهات الثلاثة تقع في حضور عدد كبير من الخطابات والأفعال باسم الإسلام، سواء كان المقصود منها المسلمين أو غيرهم، فالقبول يعني أن هناك خطاباً سائداً يتم قبوله، ويكون مصاحباً لضرب من فقدان الذاكرة الثقافي، ورغبة واضحة في الانصهار. وهذا الاتجاه هامشي بين المسلمين المهاجرين. 
أما الاجتناب فيشير إلى سلوكيات أو خطابات تسعى إلى فصل المسلمين بقدر المستطاع عن البيئة غير المسلمة، عن طريق تنمية ضرب من الاستخدام الطائفي للمعتقدات الدينية الإسلامية. وأما المقاومة فتعني رفض المكانة المعطاة للإسلام داخل الخطابات والسياسات السائدة، والمقاومة بطبيعتها عنيفة، على سبيل المثال يمكن أن تشمل تبني نظرة معادية لنظرة السرديات السائدة، وتنتج أدباً كثيراً دفاعياً.
ومن هنا وجب التنبيه إلى أن التركيز على أخطاء البعض وإسقاطها على الجميع ليس بمنهج.

تنوع إطارات العمل 
إن التنوع العرقي عند الأوربيين المسلمين كثيراً ما يكون هدفاً للتركيز، وهو يستحق ذلك، ولكن من المهم أيضاً أن نأخذ في الحسبان التنوع في السياقات القومية، ونعني بذلك طرق اكتساب الجنسية، ووجود الاعتراف بالتعدد الثقافي أو غيابه، والخصائص المعينة لكل بلد أوربي على حدة، فهذه الأمور تؤثر تأثيراً مباشراً في فعاليات تشكيل الأقليات المسلمة وبناء الهويات، من ثمّ نجد أن علمنة العلاقات الاجتماعية تقلل من قيمة أي شكل من أشكال الفعل الاجتماعي أو الثقافي المتكئ على القيم الدينية.
لذلك ترى جوسلين أن من الضروري وضع أفعال المسلمين الأوربيين في سياق الفرص التي تتيحها العناصر السائدة في كل مجتمع. 
إن أهمية الربط بين المستوين المحلي والوطني عند التعرف على نشاط المسلمين لتشكيل هويتهم - وفق جوسلين - يجب أن تكون محط الاهتمام، على سبيل المثال «حين زاد نشاط المسلمين محلياً لتقوية هويتهم الدينية، أصبح ظهور جيل جديد من قادة المسلمين من بديهيات هذا النشاط ودواعيه»، لا شك إذن في أن هذا الأمر خلق نوعاً من ردة الفعل لدى الآخر، تجاه المسلمين. 

الانتماء العرقي 
وفق جوسلين، يبدو انتماء الناس إلى الإسلام - في الغالب - عنصراً من عناصر المجتمعات العرقية، فبدءاً من المهاجرين الأتراك في ألمانيا، مروراً بالهنود والباكستانيين في إنجلترا، ووصولاً - إلى حد ما - إلى المغاربة في فرنسا، يبدو «أن الإسلام عنصر حيوي في نسيج الهوية العرقية داخل المجتمعات الأوربية، خاصة بالنسبة إلى الأجيال الأولى من المهاجرين».
كما ترى أيضاً ظهور جيل جديد من القادة المسلمين داخل المنظمات والحركات الإسلامية، والحق أن هذا التطور إن دل على شيء فإنه يدل على وجود ظاهرة اجتماعية، وهي ظاهرة التثاقف التي تمت بين المرجعيات الإسلامية والبيئة العلمانية. 
وعلى الرغم من وجود الفجوة بين واقع الممارسة الإسلامية والخطاب الديني أو الفكري، فإن الممارسات اليومية الملموسة تكشف عن تثاقف مع البيئة العلمانية. يعني أن هناك تأقلماً إسلامياً مع البيئة التي يعيش فيها المسلمون في الغرب.

تحدي الإحياء اللاهوتي
تقول جوسلين: «نستطيع الحديث عن ظاهرتين متوازيتين فيما يتصل بالممارسات الدينية الإسلامية وأوربة الإسلام، فالانتماء العرقي كثيراً ما يؤدي دوراً أكثر أهمية من الدين في تحديد الهويات الإسلامية، على أن هناك سيناريو تحقق فيه العلاقة بالإسلام أسبقية على الهويات العرقية». 
وتذكر أن من الاتجاهات السائدة في أوساط المسلمين الأوربيين سعيهم إلى التوفيق بين أقصى قدر من الحرية الفردية والإيمان بجانب أو جانبين من الجوانب الدينية التي لا تحتاج إلى كثير من الجهد، والتي يمكن التعايش معها في ظل القيود التي تفرضها مفردات العصر. يقدم هؤلاء أنفسهم على أنهم «مؤمنون ولكنهم يمارسون الطقوس الدينية بانتظام». 
من جانب آخر، هناك جماعة من المسلمين يطالبون باحترام التعاليم المسيحية، ويهتمون بمظاهر السلوك، والمبالغة في احترام القواعد التي سار عليها السلف، ويسعون إلى تطبيق ما يفهمون وما يعرفون على أسلوب حياتهم اليومية. 
ومن ثمة - وفق جوسلين - فإن بناء الهوية الإسلامية يوفر للفرد تذكرة الدخول المباشرة لواقع الحياة اليومية، ويزودهم بإطار عمل يستخدمونه في تحقيق بنية الحياة التي يريدون. وقد تصبح الكلمة ذات معنيين «المقدس» و«المدنس»، وتصبح الأفعال كلها مصنفة على أساس درجة شرعيتها ومنافاتها للشريعة، ومن شأن ذلك أن يحول الإسلام إلى مجرد التزام بالشكليات على مستوى المأكل والملبس وممارسة الشعائر الدينية.
قضية كبرى لم تغفلها جوسلين، وهي قضية التراث، إذ أكدت نشوء فجوة بين الأصوليين والحداثيين فيما يتصل بتفسير التراث الإسلامي، بسبب النزعة المتزايدة نتيجة للمساعي التي تهدف إلى الوصول لتفسير شامل يقبله الجميع، ويتجاوز التفسيرات الإقليمية للتراث الإسلامي.
هذا الاختلاف بين المسلمين والطريقة التي يتصلون بها بالبيئة الأوربية، له صلة بوضع التراث الإسلامي، وترى جوسلين أن المسلمين يتبعون طريقين مختلفين في التعامل مع النصوص وتفسيرها، فعند جماعة تصبح النصوص ذات سلطة مطلقة لا تقبل الجدل، ولا تطيق النقاش، وعند جماعة ثانية، تصبح النصوص عرضة للمناقشة من قبل النقد التاريخي والتأويلي. 
وتقول جوسلين إن «مثل هذا الموقف المزدوج يسير جنباً إلى جنب مع قبول النسبية والتعددية المرتبطتين ببيئة ديمقراطية وعلمانية، فالمناخ الحالي للإسلام في أوربا لا يسهّل قبول مثل هذه النسبية، ومن المحتمل أن تكون التوترات حول القضايا الدينية والثقافية في أوربا عرضة للزيادة، ومن ثم تعيد تقوية وحدة المسلمين حول القضايا الدينية المطروحة وحول التمييز بينهم وحول انتمائهم الديني».
من خلال هذا العرض التشخيصي الذي قدمته لنا الباحثة جوسلين لقضية الهويات الإسلامية في أوربا، ومن خلال قراءة مستجدات الساحة الدولية، يبدو لي أن الطريق سيكون شائكاً أمام المسلمين، خاصة في ظل ربط بعض أحداث العنف بهم، الأمر الذي يحتم على المسلمين في بلاد المهجر التحرك قبل فوات الأوان، من خلال البحث عن صيغ جديدة تواكب العصر لتفادي موجة العنصرية من جهة، ولضمان استقرار يضمن العيش هناك في أمن وأمان ■