قصيدة قناع لصلاح عبدالصبور

يقول صلاح عبدالصبور في كتابه «حياتي في الشعر» (بيروت 1969): «كتبتُ في عام 1961 قصيدتي «مذكرات الملك عجيب بن الخصيب»، واضعًا قناع شخصية فلكلورية لكي أتحدث من ورائه عن بعض شواغلي وهمومي الفكرية. والملك عجيب بن الخصيب أحد ملوك ألف ليلة وليلة، يَرد ذِكره في حكاية «الحمّال مع البنات»، حيث نشهده صعلوكًا خرج عن ملكه، إذ أدركه السأم فطمح إلى السفر للفُرجة على البلاد والناس. وقد حاولتُ في هذه القصيدة أن أذكر ما فات ألف ليلة وليلة، وهي حال عجيب بن الخصيب قبل رحلته التي حوَّلته أهوالها من مَلك إلى صعلوك.
نما الخصيب في بلاط ملكي مليء بالتخليط في كل شيء. التخليط في الأنساب، إذ لا تصح نسبة الولد إلى أبيه، والتخليط في الأفكار، إذ يزدحم بالسفسطة والحذلقة، ثم ها هو يشهد الشر ويقترفه، فلا يكاد يجد له طمعًا.
إن هذا البلاط هو صورة للكون، وليس المَلك الأب الميت إلا صورة لسيادة القوى العليا على المجتمعب.
يمضي عبدالصبور شارحًا ماذا يحدث عندما تترك القوى العليا الكون والمجتمع، اتاركة الإنسان ليواجه البحث وحده عن الحقيقة، في الكون أو المجتمع، زاده قدر من السفسطة وقليل من الخبرةب.
هذه الكلمات تبدأ بها قصيدة عبدالصبور نفسه في تفسيره لشخصية الملك عجيب بن الخصيب الذي تدور حوله قصيدة هي قناع له، أو قصيدة يغدو فيها ابن الخصيب قناعًا للإنسان الذي يتصدر بلاط الكون الحديث، ليزدحم حوله من لا يقول الحقيقة، ومن لا يَقُل تلفيقًا وإملالًا من سفسطة جورجياس السوفسطائي اليوناني القديم، وما يشبه السفسطة من علاقات عشوائية وتافهة في المجتمع، فتضيق نفس عجيب بن الخصيب بذلك، ويشعر أنه لا بد أن توجد حقيقة كبرى وراء كل هذا الزيف والسفسطة والتخليط، فيبدأ بحثه عن الحقيقة كأنه صوفي، لكنّه لم يتكون تكوين الصوفي، ولم يعد إعداده وتربيته فلا يصل إلى الحقيقة، وإنما يصل إلى التخليط، ولذلك يمضي تائهًا في بحثه عاجزًا عن إيجاد الطريق، عاجزًا عن طرح السؤال الصحيح، فينتهي إلى الحقيقة القاسية، وهي سقوطه كالبهلوان في شبكة العدم والشعور بالجنون الذي تنغلق به كل السبل.
هذا الذي يتحدث عنه عبدالصبور، هو مدخل طيب إلى فهم قصيدة امذكرات الملك عجيب بن الخصيبب بوصفها شبيهة لقصيدته عن بِشر الحافي، التي لا تختلف عن مذكرات عجيب بن الخصيب في كونهما قصيدتين للقناع من ناحية، وقصيدتين للرؤية المأساوية للعالم من ناحية أخرى.
أما من حيث إنهما قصيدتان للقناع، فهما كذلك لأن الشاعر يستعير الشخصية من التاريخ الصوفي مرة أو من الآداب الشعبية مرة أخرى لينطق من خلالهما ما يعنّ له من أفكار وتصورات يبني بها رؤيته الخاصة للعالم الذي لا يرى فيه الشاعر سوى مأساة كونية تواجه الإنسان باختبار صعب يترتب على السير فيه نهاية الإنسان ومصيره.
وسيلة فنية
سبق أن قلتُ إن اختيار قصيدة القناع كان وسيلة فنية لشعراء الخمسينيات كي يتباعدوا بها عن الدفق الانفعالي المباشر، ويخلقوا موازيًا موضوعيًّا لانفعالاتهم ومشاعرهم، وأهم من ذلك أفكارهم، وذلك على نحو لا يخلو من الصراع الذي تنطوي عليه الدراما.
ولذلك كان من الطبيعي أن تكون قصيدة القناع هي مدخل عبدالصبور إلى الدراما أو المسرح الشعري، سواء المسرح الذي يتحدث عن شخصية صوفية تسعى وراء العدل والحرية فلا تجدهما في العالم المملوء أخطاء فتنتهي إلى المأساة، وتواجه قدرها المأساوي المحتوم كالحلاج، أو تواجه الشخصية (القناع) قدرها المحتوم الذي يخلو من المعنى، فتغدو كأنها مسافر ليل، في قطار كل ما فيه بلا معنى واضح أو غاية كما في مسرحية امسافر ليلب التي يواجه فيها الراكب الوحيد اعشري السترةب بلا عون خارجي، أو دعم من ركاب قطار لا نعرفهم ولا نراهم.
هذه هي المعاني أو الدلالات الأساسية التي ندور في مأساويتها حين نلج عوالم قصيدتي القناع الأوليين في شعر عبدالصبور؛ أعني امذكرات بشر الحافيب، وامذكرات الملك عجيب بن الخصيبب، التي أريد أن أتوقف عندها وأقوم بتحليل تفصيلي لها أو قراءة فاحصة لسطورها.
ويبدأ المقطع الأول بأسطر هي غاية في قصرها وكثافتها على السواء، فهي لا تتجاوز خمسة أسطر، على النحو التالي:
لم آخذ المُلك بحد السيف، بل ورثته
عن جدِّي السابع والعشرين - إن كان الهوى
لم يتخلل في جذورنا -
لكنني أشبهه في صورة أبدعها رسّامه
رسّامُه... كان عشيقَ الملكة
تراث عريق
إذا تأملنا المقطع بعينينِ فاحصتين، وجدنا أن الملك الخصيب ينتسب إلى تراث طويل عريق، يصل إلى الجد السابع والعشرين، لكنّ هذا التراث الطويل العريق تحوطه الرِّيب، وتتناوله الشكوك التي تتعلق بنقائه وصفاء أرومته أو عِرقه. فهناك تلك السخرية التي تُشكك في سلامة الجذور على هيئة سؤال يبدو بريئًا في الظاهر، لكنه يخلو من البراءة في حقيقة الأمر، خصوصًا في السطرين الأخيرين اللذين ينطويان على نوع من التناصّ يصلان بين الشعر والرسم. أعني السطرين اللذين يشيران إلى الشبه بين الحفيد (عجيب بن الخصيب) والجد الأعلى، وهو شبه يقترن بصورة أبدعها رسّامه، لكن هذا الرسام فيما يقول المقطع القصير كان عشيق الملكة. والإشارة هنا إلى طرائق السخرية التي كان يلجأ إليها بعض الرسّامين عندما كانوا يستخدمون الرسم لإنطاق المسكوت عنه من الكلام، كما حدث في إحدى لوحات جويا، الفنان الإسباني الشهير التي رسم فيها صورة الملك والملكة وبقية الأسرة مع رئيس الوزراء، لكنه جعل ولي العهد الصغير أقرب شبهًا إلى رئيس الوزراء لا إلى الملك أبيه، فنطق كل مسكوت عنه من كلام كان يتردد همسًا في أرجاء القصور الملكية في عصر جويا الذي لم يكن يتوقف عن السخرية في لوحاته والتعاطف مع الثوار على الأمراء والملوك، تحقيقًا لحلم الحرية والعدل.
عنصر مهيمن
إذا عاودنا قراءة المقطع الذي لا يجاوز الأسطر الخمسة، وجدنا أن معاني الأسطر الخمسة أكثر بكثير من كمِّها، وأن السخرية فيها تمنحها درجة عالية من كثافة اللغة الشعرية وقُدرتها على السخرية المُرَّة التي لا تترك شيئًا إلا وناوشته بطرق غاية في البراءة، لكنها غاية في المقدرة على إنطاق المسكوت عنه من الكلام الكثير الذي لا يمكن للبشر العاديين الذين هم من رعيّة الملوك قوله أو نطقه.
وإذا جئنا إلى المقطع الثاني، انتقلنا من الميراث العائلي إلى مكان هذا الميراث، حيث قصر الأب الذي يصفه المقطع بقوله:
قصر أبي في غابة التنين
يضج بالمنافقين والمعلمين والمؤدبين
من بينهم مؤدبي الأمين جورجياس
والمقطع الثاني أقصر من الأول بسطر، لكنه يشير إلى المناخ الذي وُلِد فيه الملك عجيب بن الخصيب والذي نشأ فيه، حيث التخليط هو العنصر المهيمن على كل شيء، والمقصود بالتخليط في هذا المقطع هو اختلاط الأشياء بما يُفقدها القيمة والمعنى والوزن، وبما ينفي الفارق بين العلماء والجهلاء، أو بين الصادقين والمنافقين، أو بين المُحاربين الذين يتميزون بالشجاعة والجبناء الذين يملأهم الخور والجُبن والنفاق، وأخيرًا بين المؤدبين الذين يحتاجون أصلًا إلى من يؤدبهم، والذين لا علم عندهم سوى السفسطة والمجادلة فيما لا يُجدي وفيما لا يفيد، ويمثّل هؤلاء المؤدب الأمين جورجياس. وعلينا ملاحظة المفارقة التي ينطوي عليها الجمع بين صفة المؤدب وصفة الأمين، فهي مفارقة قائمة على الجمع بين ما لا يجتمع.
هكذا نصل إلى المقطع الثالث، حيث نسمع بعضًا من تعاليم جورجياس، فنقرأ:
هل ماء النهر هو النهر؟
سقراط... محق حين تجرع كأس الموت وما فرّ؟
الميت، يحس دعاء الأهل إذا ما أودِع في القبر؟
المرأة فخٌّ منصوب، واحفظ وعظي
إن جئت لديها،
لا تأمنها
سفسطة بلا معنى
هذه التعاليم السوفسطائية لا تعني شيئًا في واقع الأمر، وكأنها لم تُقل إلا لكي تنقض، وهي تنطوي على بعض الحقيقة، لا كلها، ولذلك فهي سفسطة بلا معنى، ولغو بلا إبانة. وليس فيها من شيء بارز سوى كراهية المرأة، فهي مجرد ضجيعة فراش لا أكثر ولا أقل. وكلها مثال على تعاليم جورجياس التي لا تُثري عقلًا ولا تُغني روحًا ولا تُعمِّق وعيًا، ومن ثم فإنها سرعان ما تؤدي إلى نقيضها، خصوصًا في الإشارة إلى المرأة التي تستغرق المقطع الرابع كله، حيث نقرأ:
ورغم تعاليمه، قد عرفت النساء
إماء أبي كُنَّ حين يجن المساء
يجئن إليّ
ويفضحن لي ما يُسرُّ أبي
إليهن، حين تثور الدماء، وتهمد ظمأى
فيسحب ثوبه
وحين يطيب له كاهنوه، فتبتلّ رغبته بالرذاذ
ويحمد ربّه
ولم ينفع الطب ذات مساء، على حذق كُهّانه المعجب
ومات أبي، والدموع تسيل تسيل على وجنتيه
وفي كفِّه مزقة من رداء حرير
وينبغي علينا ألا نحكم بما يبدو في المقطع من شذوذ أخلاقي يبدو أقرب إلى سفاح المحارم، فنحن في عالم من الفساد الخالص أو في قصر ينبني على اللا أخلاق، وفي ميراث يعرف الأشياء ونقائضها، ولذلك لا فارق بين جواري الأب وعشيقات الابن، أو بين نهم الأب في المتعة ونهم الابن، فالفساد واصل بين الأصل والفرع، ولذلك يموت الأب في سرير لذّاته، دون أن نعرف له شيئًا يدعو إلى الفخَار أو شيئًا حقيقيًّا يقترن بانتصار أو مجد حقيقي، فكل مظهر لا يفارق المخبر، وكل حقيقة سرعان ما تتحول إلى كذبة كبيرة ممتدة بحجم الكرة الأرضية. هكذا يموت المَلك، ونواجه شعائر التأبين في المقطع الخامس:
«مات الملك الصالح»...
«مات الملك الغازي»...
صاحت أبواق مدينتنا صيحًا ملهوفًا
وقف الشعراء أمام الباب صفوفًا
وتدحرجت الكلمات ألوفًا
تبكي الملك الطاهر حتى في الموت
وتُمجِّد أسماء خليفته الملك العادل
وتراوح في نبرات الصوت:
«صوت حيران»
هناء محا ذاك العزاء المقدما
«صوت فرحان»
فما عبس المحزون حتى تبسما
«صوت ريّان»
فأنت هلال أزهر اللون مشرق
«صوت أسيان»
وكان أبوك البدر يلمع في السما
«صوت غضبان»
وأنت كليث الغاب همّك همه
«صوت بالدمعة نديان»
وكان المليك الراحل اليوم قشعمًا
«صوت بالبهجة ملآن»
وأنت الغمام الماطر الخير دائمًا
«صوت فياض بالأحزان»
وكان أبوك البدر قد فاض أنعُمًا
«صوت مبسوط حتى قرب القافية الميميَّة»
فحييت من سبط سليل أشاوس
كرام سجاياهم...
وبورك من نما... إلخ
(ما أضجر هذي القافية الميميَّة)
(لن يسكت هذا الشاعر حتى يفنى حرف الميم)
والمقطع كله تنويع وتوشيع لأبيات ابن نباتة الشاعر المصري الذي عاش ما بين القرنين السابع والثامن للهجرة. والطرافة كامنة في إعادة صياغة أبيات ابن نباتة داخل نسيج جديد يضفي على تلك الأبيات معاني تفسيرية لم تكن لها في الأصل ولم يقصد إليها ابن نباتة أصلًا، فكل ما نعرفه هو حسن تخلُّص ابن نباتة الذي جمع بين العزاء والتهنئة في آن، وهي حيلة من حيل الشعراء المادحين الذين تعوَّدوا الوقوف على أبواب السلاطين، والتحيل بكل ما يرضي ولاة الأمر منهم، سواء من الأموات الراحلين أو من الأبناء المتوَّجين.
سخرية من التراث الشعري
هكذا تتدحرج أبيات ابن نباتة وغيرها من ألوف الأبيات، ويقف الشعراء أمام أبواب القصر صفوفًا، وتتراوح نبرات الأصوات وتتنوع إيقاعات الإلقاء في كل درجات الصوت ودلالات نبراته على السواء. وتستمر الأبيات إلى أن نَمِلّ من القافية الميمية، تمامًا كما نَمِلّ من المبالغات الموجودة في المتون الشعرية التي تنتهي بهذه القافية.
ويبدو الأمر كما لو كان الشاعر لا يكتفي من السخرية بوفاة والده (الرمزي بالتأكيد)، بل يمتد إلى السخرية من تراثه الشعري كله. ذلك التراث الذي قصر عبقريّته على المديح والرثاء كما لو كان ليس في الدنيا سوى مدح الملوك أو رثائهم والاعتماد المطلق على عطاياهم السخية ومِنح أبنائهم الواعدة.
وينتهي المقطع بالشكوى من حرف الميم، وهو حرف الرويّ في قصيدة الشاعر الميمية الطويلة التي ينقلها عبدالصبور من ديوان الشاعر المصري ابن نباتة في مرحلة من مراحل الضعف الشعري، كما لو كان يدل بالجزء العقيم على الكل الذي لا يخلو من عُقم، فيبدو الملك عجيب بن الخصيب عاريًا من كل مفخرة، فلا تراث عظيمًا له، ولا نسب أصيلًا ينتمي إليه، ولا حضارة ضاربة بجذورها في الأرض، وما يبقى له سوى الانطلاق عاريًا من كل شيء، كأنه مَلِك فَقَد كل مظاهر المُلك، فيسيح في الأرض باحثًا عن حقيقته ومعناه، وعن أصله وجذور يستند إليها، ويجرّب في هذا البحث كل شيء، وهكذا يأتي المقطع السادس في القصيدة ليكشف لنا السر الذي لا يعرفه أحد غير هذا الشاعر، فنقرأ:
لو قلت كل ما تسره الظنون
لقلتمو مجنون
«الملك مجنون!»
لكنني أبحث عن يقين
في مجلس الصبح أنا تاج وصولجان
تقطيب عينين وبسمتانْ
أو بسمة تعقبها تقطيبتانْ
وكل حال لها أوانْ
لكنني في مخدعي إنسانْ
وافزعي من المسا إذا أطل
وافزعي من حيرة الأفكار في السبل
أبحث في كل الحنايا عنك، يا حبيبتي المقنَّعةْ
يا حفنة من الصفاء ضائعةْ
هل تختفين في الجسد؟
أعصره فينتفض
وحين يروي ينزوي ولا يرد
وبعد ساعة يعود الظما، كأن كل ما ارتوى
كان سرابًا أو زبد
كوابيس ورؤى
يبدأ البحث بالجسد، لكن الجسد لا يُروَى من الظمأ، فسرعان ما تغيب لذَّته، كأنه كان سرابًا أو زبدًا، وتأتي بعد الجسد عوالم الحشيش والأفيون، لكن هذه العوالم لا تُفضي إلا إلى كوابيس ورؤى لا معقولة، ليست سوى تجسيد للعبث الذي يراه بعض الفلاسفة مُجسَّدًا في الوجود:
لقد خلطتُ أكؤسًا بأكؤس كثار
ثم مزجت أخضر بأسود بنار
شممتُ خلطة البهار، ثم غصتُ في البحار
حين رأيتُ رأي العين طائرًا برأس قرد
وحينما أراد أن يقول كلمة نهق
كان له ذيل حمار
ضحكتُ حتى قضقضت ضلوع صدري
ثم غفوت
هكذا يدخلنا الشاعر إلى عالم الأحلام، ويتركنا أمام هلوسات الأحلام التي تدل بحضورها الرمزي ومعانيها اللا معقولة على غياب المعنى والمغزى في عالم هذا الشاعر المُغيَّب في عوالم الحلم التي تتحول إلى عوالم كابوس مأساوي:
رأيتُ في المنام أنني أقود عربة
تجرها ستٌّ من المهارى
تجوب بي الوديان والصحارى
وفجأة تحولت خيولها قطاطًا
تمشي إلى الوراء، وجهها، عيونها تبصُّ لي شرارًا
ثم غدت عيونها نجومًا
هذا النجم... النجم القطبي
الدب القطبي الأبيض
صارت قططي دببة
يخطو نحوي الدب القطبي ليأكلني
أو يأخذني ليعلقني في فَكِّه
أتخيل أني قد علقت بفك الدب الأبيض
أني أتدلى من أسنان الدب الأبيض
يا خدام القصر... ويا حراس... ويا أجناد
... ويا ضباط ... ويا قادة
مدّوا حول الكرة الأرضية نسج الشبكة،
كي يسقط فيها مَلِككم المُتدلِّي
تحولات الأحلام
لو عاودنا النظر إلى دلالات هذه الأبيات المتلاحقة التي يتسارع إيقاعها على نحو لاهث، كأنه يدفعنا إلى متابعة الشاعر في حلمه اللاهث على السواء، لاحظنا تحولات الأحلام ولا منطقيتها على السواء، ورأينا كيف يختلط الحلم بالكابوس، أو يتحول الحلم إلى كابوس، حيث ترى العين طائرًا برأس قرد أو طائرًا له ذيل حمار، أو نرى اعجيبًاب يقود عربة تجرها ست من المهارى تجوب به الوديان والصحارى، لكن فجأة تتحول الخيول إلى قطط تمشي إلى الوراء، عيونها كأوجهها تحدق في وجهه، كما لو كانت شررًا يتجه إليه، ثم تتحول العيون إلى نجوم والنجوم إلى دببة، ويعلق المسكين بين أسنان الدب الأبيض في هلوسة الحلم أو الكابوس، فيصرخ مستنجدًا بِخُدام القصر وحراسه وجنده كي يمدوا نسج الشبكة لكي يسقط فيها مَلِكهم المتدلي. وبالفعل اسقط الملك المتدلي جنب سريرهب. وهكذا تنتهي القصيدة التي أرجو من القارئ أن يُعاوِد مقارنة الحلم فيها بالمشهد الكابوسيّ الذي يصوغه بِشر الحافي عن تحوّل البشر إلى حيوانات يبطش بعضها ببعض، خصوصًا عندما يقول:
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الكرِكيِّ
فمشى من بينهما الإنسانُ الثعلب
عجبًا،
زور الإنسان الكركي في فكِّ الإنسان الثعلب
نزل السوق الإنسانُ الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقَر بطن الإنسان الكلب
ويمصّ نخاع الإنسان الثعلب
تقارب المشهدين
إن التقارب بين المشهدين في هذا السياق، أعني مشهد الحلم في عجيب بن الخصيب ومشهد تحوّل البشر إلى حيوانات في قصيدة بشر الحافي، كلاهما ينتمي إلى ما نسمّيه بالرؤيا اللا معقولة التي تتحول فيها الأحلام إلى كوابيس، والتي تتكشف فيها الرؤيا المأساوية عن ذروتها الحاسمة، فيفقد البشر إنسانيتهم، ويفقد العالم معناه ومغزاه، ويفقد التاريخ جدواه ومعقوليته، كما يفقد التراث والميراث أصالته وجدواه، فيبدو الإنسان وحيدًا في حضرة الواحد الذي هو إيّاه، بلا عون من دين أو عقيدة أو مغزى ما، فيتحوّل إلى كائن مأسور في غابة، ويغدو في النهاية ضحية من الضحايا التي تفترسها حيوانات هذه الغابة كأنه صورة أخرى من صور المواطن (كاف) في محاكمة كافكا، أو صورة أخرى من التائهين الذين فقدوا اليقين والأمل في صلاح البشرية من هؤلاء الأدباء الكبار في العالم كله الذين اقترب منهم عبدالصبور في رؤيته المأساوية، وهي رؤية تستحق المتابعة والإشارة.
ولكن يبقى أن نلاحظ براعة التشكيل في هذه القصيدة، وكيف تترتب مقاطعها الستة واحدها فوق الآخر، أو تلو الآخر، وذلك على نحو لا يخلو من تنوّع نغمي يعتمد على تغيير التفعيلة من ناحية، ومن ثم تحويل الأوزان ومغايرتها من مقطع إلى مقطع، أو الاعتماد على مغايرة المقاطع القصيرة والطويلة - أعني الأسباب والأوتاد - داخل التفاعيل ذاتها في المقطع نفسه.
وذلك كله لتظهر المُغايرة بين مقاطع القصيدة على نحو يبرز تموجات الدلالات الكلية وصراعات المعاني المتجاوبة أو المتواجهة في بناء درامي يحرّكه الصراع بين الأضداد، أعني ذلك الصراع الذي يؤدي إلى تحولات الكائنات والأحداث على نحو يقبله منطق الحلم الذي لا يكف عن التحول إلى كوابيس لا تبتعد عن الرؤيا السوداوية أو الرؤيا المأساوية لعالم عبدالصبور الذي لا يخلو قط من الحسّ المأساوي بالكون أو بالحياة والأحياء على السواء .