قصيدة قناع لصلاح عبدالصبور

قصيدة قناع لصلاح عبدالصبور

يقول‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حياتي‭ ‬في‭ ‬الشعر‮»‬‭ (‬بيروت‭ ‬1969‭): ‬‮«‬كتبتُ‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬قصيدتي‭ ‬‮«‬مذكرات‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‮»‬،‭ ‬واضعًا‭ ‬قناع‭ ‬شخصية‭ ‬فلكلورية‭ ‬لكي‭ ‬أتحدث‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬شواغلي‭ ‬وهمومي‭ ‬الفكرية‭. ‬والملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬أحد‭ ‬ملوك‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬يَرد‭ ‬ذِكره‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬الحمّال‭ ‬مع‭ ‬البنات‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬نشهده‭ ‬صعلوكًا‭ ‬خرج‭ ‬عن‭ ‬ملكه،‭ ‬إذ‭ ‬أدركه‭ ‬السأم‭ ‬فطمح‭ ‬إلى‭ ‬السفر‭ ‬للفُرجة‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬والناس‭. ‬وقد‭ ‬حاولتُ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬ما‭ ‬فات‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وهي‭ ‬حال‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬قبل‭ ‬رحلته‭ ‬التي‭ ‬حوَّلته‭ ‬أهوالها‭ ‬من‭ ‬مَلك‭ ‬إلى‭ ‬صعلوك‭.‬

نما‭ ‬الخصيب‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬ملكي‭ ‬مليء‭ ‬بالتخليط‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬التخليط‭ ‬في‭ ‬الأنساب،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تصح‭ ‬نسبة‭ ‬الولد‭ ‬إلى‭ ‬أبيه،‭ ‬والتخليط‭ ‬في‭ ‬الأفكار،‭ ‬إذ‭ ‬يزدحم‭ ‬بالسفسطة‭ ‬والحذلقة،‭ ‬ثم‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يشهد‭ ‬الشر‭ ‬ويقترفه،‭ ‬فلا‭ ‬يكاد‭ ‬يجد‭ ‬له‭ ‬طمعًا‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬البلاط‭ ‬هو‭ ‬صورة‭ ‬للكون،‭ ‬وليس‭ ‬المَلك‭ ‬الأب‭ ‬الميت‭ ‬إلا‭ ‬صورة‭ ‬لسيادة‭ ‬القوى‭ ‬العليا‭ ‬على‭ ‬المجتمعب‭.‬

يمضي‭ ‬عبدالصبور‭ ‬شارحًا‭ ‬ماذا‭ ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬تترك‭ ‬القوى‭ ‬العليا‭ ‬الكون‭ ‬والمجتمع،‭ ‬اتاركة‭ ‬الإنسان‭ ‬ليواجه‭ ‬البحث‭ ‬وحده‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬أو‭ ‬المجتمع،‭ ‬زاده‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬السفسطة‭ ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬الخبرةب‭.‬

هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬تبدأ‭ ‬بها‭ ‬قصيدة‭ ‬عبدالصبور‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬لشخصية‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬حوله‭ ‬قصيدة‭ ‬هي‭ ‬قناع‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬يغدو‭ ‬فيها‭ ‬ابن‭ ‬الخصيب‭ ‬قناعًا‭ ‬للإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتصدر‭ ‬بلاط‭ ‬الكون‭ ‬الحديث،‭ ‬ليزدحم‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يَقُل‭ ‬تلفيقًا‭ ‬وإملالًا‭ ‬من‭ ‬سفسطة‭ ‬جورجياس‭ ‬السوفسطائي‭ ‬اليوناني‭ ‬القديم،‭ ‬وما‭ ‬يشبه‭ ‬السفسطة‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬عشوائية‭ ‬وتافهة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬فتضيق‭ ‬نفس‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬بذلك،‭ ‬ويشعر‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬حقيقة‭ ‬كبرى‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الزيف‭ ‬والسفسطة‭ ‬والتخليط،‭ ‬فيبدأ‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬كأنه‭ ‬صوفي،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يتكون‭ ‬تكوين‭ ‬الصوفي،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬إعداده‭ ‬وتربيته‭ ‬فلا‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وإنما‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬التخليط،‭ ‬ولذلك‭ ‬يمضي‭ ‬تائهًا‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬الطريق،‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬الصحيح،‭ ‬فينتهي‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬القاسية،‭ ‬وهي‭ ‬سقوطه‭ ‬كالبهلوان‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬العدم‭ ‬والشعور‭ ‬بالجنون‭ ‬الذي‭ ‬تنغلق‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬السبل‭.‬

هذا‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬هو‭ ‬مدخل‭ ‬طيب‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬قصيدة‭ ‬امذكرات‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيبب‭ ‬بوصفها‭ ‬شبيهة‭ ‬لقصيدته‭ ‬عن‭ ‬بِشر‭ ‬الحافي،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬مذكرات‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬في‭ ‬كونهما‭ ‬قصيدتين‭ ‬للقناع‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وقصيدتين‭ ‬للرؤية‭ ‬المأساوية‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إنهما‭ ‬قصيدتان‭ ‬للقناع،‭ ‬فهما‭ ‬كذلك‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يستعير‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬الصوفي‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الآداب‭ ‬الشعبية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لينطق‭ ‬من‭ ‬خلالهما‭ ‬ما‭ ‬يعنّ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وتصورات‭ ‬يبني‭ ‬بها‭ ‬رؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬للعالم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬سوى‭ ‬مأساة‭ ‬كونية‭ ‬تواجه‭ ‬الإنسان‭ ‬باختبار‭ ‬صعب‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬فيه‭ ‬نهاية‭ ‬الإنسان‭ ‬ومصيره‭.‬

 

وسيلة‭ ‬فنية

سبق‭ ‬أن‭ ‬قلتُ‭ ‬إن‭ ‬اختيار‭ ‬قصيدة‭ ‬القناع‭ ‬كان‭ ‬وسيلة‭ ‬فنية‭ ‬لشعراء‭ ‬الخمسينيات‭ ‬كي‭ ‬يتباعدوا‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬الدفق‭ ‬الانفعالي‭ ‬المباشر،‭ ‬ويخلقوا‭ ‬موازيًا‭ ‬موضوعيًّا‭ ‬لانفعالاتهم‭ ‬ومشاعرهم،‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أفكارهم،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬الدراما‭. ‬

ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قصيدة‭ ‬القناع‭ ‬هي‭ ‬مدخل‭ ‬عبدالصبور‭ ‬إلى‭ ‬الدراما‭ ‬أو‭ ‬المسرح‭ ‬الشعري،‭ ‬سواء‭ ‬المسرح‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬صوفية‭ ‬تسعى‭ ‬وراء‭ ‬العدل‭ ‬والحرية‭ ‬فلا‭ ‬تجدهما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المملوء‭ ‬أخطاء‭ ‬فتنتهي‭ ‬إلى‭ ‬المأساة،‭ ‬وتواجه‭ ‬قدرها‭ ‬المأساوي‭ ‬المحتوم‭ ‬كالحلاج،‭ ‬أو‭ ‬تواجه‭ ‬الشخصية‭ (‬القناع‭) ‬قدرها‭ ‬المحتوم‭ ‬الذي‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬فتغدو‭ ‬كأنها‭ ‬مسافر‭ ‬ليل،‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭ ‬واضح‭ ‬أو‭ ‬غاية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬امسافر‭ ‬ليلب‭ ‬التي‭ ‬يواجه‭ ‬فيها‭ ‬الراكب‭ ‬الوحيد‭ ‬اعشري‭ ‬السترةب‭ ‬بلا‭ ‬عون‭ ‬خارجي،‭ ‬أو‭ ‬دعم‭ ‬من‭ ‬ركاب‭ ‬قطار‭ ‬لا‭ ‬نعرفهم‭ ‬ولا‭ ‬نراهم‭. ‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬المعاني‭ ‬أو‭ ‬الدلالات‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬ندور‭ ‬في‭ ‬مأساويتها‭ ‬حين‭ ‬نلج‭ ‬عوالم‭ ‬قصيدتي‭ ‬القناع‭ ‬الأوليين‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬عبدالصبور؛‭ ‬أعني‭ ‬امذكرات‭ ‬بشر‭ ‬الحافيب،‭ ‬وامذكرات‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيبب،‭ ‬التي‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أتوقف‭ ‬عندها‭ ‬وأقوم‭ ‬بتحليل‭ ‬تفصيلي‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬فاحصة‭ ‬لسطورها‭.‬

ويبدأ‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬بأسطر‭ ‬هي‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬قصرها‭ ‬وكثافتها‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬خمسة‭ ‬أسطر،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

 

لم‭ ‬آخذ‭ ‬المُلك‭ ‬بحد‭ ‬السيف،‭ ‬بل‭ ‬ورثته

عن‭ ‬جدِّي‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين‭ - ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الهوى

لم‭ ‬يتخلل‭ ‬في‭ ‬جذورنا‭ -‬

لكنني‭ ‬أشبهه‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬أبدعها‭ ‬رسّامه

رسّامُه‭... ‬كان‭ ‬عشيقَ‭ ‬الملكة

 

تراث‭ ‬عريق

إذا‭ ‬تأملنا‭ ‬المقطع‭ ‬بعينينِ‭ ‬فاحصتين،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬الملك‭ ‬الخصيب‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬طويل‭ ‬عريق،‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الجد‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬الطويل‭ ‬العريق‭ ‬تحوطه‭ ‬الرِّيب،‭ ‬وتتناوله‭ ‬الشكوك‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بنقائه‭ ‬وصفاء‭ ‬أرومته‭ ‬أو‭ ‬عِرقه‭. ‬فهناك‭ ‬تلك‭ ‬السخرية‭ ‬التي‭ ‬تُشكك‭ ‬في‭ ‬سلامة‭ ‬الجذور‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬سؤال‭ ‬يبدو‭ ‬بريئًا‭ ‬في‭ ‬الظاهر،‭ ‬لكنه‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬البراءة‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬السطرين‭ ‬الأخيرين‭ ‬اللذين‭ ‬ينطويان‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التناصّ‭ ‬يصلان‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والرسم‭. ‬أعني‭ ‬السطرين‭ ‬اللذين‭ ‬يشيران‭ ‬إلى‭ ‬الشبه‭ ‬بين‭ ‬الحفيد‭ (‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭) ‬والجد‭ ‬الأعلى،‭ ‬وهو‭ ‬شبه‭ ‬يقترن‭ ‬بصورة‭ ‬أبدعها‭ ‬رسّامه،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الرسام‭ ‬فيما‭ ‬يقول‭ ‬المقطع‭ ‬القصير‭ ‬كان‭ ‬عشيق‭ ‬الملكة‭. ‬والإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬طرائق‭ ‬السخرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يلجأ‭ ‬إليها‭ ‬بعض‭ ‬الرسّامين‭ ‬عندما‭ ‬كانوا‭ ‬يستخدمون‭ ‬الرسم‭ ‬لإنطاق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬لوحات‭ ‬جويا،‭ ‬الفنان‭ ‬الإسباني‭ ‬الشهير‭ ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬فيها‭ ‬صورة‭ ‬الملك‭ ‬والملكة‭ ‬وبقية‭ ‬الأسرة‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء،‭ ‬لكنه‭ ‬جعل‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬الصغير‭ ‬أقرب‭ ‬شبهًا‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬أبيه،‭ ‬فنطق‭ ‬كل‭ ‬مسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬همسًا‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬القصور‭ ‬الملكية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬جويا‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬السخرية‭ ‬في‭ ‬لوحاته‭ ‬والتعاطف‭ ‬مع‭ ‬الثوار‭ ‬على‭ ‬الأمراء‭ ‬والملوك،‭ ‬تحقيقًا‭ ‬لحلم‭ ‬الحرية‭ ‬والعدل‭.‬

 

عنصر‭ ‬مهيمن

‭ ‬إذا‭ ‬عاودنا‭ ‬قراءة‭ ‬المقطع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجاوز‭ ‬الأسطر‭ ‬الخمسة،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬معاني‭ ‬الأسطر‭ ‬الخمسة‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬كمِّها،‭ ‬وأن‭ ‬السخرية‭ ‬فيها‭ ‬تمنحها‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬كثافة‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬وقُدرتها‭ ‬على‭ ‬السخرية‭ ‬المُرَّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬شيئًا‭ ‬إلا‭ ‬وناوشته‭ ‬بطرق‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬البراءة،‭ ‬لكنها‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬المقدرة‭ ‬على‭ ‬إنطاق‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للبشر‭ ‬العاديين‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬رعيّة‭ ‬الملوك‭ ‬قوله‭ ‬أو‭ ‬نطقه‭. ‬

وإذا‭ ‬جئنا‭ ‬إلى‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني،‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬الميراث‭ ‬العائلي‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬هذا‭ ‬الميراث،‭ ‬حيث‭ ‬قصر‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬يصفه‭ ‬المقطع‭ ‬بقوله‭:‬

قصر‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬التنين

يضج‭ ‬بالمنافقين‭ ‬والمعلمين‭ ‬والمؤدبين

من‭ ‬بينهم‭ ‬مؤدبي‭ ‬الأمين‭ ‬جورجياس

والمقطع‭ ‬الثاني‭ ‬أقصر‭ ‬من‭ ‬الأول‭ ‬بسطر،‭ ‬لكنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬المناخ‭ ‬الذي‭ ‬وُلِد‭ ‬فيه‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬والذي‭ ‬نشأ‭ ‬فيه،‭ ‬حيث‭ ‬التخليط‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬والمقصود‭ ‬بالتخليط‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬هو‭ ‬اختلاط‭ ‬الأشياء‭ ‬بما‭ ‬يُفقدها‭ ‬القيمة‭ ‬والمعنى‭ ‬والوزن،‭ ‬وبما‭ ‬ينفي‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬العلماء‭ ‬والجهلاء،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الصادقين‭ ‬والمنافقين،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬المُحاربين‭ ‬الذين‭ ‬يتميزون‭ ‬بالشجاعة‭ ‬والجبناء‭ ‬الذين‭ ‬يملأهم‭ ‬الخور‭ ‬والجُبن‭ ‬والنفاق،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬بين‭ ‬المؤدبين‭ ‬الذين‭ ‬يحتاجون‭ ‬أصلًا‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يؤدبهم،‭ ‬والذين‭ ‬لا‭ ‬علم‭ ‬عندهم‭ ‬سوى‭ ‬السفسطة‭ ‬والمجادلة‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يُجدي‭ ‬وفيما‭ ‬لا‭ ‬يفيد،‭ ‬ويمثّل‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤدب‭ ‬الأمين‭ ‬جورجياس‭. ‬وعلينا‭ ‬ملاحظة‭ ‬المفارقة‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬صفة‭ ‬المؤدب‭ ‬وصفة‭ ‬الأمين،‭ ‬فهي‭ ‬مفارقة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يجتمع‭. ‬

هكذا‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬المقطع‭ ‬الثالث،‭ ‬حيث‭ ‬نسمع‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬تعاليم‭ ‬جورجياس،‭ ‬فنقرأ‭:‬

 

هل‭ ‬ماء‭ ‬النهر‭ ‬هو‭ ‬النهر؟

سقراط‭... ‬محق‭ ‬حين‭ ‬تجرع‭ ‬كأس‭ ‬الموت‭ ‬وما‭ ‬فرّ؟

الميت،‭ ‬يحس‭ ‬دعاء‭ ‬الأهل‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أودِع‭ ‬في‭ ‬القبر؟

المرأة‭ ‬فخٌّ‭ ‬منصوب،‭ ‬واحفظ‭ ‬وعظي

إن‭ ‬جئت‭ ‬لديها،

لا‭ ‬تأمنها

 

سفسطة‭ ‬بلا‭ ‬معنى

هذه‭ ‬التعاليم‭ ‬السوفسطائية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تُقل‭ ‬إلا‭ ‬لكي‭ ‬تنقض،‭ ‬وهي‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لا‭ ‬كلها،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهي‭ ‬سفسطة‭ ‬بلا‭ ‬معنى،‭ ‬ولغو‭ ‬بلا‭ ‬إبانة‭. ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬بارز‭ ‬سوى‭ ‬كراهية‭ ‬المرأة،‭ ‬فهي‭ ‬مجرد‭ ‬ضجيعة‭ ‬فراش‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭ ‬ولا‭ ‬أقل‭. ‬وكلها‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬تعاليم‭ ‬جورجياس‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُثري‭ ‬عقلًا‭ ‬ولا‭ ‬تُغني‭ ‬روحًا‭ ‬ولا‭ ‬تُعمِّق‭ ‬وعيًا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تستغرق‭ ‬المقطع‭ ‬الرابع‭ ‬كله،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

ورغم‭ ‬تعاليمه،‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬النساء

إماء‭ ‬أبي‭ ‬كُنَّ‭ ‬حين‭ ‬يجن‭ ‬المساء

يجئن‭ ‬إليّ

ويفضحن‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬يُسرُّ‭ ‬أبي

إليهن،‭ ‬حين‭ ‬تثور‭ ‬الدماء،‭ ‬وتهمد‭ ‬ظمأى

فيسحب‭ ‬ثوبه

وحين‭ ‬يطيب‭ ‬له‭ ‬كاهنوه،‭ ‬فتبتلّ‭ ‬رغبته‭ ‬بالرذاذ

ويحمد‭ ‬ربّه‭ ‬

ولم‭ ‬ينفع‭ ‬الطب‭ ‬ذات‭ ‬مساء،‭ ‬على‭ ‬حذق‭ ‬كُهّانه‭ ‬المعجب

ومات‭ ‬أبي،‭ ‬والدموع‭ ‬تسيل‭ ‬تسيل‭ ‬على‭ ‬وجنتيه

وفي‭ ‬كفِّه‭ ‬مزقة‭ ‬من‭ ‬رداء‭ ‬حرير

وينبغي‭ ‬علينا‭ ‬ألا‭ ‬نحكم‭ ‬بما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬من‭ ‬شذوذ‭ ‬أخلاقي‭ ‬يبدو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬سفاح‭ ‬المحارم،‭ ‬فنحن‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬الخالص‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬ينبني‭ ‬على‭ ‬اللا‭ ‬أخلاق،‭ ‬وفي‭ ‬ميراث‭ ‬يعرف‭ ‬الأشياء‭ ‬ونقائضها،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬فارق‭ ‬بين‭ ‬جواري‭ ‬الأب‭ ‬وعشيقات‭ ‬الابن،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬نهم‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬المتعة‭ ‬ونهم‭ ‬الابن،‭ ‬فالفساد‭ ‬واصل‭ ‬بين‭ ‬الأصل‭ ‬والفرع،‭ ‬ولذلك‭ ‬يموت‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬لذّاته،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬له‭ ‬شيئًا‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفخَار‭ ‬أو‭ ‬شيئًا‭ ‬حقيقيًّا‭ ‬يقترن‭ ‬بانتصار‭ ‬أو‭ ‬مجد‭ ‬حقيقي،‭ ‬فكل‭ ‬مظهر‭ ‬لا‭ ‬يفارق‭ ‬المخبر،‭ ‬وكل‭ ‬حقيقة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كذبة‭ ‬كبيرة‭ ‬ممتدة‭ ‬بحجم‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭. ‬هكذا‭ ‬يموت‭ ‬المَلك،‭ ‬ونواجه‭ ‬شعائر‭ ‬التأبين‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الخامس‭:‬

‮«‬مات‭ ‬الملك‭ ‬الصالح‮»‬‭...‬

‮«‬مات‭ ‬الملك‭ ‬الغازي‮»‬‭...‬

صاحت‭ ‬أبواق‭ ‬مدينتنا‭ ‬صيحًا‭ ‬ملهوفًا

وقف‭ ‬الشعراء‭ ‬أمام‭ ‬الباب‭ ‬صفوفًا

وتدحرجت‭ ‬الكلمات‭ ‬ألوفًا

تبكي‭ ‬الملك‭ ‬الطاهر‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الموت

وتُمجِّد‭ ‬أسماء‭ ‬خليفته‭ ‬الملك‭ ‬العادل

وتراوح‭ ‬في‭ ‬نبرات‭ ‬الصوت‭:‬

‮«‬صوت‭ ‬حيران‮»‬

هناء‭ ‬محا‭ ‬ذاك‭ ‬العزاء‭ ‬المقدما

‮«‬صوت‭ ‬فرحان‮»‬

فما‭ ‬عبس‭ ‬المحزون‭ ‬حتى‭ ‬تبسما

‮«‬صوت‭ ‬ريّان‮»‬

فأنت‭ ‬هلال‭ ‬أزهر‭ ‬اللون‭ ‬مشرق

‮«‬صوت‭ ‬أسيان‮»‬

وكان‭ ‬أبوك‭ ‬البدر‭ ‬يلمع‭ ‬في‭ ‬السما

‮«‬صوت‭ ‬غضبان‮»‬

وأنت‭ ‬كليث‭ ‬الغاب‭ ‬همّك‭ ‬همه

‮«‬صوت‭ ‬بالدمعة‭ ‬نديان‮»‬

وكان‭ ‬المليك‭ ‬الراحل‭ ‬اليوم‭ ‬قشعمًا

‮«‬صوت‭ ‬بالبهجة‭ ‬ملآن‮»‬

وأنت‭ ‬الغمام‭ ‬الماطر‭ ‬الخير‭ ‬دائمًا

‮«‬صوت‭ ‬فياض‭ ‬بالأحزان‮»‬

وكان‭ ‬أبوك‭ ‬البدر‭ ‬قد‭ ‬فاض‭ ‬أنعُمًا

‮«‬صوت‭ ‬مبسوط‭ ‬حتى‭ ‬قرب‭ ‬القافية‭ ‬الميميَّة‮»‬

فحييت‭ ‬من‭ ‬سبط‭ ‬سليل‭ ‬أشاوس

كرام‭ ‬سجاياهم‭...‬

وبورك‭ ‬من‭ ‬نما‭... ‬إلخ

‭(‬ما‭ ‬أضجر‭ ‬هذي‭ ‬القافية‭ ‬الميميَّة‭)‬

‭(‬لن‭ ‬يسكت‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬حتى‭ ‬يفنى‭ ‬حرف‭ ‬الميم‭)‬

والمقطع‭ ‬كله‭ ‬تنويع‭ ‬وتوشيع‭ ‬لأبيات‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬السابع‭ ‬والثامن‭ ‬للهجرة‭. ‬والطرافة‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬أبيات‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬داخل‭ ‬نسيج‭ ‬جديد‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأبيات‭ ‬معاني‭ ‬تفسيرية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬ولم‭ ‬يقصد‭ ‬إليها‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬أصلًا،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬هو‭ ‬حسن‭ ‬تخلُّص‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬العزاء‭ ‬والتهنئة‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وهي‭ ‬حيلة‭ ‬من‭ ‬حيل‭ ‬الشعراء‭ ‬المادحين‭ ‬الذين‭ ‬تعوَّدوا‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬السلاطين،‭ ‬والتحيل‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يرضي‭ ‬ولاة‭ ‬الأمر‭ ‬منهم،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الأموات‭ ‬الراحلين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬المتوَّجين‭.‬

 

سخرية‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الشعري

هكذا‭ ‬تتدحرج‭ ‬أبيات‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬ألوف‭ ‬الأبيات،‭ ‬ويقف‭ ‬الشعراء‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬القصر‭ ‬صفوفًا،‭ ‬وتتراوح‭ ‬نبرات‭ ‬الأصوات‭ ‬وتتنوع‭ ‬إيقاعات‭ ‬الإلقاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬درجات‭ ‬الصوت‭ ‬ودلالات‭ ‬نبراته‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وتستمر‭ ‬الأبيات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نَمِلّ‭ ‬من‭ ‬القافية‭ ‬الميمية،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬نَمِلّ‭ ‬من‭ ‬المبالغات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬المتون‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تنتهي‭ ‬بهذه‭ ‬القافية‭.‬

ويبدو‭ ‬الأمر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬بوفاة‭ ‬والده‭ (‬الرمزي‭ ‬بالتأكيد‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬تراثه‭ ‬الشعري‭ ‬كله‭. ‬ذلك‭ ‬التراث‭ ‬الذي‭ ‬قصر‭ ‬عبقريّته‭ ‬على‭ ‬المديح‭ ‬والرثاء‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬سوى‭ ‬مدح‭ ‬الملوك‭ ‬أو‭ ‬رثائهم‭ ‬والاعتماد‭ ‬المطلق‭ ‬على‭ ‬عطاياهم‭ ‬السخية‭ ‬ومِنح‭ ‬أبنائهم‭ ‬الواعدة‭. ‬

وينتهي‭ ‬المقطع‭ ‬بالشكوى‭ ‬من‭ ‬حرف‭ ‬الميم،‭ ‬وهو‭ ‬حرف‭ ‬الرويّ‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬الميمية‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬ينقلها‭ ‬عبدالصبور‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬ابن‭ ‬نباتة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬الضعف‭ ‬الشعري،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يدل‭ ‬بالجزء‭ ‬العقيم‭ ‬على‭ ‬الكل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬عُقم،‭ ‬فيبدو‭ ‬الملك‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬عاريًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مفخرة،‭ ‬فلا‭ ‬تراث‭ ‬عظيمًا‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬نسب‭ ‬أصيلًا‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬حضارة‭ ‬ضاربة‭ ‬بجذورها‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وما‭ ‬يبقى‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬الانطلاق‭ ‬عاريًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬كأنه‭ ‬مَلِك‭ ‬فَقَد‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬المُلك،‭ ‬فيسيح‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬حقيقته‭ ‬ومعناه،‭ ‬وعن‭ ‬أصله‭ ‬وجذور‭ ‬يستند‭ ‬إليها،‭ ‬ويجرّب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وهكذا‭ ‬يأتي‭ ‬المقطع‭ ‬السادس‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬ليكشف‭ ‬لنا‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر،‭ ‬فنقرأ‭:‬

لو‭ ‬قلت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تسره‭ ‬الظنون

لقلتمو‭ ‬مجنون

‮«‬الملك‭ ‬مجنون‭!‬‮»‬

لكنني‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬يقين

في‭ ‬مجلس‭ ‬الصبح‭ ‬أنا‭ ‬تاج‭ ‬وصولجان

تقطيب‭ ‬عينين‭ ‬وبسمتانْ

أو‭ ‬بسمة‭ ‬تعقبها‭ ‬تقطيبتانْ

وكل‭ ‬حال‭ ‬لها‭ ‬أوانْ

لكنني‭ ‬في‭ ‬مخدعي‭ ‬إنسانْ‭ 

وافزعي‭ ‬من‭ ‬المسا‭ ‬إذا‭ ‬أطل

وافزعي‭ ‬من‭ ‬حيرة‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬السبل

أبحث‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الحنايا‭ ‬عنك،‭ ‬يا‭ ‬حبيبتي‭ ‬المقنَّعةْ

يا‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الصفاء‭ ‬ضائعةْ

هل‭ ‬تختفين‭ ‬في‭ ‬الجسد؟

أعصره‭ ‬فينتفض

وحين‭ ‬يروي‭ ‬ينزوي‭ ‬ولا‭ ‬يرد

وبعد‭ ‬ساعة‭ ‬يعود‭ ‬الظما،‭ ‬كأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ارتوى

كان‭ ‬سرابًا‭ ‬أو‭ ‬زبد

 

كوابيس‭ ‬ورؤى

يبدأ‭ ‬البحث‭ ‬بالجسد،‭ ‬لكن‭ ‬الجسد‭ ‬لا‭ ‬يُروَى‭ ‬من‭ ‬الظمأ،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬تغيب‭ ‬لذَّته،‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬سرابًا‭ ‬أو‭ ‬زبدًا،‭ ‬وتأتي‭ ‬بعد‭ ‬الجسد‭ ‬عوالم‭ ‬الحشيش‭ ‬والأفيون،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬العوالم‭ ‬لا‭ ‬تُفضي‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬كوابيس‭ ‬ورؤى‭ ‬لا‭ ‬معقولة،‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬تجسيد‭ ‬للعبث‭ ‬الذي‭ ‬يراه‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬مُجسَّدًا‭ ‬في‭ ‬الوجود‭:‬

لقد‭ ‬خلطتُ‭ ‬أكؤسًا‭ ‬بأكؤس‭ ‬كثار

ثم‭ ‬مزجت‭ ‬أخضر‭ ‬بأسود‭ ‬بنار

شممتُ‭ ‬خلطة‭ ‬البهار،‭ ‬ثم‭ ‬غصتُ‭ ‬في‭ ‬البحار

حين‭ ‬رأيتُ‭ ‬رأي‭ ‬العين‭ ‬طائرًا‭ ‬برأس‭ ‬قرد

وحينما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬كلمة‭ ‬نهق

كان‭ ‬له‭ ‬ذيل‭ ‬حمار

ضحكتُ‭ ‬حتى‭ ‬قضقضت‭ ‬ضلوع‭ ‬صدري

ثم‭ ‬غفوت

هكذا‭ ‬يدخلنا‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الأحلام،‭ ‬ويتركنا‭ ‬أمام‭ ‬هلوسات‭ ‬الأحلام‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬بحضورها‭ ‬الرمزي‭ ‬ومعانيها‭ ‬اللا‭ ‬معقولة‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬المعنى‭ ‬والمغزى‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬المُغيَّب‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الحلم‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬كابوس‭ ‬مأساوي‭:‬

رأيتُ‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬أنني‭ ‬أقود‭ ‬عربة

تجرها‭ ‬ستٌّ‭ ‬من‭ ‬المهارى

تجوب‭ ‬بي‭ ‬الوديان‭ ‬والصحارى

وفجأة‭ ‬تحولت‭ ‬خيولها‭ ‬قطاطًا

تمشي‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬وجهها،‭ ‬عيونها‭ ‬تبصُّ‭ ‬لي‭ ‬شرارًا

ثم‭ ‬غدت‭ ‬عيونها‭ ‬نجومًا

هذا‭ ‬النجم‭... ‬النجم‭ ‬القطبي

الدب‭ ‬القطبي‭ ‬الأبيض

صارت‭ ‬قططي‭ ‬دببة‭ ‬

يخطو‭ ‬نحوي‭ ‬الدب‭ ‬القطبي‭ ‬ليأكلني

أو‭ ‬يأخذني‭ ‬ليعلقني‭ ‬في‭ ‬فَكِّه

أتخيل‭ ‬أني‭ ‬قد‭ ‬علقت‭ ‬بفك‭ ‬الدب‭ ‬الأبيض

أني‭ ‬أتدلى‭ ‬من‭ ‬أسنان‭ ‬الدب‭ ‬الأبيض

يا‭ ‬خدام‭ ‬القصر‭... ‬ويا‭ ‬حراس‭... ‬ويا‭ ‬أجناد

‭... ‬ويا‭ ‬ضباط‭ ... ‬ويا‭ ‬قادة

مدّوا‭ ‬حول‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬نسج‭ ‬الشبكة،

كي‭ ‬يسقط‭ ‬فيها‭ ‬مَلِككم‭ ‬المُتدلِّي

 

تحولات‭ ‬الأحلام

لو‭ ‬عاودنا‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬المتلاحقة‭ ‬التي‭ ‬يتسارع‭ ‬إيقاعها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لاهث،‭ ‬كأنه‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬متابعة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬حلمه‭ ‬اللاهث‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬لاحظنا‭ ‬تحولات‭ ‬الأحلام‭ ‬ولا‭ ‬منطقيتها‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ورأينا‭ ‬كيف‭ ‬يختلط‭ ‬الحلم‭ ‬بالكابوس،‭ ‬أو‭ ‬يتحول‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬كابوس،‭ ‬حيث‭ ‬ترى‭ ‬العين‭ ‬طائرًا‭ ‬برأس‭ ‬قرد‭ ‬أو‭ ‬طائرًا‭ ‬له‭ ‬ذيل‭ ‬حمار،‭ ‬أو‭ ‬نرى‭ ‬اعجيبًاب‭ ‬يقود‭ ‬عربة‭ ‬تجرها‭ ‬ست‭ ‬من‭ ‬المهارى‭ ‬تجوب‭ ‬به‭ ‬الوديان‭ ‬والصحارى،‭ ‬لكن‭ ‬فجأة‭ ‬تتحول‭ ‬الخيول‭ ‬إلى‭ ‬قطط‭ ‬تمشي‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬عيونها‭ ‬كأوجهها‭ ‬تحدق‭ ‬في‭ ‬وجهه،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬شررًا‭ ‬يتجه‭ ‬إليه،‭ ‬ثم‭ ‬تتحول‭ ‬العيون‭ ‬إلى‭ ‬نجوم‭ ‬والنجوم‭ ‬إلى‭ ‬دببة،‭ ‬ويعلق‭ ‬المسكين‭ ‬بين‭ ‬أسنان‭ ‬الدب‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬هلوسة‭ ‬الحلم‭ ‬أو‭ ‬الكابوس،‭ ‬فيصرخ‭ ‬مستنجدًا‭ ‬بِخُدام‭ ‬القصر‭ ‬وحراسه‭ ‬وجنده‭ ‬كي‭ ‬يمدوا‭ ‬نسج‭ ‬الشبكة‭ ‬لكي‭ ‬يسقط‭ ‬فيها‭ ‬مَلِكهم‭ ‬المتدلي‭. ‬وبالفعل‭ ‬اسقط‭ ‬الملك‭ ‬المتدلي‭ ‬جنب‭ ‬سريرهب‭. ‬وهكذا‭ ‬تنتهي‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬أرجو‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يُعاوِد‭ ‬مقارنة‭ ‬الحلم‭ ‬فيها‭ ‬بالمشهد‭ ‬الكابوسيّ‭ ‬الذي‭ ‬يصوغه‭ ‬بِشر‭ ‬الحافي‭ ‬عن‭ ‬تحوّل‭ ‬البشر‭ ‬إلى‭ ‬حيوانات‭ ‬يبطش‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭:‬

كان‭ ‬الإنسان‭ ‬الأفعى‭ ‬يجهد‭ ‬أن‭ ‬يلتف‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الكرِكيِّ

فمشى‭ ‬من‭ ‬بينهما‭ ‬الإنسانُ‭ ‬الثعلب

عجبًا،

زور‭ ‬الإنسان‭ ‬الكركي‭ ‬في‭ ‬فكِّ‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

نزل‭ ‬السوق‭ ‬الإنسانُ‭ ‬الكلب‭ ‬

كي‭ ‬يفقأ‭ ‬عين‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

ويدوس‭ ‬دماغ‭ ‬الإنسان‭ ‬الأفعى

واهتز‭ ‬السوق‭ ‬بخطوات‭ ‬الإنسان‭ ‬الفهد

قد‭ ‬جاء‭ ‬ليبقَر‭ ‬بطن‭ ‬الإنسان‭ ‬الكلب

ويمصّ‭ ‬نخاع‭ ‬الإنسان‭ ‬الثعلب

 

تقارب‭ ‬المشهدين

إن‭ ‬التقارب‭ ‬بين‭ ‬المشهدين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أعني‭ ‬مشهد‭ ‬الحلم‭ ‬في‭ ‬عجيب‭ ‬بن‭ ‬الخصيب‭ ‬ومشهد‭ ‬تحوّل‭ ‬البشر‭ ‬إلى‭ ‬حيوانات‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بشر‭ ‬الحافي،‭ ‬كلاهما‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬نسمّيه‭ ‬بالرؤيا‭ ‬اللا‭ ‬معقولة‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬فيها‭ ‬الأحلام‭ ‬إلى‭ ‬كوابيس،‭ ‬والتي‭ ‬تتكشف‭ ‬فيها‭ ‬الرؤيا‭ ‬المأساوية‭ ‬عن‭ ‬ذروتها‭ ‬الحاسمة،‭ ‬فيفقد‭ ‬البشر‭ ‬إنسانيتهم،‭ ‬ويفقد‭ ‬العالم‭ ‬معناه‭ ‬ومغزاه،‭ ‬ويفقد‭ ‬التاريخ‭ ‬جدواه‭ ‬ومعقوليته،‭ ‬كما‭ ‬يفقد‭ ‬التراث‭ ‬والميراث‭ ‬أصالته‭ ‬وجدواه،‭ ‬فيبدو‭ ‬الإنسان‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الواحد‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬إيّاه،‭ ‬بلا‭ ‬عون‭ ‬من‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬عقيدة‭ ‬أو‭ ‬مغزى‭ ‬ما،‭ ‬فيتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬مأسور‭ ‬في‭ ‬غابة،‭ ‬ويغدو‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ضحية‭ ‬من‭ ‬الضحايا‭ ‬التي‭ ‬تفترسها‭ ‬حيوانات‭ ‬هذه‭ ‬الغابة‭ ‬كأنه‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬المواطن‭ (‬كاف‭) ‬في‭ ‬محاكمة‭ ‬كافكا،‭ ‬أو‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬التائهين‭ ‬الذين‭ ‬فقدوا‭ ‬اليقين‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬صلاح‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأدباء‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬الذين‭ ‬اقترب‭ ‬منهم‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬المأساوية،‭ ‬وهي‭ ‬رؤية‭ ‬تستحق‭ ‬المتابعة‭ ‬والإشارة‭.‬

ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬براعة‭ ‬التشكيل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬وكيف‭ ‬تترتب‭ ‬مقاطعها‭ ‬الستة‭ ‬واحدها‭ ‬فوق‭ ‬الآخر،‭ ‬أو‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬تنوّع‭ ‬نغمي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬التفعيلة‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تحويل‭ ‬الأوزان‭ ‬ومغايرتها‭ ‬من‭ ‬مقطع‭ ‬إلى‭ ‬مقطع،‭ ‬أو‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬مغايرة‭ ‬المقاطع‭ ‬القصيرة‭ ‬والطويلة‭ - ‬أعني‭ ‬الأسباب‭ ‬والأوتاد‭ - ‬داخل‭ ‬التفاعيل‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬نفسه‭. ‬

وذلك‭ ‬كله‭ ‬لتظهر‭ ‬المُغايرة‭ ‬بين‭ ‬مقاطع‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يبرز‭ ‬تموجات‭ ‬الدلالات‭ ‬الكلية‭ ‬وصراعات‭ ‬المعاني‭ ‬المتجاوبة‭ ‬أو‭ ‬المتواجهة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬درامي‭ ‬يحرّكه‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الأضداد،‭ ‬أعني‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تحولات‭ ‬الكائنات‭ ‬والأحداث‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يقبله‭ ‬منطق‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬كوابيس‭ ‬لا‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬الرؤيا‭ ‬السوداوية‭ ‬أو‭ ‬الرؤيا‭ ‬المأساوية‭ ‬لعالم‭ ‬عبدالصبور‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬الحسّ‭ ‬المأساوي‭ ‬بالكون‭ ‬أو‭ ‬بالحياة‭ ‬والأحياء‭ ‬على‭ ‬السواء‭ .