فن الخاطرة في التراث الثقافي العربي

 فن الخاطرة في التراث الثقافي العربي

الكتابة‭ ‬النثرية‭ ‬ألوانٌ‭ ‬وأجناسٌ‭ ‬وفنونٌ‭ ‬شتى،‭ ‬الأصل‭ ‬فيها‭ ‬أنها‭ ‬كتابة‭ ‬حرّة،‭ ‬لا‭ ‬تتقيّد‭ ‬بنظام‭ ‬صارم‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الشعر؛‭ ‬ويُعدُّ‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬الكتابة‭ ‬النثرية‭ ‬الفنيّة‭ ‬الجميلة،‭ ‬وهو‭ ‬فنٌّ‭ ‬يتناول‭ ‬فكرةً‭ ‬طارئةً‭ ‬أو‭ ‬هاجسًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬يُفيضُ‭ ‬عليه‭ ‬الكاتبُ‭ ‬من‭ ‬مشاعره‭ ‬وأحاسيسه‭ ‬الخاصة،‭ ‬بعد‭ ‬نضج‭ ‬عملية‭ ‬الانفعال‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الهاجس‭ ‬الذي‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬خاطره‭. ‬

ويمكن‭ ‬وصفُ‭ ‬الخاطرة‭ ‬أيضًا‭ ‬بأنها‭ ‬ومضةٌ‭ ‬من‭ ‬ومضات‭ ‬الفكر‭ ‬محمّلة‭ ‬بمشاعر‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬لحظةِ‭ ‬استجابةٍ‭ ‬طبيعيةٍ‭ ‬لتصوير‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬الشعورية‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها‭ ‬بلغة‭ ‬أدبية‭ ‬راقية‭ ‬السبك‭.‬\

يميل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬فنّ‭ ‬المقالة،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الانفعال‭ ‬الوجداني‭ ‬والتدفّق‭ ‬العاطفي‭ ‬الحاد،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تتميّز‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وَفْقَ‭ ‬نسقٍ‭ ‬خاص‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والمشاعر‭ ‬وما‭ ‬يجيش‭ ‬من‭ ‬عواطف‭ ‬وأفكارٍ،‭ ‬ولذلك‭ ‬سُميت‭ ‬اخاطرةب‭.‬

وقد‭ ‬عرّفها‭ ‬نواف‭ ‬نصار‭ ‬بقوله‭: ‬االخاطرة‭ ‬لمحةٌ‭ ‬أو‭ ‬فكرةٌ‭ ‬عارضةٌ‭ ‬مؤقتة،‭ ‬تختلجُ‭ ‬أو‭ ‬تعرض‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أسانيد‭ ‬وبراهين‭ ‬لإثبات‭ ‬صحتها‭ ‬أو‭ ‬صدقهاب‭ (‬نواف‭ ‬نصار‭: ‬المعجم‭ ‬الأدبي،‭ ‬ص‭ ‬72‭).‬

من‭ ‬جهته،‭ ‬يذهب‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬الخويطر‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬مشتقّة‭ ‬امن‭ ‬الخاطر،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬لما‭ ‬يتحرّك‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬أو‭ ‬معنى،‭ ‬وأصل‭ ‬تركيبه‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬الاضطراب‭ ‬والحركة‭ ‬والفيض‭ ‬الوجداني،‭ ‬والخاطرة‭ ‬من‭ ‬أبسط‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬وأسهلها،‭ ‬وقد‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬حيث‭ ‬استدعتها‭ ‬إحدى‭ ‬ضرورات‭ ‬التعبير‭ ‬الأدبي‭ ‬حتى‭ ‬غدتْ‭ ‬فنًّا‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬النثر‭ ‬الأدبي‭ ‬الجميلب؛‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬تعريف‭ ‬الأديب‭ ‬د‭. ‬الخويطر،‭ ‬تعريف‭ ‬جيّد،‭ ‬بيد‭ ‬أنّنا‭ ‬لا‭ ‬نوافقه‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬بأنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬اظهرت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديثب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬نبرهن‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬بيد‭ ‬أني‭ ‬لا‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أبتسر‭ ‬رأيي‭ ‬قبل‭ ‬إقامة‭ ‬الأدلة،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬د‭. ‬الخويطر‭ ‬ليس‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬هذا‭ ‬المذهب،‭ ‬فهذا‭ ‬الناقد‭ ‬
د‭. ‬عزالدين‭ ‬إسماعيل،‭ ‬من‭ ‬جهته،‭ ‬يقول‭: ‬االخاطرة‭ ‬من‭ ‬الأنواع‭ ‬النثرية‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬حِجر‭ ‬الصحافة‭. ‬والخاطرة‭ ‬ليست‭ ‬فكرة‭ ‬ناضجة‭ ‬وليدة‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬ولكنها‭ ‬فكرة‭ ‬عارضة‭ ‬طارئة،‭ ‬وهي‭ ‬مجرد‭ ‬لمحة،‭ ‬وليست‭ ‬كالمقالة‭ ‬مجالًا‭ ‬للأخذ‭ ‬والرد،‭ ‬ولا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الأسانيد‭ ‬والحجج‭ ‬القوية‭ ‬لإثبات‭ ‬صدقهاب‭ (‬عزالدين‭ ‬إسماعيل،‭ ‬الأدب‭ ‬وفنونه،‭ ‬ص‭ ‬168‭).‬

 

بين‭ ‬فنَّي‭ ‬الخاطرة‭ ‬والمقالة

إذا‭ ‬أردنا‭ ‬توخّي‭ ‬الدقة‭ ‬ومراعاة‭ ‬حق‭ ‬الأمانة‭ ‬العلمية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬واجب‭ ‬محتوم‭ ‬على‭ ‬ضمير‭ ‬أيّ‭ ‬كاتب‭ ‬وباحث،‭ ‬فإن‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬فنَّي‭ ‬االخاطرةب‭ ‬واالمقالةب‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬والتعقيد،‭ ‬وهذا‭ ‬شأن‭ ‬اعترف‭ ‬به‭ ‬عديدُ‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والنقاد‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبية،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬انعدام‭ ‬الرؤى‭ ‬والاجتهادات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬التفريق‭ ‬أو‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الفنّين‭ ‬الجميلين‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬النثري‭ ‬المتسم‭ ‬بالصفة‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬طبيعة‭ ‬اللغة‭ ‬والمفردات‭ ‬المستعملة‭ ‬والتضمين‭ ‬الجمالي‭ ‬المرصّع‭ ‬والموشّى‭ ‬بأبدع‭ ‬الصور‭ ‬البيانية‭ ‬والمحسنات‭ ‬اللفظية‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أشهر‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الفنين‭ ‬الأدبيين،‭ ‬الناقد‭ ‬الأديب‭ ‬سيّد‭ ‬قطب،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬اهناك‭ ‬نوعان‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ ‬نُطلق‭ ‬عليهما‭ ‬لفظ‭ (‬المقالة‭)‬،‭ ‬وهما‭ ‬يتشابهان‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬ويختلفان‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬هما‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬وفنّ‭ ‬المقالة،‭ ‬ولعلّ‭ ‬من‭ ‬الأنسب‭ ‬أن‭ ‬نفرّق‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬الاسم‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬نفرّق‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬الوصف،‭ ‬لأن‭ ‬فنّ‭ ‬المقالة‭ ‬ذو‭ ‬طبيعة‭ ‬تقريرية،‭ ‬وفنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬ذو‭ ‬طبيعة‭ ‬انفعاليةب‭ (‬سيد‭ ‬قطب،‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭... ‬أصوله‭ ‬ومناهجه‭ ‬ص‭ ‬93‭).‬

‭ ‬ولعلّ‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة‭ ‬النقدية،‭ ‬يشي‭ ‬بوجود‭ ‬غموض‭ ‬توارثه‭ ‬نقاد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بوضع‭ ‬حدود‭ ‬فاصلة‭ ‬بين‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬وأجناسه‭ ‬الفنية‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬فقطب‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬معالم‭ ‬التمييز‭ ‬واضحة‭ ‬جليّة‭ ‬بين‭ ‬فني‭ ‬المقالة‭ ‬والخاطرة،‭ ‬فأقرّ‭ ‬بأن‭ ‬كلا‭ ‬الفنين‭ ‬يصحّ‭ ‬أن‭ ‬نُطلق‭ ‬عليه‭ (‬لفظ‭ ‬المقالة‭)‬،‭ ‬وأنّ‭ ‬التفريق‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬خاصيتين‭ ‬هما‭ ‬الطبيعة‭ ‬التقريرية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬المقالة،‭ ‬والطبيعة‭ ‬الانفعالية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬الخاطرة‭. ‬

وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ - ‬وإنْ‭ ‬كان‭ ‬وجيهًا‭ - ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكفي،‭ ‬فليس‭ ‬جميع‭ ‬القراء‭ ‬ومتذوقو‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون‭ ‬متخصّصين‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬فهم‭ ‬في‭ ‬غالبيتهم‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يروا‭ ‬مختلف‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬لها‭ ‬استقلالية‭ ‬ولها‭ ‬ذاتية‭ ‬تفصلها‭ ‬عن‭ ‬الأجناس‭ ‬الأخرى‭ ‬القريبة‭ ‬منها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مثلًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬فإن‭ ‬الرواية‭ ‬لها‭ ‬شخصية‭ ‬تميّزها‭ ‬عن‭ ‬الأجناس‭ ‬القريبة‭ ‬منها،‭ ‬مثل‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬أو‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭.‬

 

التداخل‭ ‬بين‭ ‬الخاطرة‭ ‬والمقالة

لقد‭ ‬شغل‭ ‬التداخل‭ ‬بين‭ ‬فنّي‭ ‬الخاطرة‭ ‬والمقالة‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يفرّق‭ ‬مُكرهًا‭ ‬بين‭ ‬االمقالة‭ ‬الذاتيةب‭ ‬واالمقالة‭ ‬الموضوعيةب؛‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬تصدى‭ ‬لتعريف‭ ‬فنّ‭ ‬المقالة‭ ‬عرّفه‭ ‬تعريفًا‭ ‬عامًّا‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬فن‭ ‬الخاطرة،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬االمقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬قطعة‭ ‬نثرية‭ ‬محدودة‭ ‬في‭ ‬الطول‭ ‬والموضوع،‭ ‬تُكتب‭ ‬بطريقة‭ ‬عفوية‭ ‬سريعة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الكلفة‭ ‬والرّهق‭ (‬الإرهاق‭ ‬هو‭ ‬تحميل‭ ‬النفس‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تطيق‭)‬،‭ ‬وشرطها‭ ‬الأول‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تعبيرًا‭ ‬صادقًا‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الكاتبب‭ (‬محمد‭ ‬يوسف‭ ‬نجم‭: ‬فن‭ ‬المقالة،‭ ‬ص‭ ‬95‭).‬

أما‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬الخاطرة‭ ‬فهو‭ ‬يتمثّل‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الخواطر،‭ ‬وتعميم‭ ‬الفائدة،‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بالإبداع‭ ‬وبما‭ ‬اعذوذب‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬الرائقة،‭ ‬ونشر‭ ‬الجمال‭ ‬والتفاؤل‭ ‬بالحياة،‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬المواهب‭ ‬والقدرات‭ ‬والمهارات‭ ‬الذهنية‭ ‬والنفسية‭ ‬والعقلية‭ ‬والوجدانية،‭ ‬مثلها‭ ‬مثل‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الإبداع‭.‬

والخاطرة‭ ‬نوعان‭: ‬أولًا‭ ‬الشفوية‭: ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬موجزة‭ ‬أو‭ ‬مُقتضبة‭ ‬يُلقيها‭ ‬المتكلم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التنبيه‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬أو‭ ‬مسألة‭ ‬محدّدة‭ ‬دون‭ ‬استطراد‭ ‬أو‭ ‬إطالة،‭ ‬وإلا‭ ‬صارت‭ ‬درسًا‭ ‬أو‭ ‬خُطبةً،‭ ‬وهذا‭ ‬النوع‭ ‬نراه‭ ‬عند‭ ‬أماكن‭ ‬تجمّع‭ ‬الناس،‭ ‬مثل‭ ‬المؤتمرات‭ ‬والمخيّمات‭ ‬أو‭ ‬المدارس‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬استقبال‭ ‬الوفود‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭. ‬

ثانيًا‭ ‬الكتابية‭: ‬وهي‭ ‬أسلوب‭ ‬أدبي‭ ‬ماتع‭ ‬جذّاب‭ ‬يغلب‭ ‬عليه‭ ‬الجانب‭ ‬الوجداني‭ ‬الانفعالي،‭ ‬وإلّا‭ ‬صارت‭ ‬تقريرًا‭ ‬أو‭ ‬بحثًا،‭ ‬وتوصف‭ ‬بعضُ‭ ‬الخواطر‭ ‬باللؤلؤ‭ ‬المنثور‭ ‬لروعة‭ ‬كلماتها‭ ‬ورقّتها‭ ‬وعذوبتها‭ ‬وجمالها،‭ ‬والجمال‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬التعبير‭ ‬والتصوير‭ ‬والتماسك‭ ‬الفكري‭ ‬وتوظيف‭ ‬الرمز‭ ‬الشفاف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مبالغة‭.‬

ومن‭ ‬البداهة‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬تأخذ‭ ‬لونَ‭ ‬موضوعها‭ ‬وتوجّهَ‭ ‬كاتبها،‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬الصبغة‭ ‬والمضمون‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬خاطرة‭ ‬تربوية‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭ ‬أو‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬عاطفية‭... ‬إلخ‭. ‬

جذور‭ ‬الخاطرة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي

يظن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمثقفين‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭ ‬أنّ‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‭ ‬النثرية‭ ‬الحديثة‭ ‬والأجناس‭ ‬الإبداعية‭ ‬ذات‭ ‬الصياغة‭ ‬الفنية‭ ‬والحبكة‭ ‬الأسلوبية‭ ‬البديعة،‭ ‬مثل‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والمقامة‭ ‬والرسالة‭ ‬والمقالة‭ ‬والخاطرة‭ ‬وغيرها،‭ ‬هي‭ ‬فنون‭ ‬وفدت‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬ومدارسه‭ ‬الأدبية‭ ‬المتعددة؛‭ ‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬لا‭ ‬يصمد‭ ‬أمام‭ ‬أدلة‭ ‬الحفر‭ ‬وبذل‭ ‬الجهد‭ ‬في‭ ‬البحث،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬تراكمات‭ ‬فنون‭ ‬القول‭ ‬العربي‭ ‬القديم؛‭ ‬وحسب‭ ‬تنقيبي‭ ‬الدائب‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬فقد‭ ‬ألفيتُ‭ ‬جذور‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬والأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الثقافي‭ ‬بكلّ‭ ‬أنواعه‭ ‬وألوانه‭.‬

‭ ‬ففي‭ ‬فنّ‭ ‬الرسائل‭ ‬مثلًا‭ ‬نجد‭ ‬قِطعًا‭ ‬فنية‭ ‬باهرة‭ ‬الأسلوب‭ ‬والصياغة‭ ‬والديباجة،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬الكاتب‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬معارفه‭ ‬معاتبًا‭ ‬إياه‭: ‬اأما‭ ‬بعد،‭ ‬فقد‭ ‬عاقني‭ ‬الشكُّ‭ ‬في‭ ‬أمرك‭ ‬عن‭ ‬عزيمة‭ ‬الرأي‭ ‬فيك،‭ ‬ابتدأتني‭ ‬بلطف‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬خبرةٍ،‭ ‬ثمّ‭ ‬أعقبتني‭ ‬جفاءً‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ذنب،‭ ‬فأطمعني‭ ‬أوّلُك‭ ‬في‭ ‬إخائك،‭ ‬وأيأسني‭ ‬آخرُك‭ ‬من‭ ‬وفائك،‭ ‬فلا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬مجمعٌ‭ ‬لك‭ ‬اطِّراحًا،‭ ‬ولا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬غدٍ‭ ‬وانتظاره‭ ‬منك‭ ‬على‭ ‬ثقة،‭ ‬فسبحان‭ ‬مَن‭ ‬لو‭ ‬شاء‭ ‬كشف‭ ‬بإيضاح‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬أمرك‭ ‬عن‭ ‬عزيمةٍ‭ ‬فيك،‭ ‬فأقمنا‭ ‬على‭ ‬ائتلاف،‭ ‬أو‭ ‬افترقنا‭ ‬على‭ ‬اختلاف،‭ ‬والسلامب‭.‬

وفي‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬كتاب‭ ‬ارسالة‭ ‬الغفرانب‭ ‬لأبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري،‭ ‬وكتاب‭ ‬االتوابع‭ ‬والزوابعب‭ ‬لابن‭ ‬شهيد‭ ‬الأندلسي،‭ ‬وكتاب‭ ‬احي‭ ‬بن‭ ‬يقظانب‭ ‬لابن‭ ‬طُفيل،‭ ‬أفضل‭ ‬أشكال‭ ‬ونماذج‭ ‬هذا‭ ‬الفن؛‭ ‬أما‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬نماذج‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬القديم،‭ ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬ما‭ ‬نطالعه‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االبخلاءب‭ ‬للجاحظ‭. ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬نماذج‭ ‬لفن‭ ‬المقالة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬كتابات‭ ‬أبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬وابن‭ ‬العميد،‭ ‬وقبلهما‭ ‬لدى‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬المقفع‭ (‬ت‭ ‬142‭ ‬هــ‭)‬،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬فصول‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬االأدب‭ ‬الصغير‭ ‬والأدب‭ ‬الكبيرب‭.‬

 

أصالة‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة

أما‭ ‬ما‭ ‬يهمنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬فهو‭ ‬البرهنة‭ ‬على‭ ‬أصالة‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬القديم؛‭ ‬فالخاطرة‭ ‬هي‭ ‬مؤنث‭ ‬الخاطر،‭ ‬مثل‭ ‬المقالة‭ ‬مؤنث‭ ‬المقال‭. ‬إذ‭ ‬إننا‭ ‬نجد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحًا‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعية‭ ‬النثرية‭ ‬مثل‭ ‬الرواية‭ ‬والمقالة‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والسيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وقد‭ ‬سمى‭ ‬أحد‭ ‬أكابر‭ ‬علماء‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‭ ‬عثمان‭ ‬المشهور‭ ‬بابن‭ ‬جني‭ (‬ت‭ ‬392‭ ‬هــ‭) ‬أحد‭ ‬كتبه‭ ‬بــ‭ ‬االخاطريات‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬اللغويةب،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬كما‭ ‬يدلٌّ‭ ‬عليه‭ ‬عنوانه‭ ‬يتضمّن‭ ‬خواطر‭ ‬متنوعة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القضايا‭ ‬اللغوية‭ ‬واللسانية‭.‬

‭ ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬إذا‭ ‬رجعنا‭ ‬إلى‭ ‬مؤسس‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬أدبنا‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الكاتب‭ (‬ت‭ ‬132‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬فإننا‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬وصور‭ ‬فن‭ ‬الخاطرة‭ ‬في‭ ‬تراثه‭ ‬الذي‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الضياع،‭ ‬مثل‭ ‬رسائله‭ ‬إلى‭ ‬الكُتّاب،‭ ‬ورسائله‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الصيد‭ ‬وغيرها؛‭ ‬ويمكن‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أن‭ ‬نستشهد‭ ‬له‭ ‬بهذا‭ ‬النص‭ ‬البديع‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭: ‬اإنّ‭ ‬الله‭ ‬جعل‭ ‬الدنيا‭ ‬محفوفةً‭ ‬بالكُره‭ ‬والسرور،‭ ‬وجعل‭ ‬فيها‭ ‬أقسامًا‭ ‬مختلفة‭ ‬بين‭ ‬أهلها،‭ ‬فمن‭ ‬درّت‭ ‬له‭ ‬بحلاوتها،‭ ‬وساعده‭ ‬الحظُّ‭ ‬فيها‭ ‬سكنَ‭ ‬إليها‭ ‬ورضي‭ ‬بها‭ ‬وأقام‭ ‬عليها،‭ ‬ومَنْ‭ ‬قرصته‭ ‬بأظفارها‭ ‬وهضّته‭ ‬بأنيابها،‭ ‬وتوطأته‭ ‬بثقلها،‭ ‬قلاها‭ ‬نافرًا‭ ‬عنها‭ ‬وذمّها‭ ‬ساخطًا‭ ‬عليها،‭ ‬وشكاها‭ ‬مستزيدًا‭ ‬منها،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الدنيا‭ ‬أذاقتنا‭ ‬من‭ ‬حلاوتها‭ ‬وأرضعتنا‭ ‬من‭ ‬درِّها‭ ‬أفاويق‭ (‬ما‭ ‬يُجمع‭ ‬من‭ ‬اللبن‭ ‬في‭ ‬الضّرع‭) ‬استحلبناها،‭ ‬ثمّ‭ ‬شَمست‭ (‬جَمحت‭) ‬منا‭ ‬نافرة‭ ‬وأعرضتْ‭ ‬عنا‭ ‬متنكرة،‭ ‬ورَمحتنا‭ (‬ركلتنا‭) ‬مولّية،‭ ‬فملُح‭ ‬عذبُها،‭ ‬وأمرَّ‭ ‬حلوُها،‭ ‬وخَشُنَ‭ ‬ليّنُها،‭ ‬ففرقتنا‭ ‬عن‭ ‬الأوطان،‭ ‬وقطّعتنا‭ ‬عن‭ ‬الإخوان،‭ ‬فدارُنا‭ ‬نازحةٌ،‭ ‬وطيرنا‭ ‬بارحة،‭ ‬قد‭ ‬أخذتْ‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬أعطتْ،‭ ‬وتباعدتْ‭ ‬مثلما‭ ‬تقرَّبت،‭ ‬وأعقبتْ‭ ‬بالراحة‭ ‬نصبًا،‭ ‬وبالجذل‭ (‬السرور‭) ‬همًّا،‭ ‬وبالأمن‭ ‬خوفًا،‭ ‬وبالعزّ‭ ‬ذُلًّا،‭ ‬وبالجدّة‭ (‬الميسرة‭) ‬حاجةً،‭ ‬وبالسراء‭ ‬ضراءَ،‭ ‬وبالحياة‭ ‬موتًا،‭ ‬لا‭ ‬تَرحم‭ ‬مَنْ‭ ‬استرحمها،‭ ‬سالكةً‭ ‬بنا‭ ‬سبيل‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬أوبة‭ ‬له،‭ ‬منفيين‭ ‬عن‭ ‬الأولياء،‭ ‬مقطوعين‭ ‬عن‭ ‬الأحياءب‭. ‬

‭ ‬فهذا‭ ‬النص‭ ‬القويّ‭ ‬الحبكة‭ ‬لعبدالحميد‭ ‬الكاتب،‭ ‬هو‭ ‬خاطرة‭ ‬رائعة،‭ ‬تصوّر‭ ‬أحوال‭ ‬الدنيا‭ ‬المتقلبة‭ ‬المتباينة‭ ‬مع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وكيف‭ ‬ينطبع‭ ‬شعور‭ ‬لفيف‭ ‬عريض‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬بالوحشة‭ ‬والضيق‭ ‬بفعل‭ ‬وطأة‭ ‬مقتضياتها،‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬الفكر‭ ‬والإحساس،‭ ‬فيبدو‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬كلمات‭ ‬ملتاعة‭ ‬تفيض‭ ‬ألمًا‭ ‬وحزنًا‭ ‬ولوعةً‭.‬

 

‭ ‬صيد‭ ‬الخاطر

أما‭ ‬الإمام‭ ‬الأديب‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭ (‬ت‭ ‬597‭ ‬هــ‭) ‬فقد‭ ‬خصّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬بسفر‭ ‬نفيس،‭ ‬يُعتبر‭ ‬أجود‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدب‭ ‬الديني‭ ‬والسلوكي‭ ‬التربوي‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الهجري،‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬اصيد‭ ‬الخاطرب،‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬المّا‭ ‬كانت‭ ‬الخواطر‭ ‬تجولُ‭ ‬في‭ ‬تصفُّح‭ ‬أشياء‭ ‬تَعرضُ‭ ‬لها،‭ ‬ثمّ‭ ‬تُعرضُ‭ ‬عنها‭ ‬فتذهبُ،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬الأمور‭ ‬حِفظُ‭ ‬ما‭ ‬يَخطُر‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يُنسى‭... ‬وكم‭ ‬خطر‭ ‬لي‭ ‬شيءٌ‭ ‬فأتشاغلُ‭ ‬عن‭ ‬إثباته‭ ‬فيذهب،‭ ‬فأتأسف‭ ‬عليه‭... ‬فجعلتُ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬قيدًا‭ ‬لصيد‭ ‬الخاطر،‭ ‬والله‭ ‬وليّ‭ ‬النفع،‭ ‬إنه‭ ‬قريب‭ ‬مجيبب‭. ‬

إنّ‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬الدوافع‭ ‬التي‭ ‬ساقته‭ ‬إلى‭ ‬تأليف‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وهي‭ ‬باختصار‭ ‬حزنه‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والخواطر‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬خاطره‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معيّنة،‭ ‬فينشغل‭ ‬عن‭ ‬تطريسها‭ ‬وقيدها،‭ ‬وبذلك‭ ‬يضيع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬والمرئيات‭ ‬والخواطر‭ ‬النافعة‭ ‬في‭ ‬مجالها‭. ‬

وفي‭ ‬إحدى‭ ‬الخواطر‭ ‬التي‭ ‬يصوّر‭ ‬فيها‭ ‬الإمام‭ ‬الأديب‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭ ‬حالة‭ ‬التدافع‭ ‬بين‭ ‬جواذب‭ ‬الدنيا‭ ‬وجواذب‭ ‬الآخرة‭ ‬التي‭ ‬تتفاعل‭ ‬في‭ ‬جوانحنا،‭ ‬يقول‭ ‬بأسلوب‭ ‬أدبي‭ ‬ينحاز‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬وضوح‭ ‬المعنى‭ ‬وتجلية‭ ‬الفكرة‭: ‬اجواذب‭ ‬الطبع‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬كثيرة،‭ ‬ثم‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬داخل‭. ‬وذكر‭ ‬الآخرة‭ ‬أمرٌ‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬الطبع،‭ ‬ثمّ‭ ‬هي‭ ‬غيب‭. ‬وربما‭ ‬ظنّ‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬علم‭ ‬له‭ ‬أنّ‭ ‬جواذب‭ ‬الآخرة‭ ‬أقوى،‭ ‬لِما‭ ‬يسمعُ‭ ‬من‭ ‬الوعيد‭ ‬في‭ ‬القرآن،‭ ‬وليس‭ ‬كذلك،‭ ‬لأنّ‭ ‬مثل‭ ‬الطبع‭ ‬في‭ ‬ميله‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا،‭ ‬كالماء‭ ‬الجاري‭ ‬يَطلبُ‭ ‬الهبوط،‭ ‬وإنما‭ ‬رَفْعُهُ‭ ‬إلى‭ ‬فوق‭ ‬يحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬التكلّف‭. ‬أما‭ ‬الطبع‭ ‬فجواذبه‭ ‬كثيرة،‭ ‬وليس‭ ‬العجب‭ ‬أن‭ ‬يَغْلِبَ،‭ ‬إنما‭ ‬العجب‭ ‬أن‭ ‬يُغلبب‭ (‬صيد‭ ‬الخاطر‭... ‬خاطرة‭: ‬روابط‭ ‬النفس‭ ‬بالدنيا،‭ ‬ص‭ ‬12‭).‬

 

فنٌّ‭ ‬أصيلٌ

‭ ‬ثمّ‭ ‬جاء‭ ‬بعده‭ ‬الفقيه‭ ‬الحنبلي‭ ‬الإمام‭ ‬الفذ‭ ‬ابن‭ ‬قيم‭ ‬الجوزية‭ (‬ت‭ ‬751‭ ‬هـ‭)‬؛‭ ‬الذي‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬مؤلفات‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭ ‬وتأثر‭ ‬بها‭ ‬ونسج‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬بعضها،‭ ‬ولذلك‭ ‬نجده‭ ‬يؤلف‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة،‭ ‬ويخصّها‭ ‬بكتاب‭ ‬كامل‭ ‬هو‭ ‬االفوائدب،‭ ‬ومَن‭ ‬يراجع‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬سوف‭ ‬يلفاه‭ ‬شبيهًا‭ ‬بكتاب‭ ‬ابن‭ ‬الجوزي‭ ‬آنف‭ ‬الذكر،‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬الخواطر‭ ‬وحفظ‭ ‬مختلف‭ ‬الصور‭ ‬الذهنية‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬بالكُتاب‭ ‬والأدباء‭ ‬والفقهاء‭ ‬وأهل‭ ‬العلم‭ ‬عامة،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬محققه‭ ‬محمد‭ ‬عزيز‭ ‬شمس،‭ ‬بقوله‭ ‬اكتاب‭ ‬الفوائد‭ ‬أكثره‭ ‬تأملات‭ ‬وخواطر،‭ ‬وعِبر‭ ‬ومواعظ،‭ ‬ولطائف‭ ‬ورقائق‭... ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬كله‭ ‬دُرر‭ ‬وفوائد،‭ ‬وتبصرة‭ ‬وتذكرة،‭ ‬وإرشاد‭ ‬وتوجيه،‭ ‬ولعلّك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬له‭ ‬نظيرًا‭ ‬بين‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬قرأتهاب‭. ‬

وبهذه‭ ‬الأمثلة‭ ‬التي‭ ‬أثبتناها،‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أنّ‭ ‬نظائرها‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي،‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نخلص‭ ‬في‭ ‬اطمئنان‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة‭ ‬فنٌّ‭ ‬أصيلٌ‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬وأنّ‭ ‬ظهوره‭ ‬واكب‭ ‬ظهور‭ ‬النثر‭ ‬الفني‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يُسمّ‭ ‬باسم‭ ‬الخاطرة‭ ‬أو‭ ‬الخواطر‭ ‬إلا‭ ‬لدى‭ ‬عدد‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الكُتاب،‭ ‬وإنما‭ ‬وجد‭ ‬تحت‭ ‬عناوين‭ ‬ومصطلحات‭ ‬أخرى‭ ‬متنوعة،‭ ‬مثل‭ ‬االشذراتب‭ ‬واالتأملاتب‭ ‬واالمخاطباتب،‭ ‬واالنوادر‭ ‬والإشاراتب‭ ‬وااللُّمعب‭ ‬واالمقابساتب‭... ‬إلخ؛‭ ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كتاب‭ ‬االمقابساتب‭ ‬لأبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ (‬ت‭ ‬414‭ ‬هــ‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬يتضمن‭ ‬مئة‭ ‬وست‭ ‬مقابسات،‭ ‬وبالرجوع‭ ‬إليها‭ ‬نجد‭ ‬أنّ‭ ‬معظمها‭ ‬ينطبق‭ ‬عليه‭ ‬وصف‭ ‬فنّ‭ ‬الخاطرة‭.‬

ولعلّ‭ ‬هذه‭ ‬العناوين‭ ‬تذكرنا‭ ‬بما‭ ‬يُنشر‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬من‭ ‬خواطر‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬بعناوين‭ ‬مغايرة‭ ‬مثل‭: ‬اومضةب،‭ ‬اما‭ ‬قلّ‭ ‬ودلّب،‭ ‬افكرةب،‭ ‬انحو‭ ‬النورب،‭ ‬افي‭ ‬أمان‭ ‬اللهب،‭ ‬اإلى‭ ‬أن‭ ‬نلتقيب‭... ‬إلخ،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬خواطر‭ ‬أدبية‭ ‬فنية‭ ‬تتناول‭ ‬موضوعاتٍ‭ ‬ومسائلَ‭ ‬شغلت‭ ‬بال‭ ‬مطرّسيها‭ ‬واهتمامهم‭. ‬فهي‭ ‬وإنْ‭ ‬بدتْ‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬بسيطة،‭ ‬أو‭ ‬عفو‭ ‬الخاطر،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أهلُ‭ ‬الأدب،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬أعمالٌ‭ ‬وآثارٌ‭ ‬تمثّل‭ ‬فكر‭ ‬أصحابها،‭ ‬وهي‭ ‬لذلك‭ ‬قمينة‭ ‬بأن‭ ‬نطالعها‭ ‬كلما‭ ‬سنحت‭ ‬لنا‭ ‬الظروف‭ ‬والأوقات،‭ ‬وأن‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬الانتفاع‭ ‬بما‭ ‬تتضمنه‭ ‬من‭ ‬فوائد‭ ‬ونصائح‭ ‬تربوية‭ ‬أو‭ ‬سلوكية‭ ‬أو‭ ‬حياتية‭ ‬أو‭ ‬نحوها،‭ ‬وأن‭ ‬نستمتع‭ ‬بجماليات‭ ‬أساليبها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬دعم‭ ‬ذائقتنا‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬وصقلها‭ .