مع أبي العلاء المعري
عند زيارتي لمجلس الأديب الشاعر الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري، رحمه الله، دار بيننا حديث عن الثقافة والأدب، تقلبت فيه صفحات التاريخ سريعاً، لنقف بين الكتب عند مفاتيح تاريخ الشعر العربي في العصر العباسي: أبو نواس وأبوتمام، والمتنبي، وأبوالعلاء المعري. وكان الأستاذ يتحفنا بأبيات من قصائد هؤلاء الشعراء، التي بدت لبعض من ضم مجلسنا أنها أكثر حلاوة وطلاوة مما ورد في الشعر الجاهلي.
من الممكن أن يكون الأحدث أقرب إلى الفهم والاستيعاب من الأقدم, ولكن تظل الأذواق مختلفة في حب الصوَر والموسيقى الشعرية, ويظل الشعر ديوان العرب. وقبيل أن أغادر مجلسه, أسرّ لي الأستاذ أن أبحث في عقيدة أبي العلاء المعري من خلال أبيات قصائده, فأجبته بأني أغرق على شاطئ مثل هذا البحث, فما بالك بالغوص في فكر وأدب وشعر المعري? لقد كنت في ذلك محقاً, عندما توقفَت كل محاولاتي بالكتابة عن فكر المعري من خلال أدبه, ولكنها رسالة أستاذ لا بدّ أن أُبلغها, لعل غيري يستطيع أن يفعل ذلك, أو «يهدينِ ربي لأقرب من هذا رشدا».
حياة المعري وعصره
في حديث الشهر الماضي تحدثنا عن المتنبي, وناقشنا بإيجاز ظروف العصر الذي عاش فيه. ذلك العصر الذي لم يختلف عن عصر أبي العلاء المعري كثيراً, إلا بزيادة الفتن والمحن. ولم أرَ بُداً من أن أضع مفاتيح الحياة الاجتماعية والفكرية في عصر أبي العلاء أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي الذي ولد في معرة النعمان عام 363ه973م, وتوفي فيها عام 449ه1057م.
نشأ الفتى نابهاً ذكياً محباً للعلم, ولم يقف عن تحصيل العلم حتى بعد أن أُصيب باعتزاله الفتن
في خضم أمواج تعدد التيارات الفكرية, اختار المعري اعتزال تلك التيارات, بحكم أنّ أطروحاتها من الفِتَن, فنذر ألا يغادر بيته, وأطلق على نفسه «رهين المَحْبَسَيْن»: العمى والدار. وعلى الرغم من قيود حبسه الثقيلة, استطاع شاعرنا الفيلسوف أن يلينها ويمدها مدّا يطول به السحاب, حين لم يفقد جمال التصوير وعمق التفكير وجزالة التعبير. وقد استطاع وهو رهين محبس داره أن ينظم قصائد ذاعت في أرجاء دار الإسلام, فعرفه الناس في عصره من شعره الذي نَقد فيه كل الأخطاء في المجتمع آنذاك. لقد كان المعري متشائماً, ولكنه كان مثالي النزعة, الأمر الذي انعكس على شعره, وأصبح سمة واضحة في قصائده, قال:
عللاني فإنّ بِيض الأماني
فَنِيَت والظلام ليس بفاني
كم أردنا ذاك الزمان بمدحٍ
فشُغِلْنا بذم هذا الزمانِ
لقد أضنى السواد أبا العلاء حتى عاش بعيدا عن النور والأمل, ينتظر الموت بفارغ الصبر, ليرى الموت له راحة من كل شر يحيط به في حياته, فيقول:
غيْرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
خفّف الوطءَ ما أظنّ أديم ال
أرضِ إلا من هذه الأجسادِ
سِر إن اسْطَعتَ في الهواء رويداً
لا اختيالا على رفات العبادِ
رُبَ لحْدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
تعبٌ كُلّها الحياة فما أع
جَبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ
دفاعه عن المتنبي
تأثر المعري بشخصية المتنبي وشعره, واتخذه مثالاً له في الحكمة, إلا أنه زاد بالتكلف في نحت الكلمات والرصف اللغوي, ليكون نظم قصائده أقرب إلى المُعجز. ومن الأمثلة على ذلك قصائده التي جاءت قوافيها بخمسة حروف (... اكينا):
ياقوتُ ما أنت ياقوتٌ ولا ذهبٌ
فكيف تعجز أقواما مساكينا
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهمُ
لما رأيت بني الإعدام شاكينا
فإن تعش تُبْصر الباكين قد ضحكوا
والضاحك
وبستة حروف نظم (... املينا):
إذا ما شئتم دعة وخفضا
فعيشوا في البرية خاملينا
ولا يُعقد لكم أملٌ بخلقٍ
وبيتوا للمهيمن آملينا
ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا
هل حاول أبوالعلاء المعري أن يتحدى شعراء عصره, وأن يُصَنَّف في مقدّمهم? وبخاصة أن من معاصريه من كان مشهوداً لهم بإمامة الشعر والبلاغة والشرف, من أمثال الشريف الرضي والشريف المرتضى, الذي ذهب المعري إلى مجلسه في بغداد وطُرِدَ منه, بسبب أنّ الشريف المرتضى انتقد وعاب المتنبي, فلم يكن من أبي العلاء إلا أن انتفض وقال: يكفي المتنبي فخراً أنه قال: «لكِ يا منازل في القلوب منَازِلُ ...». حينها غضب الشريف وأمر بأن يُخرجوا المعري خارج المجلس. أثار ذلك التصرف استغراب جلساء الشريف, فتساءلوا عن سبب غضبته من المعري, فأجابهم بأنّ المعري إنما جاء بهذا الشطر من القصيدة عمداً ليسخر منه, ففيها قال المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ
هويته الفكرية
جمع المعري في عبقريته آراء متناقضة, وحار بتحديد مذهبه الفكري كل من المتقدمين والمتأخرين. وبناء على ذلك قام بعضهم بتكفيره, ومنهم من رماه بالزندقة والإلحاد أو اعتناق ديانة أخرى غير الإسلام, كالبرهمية الهندية, أو المزدكية الفارسية, ومنهم من حكم بصحة إيمانه, ومنهم من وقف متحيراً فأمسك عن مدحه أو ذمه. وعندما نتصفح قصائد أبي العلاء المعري ورسائله في كُتُبهِ, نجد أنّه قد ناصر مدرسة العقْل على مدرسة النقل, ففي نقده لمدرسة النقل (أصحاب الحديث) يقول:
لقد أتوا بحديث لا يُثبِّتُهُ
عقلٌ فقلنا عن أي الناس تحكونهْ?
فأخبَروا بأسانيد له كُذُبٍ
لم تَخْلُ من ذِكْرِ شيخٍ لا يزكونه
إلا أنّه لم يوافق كل ما يطرحه علماء عصره من المعتزلة, فانتقد كتبهم المتداولة آنذاك بقوله:
يُس
وعبدالعزيز وعبدالصمدْ
وما بَلَغوا أنْ يكونوا له
عبِيداً وذلك أقصى الأمدْ
ولكنه خالق العالمين
ذوائب أجزائهم والجمَدْ
تَعَمَّدْهُ يُغْنِك بالهَدْي أنْ
تُدَرِّسَ «مُغنيهم» ولا «العُمَدْ»
و«المُغني» و«العُمَد» كتابان لشيخ المعتزلة القاضي عبدالجبار, كانا منهجاً لطالبي العلم في مدرسة الاعتزال.
الدليل إذا طرقه الاحتمال
سقط به الاستدلال
ومن غريب ما قرأت, لبعض المؤلفين الإسماعيليين, أن تُنسَب عقيدة أبي العلاء إلى الإسماعيلية, ومن هؤلاء مصطفى غالب الذي أفرد لأبي العلاء جزءا من كتابه «أعلام الإسماعيلية», وكذلك فعل مع المتنبي! ونحن نقول إنه على الرغم من انتشار المذهب الإسماعيلي في عصر أبي العلاء, الذي عاصر الحاكمَ بأمر الله الفاطمي, ودارت بينه وبين كبير دعاة الدولة رسائل سجلها التاريخ كوثائق مكتوبة, فإنه لم يكن مؤمنا بالطرح الإسماعيلي أصلاً, ذلك الطرح الذي اتخذ من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة أساسا للدعوة والإيمان. ودليلنا على ذلك قول المعري:
يرتجي الناس أن يقوم إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ
كذب الظنّ لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صُبحه والمساءِ
إنما هذه المذاهب أسبا
بٌ لجذب الدنيا إلى الرؤساءِ
كالذي قام يجمع الزنج
هنا ينقد المعري فكرة «الناطق» وتعني الناطق بالشريعة الجديدة, أي صاحب الرسالة الإلهية والناطق بها, كما ينتقد «القرامطة» وهم أتباع الدعوة الإسماعيلية الأولى, التي قادها الدعاة حمدان وعبدان ثم زكرويه في العراق, وأبوسعيد الجنابي وأولاده في ما كان يُسمى بالبحرين, واتخذوا من «هجر» في الأحساءِ عاصمة لدولتهم. وزاد على ذلك بأن تَهَكّم على بعض أفعالهم في رسالة الغفران. وحايث المعري البدايات الأولى لدعوة الموحدين الدروز, لكنه انتقد «التقمص», وهو جزء من عقيدة التناسخ التي يرفض الدروز تسميتها بذلك, وهي التي تعتبر من أهم ركائزها العقيدية. يقول المعري:
يقولون إنّ الجسم ينقل روحه
إلى غيره حتى يهذبه النَّقْل
فلا تَقْبَلَنَّ ما يُخبرونك ضلّةً
إذا لم يؤيّد ما أتوك به العَقْل
ونختم حديثنا بما ذكره ناصر خسرو في «سفر نامه» عن المعري: «وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبوالعلاء المعري. وهو حاكمها. وكان واسع الثراء عنده كثير من العبيد, وكأنّ أهل البلد كله خدم له. أما هو فقد تزهد, فلبس الكليم *, واعتكف في البيت, وكان قوته نصف مَنٍّ من خبز الشعير, لا يأكل غيره. وقد سمعت أنّ باب سرايه مفتوح دائماً, وأنّ نوابه وملازميه يُدَبّرون أمر المدينة, ولا يَرجعون إليه إلا في الأمور الهامة, وهو لا يمنع نعمته أحداً, يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقاً بأمر دنيوي... ويجلس حوله, دائماً, أكثر من مائتي رجل, يحضرون من الأطراف, يقرأون عليه الأدب والشعر... سأله رجل: لِمَ تعطي الناس ما أفاء الله تبارك وتعالى عليك من وافر النِعَم ولا تقوت نفسك? فأجاب: إني لا أملك أكثر مما يقيم أودي. وكان هذا الرجل حياً وأنا هناك».
كان ذلك في الخامس عشر من رجب سنة 438ه1048م .