مع أبي العلاء المعري

مع أبي العلاء المعري

عند‭ ‬زيارتي‭ ‬لمجلس‭ ‬الأديب‭ ‬الشاعر‭  ‬الأستاذ‭ ‬عبدالله‭ ‬زكريا‭ ‬الأنصاري،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬دار‭ ‬بيننا‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب،‭ ‬تقلبت‭ ‬فيه‭ ‬صفحات‭ ‬التاريخ‭ ‬سريعاً،‭ ‬لنقف‭ ‬بين‭ ‬الكتب‭ ‬عند‭ ‬مفاتيح‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭: ‬أبو‭ ‬نواس‭ ‬وأبوتمام،‭ ‬والمتنبي،‭ ‬وأبوالعلاء‭ ‬المعري‭. ‬وكان‭ ‬الأستاذ‭ ‬يتحفنا‭ ‬بأبيات‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء،‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬لبعض‭ ‬من‭ ‬ضم‭ ‬مجلسنا‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬حلاوة‭ ‬وطلاوة‭ ‬مما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭. ‬

‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الأحدث‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الفهم‭ ‬والاستيعاب‭ ‬من‭ ‬الأقدم‭, ‬ولكن‭ ‬تظل‭ ‬الأذواق‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬الصوَر‭ ‬والموسيقى‭ ‬الشعرية‭, ‬ويظل‭ ‬الشعر‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‭. ‬وقبيل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬مجلسه‭, ‬أسرّ‭ ‬لي‭ ‬الأستاذ‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬في‭ ‬عقيدة‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أبيات‭ ‬قصائده‭, ‬فأجبته‭ ‬بأني‭ ‬أغرق‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭, ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بالغوص‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬وأدب‭ ‬وشعر‭ ‬المعري‭? ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬محقاً‭, ‬عندما‭ ‬توقفَت‭ ‬كل‭ ‬محاولاتي‭ ‬بالكتابة‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬المعري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أدبه‭, ‬ولكنها‭ ‬رسالة‭ ‬أستاذ‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬أُبلغها‭, ‬لعل‭ ‬غيري‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭, ‬أو‭ ‬‮«‬يهدينِ‭ ‬ربي‭ ‬لأقرب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬رشدا‮»‬‭.‬

‭ ‬

حياة‭ ‬المعري‭ ‬وعصره

في‭ ‬حديث‭ ‬الشهر‭ ‬الماضي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬المتنبي‭, ‬وناقشنا‭ ‬بإيجاز‭ ‬ظروف‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭. ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬عصر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬كثيراً‭, ‬إلا‭ ‬بزيادة‭ ‬الفتن‭ ‬والمحن‭. ‬ولم‭ ‬أرَ‭ ‬بُداً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬مفاتيح‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬سليمان‭ ‬التنوخي‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬معرة‭ ‬النعمان‭ ‬عام‭ ‬363ه973م‭, ‬وتوفي‭ ‬فيها‭ ‬عام‭ ‬449ه1057م‭.‬

نشأ‭ ‬الفتى‭ ‬نابهاً‭ ‬ذكياً‭ ‬محباً‭ ‬للعلم‭, ‬ولم‭ ‬يقف‭ ‬عن‭ ‬تحصيل‭ ‬العلم‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أُصيب‭ ‬باعتزاله‭ ‬الفتن‭ ‬

في‭ ‬خضم‭ ‬أمواج‭ ‬تعدد‭ ‬التيارات‭ ‬الفكرية‭, ‬اختار‭ ‬المعري‭ ‬اعتزال‭ ‬تلك‭ ‬التيارات‭, ‬بحكم‭ ‬أنّ‭ ‬أطروحاتها‭ ‬من‭ ‬الفِتَن‭, ‬فنذر‭ ‬ألا‭ ‬يغادر‭ ‬بيته‭, ‬وأطلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬رهين‭ ‬المَحْبَسَيْن‮»‬‭: ‬العمى‭ ‬والدار‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬حبسه‭ ‬الثقيلة‭, ‬استطاع‭ ‬شاعرنا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬أن‭ ‬يلينها‭ ‬ويمدها‭ ‬مدّا‭ ‬يطول‭ ‬به‭ ‬السحاب‭, ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬جمال‭ ‬التصوير‭ ‬وعمق‭ ‬التفكير‭ ‬وجزالة‭ ‬التعبير‭. ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬وهو‭ ‬رهين‭ ‬محبس‭ ‬داره‭ ‬أن‭ ‬ينظم‭ ‬قصائد‭ ‬ذاعت‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬دار‭ ‬الإسلام‭, ‬فعرفه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬الذي‭ ‬نَقد‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الأخطاء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬آنذاك‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المعري‭ ‬متشائماً‭, ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مثالي‭ ‬النزعة‭, ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬شعره‭, ‬وأصبح‭ ‬سمة‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬قصائده‭, ‬قال‭:‬

عللاني‭ ‬فإنّ‭ ‬بِيض‭ ‬الأماني

فَنِيَت‭ ‬والظلام‭ ‬ليس‭ ‬بفاني

كم‭ ‬أردنا‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان‭ ‬بمدحٍ

فشُغِلْنا‭ ‬بذم‭ ‬هذا‭ ‬الزمانِ

لقد‭ ‬أضنى‭ ‬السواد‭ ‬أبا‭ ‬العلاء‭ ‬حتى‭ ‬عاش‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬النور‭ ‬والأمل‭, ‬ينتظر‭ ‬الموت‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭, ‬ليرى‭ ‬الموت‭ ‬له‭ ‬راحة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شر‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياته‭,‬‭ ‬فيقول‭:‬

غيْرُ‭ ‬مُجْدٍ‭ ‬في‭ ‬مِلَّتي‭ ‬واعتقادي

نَوْحُ‭ ‬باكٍ‭ ‬ولا‭ ‬تَرَنّمُ‭ ‬شادِ

خفّف‭ ‬الوطءَ‭ ‬ما‭ ‬أظنّ‭ ‬أديم‭ ‬ال

أرضِ‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأجسادِ

سِر‭ ‬إن‭ ‬اسْطَعتَ‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬رويداً

لا‭ ‬اختيالا‭ ‬على‭ ‬رفات‭ ‬العبادِ

رُبَ‭ ‬لحْدٍ‭ ‬قد‭ ‬صار‭ ‬لحداً‭ ‬مراراً

ضاحكٍ‭ ‬من‭ ‬تزاحم‭ ‬الأضدادِ

تعبٌ‭ ‬كُلّها‭ ‬الحياة‭ ‬فما‭ ‬أع

جَبُ‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬راغبٍ‭ ‬في‭ ‬ازديادِ

 

دفاعه‭ ‬عن‭ ‬المتنبي

تأثر‭ ‬المعري‭ ‬بشخصية‭ ‬المتنبي‭ ‬وشعره‭, ‬واتخذه‭ ‬مثالاً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الحكمة‭, ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬زاد‭ ‬بالتكلف‭ ‬في‭ ‬نحت‭ ‬الكلمات‭ ‬والرصف‭ ‬اللغوي‭, ‬ليكون‭ ‬نظم‭ ‬قصائده‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المُعجز‭. ‬ومن‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قصائده‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬قوافيها‭ ‬بخمسة‭ ‬حروف‭ (... ‬اكينا‭):‬

ياقوتُ‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬ياقوتٌ‭ ‬ولا‭ ‬ذهبٌ

فكيف‭ ‬تعجز‭ ‬أقواما‭ ‬مساكينا

وأحسب‭ ‬الناس‭ ‬لو‭ ‬أعطوا‭ ‬زكاتهمُ

لما‭ ‬رأيت‭ ‬بني‭ ‬الإعدام‭ ‬شاكينا

فإن‭ ‬تعش‭ ‬تُبْصر‭ ‬الباكين‭ ‬قد‭ ‬ضحكوا

والضاحك

وبستة‭ ‬حروف‭ ‬نظم‭ ‬‭(... ‬املينا‭)‬‭:‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬شئتم‭ ‬دعة‭ ‬وخفضا

فعيشوا‭ ‬في‭ ‬البرية‭ ‬خاملينا

ولا‭ ‬يُعقد‭ ‬لكم‭ ‬أملٌ‭ ‬بخلقٍ

وبيتوا‭ ‬للمهيمن‭ ‬آملينا

ورفقاً‭ ‬بالأصاغر‭ ‬كي‭ ‬يقولوا

 

هل‭ ‬حاول‭ ‬أبوالعلاء‭ ‬المعري‭ ‬أن‭ ‬يتحدى‭ ‬شعراء‭ ‬عصره‭, ‬وأن‭ ‬يُصَنَّف‭ ‬في‭ ‬مقدّمهم‭? ‬وبخاصة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬معاصريه‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬مشهوداً‭ ‬لهم‭ ‬بإمامة‭ ‬الشعر‭ ‬والبلاغة‭ ‬والشرف‭, ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ ‬والشريف‭ ‬المرتضى‭, ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬المعري‭ ‬إلى‭ ‬مجلسه‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وطُرِدَ‭ ‬منه‭, ‬بسبب‭ ‬أنّ‭ ‬الشريف‭ ‬المرتضى‭ ‬انتقد‭ ‬وعاب‭ ‬المتنبي‭, ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬انتفض‭ ‬وقال‭: ‬يكفي‭ ‬المتنبي‭ ‬فخراً‭ ‬أنه‭ ‬قال‭: ‬‮«‬لكِ‭ ‬يا‭ ‬منازل‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬منَازِلُ‭ ...‬‮»‬‭. ‬حينها‭ ‬غضب‭ ‬الشريف‭ ‬وأمر‭ ‬بأن‭ ‬يُخرجوا‭ ‬المعري‭ ‬خارج‭ ‬المجلس‭. ‬أثار‭ ‬ذلك‭ ‬التصرف‭ ‬استغراب‭ ‬جلساء‭ ‬الشريف‭, ‬فتساءلوا‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬غضبته‭ ‬من‭ ‬المعري‭, ‬فأجابهم‭ ‬بأنّ‭ ‬المعري‭ ‬إنما‭ ‬جاء‭ ‬بهذا‭ ‬الشطر‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬عمداً‭ ‬ليسخر‭ ‬منه‭, ‬ففيها‭ ‬قال‭ ‬المتنبي‭: ‬

وإذا‭ ‬أتتك‭ ‬مذمتي‭ ‬من‭ ‬ناقصٍ

فهي‭ ‬الشهادة‭ ‬لي‭ ‬بأني‭ ‬كاملُ

 

هويته‭ ‬الفكرية

جمع‭ ‬المعري‭ ‬في‭ ‬عبقريته‭ ‬آراء‭ ‬متناقضة‭, ‬وحار‭ ‬بتحديد‭ ‬مذهبه‭ ‬الفكري‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬المتقدمين‭ ‬والمتأخرين‭. ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قام‭ ‬بعضهم‭ ‬بتكفيره‭, ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬رماه‭ ‬بالزندقة‭ ‬والإلحاد‭ ‬أو‭ ‬اعتناق‭ ‬ديانة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬الإسلام‭, ‬كالبرهمية‭ ‬الهندية‭, ‬أو‭ ‬المزدكية‭ ‬الفارسية‭, ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬بصحة‭ ‬إيمانه‭, ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬وقف‭ ‬متحيراً‭ ‬فأمسك‭ ‬عن‭ ‬مدحه‭ ‬أو‭ ‬ذمه‭. ‬وعندما‭ ‬نتصفح‭ ‬قصائد‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬ورسائله‭ ‬في‭ ‬كُتُبهِ‭, ‬نجد‭ ‬أنّه‭ ‬قد‭ ‬ناصر‭ ‬مدرسة‭ ‬العقْل‭ ‬على‭ ‬مدرسة‭ ‬النقل‭, ‬ففي‭ ‬نقده‭ ‬لمدرسة‭ ‬النقل‭ (‬أصحاب‭ ‬الحديث‭) ‬يقول‭:‬

لقد‭ ‬أتوا‭ ‬بحديث‭ ‬لا‭ ‬يُثبِّتُهُ

عقلٌ‭ ‬فقلنا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬الناس‭ ‬تحكونهْ‭?‬

فأخبَروا‭ ‬بأسانيد‭ ‬له‭ ‬كُذُبٍ

لم‭ ‬تَخْلُ‭ ‬من‭ ‬ذِكْرِ‭ ‬شيخٍ‭ ‬لا‭ ‬يزكونه

إلا‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يوافق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يطرحه‭ ‬علماء‭ ‬عصره‭ ‬من‭ ‬المعتزلة‭, ‬فانتقد‭ ‬كتبهم‭ ‬المتداولة‭ ‬آنذاك‭ ‬بقوله‭:‬

يُس

وعبدالعزيز‭ ‬وعبدالصمدْ

وما‭ ‬بَلَغوا‭ ‬أنْ‭ ‬يكونوا‭ ‬له

عبِيداً‭ ‬وذلك‭ ‬أقصى‭ ‬الأمدْ

ولكنه‭ ‬خالق‭ ‬العالمين

ذوائب‭ ‬أجزائهم‭ ‬والجمَدْ

تَعَمَّدْهُ‭ ‬يُغْنِك‭ ‬بالهَدْي‭ ‬أنْ

تُدَرِّسَ‭ ‬‮«‬مُغنيهم‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬العُمَدْ‮»‬

و«المُغني‮»‬‭ ‬و«العُمَد‮»‬‭ ‬كتابان‭ ‬لشيخ‭ ‬المعتزلة‭ ‬القاضي‭ ‬عبدالجبار‭, ‬كانا‭ ‬منهجاً‭ ‬لطالبي‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الاعتزال‭.‬

 

الدليل‭ ‬إذا‭ ‬طرقه‭ ‬الاحتمال‭ ‬

سقط‭ ‬به‭ ‬الاستدلال

ومن‭ ‬غريب‭ ‬ما‭ ‬قرأت‭, ‬لبعض‭ ‬المؤلفين‭ ‬الإسماعيليين‭, ‬أن‭ ‬تُنسَب‭ ‬عقيدة‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬إلى‭ ‬الإسماعيلية‭, ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬مصطفى‭ ‬غالب‭ ‬الذي‭ ‬أفرد‭ ‬لأبي‭ ‬العلاء‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أعلام‭ ‬الإسماعيلية‮»‬‭, ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬المتنبي‭! ‬ونحن‭ ‬نقول‭ ‬إنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬المذهب‭ ‬الإسماعيلي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭, ‬الذي‭ ‬عاصر‭ ‬الحاكمَ‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬الفاطمي‭, ‬ودارت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬كبير‭ ‬دعاة‭ ‬الدولة‭ ‬رسائل‭ ‬سجلها‭ ‬التاريخ‭ ‬كوثائق‭ ‬مكتوبة‭, ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مؤمنا‭ ‬بالطرح‭ ‬الإسماعيلي‭ ‬أصلاً‭, ‬ذلك‭ ‬الطرح‭ ‬الذي‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬الأفلاطونية‭ ‬المحدثة‭ ‬أساسا‭ ‬للدعوة‭ ‬والإيمان‭. ‬ودليلنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قول‭ ‬المعري‭:‬

يرتجي‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬إمامٌ

ناطقٌ‭ ‬في‭ ‬الكتيبة‭ ‬الخرساءِ

كذب‭ ‬الظنّ‭ ‬لا‭ ‬إمام‭ ‬سوى‭ ‬العق

ل‭ ‬مشيرا‭ ‬في‭ ‬صُبحه‭ ‬والمساءِ

إنما‭ ‬هذه‭ ‬المذاهب‭ ‬أسبا

بٌ‭ ‬لجذب‭ ‬الدنيا‭ ‬إلى‭ ‬الرؤساءِ

كالذي‭ ‬قام‭ ‬يجمع‭ ‬الزنج‭ ‬

 

هنا‭ ‬ينقد‭ ‬المعري‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬الناطق‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬الناطق‭ ‬بالشريعة‭ ‬الجديدة‭, ‬أي‭ ‬صاحب‭ ‬الرسالة‭ ‬الإلهية‭ ‬والناطق‭ ‬بها‭, ‬كما‭ ‬ينتقد‭ ‬‮«‬القرامطة‮»‬‭ ‬وهم‭ ‬أتباع‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬الأولى‭, ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬الدعاة‭ ‬حمدان‭ ‬وعبدان‭ ‬ثم‭ ‬زكرويه‭ ‬في‭ ‬العراق‭, ‬وأبوسعيد‭ ‬الجنابي‭ ‬وأولاده‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُسمى‭ ‬بالبحرين‭, ‬واتخذوا‭ ‬من‭ ‬‮«‬هجر‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأحساءِ‭ ‬عاصمة‭ ‬لدولتهم‭. ‬وزاد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬تَهَكّم‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬أفعالهم‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬الغفران‭. ‬وحايث‭ ‬المعري‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى‭ ‬لدعوة‭ ‬الموحدين‭ ‬الدروز‭,  ‬لكنه‭ ‬انتقد‭ ‬‮«‬التقمص‮»‬‭, ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬عقيدة‭ ‬التناسخ‭ ‬التي‭ ‬يرفض‭ ‬الدروز‭ ‬تسميتها‭ ‬بذلك‭, ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ركائزها‭ ‬العقيدية‭. ‬يقول‭ ‬المعري‭:‬

يقولون‭ ‬إنّ‭ ‬الجسم‭ ‬ينقل‭ ‬روحه

إلى‭ ‬غيره‭ ‬حتى‭ ‬يهذبه‭ ‬النَّقْل

فلا‭ ‬تَقْبَلَنَّ‭ ‬ما‭ ‬يُخبرونك‭ ‬ضلّةً

إذا‭ ‬لم‭ ‬يؤيّد‭ ‬ما‭ ‬أتوك‭ ‬به‭ ‬العَقْل‭ ‬

ونختم‭ ‬حديثنا‭ ‬بما‭ ‬ذكره‭ ‬ناصر‭ ‬خسرو‭ ‬في‭ ‬‮«‬سفر‭ ‬نامه‮»‬‭ ‬عن‭ ‬المعري‭: ‬‮«‬وكان‭ ‬بهذه‭ ‬المدينة‭ ‬رجل‭ ‬أعمى‭ ‬اسمه‭ ‬أبوالعلاء‭ ‬المعري‭. ‬وهو‭ ‬حاكمها‭. ‬وكان‭ ‬واسع‭ ‬الثراء‭ ‬عنده‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العبيد‭, ‬وكأنّ‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭ ‬كله‭ ‬خدم‭ ‬له‭.‬‭ ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فقد‭ ‬تزهد‭, ‬فلبس‭ ‬الكليم‭ ‬‭*‬‭, ‬واعتكف‭ ‬في‭ ‬البيت‭, ‬وكان‭ ‬قوته‭ ‬نصف‭ ‬مَنٍّ‭ ‬من‭ ‬خبز‭ ‬الشعير‭, ‬لا‭ ‬يأكل‭ ‬غيره‭. ‬وقد‭ ‬سمعت‭ ‬أنّ‭ ‬باب‭ ‬سرايه‭ ‬مفتوح‭ ‬دائماً‭, ‬وأنّ‭ ‬نوابه‭ ‬وملازميه‭ ‬يُدَبّرون‭ ‬أمر‭ ‬المدينة‭, ‬ولا‭ ‬يَرجعون‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الهامة‭, ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬نعمته‭ ‬أحداً‭, ‬يصوم‭ ‬الدهر‭ ‬ويقوم‭ ‬الليل‭ ‬ولا‭ ‬يشغل‭ ‬نفسه‭ ‬مطلقاً‭ ‬بأمر‭ ‬دنيوي‭... ‬ويجلس‭ ‬حوله‭, ‬دائماً‭, ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬رجل‭, ‬يحضرون‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭, ‬يقرأون‭ ‬عليه‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭... ‬سأله‭ ‬رجل‭: ‬لِمَ‭ ‬تعطي‭ ‬الناس‭ ‬ما‭ ‬أفاء‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬وافر‭ ‬النِعَم‭ ‬ولا‭ ‬تقوت‭ ‬نفسك‭? ‬فأجاب‭: ‬إني‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يقيم‭ ‬أودي‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬حياً‭ ‬وأنا‭ ‬هناك‮»‬‭.‬

كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬رجب‭ ‬سنة‭ ‬438ه1048م‭ .‬