قيم ثابتة في زمن متغير
عام جديد لعالم متغير الملامح، كثيرة أحداثه، سريعة الإيقاع، وبلمح البصر تجول في الأصقاع أخباره... عالم مليء بالآلام والحروب والفتن، بعد ما تحققت فيه الآمال والأحلام، ورأينا فيه من تقدم العلوم ما لم نظن يوماً أننا سوف نراه، فتقاربت شعوب الأرض أكثر، وكأنّ العالم بدأ يصغر، وعشنا في كنف النِّعم حياة أورثت فينا يقينا بأنّ كلّ شيء تم... ولكن...
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
أصبحت حلاوة دنيانا مسمومة بأمراض وأوبئة لم يكن الإنسان يعرفها، وتلَوث الماء والهواء حتى كاد يُهلك الزرع والضرع. في الحين نفسه نرى شعوباً من هذا العالم تعاني الفقر والمجاعة، والقهر والجهالة، والحرب والشتات، وتواجه الموت في كل لحظة... بينما يعيش آخرون في حيرة الاختيار بين ألوان الملبس والمأكل والمسكن! إنها متناقضات عاشها الإنسان ولم يزل، بين نور العلم وعتمة الجهل، العدل والظلم، الخير والشر، السلام والحرب، النجاح والفشل، البناء والهدم، الصعود والانحدار، الحياة والموت. لا بدّ لنا أن نعي أنّ «الضدَّ» واقع قديم الوجود، وما من موجودٍ إلا له ضدّ، إلا الله جلَّ جلاله.
عام جديد، يأتي بعد اشتعال الثورات في تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن، وبعد معاناة العراق داء الفتنة والإرهاب... كانت كلها جمهوريات عربية خضعت لأنظمة سياسية، اتخذت من صوت شعبها رمزاً ومن الديمقراطية شعاراً، وأقل ما يقال عنها إنها حادت عن الرمز والشعار، فذاقت الشعوب من صبرها على الأسى الأمرَّيْن: الجوع وتفشي الشر والفساد. ولكن الشعوب بجدّها حاولت أن تغيّر طريق الظلم والباطل إلى طريق العدل والحقّ، فبعض تلك الدول الشقيقة تعافى ليسير في طريق البناء، وبعضها انتكس وهو في دور النقاهة ودرب الشفاء، وبعضها لايزال في معاناته بين الألم والأمل والعناء، أمل الخروج من كهف الظلام إلى فيض نور الحرية... وللحرية ثمن. فماذا جرى؟
صوتٌ من الكهف
سأقصّ عليكم قصة أوردها أفلاطون في إحدى محاوراته، التي كتبها قبل 2500 عام، يحكي فيها أنّ حكيماً كان يجول البلاد، فاستوقفه صوت من أحد الكهوف، فدخله وسار في ممر أدى به إلى مكان رأى فيه قوماً يعيشون أسوأ عيش، لا علم لهم ولا عمل، يعيشون في الجهل والظلام، كالأنعام أو أضل سبيلاً، يتنفسون هواء ملوثاً، ويشربون ماء آسناً، ويأكلون أخبث الطعام. فجلس الحكيم يحاور كبراءهم وساداتهم، وينصحهم بأن يتركوا هذا الكهف ويغادروه إلى مكان أفضل جواً وأكثر خيراً، مكان يجدون فيه الجمال: سماء صافية زرقاء وشمس ساطعة وهواء نقي، وأشجار خُضر تحمل ألواناً من الفاكهة الطيبة، وجداول وأنهار يجري الماء فيها ليروي الناس والطير والأنعام... إنّه الجمال الصريح... سمعاً وبصراً وإحساساً. وبعد الإتيان بالأدلة والاحتجاج بواقع الحقيقة، اقتنع الملأ ورضوا بالمضي في طريق الحرية من الظلام إلى النور، ومن أجل الفوز بتاج الجمال، كان الصبح قد حل، السماء صافية والشمس ساطعة، والهواء يحمل نسائم الزهور، والماء يجري في غدائره يعزف ألحان الهدير. وترى القوم قد هالهم ما رأوا من نعيم، فرفعوا أنظارهم إلى السماء منبهرين بوهج الشمس وشعاعها الساحر. وكيف لا ينظرون؟! وهم من عاش في ظلمات الكهف طوال سنين. ولكن... ويا للأسف! خطفت الشمس الباهرة أحداقهم فأصبحوا بعد ذلك لا يُبصرون. عند ذلك، عمي القوم، فلا هم بالحياة الجديدة مستمتعون، ولا هم على العودة لكهفهم قادرون، فعاشوا عمرهم بعد ذلك في الظلام متخبطين.
من المذنب؟
هنالك، يطرح أفلاطون سؤاله الصعب، الذي اختلفت فيه الرؤى والإجابات: من المُذْنِب؟ أهو ذاك الحكيم الصادق الذي لم يذكر للقوم إلا الحقيقة والواقع؟ أم هم كبار القوم الذين صدقوه وتبعوه؟ هكذا يأتي السؤال ليتعايش مع واقع حال اليوم باحتمال سمو مبادئ الثورة وأهدافها، إلا أنّها لا بدّ أن تتوافق مع وعي الشعوب وإمكاناتهم في تقرير مصيرهم المشترك في الحرية والعيش الكريم، ولا يتوافر ذلك إلا بالأمن والسلام. كما لا يمكن أن يكون بناء طريق الديمقراطية بمعول الديماغوجية (الغوغائية)، فلن يسلم الطريق ولن يأمن سالكه.
ديمقراطية بأيدي النخبة
ولا يمكن أن تبنى الديمقراطية إلا بأيدي النخبة المختارة من الحكماء والمتخصصين في المجالات التنموية المختلفة، فهم من يضع القوانين التي تعنى بتنمية الإنسان والمجتمع والدولة في جميع مؤسساتها الفاعلة. والدولة الحديثة لا ترتقي بمؤسساتها إلا بمشاركة الشعب في السلطة وتداولها عن طريق الرأي والمشورة والعمل. ويأتي ذلك على أكثر من أسلوب، تتمثل في المشاركة في الاستفتاء المباشر، أو اختيار الجمعية العامة التي تمثله في سنّ القوانين وتفعيلها، ومن ثم اختيار المجلس النيابي الذي يمثل الشعب بجميع شرائحه وتوجهاته، والقيام بسن التشريعات ومراقبة تنفيذها.
عام جديد، يأتي بعد مرور مائة عام من وفاة مؤسس دولة الكويت الحديثة، المغفور له الشيخ مبارك الصباح (مبارك الكبير) رحمه الله.
عام جديد، يأتي بعد ثلاثين عاماً من عَقْد مؤتمر القمة الإسلامي الخامس في الكويت، الذي جاء من بين قراراته القرار رقم 5/19-س (ق.أ) بشأن شجب واستنكار ظاهرة الإرهاب الدولي، حيث جاء فيه: إعراب المؤتمرين عن عميق القلق والانزعاج لبروز وتفاقم ظاهرة الإرهاب الدولي بكل صوره وأشكاله في مختلف أنحاء العالم، والتأكيد على بالغ الأسف على ما ذهب ضحية لهذه الظاهرة من أرواح بريئة وخسائر فادحة في الممتلكات... ومدركا ما تسببت به هذه الظاهرة من إساءة بالغة للعلاقات بين الدول وما أفرزته من مشاعر الريبة والمرارة والعداء بين الأفراد والشعوب، ومستنكراً ورافضاً بشدة المزاعم والادعاءات المغرضة والباطلة التي تبثها الدوائر المعادية للإسلام والمسلمين، التي تحاول الربط بين ظاهرة الإرهاب وتفاقمها البغيض والمسلمين.
عام جديد، يأتي بعد حوالي ربع قرن من غزو جحافل الظلم والطغيان الغاشم لدولة الكويت، التي لم تعرف إلا السِلم والسلام، والتي وقفت ضد الإرهاب والعدوان، فناصرتها شعوب العالم جميعا، أشقاء وأصدقاء... وقفوا مع الحقّ فزالت وطأة الظلم وانقشعت غمامة الباطل.
عاصمة الثقافة الإسلامية
عام جديد، يأتي بعد عامين من تسمية دولة الكويت «مركزاً إنسانياً عالمياً» وتسمية صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، «قائداً للإنسانية».
عام جديد، اختيرت فيه الكويت عاصمة للثقافة الإسلامية، بما ضمَّت من صروح أُنشئت بجهود حكومية وأخرى فردية، وذلك لتعزيز دور الإسلام في خدمة المجتمع الإنساني ودور تلك الصروح في رعاية الثقافة والفنون والعلوم والآداب. ويأتي على رأس القائمة دار الآثار الإسلامية والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. كما أسهمت دولة الكويت من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في رفع مستوى الثقافة الإسلامية من خلال إصدار «الموسوعة الفقهية» ومجلة «الوعي الإسلامي» وإصدارات أخرى تهدف إلى نشر الاعتدال والوسطية كمعيار في ساحة مفاهيم المجتمعات الإسلامية. كما تقوم الوزارة نفسها بوضع «موسوعة العالم الإسلامي» للتعريف بالإسلام والمسلمين في جميع أرجاء دول العالم.
عام جديد، تبادر فيه مجلة العربي إلى الإعداد لندوتها السنوية لعام 2016م، (7 - 9 مارس)، تحت شعار «الكويت عاصمة للثقافة الإسلامية» وبعنوان «حضارات متجددة»، لتعيد الذاكرة إلى الإنجاز الحضاري الإنساني، وإسهام الحضارة العربية الإسلامية في دعم مسيرة الإنسان في الإبداع والترقي، وتسجّل للتاريخ أن لا مكان في هذا الزمان للعنف والإرهاب، حيث تتضافر جهود شعوب الأرض جميعاً لنصرة الإنسان أينما كان بالتعايش السلمي والتقدم العلمي.