مستقبل الثقافة في لبنان

مستقبل الثقافة في لبنان

اجتذبت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬حكم‭ ‬أسرة‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬نخباً‭ ‬ثقافية‭ ‬متميزة‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الكفاءة‭ ‬العلمية‭ ‬العالية،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يتقن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬حية،‭ ‬تكثفت‭ ‬هجرتهم‭ ‬منذ‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬حتى‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬الزراعة‭ ‬والصناعة‭ ‬والتجارة،‭ ‬عمل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬والأدب‭ ‬والفنون،‭ ‬وأقاموا‭ ‬صلات‭ ‬وثيقة‭ ‬بأبناء‭ ‬الجاليات‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وكانوا‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬التغريب‭ ‬التي‭ ‬فاخر‭ ‬بها‭ ‬الخديو‭ ‬إسماعيل‭ ‬عندما‭ ‬رفع‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مصر‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬إفريقيا،‭ ‬بل‭ ‬باتت‭ ‬الآن‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬أوربا‮»‬،‭ ‬فاستقطب‭ ‬ذلك‭ ‬الشعار‭ ‬آلاف‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬والأوربيين،‭ ‬وحظي‭ ‬اللبنانيون‭ ‬بحصة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متنوعة،‭ ‬وبنسبة‭ ‬تفوق‭ ‬كثيراً‭ ‬حجمهم‭ ‬العددي‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬الجاليات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وقد‭ ‬أحبّ‭ ‬اللبنانيون‭ ‬مصر‭ ‬واندمج‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭.‬

ليس‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هاجس‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬شكّل‭ ‬قطباً‭ ‬جاذباً‭ ‬لعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فاتجهوا‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬بسبب‭ ‬مناخ‭ ‬الحرية‭ ‬النسبية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬اللبنانيون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬حكم‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬لبلاد‭ ‬الشام،‭ ‬وما‭ ‬تركه‭ ‬من‭ ‬إصلاحات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬المجالين‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والثقافي‭. ‬وكانت‭ ‬قدرة‭ ‬مصر‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬جماعات‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬المشرق‭ ‬والمغرب‭ ‬العربيين،‭ ‬ومن‭ ‬دول‭ ‬أوربية‭ ‬عدة،‭ ‬وبرز‭ ‬مئات‭ ‬المفكرين‭ ‬والكتّاب‭ ‬والصحفيين‭ ‬والفنانين‭ ‬الشوام‭ ‬الذين‭ ‬احتضنتهم‭ ‬مصر‭ ‬واستوعبت‭ ‬طاقاتهم‭ ‬الإبداعية‭. ‬وكان‭ ‬دورهم‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الصحافة‭ ‬والمسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والترجمة‭ ‬والفنون‭... ‬وغيرها‭. ‬ونظراً‭ ‬للتحولات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬أدى‭ ‬اللبنانيون‭ ‬دوراً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬عدة،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬بصورة‭ ‬مستقلة‭ ‬وجمع‭ ‬ثروات‭ ‬طائلة‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬الفرصة‭ ‬مواتية‭ ‬للوافدين‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬امتلكوا‭ ‬المؤهلات‭ ‬والمهارات‭ ‬والإمكانات‭ ‬والكفاءة‭ ‬الشخصية،‭ ‬وأتقنوا‭ ‬لغات‭ ‬حديثة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لبعضهم‭ ‬معرفة‭ ‬جيدة‭ ‬بالغرب‭ ‬وثقافته،‭ ‬وثوراته‭ ‬الصناعية‭ ‬والثقافية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وأدوا‭ ‬دورهم‭ ‬بإتقان،‭ ‬فأفادوا‭ ‬مصر‭ ‬واستفادوا‭ ‬منها‭. ‬وبرز‭ ‬منهم‭ ‬مفكرون‭ ‬كبار،‭ ‬وأدباء،‭ ‬وشعراء،‭ ‬وأطباء،‭ ‬ومحامون،‭ ‬وصحفيون،‭ ‬ومسرحيون،‭ ‬وفنانون،‭ ‬ومناضلون‭ ‬سياسيون‭ ‬دافعوا‭ ‬عن‭ ‬حرية‭ ‬مصر‭ ‬وكرامة‭ ‬شعبها‭. ‬وبرزت‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬أسماء‭ ‬كبيرة‭ ‬تركت‭ ‬بصماتها‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬أمثال‭: ‬شبلي‭ ‬الشمل،‭ ‬وفرح‭ ‬أنطون،‭ ‬وأديب‭ ‬إسحق،‭ ‬وخليل‭ ‬مطران،‭ ‬وجرجي‭ ‬زيدان،‭ ‬ويعقوب‭ ‬صروف،‭ ‬وفرنسيس‭ ‬المراش،‭ ‬ومي‭ ‬زيادة،‭ ‬وجورج‭ ‬أبيض،‭ ‬وآسيا‭ ‬داغر،‭ ‬وعشرات‭ ‬غيرهم،‭ ‬فشكّلوا‭ ‬نخبة‭ ‬متميزة‭ ‬من‭ ‬الروّاد‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬احتضنتهم‭ ‬مصر،‭ ‬وكان‭ ‬منهم‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اللبنانيين‭ ‬خاصة،‭ ‬والشوام‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

 

تفاعل‭ ‬إيجابي

وأدت‭ ‬الجامعات‭ ‬والطباعة‭ ‬والصحافة‭ ‬وحركة‭ ‬الترجمة‭ ‬والتعريب‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬التفاعل‭ ‬الإيجابي‭ ‬بين‭ ‬النخب‭ ‬العربية‭ ‬والثقافات‭ ‬الأوربية،‭ ‬وبدأ‭ ‬الفكر‭ ‬العلماني‭ ‬يطرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬والنقل،‭ ‬والعلم‭ ‬والدين،‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والشورى،‭ ‬والدين‭ ‬والدولة،‭ ‬والأصالة‭ ‬والمعاصرة‭... ‬وغيرها‭. ‬وقد‭ ‬نصح‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬معمَّقة‭ ‬لتراث‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬روح‭ ‬رجال‭ ‬النهضة‭ ‬وما‭ ‬تميَّزوا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جرأة‭ ‬وصدق‭ ‬وتفاؤل‮»‬‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ولادة‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬التربوية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ولادة‭ ‬الدولة‭ ‬اللبنانية‭ ‬عام‭ ‬1920‭ ‬بحدودها‭ ‬الراهنة‭ ‬المعترف‭ ‬بها‭ ‬دولياً،‭ ‬وكانت‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬الأهلي‭ ‬كالعائلة،‭ ‬والطائفة،‭ ‬والعشيرة،‭ ‬والمدارس‭ ‬الطائفية،‭ ‬ومجالس‭ ‬الملة،‭ ‬والعصبيات‭ ‬الطائفية‭ ‬وغيرها،‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬ولادة‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬كالأحزاب‭ ‬غير‭ ‬الطائفية،‭ ‬والنقابات،‭ ‬والاتحادات‭ ‬المهنية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭. ‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬بدأت‭ ‬إشكالية‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬اللبناني‭ ‬بالنظام‭ ‬الطائفي‭ ‬تتبلور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المثقف‭ ‬الحزبي‭ ‬المنضوي‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬طائفي،‭ ‬مقابل‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭ ‬المنضوي‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬علماني‭ ‬غير‭ ‬طائفي،‭ ‬والمثقف‭ ‬الحر‭ ‬أو‭ ‬المستقل‭ ‬الذي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬ديمقراطي‭ ‬وعلماني،‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬مدنية،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الطائفية‭.‬

لذا‭ ‬حرصنا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬نماذج‭ ‬تبرز‭ ‬مواقف‭ ‬بعض‭ ‬كبار‭ ‬المثقفين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬بالنظام‭ ‬السياسي‭ ‬ومستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬فقد‭ ‬أشار‭ ‬الحقوقي‭ ‬والمؤرخ‭ ‬الدكتور‭ ‬أدمون‭ ‬رباط‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬اللبناني‭ ‬كان‭ ‬مجبراً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يولد‭ ‬ويعيش‭ ‬ويموت‭ ‬طائفياً‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬مقولة‭ ‬تعبّر‭ ‬بصدق‭ ‬عن‭ ‬الانتماء‭ ‬الطائفي‭ ‬كممر‭ ‬إلزامي‭ ‬للانتماء‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬الطائفي‭ ‬في‭ ‬لبنان‭. ‬ولدينا‭ ‬تجارب‭ ‬عدة‭ ‬لمثقفين‭ ‬لبنانيين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬النظرية‭ ‬الثقافية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الطائفي،‭ ‬أبرزهم‭: ‬ميشال‭ ‬شيحا،‭ ‬وجواد‭ ‬بوليس،‭ ‬وشارل‭ ‬مالك،‭ ‬وغبريال‭ ‬منسي،‭ ‬وجورج‭ ‬حكيم،‭ ‬وغسان‭ ‬تويني،‭ ‬وكمال‭ ‬الحاج،‭ ‬وكمال‭ ‬جنبلاط،‭ ‬وجورج‭ ‬قرم،‭ ‬وغسان‭ ‬سلام،‭ ‬وكثير‭ ‬غيرهم‭.‬

 

حلول‭ ‬عملية

نشر‭ ‬هؤلاء‭ ‬دراسات‭ ‬جادة‭ ‬تتضمن‭ ‬حلولاً‭ ‬عملية‭ ‬وعقلية‭ ‬لمشكلات‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬العصرية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬ديمقراطية‭ ‬توافقية‭ ‬بخصائص‭ ‬طائفية‭ ‬بنّاءة‭ ‬أو‭ ‬مدنية‭ ‬علمانية،‭ ‬فحملت‭ ‬آراء‭ ‬متناقضة‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الطائفية‭ ‬والوطنية،‭ ‬والوحدة‭ ‬والتنوع‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متعدد،‭ ‬وبناء‭ ‬الأحزاب‭ ‬الطائفية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأحزاب‭ ‬العلمانية،‭ ‬وطرق‭ ‬نقل‭ ‬اللبنانيين‭ ‬من‭ ‬مرتبة‭ ‬الرعايا‭ ‬إلى‭ ‬مواطنين‭ ‬أحرار‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬ذات‭ ‬تجربة‭ ‬ثقافية‭ ‬فريدة،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التعددية‭ ‬الطائفية‭ ‬والتنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬دولة‭ ‬طائفية‭ ‬يحميها‭ ‬جيش‭ ‬وطني‭ ‬غير‭ ‬طائفي‭. ‬ونشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬مواقف‭ ‬بارزة‭ ‬ومنتقاة‭ ‬لبعض‭ ‬المثقفين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬في‭ ‬موقفهم‭ ‬من‭ ‬إشكالية‭ ‬الثقافة‭ ‬والطائفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭.‬

يعتبر‭ ‬ميشال‭ ‬شيحا‭ - ‬مهندس‭ ‬صيغة‭ ‬الطوائف‭ ‬المتعايشة‭ - ‬أن‭ ‬الحضور‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬فينيقيا‭ ‬التي‭ ‬شُكّلت‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬والجبل‭ ‬فتركت‭ ‬بصمات‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان،‭ ‬ومن‭ ‬تداخل‭ ‬البحر‭ ‬والجبل‭ ‬كانت‭ ‬جمهوريتنا‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأنسب‭ ‬أن‭ ‬نظهر‭ ‬البحر‭ ‬والجبل‭ ‬متحدين‭. ‬للبنانيين‭ ‬كافة‭ ‬وطن‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬البحر‭ ‬والجبل‭ ‬معاً‭. ‬لبنان‭ ‬جمهورية‭ ‬بحرية‭ ‬متوسطية،‭ ‬وهو‭ ‬أمة‭ ‬بحرية‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬ونشأته‭ ‬وبحكم‭ ‬الضرورة‭. ‬وما‭ ‬الجبل‭ ‬اللبناني‭ ‬سوى‭ ‬الحصن‭ ‬الذي‭ ‬ينيف‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬ويحميه‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬جبال‭ ‬لبنان‭ ‬يوماً‭ ‬إلا‭ ‬ملاذاً‭ ‬للروح‭. ‬والأقليات‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬تنزله‭ ‬اليوم‭ ‬أناطت،‭ ‬منذ‭ ‬نزلته،‭ ‬شؤون‭ ‬الزمنيات‭ ‬بالروحانيات‭. ‬هذه‭ ‬الأقليات‭ ‬أنِسَتْ‭ ‬في‭ ‬أعالي‭ ‬لبنان‭ ‬ملجأ‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الجور‭ ‬ومعقلاً‭ ‬للحريات‭. ‬لكن‭ ‬الرغيف‭ ‬أعوزها‭ ‬فانطلقت‭ ‬مع‭ ‬الرياح‭ ‬الأربع‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الرغيف‭. ‬في‭ ‬أقاصي‭ ‬المعمور،‭ ‬مازالت‭ ‬للبنان‭ ‬موارد‭ ‬رزقه‭. ‬

 

مجاراة‭ ‬الأسلاف

الحضور‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬منه‭ ‬يحيا‭ ‬اللبنانيون،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬متأصلة‭ ‬طبيعية‭. ‬لولا‭ ‬لبنان‭ ‬لقل‭ ‬تمثيل‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬خلا‭ ‬تمثيلها‭ ‬الدبلوماسي‭. ‬والذي‭ ‬أفضى‭ ‬باللبنانيين‭ ‬إلى‭ ‬مجاراة‭ ‬أسلافهم‭ ‬الفينيقيين‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬هو‭ ‬القحط‭ ‬الذي‭ ‬مني‭ ‬به‭ ‬جبلهم‭. ‬من‭ ‬الحضور‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الاغتراب‭ ‬يستمد‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬المناجم‭ ‬والمواد‭ ‬الأولية‭ ‬وسائل‭ ‬عيش‭ ‬رحبة‭. ‬الحضور‭ ‬اللبناني‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬يحتّم‭ ‬على‭ ‬اللبنانيين‭ ‬المقيمين،‭ ‬كما‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬يطلبون‭ ‬الرزق‭ ‬وراء‭ ‬البحار،‭ ‬معرفة‭ ‬اللغات‭ ‬والعادات‭ ‬ووسائل‭ ‬النقل‭ ‬وشبكات‭ ‬الترانزيت‭ ‬ونوعية‭ ‬الموانئ‭ ‬وتجهيزات‭ ‬الأسواق‭ ‬ونفقات‭ ‬السفر‭ ‬وتكلفته‭. ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬استخلاصها‭ ‬أن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستقبل‭ ‬الغريب‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬يستقبلنا‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬نود‭ ‬أن‭ ‬يستقبلنا‭ ‬به‭. ‬لبنان‭ ‬بلد‭ ‬صغير،‭ ‬وطن‭ ‬صغير،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬شعباً‭ ‬صغيراً‭. ‬ناضل‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬وطن‭ ‬حضاري،‭ ‬وهو‭ ‬وريث‭ ‬الحضارة‭ ‬الكنعانية‭ - ‬الفينيقية‭. ‬بلد‭ ‬تعددي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬عصرية،‭ ‬لكنه‭ ‬ملزم‭ ‬باعتماد‭ ‬التسويات‭ ‬الطائفية‭.‬

وحلّل‭ ‬الفيلسوف‭ ‬شارل‭ ‬مالك‭ ‬بنية‭ ‬الكيان‭ ‬اللبناني‭ ‬وآفاقه‭ ‬المستقبلية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬وتناول‭ ‬مقولة‭ ‬الكيان‭ ‬اللبناني‭ ‬الثابت‭ ‬والدائم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إبراز‭ ‬خصائصه‭ ‬العشر‭. ‬وشدّد‭ ‬على‭ ‬فشل‭ ‬جميع‭ ‬الدعوات‭ ‬التي‭ ‬نادت‭ ‬بإنهاء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الأقليات‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وباقي‭ ‬دول‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬فلبنان‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة،‭ ‬ذات‭ ‬سيادة،‭ ‬يعترف‭ ‬باستقلالها‭ ‬وسيادتها‭ ‬العالم‭ ‬كله‭. ‬كيان‭ ‬حقيقي،‭ ‬قائم،‭ ‬ثابت،‭ ‬مستقل،‭ ‬باق،‭ ‬يريد‭ ‬البقاء‭ ‬لذاته‭ ‬ويعترف‭ ‬له‭ ‬العالم‭ ‬بحق‭ ‬الوجود‭ ‬وحق‭ ‬البقاء‭. ‬ثَمَّ‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬تمييزاً‭ ‬قاطعاً‭ ‬عن‭ ‬غيره،‭ ‬فما‭ ‬الخصائص‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬بحيث‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لبنان‭ ‬عنيت‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬بالذات،‭ ‬وإذا‭ ‬سقطت‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬زال‭ ‬لبنان؟‭ ‬إنها‭ ‬عشر‭ ‬خصائص‭: ‬الجبل‭ ‬الفريد،‭ ‬القرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬الفذة،‭ ‬مركز‭ ‬لبنان‭ ‬السياحي‭ ‬الممتاز،‭ ‬تجارته‭ ‬العالمية‭ ‬العجيبة،‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاغتراب‭ ‬اللبناني‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تعنيه‭ ‬تاريخياً‭ ‬وكيانياً،‭ ‬الحضور‭ ‬المسيحي‭ ‬الإسلامي‭ ‬السمح‭ ‬الرائع،‭ ‬الحرية‭ ‬الكيانية‭ ‬المسؤولة،‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬معنى‭ ‬لبنان‭ ‬الفكري‭ ‬المتواضع‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وفي‭ ‬العالم،‭ ‬إسهام‭ ‬لبنان‭ ‬المتواضع‭ ‬في‭ ‬المعترك‭ ‬الدولي‭. ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الأقليات‭ ‬أمر‭ ‬دهري‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬

 

صمود‭ ‬الأقليات

لم‭ ‬يتمكن‭ ‬أي‭ ‬غازٍ‭ ‬أو‭ ‬فاتح‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬المنطقة‭ ‬أن‭ ‬يتغلب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬ككل،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬بلدانها،‭ ‬فبقيت‭ ‬هذه‭ ‬الأقليات‭ ‬صامدة،‭ ‬معاندة،‭ ‬متشبثة،‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬قيمها‭ ‬وتراثها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كل‭ ‬فاتح‭. ‬غلبت‭ ‬على‭ ‬أمرها‭ ‬لكنها‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تنقرض‭. ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬أقليات‭ ‬باقية‭ ‬ولا‭ ‬تزول‭. ‬فلكل‭ ‬أقلية،‭ ‬أيّا‭ ‬كان‭ ‬صنفها،‭ ‬شأن‭ ‬وأهمية،‭ ‬وميزة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬الأولى،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الوحيدة،‭ ‬هي‭ ‬الدين‭. ‬ومشكلة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬التخلف‭ ‬أو‭ ‬الإنماء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والمجتمعي،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬العدالة‭ ‬المجتمعية،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬التوحيد‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬المشكلة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬الأقليات‭ ‬فيه‭. ‬

هذه‭ ‬معضلة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭ ‬والأساسية،‭ ‬وكل‭ ‬معضلة‭ ‬أخرى،‭ ‬على‭ ‬أهميتها،‭ ‬تذبل‭ ‬أمامها‭. ‬والعالم‭ ‬اليوم‭ ‬يشدد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬يوم‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الأقليات،‭ ‬فالدعوات‭ ‬إلى‭ ‬القومية،‭ ‬أو‭ ‬العلمنة،‭ ‬أو‭ ‬الشيوعية،‭ ‬أو‭ ‬الماركسية،‭ ‬أو‭ ‬الاكتساحية‭ ‬التذويبية‭ ‬الدينية‭... ‬جميعها‭ ‬باطلة،‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬حل‭ ‬ظاهرة‭ ‬التعددية‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬فالديانات‭ ‬السماوية‭ ‬الثلاث،‭ ‬اليهودية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإسلام،‭ ‬باقية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬بعض،‭ ‬إن‭ ‬بالحضور‭ ‬غير‭ ‬المتفاعل‭ ‬أو‭ ‬بالحضور‭ ‬المتفاعل‭ ‬إيجابياً،‭ ‬أو‭ ‬سلبياً‭ ‬أو‭ ‬تناحرياً،‭ ‬فالشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ولبنان‭ ‬سيبقيان‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬تعدديين‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والدين‭.‬

بدوره،‭ ‬شدّد‭ ‬المؤرخ‭ ‬جواد‭ ‬بولس‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬في‭ ‬نشوء‭ ‬وتطور‭ ‬الكيان‭ ‬اللبناني‭. ‬وحلّل‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬طبائع‭ ‬الجغرافيا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتغير،‭ ‬فالتاريخ‭ ‬هو‭ ‬سياسة‭ ‬الماضي،‭ ‬وسياسة‭ ‬الحاضر‭ ‬هي‭ ‬تاريخ‭ ‬المستقبل‭. ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬واقعية‭ ‬غير‭ ‬مبنية‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الاستنتاج‭ ‬العقلي‭ ‬أو‭ ‬المنطقي‭ ‬أو‭ ‬الأوهام،‭ ‬لذا‭ ‬فالتاريخ‭ ‬سيظل‭ ‬الدرس‭ ‬الأكبر‭ ‬للشعوب‭ ‬ولزعمائها‭ ‬السياسيين‭. ‬والتاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يقدم‭ ‬الدروس‭ ‬والعبر‭ ‬هو‭ ‬التاريخ‭ ‬الكامل‭ ‬أو‭ ‬الجامع،‭ ‬وهو‭ ‬علم‭ ‬وفلسفة‭ ‬وعرض‭ ‬أحداث‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬السياسة‭ ‬هي‭ ‬بنت‭ ‬التاريخ،‭ ‬والتاريخ‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬والجغرافيا‭ ‬لا‭ ‬تتغير‭. ‬فجغرافيا‭ ‬لبنان‭ ‬عامل‭ ‬جوهري‭ ‬في‭ ‬تاريخه،‭ ‬والبيئة‭ ‬الجغرافية‭ ‬محرك‭ ‬تاريخي‭ ‬قوي‭. ‬

 

خلفاء‭ ‬جميع‭ ‬الشعوب

إن‭ ‬تحول‭ ‬شعب‭ ‬أو‭ ‬فرد‭ ‬إلى‭ ‬ديانة‭ ‬جديدة‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬طبيعته،‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬تراكماً‭ ‬للمعتقدات،‭ ‬واحدة‭ ‬فوق‭ ‬الأخرى،‭ ‬لبنانيو‭ ‬اليوم‭ ‬هم‭ ‬خلفاء‭ ‬جميع‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬اللبناني‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التاريخ‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬وقد‭ ‬طبعتهم‭ ‬البيئة‭ ‬الجغرافية‭ ‬اللبنانية‭ ‬جميعاً‭ ‬بطابعها‭ ‬المميز،‭ ‬السابقين‭ ‬منهم‭ ‬واللاحقين‭. ‬وطبائع‭ ‬اللبنانيين‭ ‬هي‭ ‬حصيلة‭ ‬تأثير‭ ‬عوامل‭ ‬البيئة‭ ‬الجغرافية‭ ‬اللبنانية‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬شاهق‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭. ‬جبل‭ ‬لبنان،‭ ‬كجميع‭ ‬جبال‭ ‬العالم،‭ ‬ينشِّط‭ ‬عند‭ ‬سكانه‭ ‬روح‭ ‬الاستقلال‭ ‬والحرية‭ ‬الفردية‭. ‬

أما‭ ‬البحر‭ ‬فينشِّط‭ ‬عند‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬عبر‭ ‬شواطئه‭ ‬النزوع‭ ‬إلى‭ ‬الأسفار‭ ‬والمغامرات‭ ‬والاتصال‭ ‬بالبلدان‭ ‬الأخرى‭ ‬لتبادل‭ ‬البضائع‭ ‬معها‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬لبنان‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬أسباب‭ ‬تمسُّكه‭ ‬بالاستقلال‭ ‬والحرية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬وتطلعه‭ ‬الدائم‭ ‬نحو‭ ‬البحر‭ ‬والغرب‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ونحو‭ ‬البر‭ ‬والشرق‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والاختراعات‭ ‬التقنية‭ ‬غيّرت‭ ‬وجه‭ ‬عالم‭ ‬عصرنا،‭ ‬لكن‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أحدث‭ ‬هذه‭ ‬التغيرات‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬في‭ ‬غرائزه‭ ‬الدفينة،‭ ‬فالمعارف‭ ‬قلما‭ ‬تخترق‭ ‬الطبائع،‭ ‬فهي‭ ‬تبقى‭ ‬وكأنها‭ ‬طافية،‭ ‬والعواطف‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬تبقى‭ ‬على‭ ‬حالها‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬أي‭ ‬ثقافة‭ ‬أن‭ ‬تمحو‭ ‬الميول‭ ‬الموروثة‭ ‬عن‭ ‬الأسلاف‭. ‬رجال‭ ‬فكر‭ ‬وعلم‭ ‬ومعرفة‭ ‬بحثوا‭ ‬في‭ ‬مكوّنات‭ ‬لبنان‭ ‬للتعرّف‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬آمنوا‭ ‬بلبنان‭ ‬السيد‭ ‬الحر‭ ‬المستقل‭ ‬كمنارة‭ ‬وهمزة‭ ‬وصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الغرب،‭ ‬وطن‭ ‬الحريات‭ ‬وتلاقي‭ ‬الحضارات‭ ‬والديانات‭.‬

أما‭ ‬الفيلسوف‭ ‬كمال‭ ‬يوسف‭ ‬الحاج‭ ‬فركز‭ ‬على‭ ‬مقولة‭ ‬الطائفية‭ ‬البنّاءة،‭ ‬وإيجابيات‭ ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬وصيغة‭ ‬لبنان‭ ‬الكيان‭ ‬النهائي‭ ‬والوطن‭ ‬التعددي‭. ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬غاية،‭ ‬وهي‭ ‬دائماً‭ ‬لغة‭ ‬قومية‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬القومية‭ ‬إلى‭ ‬قومية‭ ‬اللغة‭. ‬الإنسان‭ ‬كائن‭ ‬قومي‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬كائن‭ ‬إنساني،‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬ثغرة‭ ‬بين‭ ‬القومية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬فمادام‭ ‬لبنان‭ ‬موجوداً،‭ ‬فالقومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬موجودة‭. ‬هناك‭ ‬وحدة‭ ‬طبيعية‭ ‬قوامها‭ ‬الأرض‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وهناك‭ ‬وحدة‭ ‬بشرية‭ ‬قوامها‭ ‬التاريخ‭ ‬واللغة‭. ‬الذي‭ ‬أفسد‭ ‬مفهوم‭ ‬القومية‭ ‬لدى‭ ‬كثيرين‭ ‬هو‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بعنصر‭ ‬من‭ ‬عناصرها‭ ‬كالأرض،‭ ‬أو‭ ‬اللغة،‭ ‬أو‭ ‬الدين،‭ ‬أو‭ ‬الإرادة‭ ‬المشتركة،‭ ‬القومية‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬مجتمعة،‭ ‬الشعور‭ ‬القومي‭ ‬هو‭ ‬قومية‭ ‬بالقوة،‭ ‬والقومية‭ ‬هي‭ ‬شعور‭ ‬قومي‭ ‬بالفعل،‭ ‬وإذا‭ ‬عجز‭ ‬الشعور‭ ‬القومي‭ ‬عن‭ ‬التجسيد‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬سياسي‭ ‬بقي‭ ‬رغبة‭ ‬أو‭ ‬أمنية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ركيزة‭ ‬حقوقية‭ ‬تمظهره‭ ‬وتعلنه‭ ‬للملأ‭. ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬هي‭ ‬الذهاب‭ ‬من‭ ‬الكيان‭ ‬السياسي،‭ ‬أي‭ ‬ربط‭ ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬بالدولة‭ ‬اللبنانية،‭ ‬كياننا‭ ‬السياسي‭ ‬نحن‭ ‬اللبنانيين‭ ‬هو‭ ‬أثمن‭ ‬ما‭ ‬لدينا،‭ ‬هو‭ ‬أرضنا،‭ ‬واقتصادنا،‭ ‬وتاريخنا،‭ ‬هو‭ ‬ماضينا‭ ‬وحاضرنا‭ ‬ومستقبلنا،‭ ‬هو‭ ‬نظرتنا‭ ‬الفلسفية‭ ‬إلى‭ ‬الوجود،‭ ‬وهو‭ ‬المعنى‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬لنا‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬وقيمتنا‭ ‬الحضارية‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬فلسفتنا‭ ‬اللبنانية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تطل‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬تاريخنا‭ ‬اللبناني‭.‬

ورسم‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬‮«‬الطائفية‭ ‬البنّاءة‭ ‬أو‭ ‬فلسفة‭ ‬الميثاق‭ ‬الوطني‮»‬‭ ‬عظمة‭ ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬التي‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬طائفية،‭ ‬فالدولة‭ ‬صيغة‭ ‬حقوقية‭ ‬للوحدة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬قومية‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬ديني‭ ‬للكون‭. ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭ ‬لديه‭ ‬هي‭ ‬زواج‭ ‬حضاري‭ ‬بين‭ ‬النصرانية‭ ‬والإسلامية‭. ‬ولبنان‭ ‬ليس‭ ‬مسيحياً‭ ‬ولا‭ ‬مسلماً،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬التناغم‭ ‬بينهما‭. ‬هنا‭ ‬تقوم‭ ‬عظمة‭ ‬القومية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬الميثاق‭ ‬الوطني‭ ‬الذي‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬الطائفية،‭ ‬لكن‭ ‬الطائفية‭ ‬بمعناها‭ ‬الفلسفي‭ ‬ليست‭ ‬التعصُّب،‭ ‬بل‭ ‬وجود‭ ‬لجوهر‭ ‬الدين،‭ ‬هي‭ ‬مجموع‭ ‬الطقوس‭ ‬والشعائر‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬الإنسان‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬الجوهر‭ ‬الديني،‭ ‬لذا‭ ‬كانت‭ ‬الطائفية‭ ‬واجبة‭ ‬الوجود‭ ‬تماماً‭ ‬كواجب‭ ‬وجود‭ ‬القومية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإنسانية،‭ ‬وعليه‭ ‬فالدين‭ ‬متأصل‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وقوميتنا‭ ‬نتيجة‭ ‬تيارات‭ ‬دينية‭ ‬عدة‭ ‬تلخصها‭ ‬‮«‬النصلامية‮»‬‭. ‬

وحيث‭ ‬الدين‭ ‬هناك‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬لولاها‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬الحاضر،‭ ‬فيوم‭ ‬تزول‭ ‬هي‭ ‬يزول‭ ‬معها،‭ ‬وهو‭ ‬باق‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬باقية‭. ‬لقد‭ ‬تخطى‭ ‬الميثاق‭ ‬الوطني‭ ‬التعادل‭ ‬الإداري‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬إلى‭ ‬تعادل‭ ‬حضاري‭ ‬في‭ ‬المشاهدة‭ ‬الباطنية‭ ‬بين‭ ‬مسلمي‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬ومسيحييه‭. ‬وعنى‭ ‬مباشرة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬المسيحيين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬العربي،‭ ‬وبفضله‭ ‬يتمتعون‭ ‬اليوم‭ ‬بحرية‭ ‬الضمير،‭ ‬لابد‭ - ‬والحالة‭ ‬هذه‭ - ‬من‭ ‬إيجاد‭ ‬صيغة‭ ‬قومية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسيحية،‭ ‬هي‭ ‬القومية‭ ‬اللبنانية‭.‬

ختاماً،‭ ‬يحتاج‭ ‬اللبنانيون‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬المهم‭ ‬الذي‭ ‬نشرته‭ ‬كوكبة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المتنورين‭ ‬اللبنانيين‭ ‬والعرب‭ ‬الذين‭ ‬أدوا‭ ‬دوراً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬اللبنانية‭ ‬والعربية‭. ‬وذلك‭ ‬يطرح‭ ‬تساؤلات‭ ‬عدة‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬اليوم،‭ ‬وأبرز‭ ‬تجلياتها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬نشر‭ ‬مفاهيم‭ ‬نظرية‭ ‬عقلانية‭ ‬عن‭ ‬الانتماء‭ ‬اللبناني،‭ ‬وحماية‭ ‬الوطن،‭ ‬والاستقلال،‭ ‬والسيادة،‭ ‬وسبل‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحرية،‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬والعلمانية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ .