مسقط.. عاصمة للثقافة العربية أمس واليوم وغداً

مسقط.. عاصمة للثقافة العربية أمس واليوم وغداً

في العدد (570) مايو 2006 حطت «العربي» رحالها كي تشارك أهل مسقط أفراحهم باختيارها عاصمة للثقافة العربية، ومازالت الاحتفالات متواصلة بهذه المناسبة.

أُتيح للقاهرة وتونس والشارقة وبيروت والرياض والكويت وعمان والرباط وصنعاء والخرطوم أن يُحتفى بها عواصم للثقافة العربية، وجاء الدور هذا العام على مسقط عاصمة أخرى على هذا الصعيد، لُيكلل بذلك تاريخ عريق وتراث حافل بالمآثر جدير بالاحتفاء.

فبالإضافة إلى ما أنجبته عُمان من علماء ورحالة وشعراء، وما عرفته ضمن محيطها من امتداد وتواصل، ذهبت في علاقاتها التجارية والثقافية بعيداً، فتعاملت مع السومريين والبابليين والآشوريين، وكانت لها صلاتها مع بلاد فارس والهند والصين، فضلاً عن سواحل إفريقيا وجزر المحيط، ولم تغب عنها لحظة مهمة الاضطلاع بنشر الثقافة العربية والإسلامية في تلك البقاع.

لقد لعب التاريخ العماني أثره في الأرض، كما كان للأراضي العمانية أثرها في التاريخ. وما يميز عُمان في صيرورتها الماثلة عنايتها بالمأثور والأثر، سواء على صعيد المخطوطات أو الشواهد المعمارية، كالحصون والأبراج والقلاع والبيوت القديمة والمقتنيات، ناهيك عن حضورها الثقافي المتمثل بتفاعلها مع العديد من المؤسسات العربية والدولية.

وقد أدركت اليونسكو ما تنطوي عليه عُمان من خزين تراثي، حين بادرت بالإسهام معها في إقامة بعض المشاريع داخل السلطنة، كمشروع صيانة الآثار وإدراج بعض الشواهد ضمن قائمة التراث الإنساني مستعينة بما تم استكشافه من كنوز أثرية وثقافية، وهو ما شمل حصن جبرين وقلعة نزوى، وقلعة نخل المحمولة على الصخور، وقلعة بهلا ومنطقة بات وطريق تجارة اللبان. وقد كان تقديراً من المؤسسة الدولية المذكورة للثقافة العمانية أن تعين المندوب العماني الدائم رئيساً للمؤتمر العام للدورة 33.

إن فكرة العواصم الثقافية التي بدأت بطرحها منظمة الأمم المتحدة في العام 1982م وتبعتها، في ذلك جامعة الدول العربية - وربما ستتبعها المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم - قد ترمي بالدرجة الأولى إلى إظهار ما لدى كل دولة أو عاصمة من تراث حضاري ورصيد ثقافي، ليشكل ذلك في المحصلة النهائية استكشافا لحالات التميز والفعالية والتواصل، وتدعيماً لظاهرة القواسم الإنسانية المشتركة، فضلا عما تعبر عنه الثقافة من فعل إنمائي ونزعة تكاملية، كما تحمل فكرة العواصم في إطارها العربي مغزى آخر يتمثل في ردم الهوة وتقريب المسافات والأخذ بمبدأ التعريف وإشاعة التعارف ومقاومة حالات التشظي التي كثيراً ما تكرسها الخلافات السياسية بين البلدان.

جدل المركز والأطراف

لذا فإن من المعطيات المنتظرة لفكرة العاصمة الثقافية هو أن يخف ذلك الجدل الدائر حول المركز والأطراف، وفيما بين المشرق والمغرب، والذي يعود في بعض أسبابه إلى ذلك التوتر الذي شهده مسرح العلاقات التاريخية. فمنذ أن أعلنت بعض الأطراف استقلالها عن دولةالخلافة - إن كانت بدمشق أو ببغداد - حتى بدأ يظهر ذلك النوع من الإقليمية، ولعل تحيز بعض المؤرخين والكتاب المنضوين تحت لواء السلطة، قد دفعهم إلى إهمال تواريخ الأقاليم وثقافاتها، وهذا ما وقع لعُمان إلى حد ما والتي اتُهمت على الرغم من ذلك بالتقوقع.

إن الشعوب التي تسكن روحها فعالية التطلع وتشتعل في داخلها جمرة الإبداع لا يعوقها الاحتجاب ولو طال لأحقاب، لذا ما فتئت مسقط لحظة نهوضها الجديد تتحرك ثقافياً بمختلف الاتجاهات، سيما باتجاه البلاد العربية، عاملة في غضون ذلك على التعريف بالفكر والفقه والأدب والتاريخ في عمان قديمه وحديثه، سعياً منها لكسر الطوق وفتح جميع النوافذ. وقد استثمرت في هذا السياق علاقاتها القديمة بالمغرب العربي وأخذت تمد جسوراً معه لتسهم ضمناً بنفي الثنائية بين المشرق والمغرب على هذا الصعيد.

ولقد أدرك كاتب هذه السطور منذ سنوات أهمية هذا المنحى، حين عمد في كتابه «مسارات الفكر العربي» إلى تكريس ذلك التواصل عبر متابعته لما أنجز من دراسات عربية - ولو متواضعة - عن الأدب العماني، كما عكف من خلال أطروحتيه للماجستير والدكتوراه على دراسة الأبعاد والأصداء العربية في الشعر العماني الحديث.

وقد وعت عمان أهمية التعليم في توثيق عرى العلاقات الثقافية في الإطار العربي حين عمد المنهج العماني إلى تجسيد ذلك عبر برامجه المختلفة، ولعل السياسة المتبعة في تعيين التدريسيين والأكاديميين في المعاهد والجامعات، وفقاً لمبدأ التنويع في الجنسيات العربية تصب في هذا المجرى، وتعمل على الاستفادة من حوارات العلم والمعرفة بين المشرق والمغرب.

ولا شك أن انتقال عُمان اليوم بفعالياتها الثقافية إلى عواصم العالم العربي ليس إلا تعبيرا حياً عن هذا التوجه الحميد.

سوق صحار الأدبي

إن الاحتفاء بمسقط عاصمة أخرى للثقافة العربية يأتي - في حقيقة الأمر - تتويجا لما سبق أن بذلته هذه العاصمة من جهود، بدأتها بالأنشطة الكبيرة التي قامت بها وزارة التراث القومي ووزارة الأوقاف، عبر العديد من الأعمال المختلفة كعقد المؤتمرات وطباعة الكتب وتحقيق المخطوطات وإصدار الدوريات والمجلات، ونشر الدراسات التاريخية واللغوية والدينية والفلكية والطبية والرياضية وفي علم البحار وغيرها.

كذلك توثيق الحرف العمانية التقليدية في مجلدين، يؤرخان بالوثائق والصور ووفقاً لأحدث تكنولوجيا المعلومات ذلك التاريخ الحافل بالإبداع.

لقد انتقلت عبر هذه الحركة موسيقى عمان من مجالها الفلكلوري إلى المجال السيمفوني، منذ تأسيس الأوركسترا السيمفونية العمانية في العام 1985م، والتي قدمت عروضها في الداخل والخارج، فضلاً عما قدمه المسرح بفرقه المتعددة من عروض وفعاليات.

يضاف إلى ذلك ما اضطلعت به كل من وزارة التعليم العالي وجامعة السلطان قابوس من أدوار مهمة على هذه الصعد، كذلك الأنشطة التي نهضت بها مؤسسات الصحافة والإعلام والتي باتت تخطو خطوات متقدمة، وهي تقدم للقارئ العديد من الملاحق الثقافية والأدبية المتميزة، التي شهدت إثارة العديد من القضايا والإشكاليات.

ويمكننا في هذا السياق أن نستحضر «سوق صحار الأدبي» الذي يُعقد سنوياً في مدينة صحار، والذي تستعاد من خلاله السوق التاريخية التجارية والثقافية التي شهدتها المدينة في الماضي، وهي تناظر سوق عكاظ في الجزيرة، وسوق المربد في البصرة. وقد بات ما يقدم فيها اليوم متجددًا بتجدد ألوان الأدب وأشكال الفعاليات، التي صارت تجتذب إليها العديد من الباحثين والأدباء العمانيين والعرب.

من شواغل المثقفين العمانيين توفير الصلة بين ثقافتهم ومجمل الثقافة العربية، وقد احتل هذا الشاغل اهتمام المسئولين، وفي مقدمتهم سلطان البلادالذي رعى وتابع على سبيل المثال - كتابة أكبر موسوعة لأسماء العرب، كان قد أُنيط الإشراف عليها بمستشار جلالته معالي محمد بن الزبير، وقد حشد للعمل بها نخبة من الخبراء والمستشارين وبتخصصات مختلفة حتى أنجزت بعد جهد دام سنوات كان قد امتد على مساحة واسعة من الوطن العربي.

لقد جاء «معجم أسماء العرب» ضمن هذه الموسوعة بمجلدين، وقد قدر له أن يكون على صورة غير مسبوقة في أي من المعاجم العربية والأجنبية، وذلك بفضل منهجه المتكامل والشامل، فهو معجم إحصائي لغوي اجتماعي موسوعي. أما الجزء الثاني فهو «سجل أسماء العرب»، وقد احتوى على جميع الأسماء التي تم جمعها ميدانياً، الأمر الذي جعل منه أهم سجل معروف في العربية وفي غيرها من اللغات، ضاماً عشرات الألوف من الأسماء العربية موزعة على أربعة مجلدات. كما احتوت الموسوعة على «دليل أعلام عمان» الذي حُصرت فيه أسماء العمانيين ممن قاموا بدور مهم في تاريخ البلاد على مر العصور، وفي شتى المجالات.

ولقد استند هذا الجهد إلى مجموعة من الوثائق والأبحاث، التي ارتكز عليها العمل، فكان بمثابة الدليل والأساس المنهجي بمسارات العمل ومراحله، وقد خُصص لهذا المنهج مجلد هو الثامن في تسلسل مجلدات الموسوعة حاملاً عنوان «منهج البحث في أسماء العرب».

في النهاية شكلت هذه الموسوعة إنجازا ثقافياً وتاريخياً سد فراغاً كانت تعاني منه المكتبة العربية.

ظاهرة السفير المثقف

ومن طرائف المشهد الثقافي العماني بروز عدد من السفراء العمانيين المولعين بالثقافة، والمعنيين بها، فقد أعطى عدد من ممثلي السلطنة في عدد من البلدان اهتماماً استثنائيا للثقافة والمثقفين، وخير مثال على ذلك نجده في شخصية السيد عبدالله بن حمد البو سعيدي - سفير السلطنة لدى جمهورية مصر العربية - الذي أقام صالوناً ثقافياً تحت اسم «صالون الخليل بن أحمد الفراهيدي» في القاهرة، ظل يغشاه ويشارك فيه ولسنوات عديدة جمع من العلماء والأدباء المصريين و العرب. ومثله فعل سفير السلطنة في الأردن - الشيخ حمد بن هلال المعمري - الذي أقام صالونه تحت اسم (العوتبي الصحاري) تيمناً باسم العلامة والنسابة العماني المعروف، وكان يحضره العديد من الكتاب والباحثين.

ولم يتوقف الملحقون الثقافيون العمانيون في العديد من البلدان عند الوظيفة التقليدية، بل تجاوزوها إلى الهم الثقافي والتعاطي بالشئون الثقافية، ولا غرو في ذلك فالثقافة لدى العماني تمثل إحساساً وهاجساً تجده عند أبسط مواطن يسكن البوادي أو أعالي الجبال، مثلما تجده عند السلطان.

إن الثقافة في عمان هي أحد المبادئ التي أكد عليها النظام الأساسي للدولة، الصادر في العام 1996م وقد أضحت تمثل شاغلاً من شواغل السياسة العامة ونظام العلاقات.

ومن هنا يأتي اهتمام عمان بالحوار مع الآخر. وإذا كانت هذه قضية عمانية معروفة في التاريخ فقد تألقت في عهد السيد سعيد بن سلطان (1804-1856م)، حين أصبحت مسقط واحة للتواصل بين الأمم ومنتدى لمختلف الثقافات. ولعل الاهتمام الحالي بأطروحة الحوار يعبر عن الوعي بضرورة إرسال الضوء ليتجلى من خلاله في عيون الآخرين، ذلك الجانب المشرق من الثقافة العربية الإسلامية، التي تتعرض اليوم إلى التشويه.

لهذا عمدت عمان على الصعيد الثقافي الدولي إلى مد الجسور مع العديد من المنظمات والشعوب والفعاليات، وسجلت اليونسكو لفتتها الثقافية الطيبة بتخصيص اليخت «فلك السلامة» لتغطية حركة وندوات الجزء البحري من رحلة طريق الحرير، وذلك في العام 1990م، والذي كان يترجم لقاءات الشعوب وتواصل الموانئ، تجارة وثقافة ولغات.

وبمناسبة مرور ستين عاماً على إنشاء اليونسكو، كان أول مسئول عربي يحضر المقر ويلقي كلمة فيه هو السلطان قابوس بن سعيد، ولا عجب أن تكرم السلطنة بالعديد من الجوائز تقديراً لإسهاماتها الدولية على مختلف الأصعدة الثقافية والبيئية والإنسانية.

ولقد شهد «ريتشارد كنيدي» - نائب مدير مركز سميثسونيان لشئون الفنون الشعبية والتراث الثقافي لعمان - إسهامها في «المهرجان السنوي لحياة الشعوب» بالقول: «هذه هي المرة الأولى التي تبرز فيها دولة عربية على هذا النحو في المهرجان، خاصة مع هذه الظروف التي يسود فيها سوء فهم في الغرب عن العالم العربي، ومن ثم فإن عمان تتيح بهذه المساهمة الرائدة فرصة للاطلاع على ذلك التنوع التراثي، وتسليط الأضواء على ملامح من الحضارة العربية».

لقد احتلت مسقط حيزاً من اهتمامات الرحالة العرب والأجانب، فإذا ما تجاوزنا القدامى منهم كابن بطوطة وغيره ووقفنا على توصيف المحدثين فسنجده يشير إلى ما تنطوي عليه مسقط من عبقرية تجليها تلك القدرة الرائعة في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة،ناهيك عن إشراقها بذلك الملمح الثقافي البناء، الذي يجسده التسامح مضمخاً بعبق الشعور الإنساني - كما لاحظ بحق باتريك سيل.

ولعل العالم قد ثمن النزعة السلمية عند العمانيين حين منح «جائزة السلام الدولية» لجلالة السلطان قابوس يوم 16 أكتوبر 1998 بإجماع ثلاث وثلاثين جامعة ومركزًا ومنظمة عالمية.

آفاق وآمال

بالرغم مما قيل قديماً من أن العلم «طائر باض في المدينة وفرخ في البصرة وطار إلى عمان»، فإن بعض المثقفين العمانيين يواجهون احتفالية مسقط عاصمة للثقافة العربية عام 2006م بشيء من القلق، ومن يتفاءل بوسعه أن يختار التفاؤل، إذا ما كان يؤسسه على إدراك أن الجعبة العمانية ملأى بالوعود. ومن يقرأ العقل الثقافي العماني يحق له التنبؤ بمزيد من العطاءات الثقافية، كإنشاء المسارح والمراكز والمكتبات، والعناية بثقافة الطفل والمرأة وإبداعها، وتكريم رجال الفكر والثقافة، عمانيين كانوا أو عرباً، وهو ما بدأت بواكيره تلوح فعلاً في الأفق.

ولعل وضع حجر الأساس «لمجمع عمان الثقافي» هذا العام، فيه ما يبشر بتقوية حركة الثقافة وجعلها تتسع لتحتضن شتى ألوان الآداب والفنون. كما أن افتتاح المتحف العماني وتجديده، والاهتمام بحركة التشكيل والسينما والمسرح والسياحة، فيه ما يدل على ذلك الزخم الواسع الذي أخذت تتحرك به الثقافة العمانية اليوم.

ولا شك في أن دخول القطاع الأهلي على هذا الحقل سيزيده انتعاشًا، سيما إذا ما تبنى بعض الموسرين مشاريع دالة، كتخصيص جوائز ثقافية للمبدعين على غرار ما هو معروف في بلدان الخليج وغيرها من الدول العربية.

وحيث إن جمهرة من المثقفين باتت تعمل على تفعيل المقترح المطروح حالياً، بإنشاء مجلس أعلى للثقافة والآداب والفنون، فذلك ليس بكثير على مثل هذا البلد المثقف العريق.

وأظن أن الأفق العماني سيكون أكثر انفتاحاً على أي مشروع ثقافي يمكن أن تقترحه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، على غرار تأسيس المكتبة العربية الكبرى في ليبيا. وأحسب أن إنشاء مركز للعناية بالتراث والمخطوطات العربية - أو التراث البحري - سيكون محل اهتمام وترحيب العمانيين، وحتى إنشاء مركز لحوار الحضارات هم مؤهلون إليه وبه جديرون. فالولع بالتراث والقدرة على الاتصال والحوار والتشبع بثقافة التسامح باتت سمات تميز هذا الشعب وتشرق في ثنايا خطابه الثقافي الجديد.

 سعيد بن سليمان العيسائي 





ميناء مطروح في ثوبه الجديد





الثقافة العمانية ضوء عصري على تراث الماضي





 





حديث النهار والمساء في سوق مطرح، المسمى سوق الظلام بسبب غطاء سقفه