الفلسفة... والمقاومة
«المقاومة» فعل إنساني نبيل، يدل باستمرار على مدى قدرة الإنسان ورغبته الدائمة في التطور وصنع التقدم، وللمقاومة بوصفها فعلاً إنسانياً صور عديدة، فمنها المقاومة السلبية التي قد يكتفي فيها الإنسان بالاستنكار الداخلي (أي بقلبه)، ومنها المقاومة الإيجابية، التي يبدأ فيها بالجهر برفض أي أفعال أو أقوال لا يرضى عنها، وقد تتطور به الحال إلى الاحتجاج بصور شتى قد يكون من بينها التظاهر أو الاعتصام أو الثورة... إلخ.
داخل هذا الإطار العام للمقاومة، نجد أنواعاً لها؛ فهناك المقاومة السياسية والمقاومة الاجتماعية والاقتصادية، كما أن هناك المقاومة الفكرية، أي المقاومة بالأفكار، حيث يمكن للفيلسوف بأفكاره أن يقاوم الصور السلبية التي يراها في مجتمعه وينقدها بعد رصدها وتحليلها، كما يمكنه مقاومة هذه السلبيات بالدعوة إلى صورة جديدة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية، وهذا ما عُرف في تاريخ الفلسفة باليوتوبيات (أي الدول المثالية أو المدن الفاضلة).
والحقيقة أنه يمكننا أن نعتبر تاريخ الفلسفة من هذه الزاوية تاريخاً للمقاومة والثورة على الأوضاع القائمة، سواء اكتفى الفيلسوف في المقاومة السلبية بنقد هذه الفكرة السائدة أو تلك، أو بنقد هذا الوضع القائم أو ذاك، وفي أي مجال من مجالات الحياة، أو تجاوز ذلك إلى الدعوة إلى التغيير الشامل والانتقال من الحالة الراهنة التي عايشها إلى صورة جديدة من الحياة التي يرى ضرورة أن ننتقل إليها. وينبغي ألا نندهش أو نتعجب من العبارة السابقة، حيث إن الدعوة إلى التغيير والتجديد هي الوظيفة الأهم والأسمى للفيلسوف؛ ففي اعتقادي أن المراحل الكبرى في حياة البشر وانتقالهم من عصر إلى عصر كان أساسها دائماً فكرة فلسفية جديدة، ويمكن للقارئ أن يراجع في ذلك ما كتبه صاحب هذه السطور في بعض مؤلفاته، وخاصة افلاسفة أيقظوا العالمب وافي فلسفة الثقافةب وافي فلسفة الحضارةب وافلسفة التاريخب واتطور الفلسفة السياسيةب.
ولعلنا نجد البدايات الأولى للفلسفة بوصفها دعوة للتغيير والمقاومة في ظل الحضارة اليونانية؛ حيث تعاظم دور فلاسفة اليونان في صنع حضارتهم الفتية، وذلك بما حفلت به فلسفاتهم من دعوة دائمة إلى التطور والتجديد ومقاومة كل الصور السلبية في مجتمعهم، سواء في مجال الفكر النظري أو في مجالات الحياة المختلفة، ولقد ظهر ذلك بوضوح منذ بداية ظهور الفلسفة عندهم على يد طاليس في القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ تعد فلسفته، ومعها فلسفات معاصريه من الطبيعيين الأوائل، بصورة ما، مقاومة للتفسيرات الأسطورية والخرافية، التي كانت شائعة قبل ظهور محاولاتهم لتفسير الطبيعة تفسيراً مادياً، استناداً إلى ما يرونه من عناصر مادية يرتد إليها أي شيء في هذا الوجود المحسوس، كما تعد فلسفات التيارات المثالية، كالإيلية والفيثاغورية من المنظور نفسه مقاومة ورفضاً لتلك النظرة المادية في تفسير الطبيعة والوجود.
وهكذا يمكن النظر في تطور الفلسفة اليونانية، بل وتطور تاريخ الفلسفة كله من هذا المنظور؛ فقد كانت فلسفة السوفسطائيين مقاومة لهذا التيار الفلسفي الذي شغله تفسير العالم الطبيعي دون الاهتمام بقضايا الإنسان، وبالطبع كانت فلسفة سقراط مقاومة لهذا التيار نفسه، بقدر ما كانت مقاومة لفلسفة السوفسطائيين الإنسانية الداعية إلى النسبية، وخاصة في مجال الأخلاق والفضيلة.
مقاومة المادية
وفي السياق نفسه، جاءت فلسفة أفلاطون مقاومة للمادية في تفسير العالم الطبيعي والنسبية في تفسير الأمور الأخلاقية والسياسية، ومن هنا كانت دعوته إلى أن الحقيقة ليست في هذا العالم المادي المحسوس، بل توجد في ذلك العالم الفارق الذي افترضه (عالم المثل ذ عالم المعقولات). ومن المعروف أن فلسفة تلميذه أرسطو قد برزت من خلال رفضه لهذا الافتراض، الذي اعتبره خياليا ولا يحل أي مشكلة واقعية، ومن ثم قاومه ونقده واعتبره فرضاً خيالياً زائداً على الحاجة.
ثم اتجه إلى بناء مذهبه الفلسفي والعلمي الخاص، الذي حرص فيه على أن يبدأ من الواقع متجهاً بعد ذلك إلى الكلي والمعقول.
وعلى المنوال نفسه، يمكن النظر في تاريخ الفلسفة وسيطاً وحديثاً، على أنه يعد تاريخاً يقاوم فيه كل فيلسوف أفكار سابقيه، كما يقاوم ما يسود في عصره من أفكار جامدة عقيمة ومن أوضاع ومظاهر حياتية لا يرضى عنها، فقد كانت فلسفات العصر الوسيط الإيمانية مقاومة ورافضة للفلسفات القديمة، وخاصة ما فيها من تيارات مادية، كما جاءت فلسفات العصر الحديث من بيكون وديكارت إلى جون لوك وجون ستيوارت مل، ومعهم فلاسفة عصر التنوير، مقاومة لكل الأفكار والفلسفات التقليدية والمدرسية العقيمة، ومن ثم قدم كل واحد من هؤلاء الفلاسفة رؤيته الإيجابية لتغيير الوضع القائم كل في مجال اهتمامه، فكان التقدم الذي بدأ وساد في العصر الحديث نتيجة طبيعية لهذه الدعوات البناءة إلى مقاومة الفكر المدرسي العقيم واستبدال الأطر المنهجية الجديدة به، سواء بالمنهج العقلي القائم على الشك والحدس والاستنباط عند ديكارت والعقليين، أو بالمنهج الاستقرائي التجريبي عند بيكون ومل والتجريبيين. وهكذا الحال في ميدان الفكر السياسي، فقد كانت فلسفة مكيافيللي السياسية مقاومة للجمود السياسي الغربي وتدخل الكنيسة في شؤون الدولة، كما كانت فلسفة لوك السياسية الليبرالية مقاومة لفلسفة مكيافيللي وهوبز الأنانية، الداعية في كثير من جوانبها إلى الديكتاتورية والاستبداد السياسي. وعلى النحو نفسه، كانت الفلسفة الماركسية بما دعت إليه من اشتراكية علمية مقاومة لتوحش الرأسمالية واحتكار الرأسماليين للثروة والسلطة، ومن ثم ضياع حقوق العمال وغياب العدالة الاجتماعية.
وفي المقابل، جاءت الإصلاحات الاجتماعية والتأمين على العمال وإعانة البطالة وغيرها من إجراءات اتخذت من قبل النظام الرأسمالي مقاومة لانتشار الفلسفة الماركسية الاشتراكية في العالم، ومن ثم انتصرت الرأسمالية بما حققته من إصلاحات كشفت عن مرونة كبيرة من قبل النظم الرأسمالية الليبرالية، توارت معها النظم الاشتراكية حينما عجز كثير منها عن مقاومة عيوب النظام الاقتصادى الاشتراكي، الذي سمح بوجود نوع جديد من الديكتاتورية هي ديكتاتورية البروليتاريا، تلك الديكتاتورية التي قضت على روح المبادرة الفردية وروح المنافسة الاقتصادية الشريفة، ومن ثم على وجود نمط اقتصادي مهم آخر هو الاقتصاد الحر.
الفلسفة والتغيير
وهكذا حال الفلسفة والفلاسفة، فهي وهم في حالة مقاومة ودعوة دائمة إلى التغيير والتجديد. وإذا كنا نقول عادة: اإن التغيير سنة الحياةب، فما بالنا نغفل عن الدور الخطير الذي يقوم به الفلاسفة في هذا الإطار! وما بالنا نغفل عن أهمية الفلسفة والتفلسف في حياتنا قائلين هذه العبارة السخيفة: ابلاش فلسفةب!
إن حياة الإنسان لا تستقيم من دون فلسفة وتفلسف، وإلا فليخبرني أحدكم أثابه الله عن علم آخر نتعلم منه وعن طريقه التفكير العقلي ونتدرب من خلاله على الاستخدام الصحيح لهذه الأداة الفكرية العظيمة التي وهبنا الله إياها المسماة االعقلب!
إننا بالفلسفة نتدرب بداية على التفكير العقلي السليم، وبها نعي أهم قضايا الحياة والوجود، بها أمكننا التعرف على الوجود الإلهي وآمنا بالله، وبها يمكن للمرء المؤمن أن يدافع عن عقيدته ضد الملاحدة ويجذبهم إلى حظيرة الإيمان، وبها يمكننا أن نعي كل مظاهر الخلل والفساد المستشري في مجتمعاتنا، ومن ثم ندعو إلى مقاومتها وتغييرها برفضها والثورة عليها، وبها يمكننا استشراف آفاق المستقبل المشرق الذي يمكن أن نحلم به ونسعى إلى تحقيقه.
إننا بالفلسفة يمكننا مقاومة مظاهر الملل والجمود والرتابة في حياتنا وندعو إلى تجاوزها بمزيد من التخطيط والعمل الجاد في تنفيذ هذه الخطط التي تقودنا إلى مستقبل أفضل.
مقاومة المقاومة
علينا مقاومة من يقاومون الفلسفة ودورها الخطير في نهضة مجتمعنا وأمتنا، ومن ثم نكون أشبه بمن ألقى بحجر في تلك المياه الراكدة في حياتنا لتحركها شيئاً فشيئاً نحو تغيير أسلوب حياتنا الغارق في الرتابة والجمود، إلى أسلوب مقاوم لهذه الرتابة وذلك الجمود بالمزيد من التفكير المبدع الخلاق، والمزيد من العمل والإنتاج المتقن حتى يتحقق لنا التقدم الذي نصبو إليه والرخاء الذي نسعى إلى تحقيقه.
علينا توسيع معنى المقاومة، فلا نقصرها على المقاومة بمعناها السياسي؛ فقد نكون اليوم أحوج ما نكون إلى مقاومة حالة الجمود الفكري التي نحياها والتي كاد الحوار والاجتهاد فيها أن يتوقفا، وقد نكون في حاجة إلى مقاومة حالة التسيب والفوضى الأخلاقية التي نحياها حتى انقلب سلم القيم لدينا، وقد نكون في حاجة إلى مقاومة حالة التعصب والتطرف التي بلغت لدى بعض الفئات حداً جعلها تتجه إلى محاربة الوطن الذي يسكنونه والشعب الذي يعيشون بين أفراده. نحن بحاجة إلى مقاومة كل مظاهر التخلف في حياتنا من الأمية التي لايزال يعانيها كثير من أبناء الوطن، إلى النظام التعليمي الذي لايزال يخرج لنا أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين... إلخ.
كما أننا بحاجة حقيقية إلى صور عديدة من فلسفات المقاومة علنا نبلغ يوماً شاطئ الأمان الذي يمكننا أن نرسو عليه ونطمئن أننا من خلاله سنبدأ الطريق المستقيم نحو التقدم والرفاه، متمسكين بقيمنا الأصيلة ومسترشدين بتعاليم ديننا الحنيف، دين العقل والعلم لا دين التطرف والهمجية .