إيمي سيزار ... الزنوجة كهوية كونية

إيمي سيزار ...  الزنوجة كهوية كونية

توفي‭ ‬الـــــكــــاتب‭ ‬والـــــشاعر‭ ‬والمناضل‭ ‬المارتينيكي‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭  ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬94‭ ‬عاماً‭. ‬ناضل‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الملتزم‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الاستعلاء‭ ‬الاستعماري‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬المارتينيك‭ ‬وكل‭ ‬البلدان‭ ‬المستضعفة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬‮«‬‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغاشم‮»‬،‭ ‬مبتكر‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الزنوجة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يرفض‭ ‬بكل‭ ‬أريحية‭ ‬الأبوة‭ ‬الحصرية‭ ‬وراء‭ ‬إبداعها،‭ ‬بل‭ ‬يتقاسم‭ ‬ابتكارها‭ ‬مع‭ ‬شاعر‭ ‬إفريقيا‭ ‬الأعظم‭ ‬ليوبولدسنغور‭.‬

يُعتبر‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬قامة‭ ‬فكرية‭ ‬شامخة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬ميز‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لأنه‭ ‬أثرى‭ ‬أدب‭ ‬المقاومة‭ ‬بأعمال‭ ‬هادفة،‭ ‬انبرى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬الأنساق‭ ‬المضمرة‭ ‬للكولونيالية،‭ ‬بغية‭ ‬إماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬الخطابات‭ ‬العنصرية‭ ‬الاستغلالية‭ ‬الثاوية‭ ‬فيها‭ ‬والمتسترة‭ ‬تحت‭ ‬حجاب‭ ‬التنوير‭ ‬ونشر‭ ‬الحضارة‭.‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬تحديد‭ ‬صورة‭ ‬معينة‭ ‬للكاتب‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار،‭ ‬نظراً‭ ‬لإرثه‭ ‬الفكري‭ ‬الخصب‭ ‬والمتعدد،‭ ‬إنه‭ ‬الزنجي‭ ‬والمثقف‭ ‬الإنساني‭ ‬الكوني،‭ ‬والمتمرد‭ ‬العنيد‭ ‬ضد‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الغربية‭.‬

تحمل‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬بجلد‭ ‬كبير‭ ‬شتيمة‭ ‬‮«‬الزنجي‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬إثر‭ ‬حادث‭ ‬مع‭ ‬رجل‭ ‬أبيض‭ ‬عنصري،‭ ‬وجعل‭ ‬منها‭ ‬حافزاً‭ ‬وعاملاً‭ ‬مساعداً‭ ‬لتكوين‭ ‬الهوية‭ ‬السوداء‭ ‬والوعي‭ ‬الأسود‭. ‬هكذا‭ ‬جعل‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬من‭ ‬‮«‬الزنوجة‮»‬‭ ‬حركة‭ ‬مقاومة‭ ‬ضد‭ ‬التمييز‭ ‬العنصري،‭ ‬وباعثاً‭ ‬محفزاً‭ ‬ضد‭ ‬الاستلاب‭ ‬الثقافي‭. ‬وبالنسبة‭ ‬له،‭ ‬فالهوية‭ ‬الزنجية‭ ‬هوية‭ ‬كونية‭ ‬وليست‭ ‬مرادفاً‭ ‬للتمييز‭ ‬بين‭ ‬البشر‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدا‭ ‬بمفكرين‭ ‬بيض‭ ‬أوربيين‭ ‬كسارتر‭ ‬وغيره‭ ‬إلى‭ ‬مساندة‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬تصوره‭ ‬للزنوجة‭ ‬كمفهوم‭ ‬إنساني‭ ‬وكوني،‭ ‬يهشم‭ ‬صلابة‭ ‬النزعات‭ ‬العرقية‭ ‬ويعري‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬تعتقد‭ ‬بأن‭ ‬العرق‭ ‬هو‭ ‬العامل‭ ‬الفعال‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬السمات‭ ‬والمواهب‭ ‬البشرية‭. ‬يقول‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الشعري‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‮»‬‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬بمقدور‭ ‬عرق‭ ‬أو‭ ‬شعب‭ ‬أن‭ ‬يحتكر‭ ‬القوة‭ ‬والجمال‭ ‬والذكاء،‭ ‬فثمة‭ ‬مكان‭ ‬للجميع‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬النصر‮»‬‭. ‬تقاوم‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬الرائعة‭ ‬ادعاء‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬المؤمن‭ ‬بالتفوق‭ ‬العرقي‭ ‬والحضاري،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬ثقافته‭ ‬ثقافة‭ ‬الصلف‭ ‬والكبرياء،‭ ‬ثقافة‭ ‬غير‭ ‬حوارية‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بهوية‭ ‬الآخر‭ ‬وخصوصيته،‭ ‬لأنها‭ ‬ثقافة‭ ‬تسلطية‭ ‬قمعية‭ ‬تقصي‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬الإحساس‭ ‬بالتفوق‭ ‬الفطري‭ ‬للرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬صاحب‭ ‬المهمة‭ ‬الحضارية‭ ‬الهادفة‭ ‬إلى‭ ‬تنوير‭ ‬وتمدين‭ ‬الآخر‭ ‬صاحب‭ ‬العقلية‭ ‬المتخلفة‭ ‬بالوراثة‭.‬

أنتج‭ ‬سيزار‭ ‬أعمالاً‭ ‬أدبية‭ ‬ملتزمة‭ ‬مؤمنة‭ ‬بالمقاومة‭ ‬الثقافية‭ ‬كسلاح‭ ‬فعال‭ ‬لنسف‭ ‬بنية‭ ‬الرؤية‭ ‬الثقافية‭ ‬الغربية،‭ ‬بغية‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الأحكام‭ ‬المسبقة‭ ‬الثاوية‭ ‬فيها‭ ‬التي‭ ‬تمنع‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬تمثيل‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬تمارس‭ ‬عليه‭ ‬سلطة‭ ‬كابحة‭ ‬قامعة،‭ ‬تتوخى‭ ‬فرض‭ ‬إسقاط‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬الواقع،‭ ‬تتشكل‭ ‬معالمه‭ ‬وفقاً‭ ‬لتلك‭ ‬الرؤى‭ ‬الدوغمائية‭ ‬لوعي‭ ‬الأوربي‭ ‬المُحمّل‭ ‬بثقافة‭ ‬تحتقر‭ ‬الآخر‭ ‬وتلغي‭ ‬كينونته‭. ‬يقول‭ ‬صلاح‭ ‬الجابري‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الموسوم‭ ‬بـ«الاستشراق‭... ‬قراءة‭ ‬نقدية‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ترسمها‭ ‬ثقافة‭ ‬التسلط،‭ ‬أو‭ ‬سلطة‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬مع‭ ‬الثقافات،‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬خارج‭ ‬حدودها‭ ‬الجغرافية،‭ ‬ليست‭ ‬علاقة‭ ‬حوارية،‭ ‬بل‭ ‬علاقة‭ ‬قمع‭ ‬وإلغاء،‭ ‬أو‭ ‬إقصاء،‭ ‬وهذا‭ ‬الإلغاء‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬تنفيذه‭ ‬بممارسة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإنكار‭ ‬الحضاري‭ ‬السلبي‭ ‬المباشر،‭ ‬وإنما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تقديم‭ ‬الآخر‭ ‬بصورة‭ ‬تمثيلية‭ ‬تحقق‭ ‬القناعات‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬ذهنية‭ ‬الغربي‭ ‬عن‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬
‭(‬ص‭ ‬18‭). ‬

ثار‭ ‬سيزار‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬وهو‭ ‬شاب،‭ ‬ورفض‭ ‬وهو‭ ‬عجوز‭ ‬التبريرات‭ ‬الواهية‭ ‬التي‭ ‬لوّح‭ ‬بها‭ ‬الساسة‭ ‬الفرنسيون‭ ‬لتغطية‭ ‬جرائمهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬القاتمة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭. ‬كما‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يقابل‭ ‬نيكولا‭ ‬ساركوزي‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬وزيراً‭ ‬للداخلية‭ ‬سنة‭ ‬2005،‭ ‬وعبّر‭ ‬بغضب‭ ‬جامح‭ ‬عن‭ ‬رفضه‭ ‬لادعاء‭ ‬فرنسا‭ ‬بلعبها‭ ‬دوراً‭ ‬إيجابياً‭ ‬عند‭ ‬وجودها‭ ‬وراء‭ ‬البحار‭.‬

 

مناضل‭ ‬الزنوجة

انخرط‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي،‭ ‬فانتقل‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬المُنظّر‭ ‬والشاعر‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬الفعل،‭ ‬واشتهر‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي‭ ‬بدفاعه‭ ‬عن‭ ‬الزنوجة‭ ‬وأفكاره‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تتغيا‭ ‬إحلال‭ ‬السلام‭ ‬والمصالحة‭ ‬بين‭ ‬الــــحضارات‭. ‬أنتج‭ ‬أعمالاً‭ ‬شعرية‭ ‬ومسرحـــــية‭ ‬مـــارست‭ ‬تأثيراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العالم‭.‬

واستــــفاد‭ ‬من‭ ‬وضعه‭ ‬العائلي،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬جده‭ ‬أول‭ ‬مدرس‭ ‬أسود‭ ‬في‭ ‬المارتينيك،‭ ‬وكانت‭ ‬جدته‭ ‬تعرف‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬وتلك‭ ‬ميزة‭ ‬نادرة‭ ‬لامرأة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوسط‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المارتينيك‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬نال‭ ‬شهادة‭ ‬الباكالوريا‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬دراسية‭ ‬أتاحت‭ ‬له‭ ‬مغادرة‭ ‬الجزيرة‭ ‬نحو‭ ‬فرنسا‭ ‬التي‭ ‬سافر‭ ‬إليها‭ ‬وهو‭ ‬مفعم‭ ‬بالآمال‭ ‬العريضة‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬بمنزلة‭ ‬تحول‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬سيزار‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مجيئه‭ ‬لعاصمة‭ ‬الأنوار‭ ‬سبَّب‭ ‬له‭ ‬صدمة‭ ‬وخيبة‭ ‬أمل‭ ‬مريرة‭. ‬شعر‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الفرنسية‭ ‬بالإقصاء‭ ‬والتمييز‭ ‬العنصري‭. ‬لمجابهة‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬التمثيلية‭ ‬للذهنية‭ ‬الأوربية،‭ ‬أسس‭ ‬مع‭ ‬سيدار‭ ‬سنغور‭ ‬مجلة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الطالب‭ ‬الأسود‮»‬‭. ‬كتب‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬المجلة‭: ‬‮«‬يرفض‭ ‬الزنوج‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الاستعباد‭ ‬والتمثل،‭ ‬لأنهم‭ ‬تواقون‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬بداية‭ ‬معركة‭ ‬سيزار‭ ‬الضروس‭ ‬ضد‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الغربـية،‭ ‬حـــيث‭ ‬ناضل‭ ‬لفكـــفكة‭ ‬الاســتعمـــار‭ ‬وتــــحرير‭ ‬الشعوب‭ ‬الإفريقية‭ ‬وإضفاء‭ ‬القـــيمة‭ ‬على‭ ‬ثقافتهم‭ ‬الأصلية‭. ‬لقد‭ ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الزنوجة‭ ‬باعتباره‭ ‬خصيصة‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان‭ ‬الأسود،‭ ‬وسقى‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬الإنساني‭ ‬ديوانه‭ ‬الشعري‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬سنة‭ ‬1938‭. ‬كما‭ ‬نشر‭ ‬أعمالاً‭ ‬شعرية‭ ‬أخرى‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الجسد‭ ‬الضائع‮»‬،‭ ‬‮«‬شمس‭ ‬العنق‭ ‬المقطوع‮»‬‭ ‬نالت‭ ‬إعجاب‭ ‬مؤسس‭ ‬السريالية‭ ‬أندري‭ ‬بريتون‭ ‬بسبب‭ ‬قوة‭ ‬استحضارها‭ ‬لعالم‭ ‬الشعوب‭ ‬المضطهدة‭ ‬التي‭ ‬تجاهد‭ ‬للانفلات‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬قناعات‭ ‬ورؤى‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬يحاصر‭ ‬الآخر‭ ‬ويمنعه‭ ‬من‭ ‬عرض‭ ‬ذاته‭ ‬بالصورة‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭.‬

 

فن‭ ‬المسرح‭ ‬كفضاء‭ ‬لتفكيك‭ ‬الكولونيالية

اقتحم‭ ‬سيزار‭ ‬عالم‭ ‬المسرح،‭ ‬وألّف‭ ‬مسرحيات‭ ‬خالدة‭ ‬في‭ ‬المقاومة،‭ ‬وكسر‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الكولونيالية‭: ‬‮«‬تراجيديا‭ ‬الملك‭ ‬كريستوف‮»‬،‭ ‬‮«‬فصل‭ ‬في‭ ‬الكونغو‮»‬،‭ ‬‮«‬العاصفة‮»‬‭. ‬تجسد‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬تراجيديا‭ ‬الملك‭ ‬كريستوف‮»‬‭ ‬يقظة‭ ‬سيزار‭ ‬ورؤيته‭ ‬الثاقبة‭ ‬ضد‭ ‬الانحراف‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭. ‬تعرض‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬المصير‭ ‬التراجيدي‭ ‬لإنسان‭ ‬وبلد،‭ ‬يصوِّر‭ ‬سيزار‭ ‬نضال‭ ‬الشعب‭ ‬الهايتي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬وصعوبة‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الكولونيالية‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بالعبودية‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬إنساني،‭ ‬فالملك‭ ‬كريستوف‭ ‬هو‭ ‬الطاغية‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬ارتكاس‭ ‬ونكوص‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬ومساوئه‭ ‬ضمن‭ ‬أشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬البربرية‭ ‬والتوحش،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سماه‭ ‬سيزار‭ ‬بـ«سراب‭ ‬المرحلة‭ ‬الجديدة‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬فصل‭ ‬في‭ ‬الكونغو‮»‬،‭ ‬فتعبر‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬سيزار‭ ‬كمثقف‭ ‬ملتزم‭ ‬بقضايا‭ ‬الشعوب‭ ‬المستضعفة‭ ‬والمقهورة‭ ‬التي‭ ‬تجرَّعت‭ ‬مرارة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوربي‭. ‬تعرض‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬تراجيديا‭ ‬تصفية‭ ‬الزعيم‭ ‬الأممي‭ ‬المناضل‭ ‬باتريس‭ ‬لومومبا‭ ‬الذي‭ ‬جابه‭ ‬الاستعمار‭ ‬وكان‭ ‬رمزاً‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬الحرية‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬الاستغلال‭.‬

يكشف‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬زيف‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الاستعمار‭ ‬البلجيكي‭ ‬للكونغو،‭ ‬فعقب‭ ‬الاستقلال‭ ‬هبَّت‭ ‬بلجيكا‭ ‬لتنصيب‭ ‬حكومة‭ ‬عميلة‭ ‬لتكريس‭ ‬الهيمنة‭ ‬والتبعية‭ ‬وكل‭ ‬ضروب‭ ‬الاستغلال‭. ‬يقول‭ ‬ملك‭ ‬بلجيكا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬الملك‭ ‬بازيليو‭: ‬‮«‬سيكون‭ ‬خطابي‭ ‬وجيزاً‭. ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬تحية‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سبقني‭ ‬من‭ ‬أوصياء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬ليوبولد،‭ ‬المؤسس‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الكونغو،‭ ‬لا‭ ‬لكي‭ ‬يأخذ‭ ‬ويهيمن،‭ ‬بل‭ ‬ليعطي‭ ‬ويمدِّن‭ ‬وينشر‭ ‬أنوار‭ ‬الحضارة‭. ‬المجد‭ ‬للمؤسسين،‭ ‬والمجد‭ ‬لمن‭ ‬سيواصل‭ ‬المهمة‭ ‬الحضارية‭. ‬أيها‭ ‬السادة،‭ ‬نسلم‭ ‬لكم‭ ‬اليوم‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الكونغو،‭ ‬وهو‭ ‬شبيه‭ ‬بآلة‭ ‬قد‭ ‬تتعطل،‭ ‬لكن‭ ‬نحن‭ ‬البلجيكيين‭ ‬كشعب‭ ‬من‭ ‬المهندسين‭ ‬والصناع،‭ ‬سنمد‭ ‬لكم‭ ‬يد‭ ‬العون‭. ‬بإمكانكم‭ ‬اللجوء‭ ‬إلينا‭ ‬والاعتماد‭ ‬على‭ ‬قدراتنا‮»‬‭.‬

بحس‭ ‬نضالي‭ ‬يرفض‭ ‬الهيمنة‭ ‬والانصياع‭ ‬والتبعية،‭ ‬انبرى‭ ‬باتريس‭ ‬لومومبا‭ ‬ليردَّ‭ ‬على‭ ‬الخطاب‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬للملك،‭ ‬ويذكره‭ ‬بالفظاعات‭ ‬التي‭ ‬ارتكبتها‭ ‬بلجيكا‭ ‬في‭ ‬الكونغو‭.‬

يقول‭ ‬لومومبا‭: ‬‮«‬أما‭ ‬أنا،‭ ‬أيها‭ ‬الملك،‭ ‬فإني‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬المستضعفين‭ ‬المنسيين‭. ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬سُلبت‭ ‬أراضيهم،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬ضُربوا‭ ‬وعُذبوا،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬بُترت‭ ‬أجسادهم،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬احتُقروا،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬بُصق‭ ‬في‭ ‬وجوههم،‭ ‬نحن‭ ‬الخدم،‭ ‬نحن‭ ‬العبيد،‭ ‬نحن‭ ‬الأوباش‭ ‬والحثالة‭.‬

أيها‭ ‬الملك،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬كل‭ ‬صنوف‭ ‬العذاب،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬تجرَّعنا‭ ‬المهانة‭ ‬والإذلال‭.‬

لكن‭ ‬جاء‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يستقبل‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬الأمم‭.‬

الكونغو،‭ ‬أمنا،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الكونغو،‭ ‬طفلنا‭... ‬طفل‭ ‬ليالي‭ ‬سهادنا،‭ ‬وعذاباتنا،‭ ‬ومعاركنا‭.‬

أيها‭ ‬الإخوة،‭ ‬رفاق‭ ‬المعركة،‭ ‬فليتحول‭ ‬كل‭ ‬جرح‭ ‬من‭ ‬جراحنا‭ ‬إلى‭ ‬ثدي‭ ‬يسقي‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‮»‬‭.‬

دفع‭ ‬باتريس‭ ‬لومومبا‭ ‬حياته‭ ‬ثمناً‭ ‬لهذا‭ ‬النضال،‭ ‬وفي‭ ‬جو‭ ‬حزين‭ ‬ومشهد‭ ‬تراجيدي‭ ‬عرض‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬في‭ ‬المسرحية‭ ‬تحالف‭ ‬كازافوبو‭ ‬مع‭ ‬البلجيكيين‭ ‬للقبض‭ ‬على‭ ‬لومومبا،‭ ‬وقتل‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يساوم‭ ‬مطلقاً‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬بلده‭ ‬المقدسة‭ ‬ودفع‭ ‬حياته‭ ‬ثمناً‭ ‬لنضاله‭.‬

ويُعتبر‭ ‬سيزار‭ ‬أبرز‭ ‬رواد‭ ‬تيار‭ ‬الزنوجة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنكفوني‭ ‬ورمزاً‭ ‬خالداً‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الحركات‭ ‬المناهضة‭ ‬للاستعمار،‭ ‬كانت‭ ‬تحركه‭ ‬نوازع‭ ‬إنسانية‭ ‬تصبو‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف
‭ ‬بالتنوع‭ ‬والتعدد‭ ‬الثقافي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الهجنة‭ ‬والاختلاف،‭ ‬لهذا‭ ‬كانت‭ ‬الزنوجة‭ ‬قضيته‭ ‬المركزية‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬كسر‭ ‬التنميطات‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬وتغيير‭ ‬الذهنية‭ ‬الأوربية‭ ‬بخصوص‭ ‬الرجل‭ ‬الأسود‭ ‬العاجز‭ ‬عن‭ ‬تمثيل‭ ‬نفسه‭.‬

سيظل‭ ‬إيمي‭ ‬سيزار‭ ‬الذي‭ ‬جنَّد‭ ‬قلمه‭ ‬للذود‭ ‬عن‭ ‬المضطهدين‭ ‬والمستعمَرين،‭ ‬المثال‭ ‬الأسمى‭ ‬لصورة‭ ‬المثقف‭ ‬الملتزم،‭ ‬كما‭ ‬سيظل‭ ‬صرخة‭ ‬احتجاج‭ ‬وتمرُّد،‭ ‬يتردد‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الغرب‭ ‬المتقوقع‭ ‬في‭ ‬ثقافته‭ ‬الاختزالية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بحضارة‭ ‬الآخر‭ ‬وأصالة‭ ‬ثقافته‭ .