إيمي سيزار ... الزنوجة كهوية كونية

توفي الـــــكــــاتب والـــــشاعر والمناضل المارتينيكي إيمي سيزار عن عمر 94 عاماً. ناضل هذا الكاتب الملتزم ضد كل أشكال الاستعلاء الاستعماري من أجل تحرير المارتينيك وكل البلدان المستضعفة التي كانت ترزح تحت نير « الاستعمار الغاشم»، مبتكر مفهوم «الزنوجة» التي يرفض بكل أريحية الأبوة الحصرية وراء إبداعها، بل يتقاسم ابتكارها مع شاعر إفريقيا الأعظم ليوبولدسنغور.
يُعتبر إيمي سيزار قامة فكرية شامخة في المشهد الفكري الذي ميز القرن العشرين، لأنه أثرى أدب المقاومة بأعمال هادفة، انبرى من خلالها إلى تفكيك الأنساق المضمرة للكولونيالية، بغية إماطة اللثام عن الخطابات العنصرية الاستغلالية الثاوية فيها والمتسترة تحت حجاب التنوير ونشر الحضارة.
من الصعب تحديد صورة معينة للكاتب إيمي سيزار، نظراً لإرثه الفكري الخصب والمتعدد، إنه الزنجي والمثقف الإنساني الكوني، والمتمرد العنيد ضد الإمبريالية الغربية.
تحمل إيمي سيزار بجلد كبير شتيمة «الزنجي الصغير» إثر حادث مع رجل أبيض عنصري، وجعل منها حافزاً وعاملاً مساعداً لتكوين الهوية السوداء والوعي الأسود. هكذا جعل إيمي سيزار من «الزنوجة» حركة مقاومة ضد التمييز العنصري، وباعثاً محفزاً ضد الاستلاب الثقافي. وبالنسبة له، فالهوية الزنجية هوية كونية وليست مرادفاً للتمييز بين البشر. ولعل هذا ما حدا بمفكرين بيض أوربيين كسارتر وغيره إلى مساندة إيمي سيزار في تصوره للزنوجة كمفهوم إنساني وكوني، يهشم صلابة النزعات العرقية ويعري الرؤية التي تعتقد بأن العرق هو العامل الفعال في تقرير السمات والمواهب البشرية. يقول سيزار في ديوانه الشعري «دفتر العودة إلى الوطن الأم»: «ليس بمقدور عرق أو شعب أن يحتكر القوة والجمال والذكاء، فثمة مكان للجميع في موعد النصر». تقاوم هذه المقولة الرائعة ادعاء الرجل الأبيض المؤمن بالتفوق العرقي والحضاري، الشيء الذي جعل من ثقافته ثقافة الصلف والكبرياء، ثقافة غير حوارية لا تؤمن بهوية الآخر وخصوصيته، لأنها ثقافة تسلطية قمعية تقصي الآخر من منطلق الإحساس بالتفوق الفطري للرجل الأبيض صاحب المهمة الحضارية الهادفة إلى تنوير وتمدين الآخر صاحب العقلية المتخلفة بالوراثة.
أنتج سيزار أعمالاً أدبية ملتزمة مؤمنة بالمقاومة الثقافية كسلاح فعال لنسف بنية الرؤية الثقافية الغربية، بغية الكشف عن الأحكام المسبقة الثاوية فيها التي تمنع الآخر من تمثيل نفسه، بل تمارس عليه سلطة كابحة قامعة، تتوخى فرض إسقاط جديد على الواقع، تتشكل معالمه وفقاً لتلك الرؤى الدوغمائية لوعي الأوربي المُحمّل بثقافة تحتقر الآخر وتلغي كينونته. يقول صلاح الجابري في كتابه الموسوم بـ«الاستشراق... قراءة نقدية»: «إن العلاقة التي ترسمها ثقافة التسلط، أو سلطة الثقافة الغربية مع الثقافات، التي تقع خارج حدودها الجغرافية، ليست علاقة حوارية، بل علاقة قمع وإلغاء، أو إقصاء، وهذا الإلغاء لا يتم تنفيذه بممارسة نوع من الإنكار الحضاري السلبي المباشر، وإنما عن طريق تقديم الآخر بصورة تمثيلية تحقق القناعات التي تحملها ذهنية الغربي عن الشرق»
(ص 18).
ثار سيزار ضد الاستعمار وهو شاب، ورفض وهو عجوز التبريرات الواهية التي لوّح بها الساسة الفرنسيون لتغطية جرائمهم في تلك المرحلة القاتمة من تاريخ البشرية. كما رفض أن يقابل نيكولا ساركوزي حين كان وزيراً للداخلية سنة 2005، وعبّر بغضب جامح عن رفضه لادعاء فرنسا بلعبها دوراً إيجابياً عند وجودها وراء البحار.
مناضل الزنوجة
انخرط إيمي سيزار في العمل السياسي، فانتقل من الكاتب المُنظّر والشاعر المبدع إلى رجل الفعل، واشتهر على المستوى العالمي بدفاعه عن الزنوجة وأفكاره الإنسانية التي تتغيا إحلال السلام والمصالحة بين الــــحضارات. أنتج أعمالاً شعرية ومسرحـــــية مـــارست تأثيراً مهماً في الغرب كما في بقاع أخرى من العالم.
واستــــفاد من وضعه العائلي، إذ كان جده أول مدرس أسود في المارتينيك، وكانت جدته تعرف القراءة والكتابة، وتلك ميزة نادرة لامرأة من هذا الوسط في تلك الحقبة من تاريخ المارتينيك. وبعد أن نال شهادة الباكالوريا حصل على منحة دراسية أتاحت له مغادرة الجزيرة نحو فرنسا التي سافر إليها وهو مفعم بالآمال العريضة. وقد كان هذا الحدث بمنزلة تحول جذري في حياة سيزار. غير أن مجيئه لعاصمة الأنوار سبَّب له صدمة وخيبة أمل مريرة. شعر في الأوساط الفرنسية بالإقصاء والتمييز العنصري. لمجابهة هذه الثقافة التمثيلية للذهنية الأوربية، أسس مع سيدار سنغور مجلة بعنوان «الطالب الأسود». كتب سيزار في إحدى مقالاته الأولى في المجلة: «يرفض الزنوج كل أشكال الاستعباد والتمثل، لأنهم تواقون إلى التحرر». كانت هذه بداية معركة سيزار الضروس ضد الإمبريالية الغربـية، حـــيث ناضل لفكـــفكة الاســتعمـــار وتــــحرير الشعوب الإفريقية وإضفاء القـــيمة على ثقافتهم الأصلية. لقد دافع عن مفهوم الزنوجة باعتباره خصيصة هوية الإنسان الأسود، وسقى هذا التصور الإنساني ديوانه الشعري «دفتر العودة إلى الوطن الأم» الصادر سنة 1938. كما نشر أعمالاً شعرية أخرى منها «الجسد الضائع»، «شمس العنق المقطوع» نالت إعجاب مؤسس السريالية أندري بريتون بسبب قوة استحضارها لعالم الشعوب المضطهدة التي تجاهد للانفلات من أسر قناعات ورؤى العالم الغربي الذي يحاصر الآخر ويمنعه من عرض ذاته بالصورة التي هو عليها في الواقع.
فن المسرح كفضاء لتفكيك الكولونيالية
اقتحم سيزار عالم المسرح، وألّف مسرحيات خالدة في المقاومة، وكسر أيديولوجيا الكولونيالية: «تراجيديا الملك كريستوف»، «فصل في الكونغو»، «العاصفة». تجسد مسرحية «تراجيديا الملك كريستوف» يقظة سيزار ورؤيته الثاقبة ضد الانحراف الديمقراطي في مرحلة ما بعد الكولونيالية. تعرض هذه المسرحية المصير التراجيدي لإنسان وبلد، يصوِّر سيزار نضال الشعب الهايتي من أجل الحرية وصعوبة الانتقال من المرحلة الكولونيالية التي اتسمت بالعبودية إلى نظام ديمقراطي إنساني، فالملك كريستوف هو الطاغية الجديد الذي أعاد ارتكاس ونكوص الرجل الأبيض ومساوئه ضمن أشكال مختلفة من البربرية والتوحش، وهذا ما سماه سيزار بـ«سراب المرحلة الجديدة».
أما مسرحية «فصل في الكونغو»، فتعبر عن صورة سيزار كمثقف ملتزم بقضايا الشعوب المستضعفة والمقهورة التي تجرَّعت مرارة الاستعمار الأوربي. تعرض هذه المسرحية تراجيديا تصفية الزعيم الأممي المناضل باتريس لومومبا الذي جابه الاستعمار وكان رمزاً من رموز الحرية والتحرر من الاستغلال.
يكشف سيزار في هذه المسرحية زيف أيديولوجيا الاستعمار البلجيكي للكونغو، فعقب الاستقلال هبَّت بلجيكا لتنصيب حكومة عميلة لتكريس الهيمنة والتبعية وكل ضروب الاستغلال. يقول ملك بلجيكا في هذه المسرحية الملك بازيليو: «سيكون خطابي وجيزاً. يهدف إلى تقديم تحية إلى كل من سبقني من أوصياء على هذا البلد، وفي مقدمتهم ليوبولد، المؤسس الذي جاء إلى الكونغو، لا لكي يأخذ ويهيمن، بل ليعطي ويمدِّن وينشر أنوار الحضارة. المجد للمؤسسين، والمجد لمن سيواصل المهمة الحضارية. أيها السادة، نسلم لكم اليوم هذا البلد الكونغو، وهو شبيه بآلة قد تتعطل، لكن نحن البلجيكيين كشعب من المهندسين والصناع، سنمد لكم يد العون. بإمكانكم اللجوء إلينا والاعتماد على قدراتنا».
بحس نضالي يرفض الهيمنة والانصياع والتبعية، انبرى باتريس لومومبا ليردَّ على الخطاب الأيديولوجي للملك، ويذكره بالفظاعات التي ارتكبتها بلجيكا في الكونغو.
يقول لومومبا: «أما أنا، أيها الملك، فإني أفكر في المستضعفين المنسيين. نحن الذين سُلبت أراضيهم، نحن الذين ضُربوا وعُذبوا، نحن الذين بُترت أجسادهم، نحن الذين احتُقروا، نحن الذين بُصق في وجوههم، نحن الخدم، نحن العبيد، نحن الأوباش والحثالة.
أيها الملك، نحن الذين عاشوا كل صنوف العذاب، نحن الذين تجرَّعنا المهانة والإذلال.
لكن جاء اليوم الذي يستقبل فيه العالم بين الأمم.
الكونغو، أمنا، وخصوصاً الكونغو، طفلنا... طفل ليالي سهادنا، وعذاباتنا، ومعاركنا.
أيها الإخوة، رفاق المعركة، فليتحول كل جرح من جراحنا إلى ثدي يسقي هذا الوطن».
دفع باتريس لومومبا حياته ثمناً لهذا النضال، وفي جو حزين ومشهد تراجيدي عرض إيمي سيزار في المسرحية تحالف كازافوبو مع البلجيكيين للقبض على لومومبا، وقتل هذا الزعيم الذي لم يساوم مطلقاً على قضايا بلده المقدسة ودفع حياته ثمناً لنضاله.
ويُعتبر سيزار أبرز رواد تيار الزنوجة في الأدب الفرنكفوني ورمزاً خالداً في مسيرة الحركات المناهضة للاستعمار، كانت تحركه نوازع إنسانية تصبو إلى الاعتراف
بالتنوع والتعدد الثقافي القائم على الهجنة والاختلاف، لهذا كانت الزنوجة قضيته المركزية سعى من خلالها إلى كسر التنميطات في الثقافة الغربية وتغيير الذهنية الأوربية بخصوص الرجل الأسود العاجز عن تمثيل نفسه.
سيظل إيمي سيزار الذي جنَّد قلمه للذود عن المضطهدين والمستعمَرين، المثال الأسمى لصورة المثقف الملتزم، كما سيظل صرخة احتجاج وتمرُّد، يتردد صداها في وجه الغرب المتقوقع في ثقافته الاختزالية التي لا تؤمن بحضارة الآخر وأصالة ثقافته .