برج البُرُلُّس طريق الحرير التشكيلي

قد يكون الرسم على الجدران هو الجدُّ الأول للفنون جميعها، وقد ولد هذا الفن الباكر حين سجلت خربشات صيادي الفرائس سيرة القنص، وعندما رسم قاطنو البراري سيرة حياتهم حول النار، وكذلك حين صوروا أنفسهم برموز بصرية كاشفة ليومياتهم، إثر عودتهم إلى كهوفهم بعد رحلة النهار الدرامية. لذلك تبدو علاقة الإنسان بالجداريات حميمة، وهي العلاقة المتجذرة منذ تلك الخطوط البكْر، التي نمت مع نضج الحضارات ذاتها. سيعرف المؤرخون، ونُقَّاد الفن، والتشكيليون، الجدران بوصفها معارض أبدية، سواء كانت في قلب مغارات جبال الصين، يتقرب بها الرهبان إلى آلهتهم، أو على حوائط مقابر الفراعنة، يدوِّنون بها سير الراحلين تنتظرهم حين يُبعثون، أو فوق الشواهد المعمارية الكثيرة التي عرفتها حضارات القارات جميعها.
وإذا كانت تجربة الرسم المعاصر على الجدران لم تعد أسيرة للتاريخ، فقد عادت للظهور على أكثر من نحو؛ حين رسم الفنان الشعبي آيات الترحيب اللوني بالعائدين من الحج إلى بيت الله على واجهات البيوت، وكما برع فنانو الجرافيتي، المجهولون والمعروفون، في صبغ الجدران بالأفكار الثائرة، إلا أننا هنا نتحدث عن وجه ثالث للرسم على الجدران، يمثل رحلة فنية بصرية جديدة على طريق الحرير التشكيلي.
ستذكِّرنا هذه الرحلة الجديدة بتجربة مماثلة قامت بها مدينة أصيلة المغربية على ساحل المحيط الأطلسي على مدى عقود، حين كان يأتيها في كل موسم ثقافي سنوي فنانو العرب والعالم يضعون بصماتهم على جدرانها البيض، لكن تجربة الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن، في مدينة برج البرلس، المحاطة بالبحر المتوسط وبحيرة البرلس، كانت أكثر صعوبة، لأنها تؤسس محاولة استثنائية في محيط صعب، وفي زمن غزا فيه القبحُ الحياة والسلوك، لذا كانت النتيجة باهرة، لأنه استطاع في موسمين أن يكون «ملتقى البرلس للرسم على الحوائط والمراكب»... فعالية ثقافية تتواصل مع محيطها المجتمعي وتعبر حدودها الجغرافية، وتُعلي من قيمة الفن.
أتابع مسيرة الفنان المصري عبدالوهاب عبدالمحسن منذ سنوات، معجباً بتلك الخطوات الوثابة والرؤية العميقة التي ميزته منذ عشق الفن ودرسه، إلى أن أصبح أستاذاً أكاديمياً له في مصر وخارجها، فضلاً عن دوره التنويري الذي ينبع من مواطنته الصالحة، العاشقة لكل ما هو مصري، وترى ذلك جلياً في معارضه التشكيلية النوعية المرتبطة بتراب وطنه، وفي مداخلاته الواعية النقدية، وأخيراً في إنشاء «مؤسسة الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن للثقافة والفنون والتنمية».
تبدى حب الفنان لبحيرة البُرُلُّس، التي تقع في محافظة كفر الشيخ، مسقط رأسه، شمال القاهرة، وتجلى هذا الحب في المعارض التي تناولت سطح البحيرة الذي لا يمل من رسمه، من دون تكرار، بل في فرادة تامة، تعي أدوات الفنان، وتدرك تجدد مياه البحيرة ووجوهها. لكن البحيرة لم تعد مياهاً وحسب، ولا محيطاً جغرافياً فقط، بل أصبحت كرة أرضية، أو كوكباً يعيد عبدالمحسن تعريفه لنا، بتفاصيل سطوحه، وساكني أعماقه، وناسه، مفتوناً بعنصري التكوين... الماء والتراب، يضيف إليهما نار الفن التي يوقدها بخامات شافة لكنها دالة، وساخنة، وحية مثل البشر الذين يعشقهم. والبشر حاضرون في لوحاته، حتى إن غابوا جسدياً، يكفي أن تتمعن في الأسماك والطيور، لندرك أنها صور معادلة للحضور البشري. إن تلك الكائنات لو غابت، فإن سطح الماء يذكرنا بمداعباتنا لوجه مياه النهر والبحر والترعة والبحيرة، فهذه المداعبات بالفقاقيع المتدفقة من الغيب والدوائر المتراقصة إلى ما لا نهاية، كلها تستحضر البشري الغائب.
على ساحل البحر المتوسط، في منطقة تبعد مائتي كيلومتر شمالي القاهرة تقع بحيرة البرلس. وتمثل هذه البحيرة مساحة حياة تتسع بتفاصيلها للتأمل والإبداع، لأهلها والقادمين إليها. لكن التجريف – مثله كأي فساد يهدد الكائنات والبشر – يزحف بقبضة التصحُّر عليها، مقلصاً من مساحتها يوماً بعد يوم، مما يضع مصيرها، ومصير بحيرات عربية أخرى، على المحك. وهنا يحاول الفن المقاومة، وقد ساهم الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن نفسه في تقديم شهادات جرافيكية ومصورة للبحيرة؛ المعادل الموضوعي للجمال والحياة تستصرخ المتلقي لإنقاذها. كان يقف أمامها كصوفي تائه يبحث عن مركز كونه، وهو هنا البحيرة، التي تمثل متكأ الفنان لنقل إحساسه بالماء / الحياة، وألعاب الأشعة فوق وجهه، وحالة الجو الممثلة لحالته النفسية، باعتبار الماء مرآته المفصحة عن ذاته، والذي ينقلها عبر الإيقاعات الضوئية. لذلك كانت البحيرة في قلب حدث ملتقى البرلس، وكان قدوم الفنانين والفنانات إلى شواطئها وكأنه وعدٌ لوثاق لا ينفصم مع الحفاظ عليها.
تجاوز دور الفنان إطار اللوحة إلى مجتمعه، لتتحول البرلس في أولى فعاليات مؤسسته إلى مرسم مفتوح بفضل ملتقى الجداريات الأول الذي أقيم عام 2014 في مدينة برج البرلس وشارك فيه خمسة عشر فناناً وفنانة تشكيلية، واختير الموعد متزامناً مع العيد القومي لمحافظة كفر الشيخ، وشارك الفنانون أطفال مدينة البرلس فى الورشات الفنية لمدة أسبوعين، ووفرت محافظة كفر الشيخ الإمكانات المادية لإنجاح الملتقى وتهيئة المناخ المناسب لتفاعل أهالي وأطفال المدينة مع الفنانين المشاركين من نجوم الحركة التشكيلية في مصر والعالم. وهو يحتفل بختام ناجح للدورة الثانية، يبدأ الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن بالتفكير في الدورة المقبلة، وضيوفها من مدن البحر المتوسط، لبلدان لم تشارك بعد، مثل الجزائر وإيطاليا وقبرص، على أن تظل المراكب الموضوع الرئيس، وربما يفكر في نماذج أصغر من الحالية، تباع في نهاية الملتقى كهدايا تذكارية.
برج البرلس... جغرافيا صغيرة... تاريخ كبير
قبل أن تصبح مدينة، كانت برج البرلس قرية صغيرة، ذاع اسمها بعد معركة بحرية شهدها شاطئ بحيرة البرلس، صباح 4 نوفمبر 1956، بدأت بمهاجمة بوارج تقودها البارجة الفرنسية جان بارت؛ أول سفينة مزودة برادار في العالم، ومدمرة بريطانية مدعومة بالطائرات الحربية، الشواطئ المصرية. قاد الضابط جلال الدسوقي المعركة من الجانب المصري، واستطاعت ثلاثة زوارق طوربيد مصرية إطلاق ستار دخان لتقترب بسرعة وبحركات مفاجئة من الوحدات المهاجمة وأطلقت قذائفها في اتجاه البوارج الفرنسية والبريطانية المهاجمة، ورغم اشتراك الطائرات الحربية في مهاجمة ضد الزوارق، فإن معركة البرلس انتهت في دقائق ودُمرت المدمرة البريطانية والبارجة الفرنسية، ودافع المصريون من دون غطاء جوي حتى آخر طوربيد.
وحين قاد الضابط مختار الجندي زورقه الأخير بعد استشهاد أغلب زملائه، طلب من رفاقه القفز إلى البحر ثم اخترق مدمرة أخرى بسرعة هائلة فأصيبت إصابة بالغة، وحكى الناجون عن ملحمة كبيرة لقرية صغيرة، وسجلت البحرية المصرية انتصاراً مذهلاً ضد الأسطولين؛ الفرنسي والبريطاني. وأصبح 4 نوفمبر عيداً سنوياً لمحافظة كفر الشيخ.
عائلة الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن ليست بعيدة عن النضال، حيث تمر خلال أيام الملتقى الذي يقام في النصف الأول من شهر أكتوبر سنوياً ذكرى استشهاد شقيقه في حرب العبور يوم 21 أكتوبر 1973. كان أخوه بين 3 أشقاء يخوضون معركة الكرامة على الجبهة، وعاد شقيقاه محمد ومحمود واستشهد عبدالسلام، من أجل الأرض التي يعشقها الفنان، ومن أجل الوطن الذي يحلم به ليكون أفضل.
في الدورة الأولى للملتقى، بدأ الفنانون والفنانات بالجدران، لكنهم هذا العام أضافوا العمل على المركب الصغير (الفلوكة) إلى الجدار، ولا عجب في ذلك في قرية أغلبها من صيادي السمك، يسعون كل صباح على صهوات مراكبهم إلى خطب ود البحر والبحيرة ليأخذوا نصيبهم من الرزق. وهكذا بين فنار البرلس، وطابية عرابي، وبعيداً عنهما، تمتد رحلة الصيد، وحولها تنتشر صناعة مراكب الصيد، وتصديرها لعديد من الدول، ولعل شهرة أهلها باحتراف الصيد جعلت عديداً من القرى الصغيرة أساساً للثروة السمكية بها، مثل قرى البنائين، وسوق الثلاثاء، والشوش والوهيبة، والشرفا.
لم تبتهج الجدران وحدها، ولم ترقص المراكب على أنغام اللون فحسب، بل عم شعور الفرح وجوه الجميع، وأصبح للفنانين عائلات وأطفال يتابعون ريشاتهم وهي تعيد صياغة الحياة، يوماً بعد يوم، ولوناً بعد آخر. وتنافس الصيادون في جذب الفنانين لواجهات بيوتهم للفوز بلوحة نادرة من الفنانين الذين تطوعوا لتغيير وجه المدينة، وبدا أن الطاقة الإيجابية بين الفنان والمتلقي قد بلغت أوجها. نجحت التجربة في إثارة الوعي الجمالي، لتذوق الفن وعشقه، وكذلك السعي إلى بيئة نظيفة، وزاد دعم المؤسسات للفعالية، وانضمت للمحافظة ومؤسسة الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن للثقافة والفنون والتنمية كل من وزارة الشباب وجامعة المستقبل. وسجلت العدسات للفنانين والزائرين لحظات تنشر الفرح، والبهجة، بين الغداء المشترك، والجدران المرسومة، والمراكب الملونة، والوجوه الباسمة لأهل القرية، خاصة الأطفال... كل ذلك يؤكد نجاح تجربة الفنان الذي عشق أرضه وناسه فرسم عالمهم، وها هو يستدعي الفن كائناً حياً يعيش بينهم، ويسبح في بحيرتهم.
أصبحت فكرة الرسم على الجدران اختزالاً لتواصل الفنان الحقيقي مع مجتمعه، في زمن غلبت فيه وجهات النظر التي تقول إن التشكيلي يعيش في برج عاجي، يبتعد بعمله عن المتلقي، فتحدث غربة الفنان عن المجتمع، وتنشأ قطيعة المجتمع مع الجمال. ونجحت التجربة في فضاء محاط بالجمال الطبيعي بين البحر والبحيرة.
قوافل الأجيال
من فضائل الملتقى الثاني، للرسم على الحوائط والمراكب في البرلس ذلك الجمع الفذ بين كل أجيال الرسم، ولذلك كان شيخ الحاضرين هو الفنان جميل شفيق (مصر) الذي تماست طزاجة أعماله المستلهمة من الأحياء الشعبية مع المكان الفطري، ولذلك امتدح كثيراً بكارة المكان الذي تعرف في خلال عام واحد على أعمال فنانين وفنانات. الملتقى أقيم برعاية د. أسامة حمدي، محافظ كفر الشيخ، وشارك فيه 35 فناناً من مصر، والهند، وإيران، والبحرين، والأردن، وتونس، والسودان، والبرتغال، وشارك طلاب وطالبات كليات الفنون الجميلة بالإسكندرية والمنصورة والفنون التطبيقية بدمياط والتربية النوعية بكفر الشيخ في الحدث مع مجموعات من أطفال المدارس والأهالي، وتمثلت مشاركة وزارة الشباب بمشروع «مدن ملونة». وهكذا وجد جيل الكبار أنفسهم بين جيل جديد قوامه 90 شاباً وشابة يتعلمون درسهم الأول في فنون الهواء الطلق. وقد أهدت مؤسسة الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن للثقافة والفنون والتنمية الجهات المشاركة والفنانين دروعاً تذكارية تمثل مركباً ذهبياً، يستعد للانطلاق.
للعام الثاني شارك الفنان أحمد عبدالكريم (مصر)، وهو الذي بدأت رحلته التشكيلية قبل أكثر من ربع قرن، بتقديم معماريات وجدانية أعاد بها اكتشاف إيقاع المعمار الصامت وتحري مجسماته في مسارات بصرية تتداخل فيها الألوان وتحكي داخله الخطوط وترقص به الجدران بشخبطات ورسوم ولافتات إعلان وهمسات تدور حول الأضرحة وداخل أذهان الرجال والنساء والأطفال. ثم غاص في التاريخ قبل أن يخرج لعناق نهر النيل، فيكتب معاجم مفرداته التي تخصبها الفلسفات عن الخصوبة والحياة ولحظات الميلاد وطرح الحكايات؛ وكان جريئاً في استخدام الخامات، ومن يزر مرسمه في دهشور يستقبله تحت عنوان «ازرع قمحك
يا مصري» عمل ثلاثي الأبعاد 250 سم/ 360 سم وقاعدة 150 سم، منفذ بأعواد القمح المصري وتتوسطه لوحة زراعة القمح منذ عهد الفراعنة في إحدى مقابر العمال بقرية القرنة بالبر الغربي في الأقصر، متوخياً إيجاد علاقة بين الحضارة المصرية الفرعونية والحياة المعاصرة، ولذلك فإن مركبه كان يحمل بصمات الأيقونات الشعبية، بلونها القمحي / الذهبي السرمدي.
وإذا كنا نوقن بأن المثَّال محمود مختار هو حفيد بناة التماثيل العظماء في الحضارة الفرعونية، فإن الفنان طارق الكومي (مصر) هو صاحب ذلك الإرث، الذي يجدد فيه لتستمر رحلة النحت المصري متألقة. حوَّل الكومي «فلوكته» إلى قطعة نحت عبقرية غنية ذات طبقات ثلاثية الأبعاد ربما لتقص سيرة الفلوكة، ليس فقط بمن أخذوها حالياً إلى عرض البحر وقلب البحيرة، بل تحولت إلى أثر تاريخي قادم من أزمنة لم نعشها تعكس همَّ الصيادين وتاريخ البرلس.
من بين الأجيال الجديدة يرى الفنان علاء عوض (مصر) أن الملتقى تجربة فريدة من نوعها، لأن فن الشارع (أو رسم الجداريات) بمنزلة التعبير الإيجابي عن المجتمع ويصل ويخاطب المتلقي بجميع فئاته وأعماره وثقافاته من دون وسيط، على عكس المعارض والقاعات المغلقة. هنا يبدأ الدور الإيجابي للتجربة، كما أن الأعمال الجدارية بمنزلة حلقة وصل بين الناس وتراثهم الثقافي، بما يؤكد هويتهم، ويحيي ذاكرة التاريخ الممتد لآلاف السنين، وهو عمق ثقافي كان له عظيم الأثر في بناء الشخصية الوطنية. جدارية الفنان علاء عوض قدمت معركة بحرية أخرى، مستلهمة من عصر الملك رمسيس الثالث وحربه ضد بعض الشعوب الغازية القادمة عبر البحر المتوسط وتحالفهم مع قبائل خارج الحدود الغربية لغزو مصر، وكأن التاريخ كان يعيد نفسه في معركة 1956، ولم تكن اللوحة عودة إلى الماضي بقدر ما كانت محاولة تشكيلية لإعادة قراءته واستلهامه وتدبره.
الفنانة سالي الزيني (مصر) غرس عملها الجداري البهجة، ونال حظاً كبيراً لدى المصورين، ولم تخلُ متابعات الصحف والدوريات من لوحتها الطفولية «الروح» الصريحة الألوان الساحرة التكوين والمختزلة زخرفياً لكل عناصر البيئة، حتى أن الفنانة والأكاديمية د. أمل نصر أكدت ذلك البعد الحركي الملائم لروح المكان، حيث جعلت الزيني من أشكالها المرسومة مائلة وغير موازية لخطوط البيوت، فكأن بيتها الملون يمشي ببعده الحركي، في حكاية خيالية ساحرة، وكيف أنها نقلت الحس الأنثوي بالوشي الذي تبثه في لوحاتها، متعددة الخامات، وهي التي ترسم بقلب الطفل.
رحلة عكس النيل
إذا كان النيل يصب مياهه شمالاً في نهاية رحلته من المنابع، فإن «الفلوكات» سارت عكس تياره، وانتقلت من فضاء برج البرلس إلى قاعة سمارت آرت. العرض القاهري أعدته دينا شعبان ولينا موافي بشكل احترافي وكأنهما أعادتا بناء مدينة أتلانتس.
فقد جاءت المراكب حاملة رائحة الماء، وعطر الأنفاس التي سكبتها وهي تلونها، ومن تحت ضوء الشمس الذي غمرها خلال رحلة الميلاد، لتعيش رحلة جديدة، بعطر زوار جدد، وتحت أضواء اصطناعية، تحمل رائحة الحنين، بذكريات الفنانين والجمهور معاً. كانت رحلة عكس النيل، ولكنها كانت أيضاً رحلة باتجاه القلب. وهكذا وجدت الفلوكات متكأ لها في الطابق الأرضي الفسيح، في المعرض ذي الطوابق الثلاثة، بما يجعله الأضخم في مصر. وبدا وكأن الفلوكات تتجاور وتتحاور، وفيها من يتكئ على الجدران، وكأنها تلتقط صورة «selfie» معاً، ومنها من اتخذت بلونها مكاناً قصياً كأنها لا تريد أن تبوح بسرها لفلوكة أخرى، وبدا أن الألوان والأشكال والرموز والإضافات التي وضعها بعض الفنانين فوق مراكبهم الصغيرة وحولها، تصنع موزاييك التجانس في كورال تشكيلي كبير، وكأن طريق الحرير التشكيلي امتد إلى درب جديد يستقطب جمهوراً جديداً.
ظننت أنني أمام عرس للمراكب، خاصة حين واجهتني عروس الفنانة عقيلة رياض في مركبها ترتدي ثوب الفرح، أو حين التقاني في مقدمة المحفل مركب الفنان هيلدا حياري (الأردن)، وكأنه «كوشة الفرح» تحمل كرسيين غطاهما قماش ثوب العرس الشاف. تحكي هيلدا عن تلك التجربة المميزة للحضور في برج البرلس ضمن عدد كبير من الفنانين والفنانات من جنسيات مختلفة:
«المنطقة سحرتنا وأثرت فينا وجدانياً ببساطتها أوﻻً. كنت أعتقد أن الهدف من المشروع هو اﻻختلاط بسكان المنطقة ليتعلموا ويكتشفوا فنوناً جديدة من ثقافات مختلفة، لكنني وجدت أني تعلمت منهم أكــــثر مما أعطيت. كنت غاية في الإرهاق أحياناً خاصة كفنانة امرأة ترسم حائطاً كبيراً بمنطقة شعبية تفتقد الخدمات، لكني لم أشعر بتعبي وأنا بين الحاجة رضا والحاجة عزيزة والحاج محمد أطال الله أعمارهم... أحسست أني ابنتهم، وجزء من عائلتهم بالمحبة والكرم. وجدت نفسي منسجمة بكل لحظة لأعبِّر عن محبـــتي لهم، بالإضـــــافة إلى انسجام مجموعتنا كفنانين من إيران والسودان والأردن والبحرين وتونس ومصر وغيرها من البلدان المشاركة. كنا حقاً عائلة واحدة يجمعنا كل اﻻحترام. هذه تجربة فريدة بمسيرتي الفنية وأسلوبي الذي أتبعه. ﻻ تهمني العواصم كثيراً وﻻ الأبنية الشاهقة المغلقة، إذ تعودت دائماً أن أبحث عن الإنسان ووجدته في البرلس... هم أيضاً تعلموا تقبّل الآخر مهما كان شكله ولونه وأسلوب حياته، ومازالت بعض أسئلة الأطفال تعيش في ذاكرتي وتعني لي الكثير، ومازلت على تواصل معهم، مثلما أطلع السكان على فنون مختلفة عما يعرفون... لقد تبادلنا الأدوار بالمعرفة والحب والعطاء من الطرفين».
أسماكٌ ونساء وأساطير
لعل فضاء المكان كان له سحره الخاص في استلهام التشكيليين لمفرداته، على نحو متكرر، ولكن بشكل غير متشابه أو متطابق. ومثلما حضرت الأسماك برشاقة متزنة وبذخ لوني في معظم الأعمال، الجدارية أو المركبية، ظهرت أيضاً النساء ببهاء وتجلٍّ ناشرات الفرح، وألحت الأساطير بغموض وشموخ، وكأنها حكايات النسوة في الأمسيات، أو قصص الرجال في عرض البحر.
من ذلك السحر خرجت فلوكة الفنان المصري المخضرم سمير فؤاد (72 عاماً)، التي تحمل أربع نساء رسمهن بألوان الأكليريك، كشخصيات أسطورية، بينما ترقص في خلفية اللوحة الأسماك طافية على قاع الفلوكة، وكأنه يقدم نسخة مصرية من أسطورة بنات آخيلوس اللائي ينادين بأصواتهن العذبة على البحارة، فتأتي سفنهم لتتحطم بسبب الشعاب المرجانية، والنسخة هنا عن «النداهة» التي تغري الصيادين أو فلاحي نهر النيل بصوتها فيتقدمون إلى عرض المياه، حتى يتمكن منهم الغرق. إنه السحر الأنثوي العابر للحضارات والثقافات والأساطير والمياه والجدران والفلوكات.
آلهة اليونان امتزجت بمفردات مستوحاة من الفنين الإسلامي والقبطي في أعمال فنان متمرس آخر هو عمر الفيومي، الذي عُرف بلوحاته المستلهمة من وجوه الفيوم الجنائزية.
هذا التناسخ، أو ربما تجدر تسميته بالتناسل، تبدى بقوة في فلوكة الفنان الشاب إسلام عبادة (مصر)، التي أنجبت كائناً أسطورياً يقف حارساً لها! اللون الأسود لجسد الفلوكة وابنها، واللون الذهبي لأطرافها ورأسه، يقدمان صياغة جديدة للبط بين الجسدين، الأول هو المركب المتحرك فوق سطح الماء الوهمي، والثاني وهو الحيوان الحارس، الثابت على أرض راسخة. هذا الحوار في العمل الصامت هو سر فرادة هذا العمل الفني. إضافات الفنانين للفلوكة تحدت نفسها، الفنان جلال جمعة (مصر) أضاف المعدن مشكلاً منه أسطورته الخاصة، وأضافت الفنانة باولينا إيفاريستو (البرتغال) قطع الأحجار الأسمنتية الجاهزة للبناء، بعد أن منحتها لون البحر، وأضاف فنانون آخرون شباك الصيد والدلاء الجلدية التي يحتفظ فيها الصــــيادون بالســمك طازجاً.
في قلب «المتوسط» كان فنار برج البرلس، يضيء رحلة طريق الحرير التشكيلي، للقادمين والقادمات من الهند وإيران شرقاً إلى تونس والبرتغال غرباً، ومن الأردن شمالاً إلى السودان جنوباً، رحلة آمن بحارتها بقيمة ألوانهم، وتأثيرها الذي تخطى الباليتة، وتجاوز إطار اللوحة، ليغرس البهجة في قلوب البسطاء، وليحرك الراكد في بحيرة التشكيل، وليجدد العهد مع الفنون التي أحيت الحضارات وخلدتها .
كأن الطيور تنشر سلامها للمارين بالبيت والمقيمين فيه، بأجنحتها البيضاء، وبين سماء مجنّحة، وبحر من الأسماك الملونة جلس هذا الأب مع طفليه، جزءا من المشهد، بأفكار مشرعة كما النوافذ
الفنانة د. عقيلة رياض تغازل مركبها بالريشة والروح معاً
الشغف بالتفاصيل الدقيقة والألوان الصريحة والحس الأنثوي للأسطورة الهندية عنوان العملين؛ الجداري والفلوكة اللذين قدمتهما الفنانة الهندية بونام شاندريكا تياجي
جدارية الفنانة سالي الزيني ذات البعد الحركي الملائم لروح المكان بأشكالها المرسومة مائلة وغير الموازية لخطوط البيوت، وكأن بيتها الملون يمشي في حكاية خيالية ساحرة نقلت الحس الأنثوي بالوشي الذي تبثه في لوحاتها، متعددة الخامات، وهي التي ترسم بقلب الطفل.
شارك فنانون من 8 دول في الملتقى، من بينهم التشكيلي الإيراني ناصر بلانجي
فلوكة الفنان الشاب إسلام عبادة التي أنجبت كائنا أسطوريا يقف حارسا لها! اللون الأسود، لجسد الفلوكة وابنها، واللون الذهبي لأطرافها ورأسه، تقدم صياغة جديدة للربط بين الجسدين، الأول ـ وهو المركب ـ المتحرك فوق سطح الماء الوهمي، والثاني، وهو الحيوان الحارس، الثابت على أرض راسخة.
الأطفال قاسم مشترك في أعمال الفنانين والفنانات، سواء داخل الجدارية أو الفلوكة أو في الحياة اليومية، خلال الرسم أو أثناء الاستماع إلى الحكايات، وابتسامات بلا حدود.
رحلة عكس النيل، الفلوكات تستعد للانتقال من مينائها التشكيلي على طريق الحرير في برج البرلس إلى معرضها في القاهرة.
الفلوكات تقف للتصوير، (من اليمين) أعمال عقيلة رياض، وعمر الفيومي، وجميل شفيق وجيهان سليمان