برج البُرُلُّس طريق الحرير التشكيلي

برج البُرُلُّس طريق الحرير التشكيلي

قد‭ ‬يكون‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬هو‭ ‬الجدُّ‭ ‬الأول‭ ‬للفنون‭ ‬جميعها،‭ ‬وقد‭ ‬ولد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الباكر‭ ‬حين‭ ‬سجلت‭ ‬خربشات‭ ‬صيادي‭ ‬الفرائس‭ ‬سيرة‭ ‬القنص،‭ ‬وعندما‭ ‬رسم‭ ‬قاطنو‭ ‬البراري‭ ‬سيرة‭ ‬حياتهم‭ ‬حول‭ ‬النار،‭ ‬وكذلك‭ ‬حين‭ ‬صوروا‭ ‬أنفسهم‭ ‬برموز‭ ‬بصرية‭ ‬كاشفة‭ ‬ليومياتهم،‭ ‬إثر‭ ‬عودتهم‭ ‬إلى‭ ‬كهوفهم‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬النهار‭ ‬الدرامية‭. ‬لذلك‭ ‬تبدو‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالجداريات‭ ‬حميمة،‭ ‬وهي‭ ‬العلاقة‭ ‬المتجذرة‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬الخطوط‭ ‬البكْر،‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬مع‭ ‬نضج‭ ‬الحضارات‭ ‬ذاتها‭. ‬سيعرف‭ ‬المؤرخون،‭ ‬ونُقَّاد‭ ‬الفن،‭ ‬والتشكيليون،‭ ‬الجدران‭ ‬بوصفها‭ ‬معارض‭ ‬أبدية،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مغارات‭ ‬جبال‭ ‬الصين،‭ ‬يتقرب‭ ‬بها‭ ‬الرهبان‭ ‬إلى‭ ‬آلهتهم،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬حوائط‭ ‬مقابر‭ ‬الفراعنة،‭ ‬يدوِّنون‭ ‬بها‭ ‬سير‭ ‬الراحلين‭ ‬تنتظرهم‭ ‬حين‭ ‬يُبعثون،‭ ‬أو‭ ‬فوق‭ ‬الشواهد‭ ‬المعمارية‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬حضارات‭ ‬القارات‭ ‬جميعها‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬الرسم‭ ‬المعاصر‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬أسيرة‭ ‬للتاريخ،‭ ‬فقد‭ ‬عادت‭ ‬للظهور‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نحو؛‭ ‬حين‭ ‬رسم‭ ‬الفنان‭ ‬الشعبي‭ ‬آيات‭ ‬الترحيب‭ ‬اللوني‭ ‬بالعائدين‭ ‬من‭ ‬الحج‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬واجهات‭ ‬البيوت،‭ ‬وكما‭ ‬برع‭ ‬فنانو‭ ‬الجرافيتي،‭ ‬المجهولون‭ ‬والمعروفون،‭ ‬في‭ ‬صبغ‭ ‬الجدران‭ ‬بالأفكار‭ ‬الثائرة،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬هنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬ثالث‭ ‬للرسم‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬يمثل‭ ‬رحلة‭ ‬فنية‭ ‬بصرية‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬التشكيلي‭. ‬

ستذكِّرنا‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الجديدة‭ ‬بتجربة‭ ‬مماثلة‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬مدينة‭ ‬أصيلة‭ ‬المغربية‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يأتيها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موسم‭ ‬ثقافي‭ ‬سنوي‭ ‬فنانو‭ ‬العرب‭ ‬والعالم‭ ‬يضعون‭ ‬بصماتهم‭ ‬على‭ ‬جدرانها‭ ‬البيض،‭ ‬لكن‭ ‬تجربة‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬برج‭ ‬البرلس،‭ ‬المحاطة‭ ‬بالبحر‭ ‬المتوسط‭ ‬وبحيرة‭ ‬البرلس،‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬صعوبة،‭ ‬لأنها‭ ‬تؤسس‭ ‬محاولة‭ ‬استثنائية‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬صعب،‭ ‬وفي‭ ‬زمن‭ ‬غزا‭ ‬فيه‭ ‬القبحُ‭ ‬الحياة‭ ‬والسلوك،‭ ‬لذا‭ ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬باهرة،‭ ‬لأنه‭ ‬استطاع‭ ‬في‭ ‬موسمين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬ملتقى‭ ‬البرلس‭ ‬للرسم‭ ‬على‭ ‬الحوائط‭ ‬والمراكب‮»‬‭... ‬فعالية‭ ‬ثقافية‭ ‬تتواصل‭ ‬مع‭ ‬محيطها‭ ‬المجتمعي‭ ‬وتعبر‭ ‬حدودها‭ ‬الجغرافية،‭ ‬وتُعلي‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الفن‭.‬

أتابع‭ ‬مسيرة‭ ‬الفنان‭ ‬المصري‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬معجباً‭ ‬بتلك‭ ‬الخطوات‭ ‬الوثابة‭ ‬والرؤية‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬ميزته‭ ‬منذ‭ ‬عشق‭ ‬الفن‭ ‬ودرسه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬أستاذاً‭ ‬أكاديمياً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وخارجها،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬دوره‭ ‬التنويري‭ ‬الذي‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬مواطنته‭ ‬الصالحة،‭ ‬العاشقة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مصري،‭ ‬وترى‭ ‬ذلك‭ ‬جلياً‭ ‬في‭ ‬معارضه‭ ‬التشكيلية‭ ‬النوعية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتراب‭ ‬وطنه،‭ ‬وفي‭ ‬مداخلاته‭ ‬الواعية‭ ‬النقدية،‭ ‬وأخيراً‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬‮«‬مؤسسة‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والتنمية‮»‬‭.‬

تبدى‭ ‬حب‭ ‬الفنان‭ ‬لبحيرة‭ ‬البُرُلُّس،‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬محافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ،‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه،‭ ‬شمال‭ ‬القاهرة،‭ ‬وتجلى‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬المعارض‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬سطح‭ ‬البحيرة‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمل‭ ‬من‭ ‬رسمه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تكرار،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬فرادة‭ ‬تامة،‭ ‬تعي‭ ‬أدوات‭ ‬الفنان،‭ ‬وتدرك‭ ‬تجدد‭ ‬مياه‭ ‬البحيرة‭ ‬ووجوهها‭. ‬لكن‭ ‬البحيرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مياهاً‭ ‬وحسب،‭ ‬ولا‭ ‬محيطاً‭ ‬جغرافياً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬كرة‭ ‬أرضية،‭ ‬أو‭ ‬كوكباً‭ ‬يعيد‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬تعريفه‭ ‬لنا،‭ ‬بتفاصيل‭ ‬سطوحه،‭ ‬وساكني‭ ‬أعماقه،‭ ‬وناسه،‭ ‬مفتوناً‭ ‬بعنصري‭ ‬التكوين‭... ‬الماء‭ ‬والتراب،‭ ‬يضيف‭ ‬إليهما‭ ‬نار‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬يوقدها‭ ‬بخامات‭ ‬شافة‭ ‬لكنها‭ ‬دالة،‭ ‬وساخنة،‭ ‬وحية‭ ‬مثل‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يعشقهم‭. ‬والبشر‭ ‬حاضرون‭ ‬في‭ ‬لوحاته،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬غابوا‭ ‬جسدياً،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تتمعن‭ ‬في‭ ‬الأسماك‭ ‬والطيور،‭ ‬لندرك‭ ‬أنها‭ ‬صور‭ ‬معادلة‭ ‬للحضور‭ ‬البشري‭. ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬لو‭ ‬غابت،‭ ‬فإن‭ ‬سطح‭ ‬الماء‭ ‬يذكرنا‭ ‬بمداعباتنا‭ ‬لوجه‭ ‬مياه‭ ‬النهر‭ ‬والبحر‭ ‬والترعة‭ ‬والبحيرة،‭ ‬فهذه‭ ‬المداعبات‭ ‬بالفقاقيع‭ ‬المتدفقة‭ ‬من‭ ‬الغيب‭ ‬والدوائر‭ ‬المتراقصة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية،‭ ‬كلها‭ ‬تستحضر‭ ‬البشري‭ ‬الغائب‭. ‬

‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تبعد‭ ‬مائتي‭ ‬كيلومتر‭ ‬شمالي‭ ‬القاهرة‭ ‬تقع‭ ‬بحيرة‭ ‬البرلس‭. ‬وتمثل‭ ‬هذه‭ ‬البحيرة‭ ‬مساحة‭ ‬حياة‭ ‬تتسع‭ ‬بتفاصيلها‭ ‬للتأمل‭ ‬والإبداع،‭ ‬لأهلها‭ ‬والقادمين‭ ‬إليها‭. ‬لكن‭ ‬التجريف‭ ‬–‭ ‬مثله‭ ‬كأي‭ ‬فساد‭ ‬يهدد‭ ‬الكائنات‭ ‬والبشر‭ ‬–‭ ‬يزحف‭ ‬بقبضة‭ ‬التصحُّر‭ ‬عليها،‭ ‬مقلصاً‭ ‬من‭ ‬مساحتها‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬مما‭ ‬يضع‭ ‬مصيرها،‭ ‬ومصير‭ ‬بحيرات‭ ‬عربية‭ ‬أخرى،‭ ‬على‭ ‬المحك‭. ‬وهنا‭ ‬يحاول‭ ‬الفن‭ ‬المقاومة،‭ ‬وقد‭ ‬ساهم‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬شهادات‭ ‬جرافيكية‭ ‬ومصورة‭ ‬للبحيرة؛‭ ‬المعادل‭ ‬الموضوعي‭ ‬للجمال‭ ‬والحياة‭ ‬تستصرخ‭ ‬المتلقي‭ ‬لإنقاذها‭. ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬أمامها‭ ‬كصوفي‭ ‬تائه‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مركز‭ ‬كونه،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬البحيرة،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬متكأ‭ ‬الفنان‭ ‬لنقل‭ ‬إحساسه‭ ‬بالماء‭ / ‬الحياة،‭ ‬وألعاب‭ ‬الأشعة‭ ‬فوق‭ ‬وجهه،‭ ‬وحالة‭ ‬الجو‭ ‬الممثلة‭ ‬لحالته‭ ‬النفسية،‭ ‬باعتبار‭ ‬الماء‭ ‬مرآته‭ ‬المفصحة‭ ‬عن‭ ‬ذاته،‭ ‬والذي‭ ‬ينقلها‭ ‬عبر‭ ‬الإيقاعات‭ ‬الضوئية‭. ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬البحيرة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬حدث‭ ‬ملتقى‭ ‬البرلس،‭ ‬وكان‭ ‬قدوم‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنانات‭ ‬إلى‭ ‬شواطئها‭ ‬وكأنه‭ ‬وعدٌ‭ ‬لوثاق‭ ‬لا‭ ‬ينفصم‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليها‭. ‬

تجاوز‭ ‬دور‭ ‬الفنان‭ ‬إطار‭ ‬اللوحة‭ ‬إلى‭ ‬مجتمعه،‭ ‬لتتحول‭ ‬البرلس‭ ‬في‭ ‬أولى‭ ‬فعاليات‭ ‬مؤسسته‭ ‬إلى‭ ‬مرسم‭ ‬مفتوح‭ ‬بفضل‭ ‬ملتقى‭ ‬الجداريات‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬برج‭ ‬البرلس‭ ‬وشارك‭ ‬فيه‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬فناناً‭ ‬وفنانة‭ ‬تشكيلية،‭ ‬واختير‭ ‬الموعد‭ ‬متزامناً‭ ‬مع‭ ‬العيد‭ ‬القومي‭ ‬لمحافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ،‭ ‬وشارك‭ ‬الفنانون‭ ‬أطفال‭ ‬مدينة‭ ‬البرلس‭ ‬فى‭ ‬الورشات‭ ‬الفنية‭ ‬لمدة‭ ‬أسبوعين،‭ ‬ووفرت‭ ‬محافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ‭ ‬الإمكانات‭ ‬المادية‭ ‬لإنجاح‭ ‬الملتقى‭ ‬وتهيئة‭ ‬المناخ‭ ‬المناسب‭ ‬لتفاعل‭ ‬أهالي‭ ‬وأطفال‭ ‬المدينة‭ ‬مع‭ ‬الفنانين‭ ‬المشاركين‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعالم‭. ‬وهو‭ ‬يحتفل‭ ‬بختام‭ ‬ناجح‭ ‬للدورة‭ ‬الثانية،‭ ‬يبدأ‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬بالتفكير‭ ‬في‭ ‬الدورة‭ ‬المقبلة،‭ ‬وضيوفها‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬لبلدان‭ ‬لم‭ ‬تشارك‭ ‬بعد،‭ ‬مثل‭ ‬الجزائر‭ ‬وإيطاليا‭ ‬وقبرص،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬المراكب‭ ‬الموضوع‭ ‬الرئيس،‭ ‬وربما‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬الحالية،‭ ‬تباع‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الملتقى‭ ‬كهدايا‭ ‬تذكارية‭.‬

 

برج‭ ‬البرلس‭... ‬جغرافيا‭ ‬صغيرة‭... ‬تاريخ‭ ‬كبير

قبل‭ ‬أن‭  ‬تصبح‭ ‬مدينة،‭ ‬كانت‭ ‬برج‭ ‬البرلس‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬ذاع‭ ‬اسمها‭ ‬بعد‭ ‬معركة‭ ‬بحرية‭ ‬شهدها‭ ‬شاطئ بحيرة‭ ‬البرلس،‭ ‬صباح‮ ‬4‭ ‬نوفمبر‮ ‬1956،‭ ‬بدأت‭ ‬بمهاجمة‭ ‬بوارج‭ ‬تقودها‭ ‬البارجة‭ ‬الفرنسية‭ ‬جان‭ ‬بارت؛‭ ‬أول‭ ‬سفينة‭ ‬مزودة‭ ‬برادار‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ومدمرة‭ ‬بريطانية‭ ‬مدعومة‭ ‬بالطائرات‭ ‬الحربية،‭ ‬الشواطئ‭ ‬المصرية‭. ‬قاد‭ ‬الضابط‭ ‬جلال‭ ‬الدسوقي‭ ‬المعركة‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬المصري،‭ ‬واستطاعت‭ ‬ثلاثة‭ ‬زوارق‭ ‬طوربيد‭ ‬مصرية‭ ‬إطلاق‭ ‬ستار‭ ‬دخان‭ ‬لتقترب‭ ‬بسرعة‭ ‬وبحركات‭ ‬مفاجئة‭ ‬من‭ ‬الوحدات‭ ‬المهاجمة‭ ‬وأطلقت‭ ‬قذائفها‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬البوارج‭ ‬الفرنسية‭ ‬والبريطانية‭ ‬المهاجمة،‭ ‬ورغم‭ ‬اشتراك‭ ‬الطائرات‭ ‬الحربية‭ ‬في‭ ‬مهاجمة‭ ‬ضد‭ ‬الزوارق،‭ ‬فإن‭ ‬معركة‭ ‬البرلس‭ ‬انتهت‭ ‬في‭ ‬دقائق‭ ‬ودُمرت‭ ‬المدمرة‭ ‬البريطانية‭ ‬والبارجة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ودافع‭ ‬المصريون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬غطاء‭ ‬جوي‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬طوربيد‭.‬

وحين‭ ‬قاد‭ ‬الضابط‭ ‬مختار‭ ‬الجندي‭ ‬زورقه‭ ‬الأخير‭ ‬بعد‭ ‬استشهاد‭ ‬أغلب‭ ‬زملائه،‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬رفاقه‭ ‬القفز‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬ثم‭ ‬اخترق‭ ‬مدمرة‭ ‬أخرى‭ ‬بسرعة‭ ‬هائلة‭ ‬فأصيبت‭ ‬إصابة‭ ‬بالغة،‭ ‬وحكى‭ ‬الناجون‭ ‬عن‭ ‬ملحمة‭ ‬كبيرة‭ ‬لقرية‭ ‬صغيرة،‭ ‬وسجلت‭ ‬البحرية‭ ‬المصرية‭ ‬انتصاراً‭ ‬مذهلاً‭ ‬ضد‭ ‬الأسطولين؛‭ ‬الفرنسي‭ ‬والبريطاني‭. ‬وأصبح‭ ‬4‭ ‬نوفمبر‭ ‬عيداً‭ ‬سنوياً‭ ‬لمحافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ‭.‬

عائلة‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬ليست‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬النضال،‭ ‬حيث‭ ‬تمر‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬الملتقى‭ ‬الذي‭ ‬يقام‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنوياً‭ ‬ذكرى‭ ‬استشهاد‭ ‬شقيقه‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬العبور‭ ‬يوم‭ ‬21‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭. ‬كان‭ ‬أخوه‭ ‬بين‭ ‬3‭ ‬أشقاء‭ ‬يخوضون‭ ‬معركة‭ ‬الكرامة‭ ‬على‭ ‬الجبهة،‭ ‬وعاد‭ ‬شقيقاه‭ ‬محمد‭ ‬ومحمود‭ ‬واستشهد‭ ‬عبدالسلام،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يعشقها‭ ‬الفنان،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬ليكون‭ ‬أفضل‭. ‬

في‭ ‬الدورة‭ ‬الأولى‭ ‬للملتقى،‭ ‬بدأ‭ ‬الفنانون‭ ‬والفنانات‭ ‬بالجدران،‭ ‬لكنهم‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬أضافوا‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬المركب‭ ‬الصغير‭ (‬الفلوكة‭) ‬إلى‭ ‬الجدار،‭ ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬أغلبها‭ ‬من‭ ‬صيادي‭ ‬السمك،‭ ‬يسعون‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬على‭ ‬صهوات‭ ‬مراكبهم‭ ‬إلى‭ ‬خطب‭ ‬ود‭ ‬البحر‭ ‬والبحيرة‭ ‬ليأخذوا‭ ‬نصيبهم‭ ‬من‭ ‬الرزق‭.‬‭ ‬وهكذا‭ ‬بين‭ ‬فنار‭ ‬البرلس،‮ ‬وطابية‭ ‬عرابي،‭ ‬وبعيداً‭ ‬عنهما،‭ ‬تمتد‭ ‬رحلة‭ ‬الصيد،‭ ‬وحولها‭ ‬تنتشر‭ ‬صناعة‭ ‬مراكب‭ ‬الصيد،‭ ‬وتصديرها‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬ولعل‭ ‬شهرة‭ ‬أهلها‭ ‬باحتراف‭ ‬الصيد‭ ‬جعلت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬الصغيرة‭ ‬أساساً‭ ‬للثروة‭ ‬السمكية‭ ‬بها،‭ ‬مثل‭ ‬قرى‭ ‬البنائين،‭ ‬وسوق‭ ‬الثلاثاء،‭ ‬والشوش‭ ‬والوهيبة،‭ ‬والشرفا‭.‬

لم‭ ‬تبتهج‭ ‬الجدران‭ ‬وحدها،‭ ‬ولم‭ ‬ترقص‭ ‬المراكب‭ ‬على‭ ‬أنغام‭ ‬اللون‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬عم‭ ‬شعور‭ ‬الفرح‭ ‬وجوه‭ ‬الجميع،‭ ‬وأصبح‭ ‬للفنانين‭ ‬عائلات‭ ‬وأطفال‭ ‬يتابعون‭ ‬ريشاتهم‭ ‬وهي‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬الحياة،‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬ولوناً‭ ‬بعد‭ ‬آخر‭. ‬وتنافس‭ ‬الصيادون‭ ‬في‭ ‬جذب‭ ‬الفنانين‭ ‬لواجهات‭ ‬بيوتهم‭ ‬للفوز‭ ‬بلوحة‭ ‬نادرة‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬تطوعوا‭ ‬لتغيير‭ ‬وجه‭ ‬المدينة،‭ ‬وبدا‭ ‬أن‭ ‬الطاقة‭ ‬الإيجابية‭ ‬بين‭ ‬الفنان‭ ‬والمتلقي‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬أوجها‭. ‬نجحت‭ ‬التجربة‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الوعي‭ ‬الجمالي،‭ ‬لتذوق‭ ‬الفن‭ ‬وعشقه،‭ ‬وكذلك‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬نظيفة،‭ ‬وزاد‭ ‬دعم‭ ‬المؤسسات‭ ‬للفعالية،‭ ‬وانضمت‭ ‬للمحافظة‭ ‬ومؤسسة‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والتنمية‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الشباب‭ ‬وجامعة‭ ‬المستقبل‭. ‬وسجلت‭ ‬العدسات‭ ‬للفنانين‭ ‬والزائرين‭ ‬لحظات‭ ‬تنشر‭ ‬الفرح،‭ ‬والبهجة،‭ ‬بين‭ ‬الغداء‭ ‬المشترك،‭ ‬والجدران‭ ‬المرسومة،‭ ‬والمراكب‭ ‬الملونة،‭ ‬والوجوه‭ ‬الباسمة‭ ‬لأهل‭ ‬القرية،‭ ‬خاصة‭ ‬الأطفال‭..‬‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يؤكد‭ ‬نجاح‭ ‬تجربة‭ ‬الفنان‭ ‬الذي‭ ‬عشق‭ ‬أرضه‭ ‬وناسه‭ ‬فرسم‭ ‬عالمهم،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يستدعي‭ ‬الفن‭ ‬كائناً‭ ‬حياً‭ ‬يعيش‭ ‬بينهم،‭ ‬ويسبح‭ ‬في‭ ‬بحيرتهم‭. ‬

أصبحت‭ ‬فكرة‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬اختزالاً‭ ‬لتواصل‭ ‬الفنان‭ ‬الحقيقي‭ ‬مع‭ ‬مجتمعه،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬غلبت‭ ‬فيه‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬التشكيلي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬برج‭ ‬عاجي،‭ ‬يبتعد‭ ‬بعمله‭ ‬عن‭ ‬المتلقي،‭ ‬فتحدث‭ ‬غربة‭ ‬الفنان‭ ‬عن‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتنشأ‭ ‬قطيعة‭ ‬المجتمع‭ ‬مع‭ ‬الجمال‭. ‬ونجحت‭ ‬التجربة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬محاط‭ ‬بالجمال‭ ‬الطبيعي‭ ‬بين‭ ‬البحر‭ ‬والبحيرة‭.‬

‭ ‬

قوافل‭ ‬الأجيال

من‭ ‬فضائل‭ ‬الملتقى‭ ‬الثاني،‭ ‬للرسم‭ ‬على‭ ‬الحوائط‭ ‬والمراكب‭ ‬في‭ ‬البرلس‭ ‬ذلك‭ ‬الجمع‭ ‬الفذ‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬أجيال‭ ‬الرسم،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬شيخ‭ ‬الحاضرين‭ ‬هو‭ ‬الفنان‭ ‬جميل‭ ‬شفيق‭ (‬مصر‭) ‬الذي‭ ‬تماست‭ ‬طزاجة‭ ‬أعماله‭ ‬المستلهمة‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬الفطري،‭ ‬ولذلك‭ ‬امتدح‭ ‬كثيراً‭ ‬بكارة‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬فنانين‭ ‬وفنانات‭. ‬الملتقى‭ ‬أقيم‭ ‬برعاية‭ ‬د‭. ‬أسامة‭ ‬حمدي،‭ ‬محافظ‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ،‭ ‬وشارك‭ ‬فيه‭ ‬35‭ ‬فناناً‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬والهند،‭ ‬وإيران،‭ ‬والبحرين،‭ ‬والأردن،‭ ‬وتونس،‭ ‬والسودان،‭ ‬والبرتغال،‭ ‬وشارك‭ ‬طلاب‭ ‬وطالبات‭ ‬كليات‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬بالإسكندرية‭ ‬والمنصورة‭ ‬والفنون‭ ‬التطبيقية‭ ‬بدمياط‭ ‬والتربية‭ ‬النوعية‭ ‬بكفر‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬الحدث‭ ‬مع‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬المدارس‭ ‬والأهالي،‭ ‬وتمثلت‭ ‬مشاركة‭ ‬وزارة‭ ‬الشباب‭ ‬بمشروع‭ ‬‮«‬مدن‭ ‬ملونة‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬وجد‭ ‬جيل‭ ‬الكبار‭ ‬أنفسهم‭ ‬بين‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬قوامه‭ ‬90‭ ‬شاباً‭ ‬وشابة‭ ‬يتعلمون‭ ‬درسهم‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق‭. ‬وقد‭ ‬أهدت‭ ‬مؤسسة‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والتنمية‭ ‬الجهات‭ ‬المشاركة‭ ‬والفنانين‭ ‬دروعاً‭ ‬تذكارية‭ ‬تمثل‭ ‬مركباً‭ ‬ذهبياً،‭ ‬يستعد‭ ‬للانطلاق‭.‬

للعام‭ ‬الثاني‭ ‬شارك‭ ‬الفنان‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالكريم‭ (‬مصر‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬رحلته‭ ‬التشكيلية‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬بتقديم‭ ‬معماريات‭ ‬وجدانية‭ ‬أعاد‭ ‬بها‭ ‬اكتشاف‭ ‬إيقاع‭ ‬المعمار‭ ‬الصامت‭ ‬وتحري‭ ‬مجسماته‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬بصرية‭ ‬تتداخل‭ ‬فيها‭ ‬الألوان‭ ‬وتحكي‭ ‬داخله‭ ‬الخطوط‭ ‬وترقص‭ ‬به‭ ‬الجدران‭ ‬بشخبطات‭ ‬ورسوم‭ ‬ولافتات‭ ‬إعلان‭ ‬وهمسات‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الأضرحة‭ ‬وداخل‭ ‬أذهان‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬والأطفال‭. ‬ثم‭ ‬غاص‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬لعناق‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬فيكتب‭ ‬معاجم‭ ‬مفرداته‭ ‬التي‭ ‬تخصبها‭ ‬الفلسفات‭ ‬عن‭ ‬الخصوبة‭ ‬والحياة‭ ‬ولحظات‭ ‬الميلاد‭ ‬وطرح‭ ‬الحكايات؛‭ ‬وكان‭ ‬جريئاً‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الخامات،‭ ‬ومن‭ ‬يزر‭ ‬مرسمه‭ ‬في‭ ‬دهشور‭ ‬يستقبله‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ازرع‭ ‬قمحك‭ ‬
يا‭ ‬مصري‮»‬‭ ‬عمل‭ ‬ثلاثي‭ ‬الأبعاد‭ ‬250‭ ‬سم‭/ ‬360‭ ‬سم‭ ‬وقاعدة‭ ‬150‭ ‬سم،‭ ‬منفذ‭ ‬بأعواد‭ ‬القمح‭ ‬المصري‭ ‬وتتوسطه‭ ‬لوحة‭ ‬زراعة‭ ‬القمح‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الفراعنة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقابر‭ ‬العمال بقرية‭ ‬القرنة‭ ‬بالبر‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬الأقصر،‭ ‬متوخياً‭ ‬إيجاد‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬الفرعونية‭ ‬والحياة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬مركبه‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬بصمات‭ ‬الأيقونات‭ ‬الشعبية،‭ ‬بلونها‭ ‬القمحي‭ / ‬الذهبي‭ ‬السرمدي‭.‬

وإذا‭ ‬كنا‭ ‬نوقن‭ ‬بأن‭ ‬المثَّال‭ ‬محمود‭ ‬مختار‭ ‬هو‭ ‬حفيد‭ ‬بناة‭ ‬التماثيل‭ ‬العظماء‭  ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرعونية،‭ ‬فإن‭ ‬الفنان‭ ‬طارق‭ ‬الكومي‭ (‬مصر‭) ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬الإرث،‭ ‬الذي‭ ‬يجدد‭ ‬فيه‭ ‬لتستمر‭ ‬رحلة‭ ‬النحت‭ ‬المصري‭ ‬متألقة‭. ‬حوَّل‭ ‬الكومي‭ ‬‮«‬فلوكته‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قطعة‭ ‬نحت‭ ‬عبقرية‭ ‬غنية‭ ‬ذات‭ ‬طبقات‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬ربما‭ ‬لتقص‭ ‬سيرة‭ ‬الفلوكة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بمن‭ ‬أخذوها‭ ‬حالياً‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭ ‬وقلب‭ ‬البحيرة،‭ ‬بل‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬أثر‭ ‬تاريخي‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬أزمنة‭ ‬لم‭ ‬نعشها‭ ‬تعكس‭ ‬همَّ‭ ‬الصيادين‭ ‬وتاريخ‭ ‬البرلس‭. ‬

‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬يرى‭ ‬الفنان‭ ‬علاء‭ ‬عوض‭ (‬مصر‭) ‬أن‭ ‬الملتقى‭ ‬تجربة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬لأن‭ ‬فن‭ ‬الشارع‭ (‬أو‭ ‬رسم‭ ‬الجداريات‭) ‬بمنزلة‭ ‬التعبير‭ ‬الإيجابي‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬ويصل‭ ‬ويخاطب‭ ‬المتلقي‭ ‬بجميع‭ ‬فئاته‭ ‬وأعماره‭ ‬وثقافاته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وسيط،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬المعارض‭ ‬والقاعات‭ ‬المغلقة‭. ‬هنا‭ ‬يبدأ‭ ‬الدور‭ ‬الإيجابي‭ ‬للتجربة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأعمال‭ ‬الجدارية‭ ‬بمنزلة‭ ‬حلقة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬وتراثهم‭ ‬الثقافي،‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬هويتهم،‭ ‬ويحيي‭ ‬ذاكرة‭ ‬التاريخ‭ ‬الممتد‭ ‬لآلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وهو‭ ‬عمق‭ ‬ثقافي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬عظيم‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الشخصية‭ ‬الوطنية‭. ‬جدارية‭ ‬الفنان‭ ‬علاء‭ ‬عوض‭ ‬قدمت‭ ‬معركة‭ ‬بحرية‭ ‬أخرى،‭ ‬مستلهمة‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الملك‭ ‬رمسيس‭ ‬الثالث‭ ‬وحربه‭ ‬ضد‭ ‬بعض الشعوب‭ ‬الغازية‭ ‬القادمة‭ ‬عبر‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬وتحالفهم‭ ‬مع‭ ‬قبائل‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬الغربية‭ ‬لغزو‭ ‬مصر،‭ ‬وكأن‭ ‬التاريخ‭ ‬كان‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬1956،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬اللوحة‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬محاولة‭ ‬تشكيلية‭ ‬لإعادة‭ ‬قراءته‭ ‬واستلهامه‭ ‬وتدبره‭.‬

الفنانة‭ ‬سالي‭ ‬الزيني‭ (‬مصر‭) ‬غرس‭ ‬عملها‭ ‬الجداري‭ ‬البهجة،‭ ‬ونال‭ ‬حظاً‭ ‬كبيراً‭ ‬لدى‭ ‬المصورين،‭ ‬ولم‭ ‬تخلُ‭ ‬متابعات‭ ‬الصحف‭ ‬والدوريات‭ ‬من‭ ‬لوحتها‭ ‬الطفولية‭ ‬‮«‬الروح‮»‬‭ ‬الصريحة‭ ‬الألوان‭ ‬الساحرة‭ ‬التكوين‭ ‬والمختزلة‭ ‬زخرفياً‭ ‬لكل‭ ‬عناصر‭ ‬البيئة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الفنانة‭ ‬والأكاديمية‭ ‬د‭. ‬أمل‭ ‬نصر‭ ‬أكدت‭ ‬ذلك‭ ‬البعد‭ ‬الحركي‭ ‬الملائم‭ ‬لروح‭ ‬المكان،‭ ‬حيث‭ ‬جعلت‭ ‬الزيني‭ ‬من‭ ‬أشكالها‭ ‬المرسومة‭ ‬مائلة‭ ‬وغير‭ ‬موازية‭ ‬لخطوط‭ ‬البيوت،‭ ‬فكأن‭ ‬بيتها‭ ‬الملون‭ ‬يمشي‭ ‬ببعده‭ ‬الحركي،‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬خيالية‭ ‬ساحرة،‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬نقلت‭ ‬الحس‭ ‬الأنثوي‭ ‬بالوشي‭ ‬الذي‭ ‬تبثه‭ ‬في‭ ‬لوحاتها،‭ ‬متعددة‭ ‬الخامات،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬بقلب‭ ‬الطفل‭.‬

‭ ‬

رحلة‭ ‬عكس‭ ‬النيل

إذا‭ ‬كان‭ ‬النيل‭ ‬يصب‭ ‬مياهه‭ ‬شمالاً‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬رحلته‭ ‬من‭ ‬المنابع،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الفلوكات‮»‬‭ ‬سارت‭ ‬عكس‭ ‬تياره،‭ ‬وانتقلت‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬برج‭ ‬البرلس‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬سمارت‭ ‬آرت‭. ‬العرض‭ ‬القاهري‭ ‬أعدته‭ ‬دينا‭ ‬شعبان‭ ‬ولينا‭ ‬موافي‭ ‬بشكل‭ ‬احترافي‭ ‬وكأنهما‭ ‬أعادتا‭ ‬بناء‭ ‬مدينة‭ ‬أتلانتس‭. ‬

فقد‭ ‬جاءت‭ ‬المراكب‭ ‬حاملة‭ ‬رائحة‭ ‬الماء،‭ ‬وعطر‭ ‬الأنفاس‭ ‬التي‭ ‬سكبتها‭ ‬وهي‭ ‬تلونها،‭ ‬ومن‭ ‬تحت‭ ‬ضوء‭ ‬الشمس‭ ‬الذي‭ ‬غمرها‭ ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬الميلاد،‭ ‬لتعيش‭ ‬رحلة‭ ‬جديدة،‭ ‬بعطر‭ ‬زوار‭ ‬جدد،‭ ‬وتحت‭ ‬أضواء‭ ‬اصطناعية،‭ ‬تحمل‭ ‬رائحة‭ ‬الحنين،‭ ‬بذكريات‭ ‬الفنانين‭ ‬والجمهور‭ ‬معاً‭. ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬عكس‭ ‬النيل،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬أيضاً‭ ‬رحلة‭ ‬باتجاه‭ ‬القلب‭. ‬وهكذا‭ ‬وجدت‭ ‬الفلوكات‭ ‬متكأ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الأرضي‭ ‬الفسيح،‭ ‬في‭ ‬المعرض‭ ‬ذي‭ ‬الطوابق‭ ‬الثلاثة،‭ ‬بما‭ ‬يجعله‭ ‬الأضخم‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬وبدا‭ ‬وكأن‭ ‬الفلوكات‭ ‬تتجاور‭ ‬وتتحاور،‭ ‬وفيها‭ ‬من‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬وكأنها‭ ‬تلتقط‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬selfie‮»‬‭ ‬معاً،‭ ‬ومنها‭ ‬من‭ ‬اتخذت‭ ‬بلونها‭ ‬مكاناً‭ ‬قصياً‭ ‬كأنها‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تبوح‭ ‬بسرها‭ ‬لفلوكة‭ ‬أخرى،‭ ‬وبدا‭ ‬أن‭ ‬الألوان‭ ‬والأشكال‭ ‬والرموز‭ ‬والإضافات‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬فوق‭ ‬مراكبهم‭ ‬الصغيرة‭ ‬وحولها،‭ ‬تصنع‭ ‬موزاييك‭ ‬التجانس‭ ‬في‭ ‬كورال‭ ‬تشكيلي‭ ‬كبير،‭ ‬وكأن‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬التشكيلي‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬درب‭ ‬جديد‭ ‬يستقطب‭ ‬جمهوراً‭ ‬جديداً‭. ‬

ظننت‭ ‬أنني‭ ‬أمام‭ ‬عرس‭ ‬للمراكب،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬واجهتني‭ ‬عروس‭ ‬الفنانة‭ ‬عقيلة‭ ‬رياض‭ ‬في‭ ‬مركبها‭ ‬ترتدي‭ ‬ثوب‭ ‬الفرح،‭ ‬أو‭ ‬حين‭ ‬التقاني‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬المحفل‭ ‬مركب‭ ‬الفنان‭ ‬هيلدا‭ ‬حياري‭ (‬الأردن‭)‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬‮«‬كوشة‭ ‬الفرح‮»‬‭ ‬تحمل‭ ‬كرسيين‭ ‬غطاهما‭ ‬قماش‭ ‬ثوب‭ ‬العرس‭ ‬الشاف‭. ‬تحكي‭ ‬هيلدا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬المميزة‭ ‬للحضور‭ ‬في‭ ‬برج‭ ‬البرلس‭ ‬ضمن‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنانات‭ ‬من‭ ‬جنسيات‭ ‬مختلفة‭:‬

‮«‬المنطقة‭ ‬سحرتنا‭ ‬وأثرت‭ ‬فينا‭ ‬وجدانياً‭ ‬ببساطتها‭ ‬أوﻻً‭. ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬هو‭ ‬اﻻختلاط‭ ‬بسكان‭ ‬المنطقة‭ ‬ليتعلموا‭ ‬ويكتشفوا‭ ‬فنوناً‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬ثقافات‭ ‬مختلفة،‭ ‬لكنني‭ ‬وجدت‭ ‬أني‭ ‬تعلمت‭ ‬منهم‭ ‬أكــــثر‭ ‬مما‭ ‬أعطيت‭. ‬كنت‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الإرهاق‭ ‬أحياناً‭ ‬خاصة‭ ‬كفنانة‭ ‬امرأة‭ ‬ترسم‭ ‬حائطاً‭ ‬كبيراً‭ ‬بمنطقة‭ ‬شعبية‭ ‬تفتقد‭ ‬الخدمات،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬بتعبي‭ ‬وأنا‭ ‬بين‭ ‬الحاجة‭ ‬رضا‭ ‬والحاجة‭ ‬عزيزة‭ ‬والحاج‭ ‬محمد‭ ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬أعمارهم‭... ‬أحسست‭ ‬أني‭ ‬ابنتهم،‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬عائلتهم‭ ‬بالمحبة‭ ‬والكرم‭. ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬منسجمة‭ ‬بكل‭ ‬لحظة‭ ‬لأعبِّر‭ ‬عن‭ ‬محبـــتي‭ ‬لهم،‭ ‬بالإضـــــافة‭ ‬إلى‭ ‬انسجام‭ ‬مجموعتنا‭ ‬كفنانين‭ ‬من‭ ‬إيران‭ ‬والسودان‭ ‬والأردن‭ ‬والبحرين‭ ‬وتونس‭ ‬ومصر‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬المشاركة‭. ‬كنا‭ ‬حقاً‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة‭ ‬يجمعنا‭ ‬كل‭ ‬اﻻحترام‭. ‬هذه‭ ‬تجربة‭ ‬فريدة‭ ‬بمسيرتي‭ ‬الفنية‭ ‬وأسلوبي‭ ‬الذي‭ ‬أتبعه‭. ‬ﻻ‭ ‬تهمني‭ ‬العواصم‭ ‬كثيراً‭ ‬وﻻ‭ ‬الأبنية‭ ‬الشاهقة‭ ‬المغلقة،‭ ‬إذ‭ ‬تعودت‭ ‬دائماً‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬ووجدته‭ ‬في‭ ‬البرلس‭... ‬هم‭ ‬أيضاً‭ ‬تعلموا‭ ‬تقبّل‭ ‬الآخر‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬شكله‭ ‬ولونه‭ ‬وأسلوب‭ ‬حياته،‭ ‬ومازالت‭ ‬بعض‭ ‬أسئلة‭ ‬الأطفال‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وتعني‭ ‬لي‭ ‬الكثير،‭ ‬ومازلت‭ ‬على‭ ‬تواصل‭ ‬معهم،‭ ‬مثلما‭ ‬أطلع‭ ‬السكان‭ ‬على‭ ‬فنون‭ ‬مختلفة‭ ‬عما‭ ‬يعرفون‭... ‬لقد‭ ‬تبادلنا‭ ‬الأدوار‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والحب‭ ‬والعطاء‭ ‬من‭ ‬الطرفين‮»‬‭.‬

 

أسماكٌ‭ ‬ونساء‭ ‬وأساطير

لعل‭ ‬فضاء‭ ‬المكان‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬سحره‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬استلهام‭ ‬التشكيليين‭ ‬لمفرداته،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متكرر،‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬متشابه‭ ‬أو‭ ‬متطابق‭. ‬ومثلما‭ ‬حضرت‭ ‬الأسماك‭ ‬برشاقة‭ ‬متزنة‭ ‬وبذخ‭ ‬لوني‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأعمال،‭ ‬الجدارية‭ ‬أو‭ ‬المركبية،‭ ‬ظهرت‭ ‬أيضاً‭ ‬النساء‭ ‬ببهاء‭ ‬وتجلٍّ‭ ‬ناشرات‭ ‬الفرح،‭ ‬وألحت‭ ‬الأساطير‭ ‬بغموض‭ ‬وشموخ،‭ ‬وكأنها‭ ‬حكايات‭ ‬النسوة‭ ‬في‭ ‬الأمسيات،‭ ‬أو‭ ‬قصص‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭.‬

من‭ ‬ذلك‭ ‬السحر‭ ‬خرجت‭ ‬فلوكة‭ ‬الفنان‭ ‬المصري‭ ‬المخضرم‭ ‬سمير‭ ‬فؤاد‭ (‬72‭ ‬عاماً‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬أربع‭ ‬نساء‭ ‬رسمهن‭ ‬بألوان‭ ‬الأكليريك،‭ ‬كشخصيات‭ ‬أسطورية،‭ ‬بينما‭ ‬ترقص‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬اللوحة‭ ‬الأسماك‭ ‬طافية‭ ‬على‭ ‬قاع‭ ‬الفلوكة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقدم‭ ‬نسخة‭ ‬مصرية‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬بنات‭ ‬آخيلوس‭ ‬اللائي‭ ‬ينادين‭ ‬بأصواتهن‭ ‬العذبة‭ ‬على‭ ‬البحارة،‭ ‬فتأتي‭ ‬سفنهم‭ ‬لتتحطم‭ ‬بسبب‭ ‬الشعاب‭ ‬المرجانية،‭ ‬والنسخة‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬النداهة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تغري‭ ‬الصيادين‭ ‬أو‭ ‬فلاحي‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬بصوتها‭ ‬فيتقدمون‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬المياه،‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬منهم‭ ‬الغرق‭. ‬إنه‭ ‬السحر‭ ‬الأنثوي‭ ‬العابر‭ ‬للحضارات‭ ‬والثقافات‭ ‬والأساطير‭ ‬والمياه‭ ‬والجدران‭ ‬والفلوكات‭.‬

‭ ‬آلهة‭ ‬اليونان‭ ‬امتزجت‭ ‬بمفردات‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬الفنين‭ ‬الإسلامي‭ ‬والقبطي‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬فنان‭ ‬متمرس‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬عمر‭ ‬الفيومي،‭ ‬الذي‭ ‬عُرف‭ ‬بلوحاته‭ ‬المستلهمة‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬الفيوم‭ ‬الجنائزية‭.‬

هذا‭ ‬التناسخ،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬تجدر‭ ‬تسميته‭ ‬بالتناسل،‭ ‬تبدى‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬فلوكة‭ ‬الفنان‭ ‬الشاب‭ ‬إسلام‭ ‬عبادة‭ (‬مصر‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬أنجبت‭ ‬كائناً‭ ‬أسطورياً‭ ‬يقف‭ ‬حارساً‭ ‬لها‭! ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬لجسد‭ ‬الفلوكة‭ ‬وابنها،‭ ‬واللون‭ ‬الذهبي‭ ‬لأطرافها‭ ‬ورأسه،‭ ‬يقدمان‭ ‬صياغة‭ ‬جديدة‭ ‬للبط‭ ‬بين‭ ‬الجسدين،‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬المركب‭ ‬المتحرك‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬الماء‭ ‬الوهمي،‭ ‬والثاني‭ ‬وهو‭ ‬الحيوان‭ ‬الحارس،‭ ‬الثابت‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬راسخة‭. ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الصامت‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬فرادة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭. ‬إضافات‭ ‬الفنانين‭ ‬للفلوكة‭ ‬تحدت‭ ‬نفسها،‭ ‬الفنان‭ ‬جلال‭ ‬جمعة‭ (‬مصر‭)‬‮ ‬أضاف‭ ‬المعدن‭ ‬مشكلاً‭ ‬منه‭ ‬أسطورته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأضافت‭ ‬الفنانة‭ ‬باولينا‭ ‬إيفاريستو‭ (‬البرتغال‭) ‬قطع‭ ‬الأحجار‭ ‬الأسمنتية‭ ‬الجاهزة‭ ‬للبناء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬منحتها‭ ‬لون‭ ‬البحر،‭ ‬وأضاف‭ ‬فنانون‭ ‬آخرون‭ ‬شباك‭ ‬الصيد‭ ‬والدلاء‭ ‬الجلدية‭ ‬التي‭ ‬يحتفظ‭ ‬فيها‭ ‬الصــــيادون‭ ‬بالســمك‭ ‬طازجاً‭. ‬

في‭ ‬قلب‭ ‬‮«‬المتوسط‮»‬‭ ‬كان‭ ‬فنار‭ ‬برج‭ ‬البرلس،‭ ‬يضيء‭ ‬رحلة‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬التشكيلي،‭ ‬للقادمين‭ ‬والقادمات‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬وإيران‭ ‬شرقاً‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬والبرتغال‭ ‬غرباً،‭ ‬ومن‭ ‬الأردن‭ ‬شمالاً‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬جنوباً،‭ ‬رحلة‭ ‬آمن‭ ‬بحارتها‭ ‬بقيمة‭ ‬ألوانهم،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬الذي‭ ‬تخطى‭ ‬الباليتة،‭ ‬وتجاوز‭ ‬إطار‭ ‬اللوحة،‭ ‬ليغرس‭ ‬البهجة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬البسطاء،‭ ‬وليحرك‭ ‬الراكد‭ ‬في‭ ‬بحيرة‭ ‬التشكيل،‭ ‬وليجدد‭ ‬العهد‭ ‬مع‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬أحيت‭ ‬الحضارات‭ ‬وخلدتها‭ .

كأن‭ ‬الطيور‭ ‬تنشر‭ ‬سلامها‭ ‬للمارين‭ ‬بالبيت‭ ‬والمقيمين‭ ‬فيه،‭ ‬بأجنحتها‭ ‬البيضاء،‭ ‬وبين‭ ‬سماء‭ ‬مجنّحة،‭ ‬وبحر‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬الملونة‭ ‬جلس‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬مع‭ ‬طفليه،‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المشهد،‭ ‬بأفكار‭ ‬مشرعة‭ ‬كما‭ ‬النوافذ

الفنانة‭ ‬د‭. ‬عقيلة‭ ‬رياض‭ ‬تغازل‭ ‬مركبها‭ ‬بالريشة‭ ‬والروح‭ ‬معاً

الشغف‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الدقيقة‭ ‬والألوان‭ ‬الصريحة‭ ‬والحس‭ ‬الأنثوي‭ ‬للأسطورة‭ ‬الهندية‭ ‬عنوان‭ ‬العملين؛‭ ‬الجداري‭ ‬والفلوكة‭  ‬اللذين‭ ‬قدمتهما‭ ‬الفنانة‭ ‬الهندية‭ ‬بونام‭ ‬شاندريكا‭ ‬تياجي

جدارية‭ ‬الفنانة‭ ‬سالي‭ ‬الزيني‭ ‬ذات‭ ‬البعد‭ ‬الحركي‭ ‬الملائم‭ ‬لروح‭ ‬المكان‭ ‬بأشكالها‭ ‬المرسومة‭ ‬مائلة‭ ‬وغير‭ ‬الموازية‭ ‬لخطوط‭ ‬البيوت،‭ ‬وكأن‭ ‬بيتها‭ ‬الملون‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬خيالية‭ ‬ساحرة‭ ‬نقلت‭ ‬الحس‭ ‬الأنثوي‭ ‬بالوشي‭ ‬الذي‭ ‬تبثه‭ ‬في‭ ‬لوحاتها،‭  ‬متعددة‭ ‬الخامات،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬ترسم‭ ‬بقلب‭ ‬الطفل‭. ‬

شارك‭ ‬فنانون‭ ‬من‭ ‬8‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬الملتقى،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬التشكيلي‭ ‬الإيراني‭ ‬ناصر‭ ‬بلانجي

فلوكة‭ ‬الفنان‭ ‬الشاب‭ ‬إسلام‭ ‬عبادة‭ ‬التي‭ ‬أنجبت‭ ‬كائنا‭ ‬أسطوريا‭ ‬يقف‭ ‬حارسا‭ ‬لها‭! ‬اللون‭ ‬الأسود،‭ ‬لجسد‭ ‬الفلوكة‭ ‬وابنها،‭ ‬واللون‭ ‬الذهبي‭ ‬لأطرافها‭ ‬ورأسه،‭ ‬تقدم‭ ‬صياغة‭ ‬جديدة‭ ‬للربط‭ ‬بين‭ ‬الجسدين،‭ ‬الأول‭ ‬ـ‭ ‬وهو‭ ‬المركب‭ ‬ـ‭ ‬المتحرك‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬الماء‭ ‬الوهمي،‭ ‬والثاني،‭ ‬وهو‭ ‬الحيوان‭ ‬الحارس،‭ ‬الثابت‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬راسخة‭.‬

الأطفال‭ ‬قاسم‭ ‬مشترك‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنانات،‭ ‬سواء‭ ‬داخل‭ ‬الجدارية‭ ‬أو‭ ‬الفلوكة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬خلال‭ ‬الرسم‭ ‬أو‭ ‬أثناء‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الحكايات،‭ ‬وابتسامات‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭.‬

رحلة‭ ‬عكس‭ ‬النيل،‭ ‬الفلوكات‭ ‬تستعد‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬مينائها‭ ‬التشكيلي‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬في‭ ‬برج‭ ‬البرلس‭ ‬إلى‭ ‬معرضها‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭. ‬

الفلوكات‭ ‬تقف‭ ‬للتصوير،‭ (‬من‭ ‬اليمين‭) ‬أعمال‭ ‬عقيلة‭ ‬رياض،‭ ‬وعمر‭ ‬الفيومي،‭ ‬وجميل‭ ‬شفيق‭ ‬وجيهان‭ ‬سليمان