حكايات المدن
المدينة هي في نهاية المطاف نقلة حضارية في حياة البشر، وكانت كذلك على مدى القرون والعقود الماضية. تمكن المدينة الناس من تبني قيم وسلوكيات وأنماط اجتماعية وسكانية مختلفة عن حياة البشر في الريف أو البادية أو المناطق البعيدة عن مراكز الحضر. تُحفِّز المدينة على العلم والتعليم والمعرفة واكتساب الثقافة وعلى ترشيد سلوكيات الناس وتحدد حجم العائلة وأساليب السكن والتناسل وتكوين العائلة وطقوس الزواج والطلاق. تعزز المدينة البحث عن العمل الجاد والمتطور والابتكار والإبداع، لكن المدن تختلف في أنماطها وأساليب العيش فيها. هناك عديد من المدن التي تعاني من الأحياء المكتظة بالسكان وتفتقر إلى البنى التحتية الملائمة والمناسبة لارتقاء نوعية الحياة. وتكثر في هذه المدن الأحياء الشعبية غير المؤهلة للعيش الكريم. وهناك العشوائيات المنتشرة في أطراف المدن الكبرى مثل بغداد ودمشق والقاهرة والدار البيضاء وطهران ومومبي وغيرها في بلدان العالم الثالث، ويطلق على هذه المناطق Slums، وهي لا توفر للإنسان المعيشة الملائمة، بل يمكن الزعم أن العيش في القرى والأرياف أكرم من العيش في هذه العشوائيات. بيد أن المدن في البلدان المتطورة تتميز بتوفير جميع متطلبات الحياة العصرية والبنى التحتية الملائمة. كما أنها توفر مرافق التعليم المتميزة ومراكز الرعاية الصحية. وتعمل مدن عدة على تحقيق التوازن البيئي وتطورات المطالب لدى سكان هذه المدن من أجل حمايتها من التلوث بكل أشكاله. ولذلك فإن الأحزاب السياسية التزمت، على الرغم من تفاوت مواقفها الأيديولوجية، العمل على الحفاظ على الحياة الصحية للبشر والحيوان، ودفع الحكومات لوقف التلوث الصناعي أو الناتج عن استخدام السيارات والعربات وتنظيف الأنهر وغير ذلك. هذه المدن التي لابد أن يحلم بها كثير من سكان بلدان عديدة في عالمنا المعاصر .
باريــس
خلال شهر أغسطس من العام المنصرم (2015) قضيت ما يقارب الشهر في رحلة سياحية بين المدن الأوربية. بدأت رحلتي في باريس، مدينة النور، عاصمة فرنسا، وكما هو معلوم أن باريس تزخر بالعبق التاريخي المتمثل في المباني وما تحويه متاحفها العديدة من أعمال، مثل اللوحات والتماثيل التي أبدع في إنتاجها ألمع الفنانين على مدى القرون والعقود الماضية. كما أن باريس تتسم بالحداثة والتطور، وتفيض فيها المحال والمتاجر الجميلة، التي توفر للزبائن أفضل المنتجات من ملابس وسلع كمالية وغيرها، مما يثير اهتمام الفئات الميسورة والتي لا تمل ولا تقتنع بما لديها من ألبسة ومقتنيات أخرى، ولديها الاستعداد لبذل المال الكثير للحصول عليها. أما مطاعم باريس فحدِّث ولا حرج، فعندما تسير في أي من شوارعها ومن أهمها جادة الشانزليزيه المشهورة، فإنك تجد المقاهي العديدة التي تعج بالزبائن من فرنسيين وأجانب، وبطبيعة الحال لابد أن تلحظ في شهور الصيف خاصة كثيراً من الخليجيين وبعضهم مع نسائهم بملابسهم المتنوعة. ومطاعم فرنسا، وباريس خاصة، ذات نكهة مشهورة على المستوى العالمي، فهي تجذب السياح، أمريكيين وأوربيين آخرين ومن بلاد الصين واليابان، للتمتع بالأكلات الشهية التي يتقنها الطهاة في هذا البلد المتميز بالتذوق في الطعام والشراب وجميع الأمور. ولابد أن هذه المطاعم والمقاهي تجني الكثير في جميع فصول السنة. ومعلوم أن فرنسا تجذب أكثر من ستين مليوناً من الزوار الأجانب سنوياً، وهي مصنفة بالدولة الأولى من قبل منظمة السياحة العالمية من حيث عدد السياح الذين يقومون بزيارتها. ولا شك في أن هؤلاء السياح يأتون من بلدان عديدة، كما أنهم يشملون الأغنياء ومتوسطي الحال وأصحاب الدخول المحدودة القادمين من بلدان مجاورة أو من بلدان شمال إفريقيا.
وأكدت دراسات تاريخية أن باريس يعود تاريخها إلى مخيمات الصيادين في الفترة من 9800 إلى 7500 قبل الميلاد. وفي الفترة من 250 إلى 225 قبل الميلاد، استوطن عناصر من قبيلة يطلق عليها Celtic-Senones على ضفاف نهر «السين»، وقد شيدوا الجسور والقلاع على النهر. كذلك سكوا عملات للتعامل في التجارة. وقد استمر الاستيطان في باريس وحولها على مدار القرون اللاحقة. وفي القرن السادس الميلادي وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، تم احتلال المدينة من قبل كلوفس Clovis ملك الفرنجة، الذي جعلها عاصمة لملكه في عام 508م. وازدهرت باريس بعد ذلك وأصبحت أكبر مدن أوربا، ومركزاً تجارياً ودينياً مهماً، وتميزت بالمعمار القوطي Gothic، كذلك أصبحت مركزاً ثقافياً وعلمياً عندما أُسست جامعة باريس على الضفة اليسرى من نهر السين في القرن الثالث عشر الميلادي. هذه تواريخ قديمة، ولكن باريس التي شهدت الثورة الفرنسية عام 1789 قادت تحولات مهمة على مدار القرون الثلاثة الماضية. أهم من ذلك أن باريس التي عانت الاحتلال النازي في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، أكدت روح المقاومة ومحاولة الحفاظ على التراث الثقافي والأدبي والفني، حيث مارس النازيون بربرية طاغية ضد كل مظاهر التراث الجميل الذي تراكم لديها على مدار العقود والقرون. خـلال تلك السنـوات الصعبـة (1940 – 1944)، حيث تعرضت لقصف عنيف من القوات الألمانية تعززت روح المقاومة، وانتفض الباريسيون، مع بقية الفرنسيين، ضد الاحتلال لمواجهته، وفي ذات الوقت حدث تضامن نوعي بين الفنانين والمثقفين لحماية معالم الثقافة والفنون. وتشمل باريس الآن عديداً من المتاحف المهمة في العالم، منها متحف أو مركز جورج بومبيدو ومسرح مارمونان مونيه، ومتحف أورساي Musee dorsay، وبطبيعة الحال هناك متحف اللوفر Lovre.
لعبت باريس دوراً مهماً في تغيير التضاريس السياسية في أوربا خلال السنوات الخمسين الماضية، أي منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. وفي أواخر الستينيات كانت هناك حركة تمرد على الأوضاع القائمة. وفي عام 1968، وتحديداً في مايو من ذلك العام، قامت مجموعات عمالية وشبابية بحركات احتجاج وتمرد ونظمت إضرابات واحتلت الجامعات والمصانع في مختلف المدن الفرنسية. وقد أدت تلك الحركات إلى توقف الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد تماماً. وتعطلت دور الحكومة وشُلَّت أعمالها. وعلى الرغم من تلك الأوضاع الصعبة، فقد رافق تلك الاحتجاجات نشاط ثقافي وترفيهي وأعمال فنية متنوعة. وقد حاولت القوى الأمنية أن تضع حدّاً لتلك الاحتجاجات بالقوة، ولكن اتساع رقعة الإضرابات لم يسعف السلطة الحاكمة. وقد دفعت الأحداث الرئيس الراحل شارل ديجول لحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات في 23 يونيو 1968 التي نجح فيها الحزب الديجولي وعاد إلى البرلمان بالقوة. وقد حاول الرئيس ديجول أن يطور النظام الإداري في البلاد ويعزز اللامركزية وطرح الأمر في استفتاء عام، ولكنه فشل في كسب الأغلبية لمصلحة الاستفتاء، مما دفعه للاستقالة في 28 أبريل 1969 بعد أن ترأس البلاد مدة تزيد قليلاً على عشر سنوات.
لا شك في أن فرنسا بعد ديجول قد تغيَّرَت، حيث إنها لم تشهد رئيساً بإمكاناته القيادية وشخصيته التاريخية، الذي أعاد البلاد إلى الاستقرار بعد تأسيس الجمهورية الخامسة. لكن فرنسا ظلت قادرة على الانتعاش السياسي والثقافي وتطوير الفنون والسينما والمسرح والآداب. كما أن باريس تظل مركزاً مهماً للثقافة الإنسانية، ولا يمكن أن يتم تجاوزها في هذا النشاط، على الرغم من التحولات المهمة في عديد من المدن الأوربية وغيرها من مدن في مختلف القارات.
وارســو
بلغنا وارسو، عاصمة بولندا، في نهاية الأسبوع الأول من شهر أغسطس. لم تكن الزيارة الأولى لهذه المدينة. وارسو من المدن ذات النكهة الأوربية التقليدية، ويمكن أن تلحظ المعالم ذاتها في مدن مثل فيينا أو بودابست أو أي من المدن الألمانية. عُرفت وارسو بعد الحرب العالمية الثانية كمقر لحلف وارسو الذي انتظمت فيه بلدان المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي في حلف عسكري مضاد لحلف الناتو، الذي جمع بلدان أوربا الغربية مع الولايات المتحدة، وبذلك كان ذلك الحلف من رموز الحرب الباردة التي امتدت حتى عام 1990، وانتهت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحرر بلدان أوربا الشرقية من نير الحكم الشمولي والهيمنة السوفييتية. لكن ماذا عن تضاريس المدينة؟ يمر بالمدينة نهر مهم في بولندا هو نهر فيستولا Vistula، والمدينة تقع في شرق وسط بولندا، وتبعد بما يقارب 260 كيلومتراً جنوب بحر البلطيق. يقدر عدد سكان وارسو بما يقارب مليوناً وسبعمائة وخمسين ألف نسمة، وتعد تاسع مدينة من حيث الحجم السكاني في بلدان الاتحاد الأوربي. وكما هو معلوم أن بولندا كانت من البلدان التي تمتعت بنظام حكم ديمقراطي قبل الحرب العالمية الثانية، على الرغم من الصعوبات التي واجهت البلاد في حروبها الوطنية ضد الاحتلال الروسي والنضال ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ثم جاءت الهيمنة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية وإقامة نظام الحزب الواحد، الحزب الشيوعي البولندي، الذي تحكم في البلاد إبان فترة الحرب الباردة. لكن بولندا كانت من البلدان التي تتوق إلى الحرية، وقد تمكنت حركة «Solidarity» في ثمانينيات القرن الماضي، والمدعومة من الكنيسة الكاثولوكية، من كسب تعاطف وثقة الجماهير في بولندا، بما عزز النضال ضد الاستبداد والشمولية في مختلف بلدان أوربا الشرقية.
تتمتع وارسو بأنماط معمارية متنوعة، فيمكن أن تجد الكنائس القوطية (Gothic) والقصور الكلاسيكية، بالإضافة إلى المباني السكنية التي شُيِّدت بموجب المفاهيم السوفييتية لاحتواء السكان في شقق ضئيلة الحجم. لكن وارسو تتمتع بوجود مدينة قديمة مليئة بالحيوية، حيث تنتشر فيها مطاعم عديدة ومقاهٍ ومراكز للهو الليلي. ويمكن للمرء أن يتمتع بالمناخ المعتدل في وارسو، حيث إن شهر أغسطس قد تتراوح خلاله درجة الحرارة بين 15 و30 درجة مئوية، ومن المعتاد أن تنخفض درجة الحرارة في النصف الثاني من الشهر. تعد وارسو مركزاً تعليمياً وثقافياً مهماً في وسط أوربا، حيث تحوي عديداً من الجامعات المهمة مثل جامعة وارسو، وجامعة وارسو للتكنولوجيا وجامعة وارسو للطب، ومدرسة وارسو للاقتصاد، وغيرها من جامعات متخصصة في العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية.
عرفت وارسو المقاومة الشعبية ضد الاحتلال النازي خلال السنوات الأولى في أربعينيات القرن الماضي، وواجهت القمع من القوات الألمانية المحتلة بشجاعة، وقد قدمت ما يزيد على 200 ألف ضحية خلال تلك المقاومة، فضلاً عن عشرات الآلاف من سجناء الحرب الذين نقلوا لمراكز الاعتقال في ألمانيا. وقد هدم النازيون وارسو بشكل جنوني وعنيف، وتم الاستيلاء على محتويات المتاحف فيها ونقلت تلك المحتويات إلى ألمانيا وأُحرق جزء كبير منها. ويذكر المؤرخون أن ما يقارب 85 في المائة من المدينة قد دمره الاحتلال النازي بما في ذلك المدينة التاريخية القديمة والقلعة الملكية.
وارسو الآن لا تقل حداثة عن أي مدينة في أوربا الغربية، وهي تعج بالمطاعم والبنوك والمنشآت السياحية. كما أن أسواقها تضم محال تعرض أفخم الملابس والأحذية، كذلك هناك معارض للسيارات الحديثة. مباني الشقق أصبحت مختلفة عما كانت عليه أيام الحكم الشيوعي... الناس يبدون في أوضاع معيشية طيبة. ولكن على الرغم من ذلك، فإن أسعار السلع والخدمات تظل معقولة قياساً بالأسعار في باريس. الفنادق لا تقل فخامة عن مثيلاتها في مدن مثل روما وباريس. كما أن القائمين على المنشآت السياحية يتمتعون بإمكانات تنظيمية وعملية مواتية لخدمة الزائرين. وقد كان ترتيب مدينة وارسو في عام 2012 الـ 32 من حيث نوعية الحياة، كما أنها اعتُبرت من أفضل المدن للمعيشة في وسط أوربا، وقد أصبحت من أهم المدن السياحية.
يضاف إلى ما سبق ذكره أن وارسو أصبحت الآن من أهم مراكز البحوث العلمية، وأيضاً من أهم مراكز الإعلام في بولندا ووسط أوربا. ولا شك في أن وجود هذا العدد المهم من الجامعات يعزز قدرات مراكز البحوث والدراسات في وارسو. لكن ما يمكن أن يلفت النظر هو أن القليل من المواطنين يتقنون اللغات الأجنبية الرئيسة، مثل الإنجليزية أو الفرنسية، ولذلك فإن تعزيز العلم والمعرفة يتطلب من البولنديين الاهتمام بتدريس هذه اللغات. قد يكون هناك عدد لا بأس به ممن يتقنون الألمانية، لكن عديداً من زوار المدينة من خارج البلاد لا يُلمّون بهذه اللغة. ومهما يكن من أمر، فإن الشعب البولندي، وسكان وارسو على وجه التحديد، يتمتعون بالنباهة والقدرة على التعلم، ولا بد أن التطورات الاقتصادية الجارية في بلادهم وحولهم ستدفع إلى تعزيز القدرات. ولذلك ستكون هذه المدينة من أهم المدن الأوربية خلال السنوات المقبلة، وسوف تصبح مزاراً مهماً لعديد من ضيوف البلاد والقادمين من أقاصي الديار.
برليــن
هل هناك من لا يعرف برلين، عاصمة ألمانيا؟ برلين تلك المدينة التي عانت ويلات الحرب العالمية الثانية، وخضعت لضربات الطيران الحربي خلال تلك الحرب، ثم قُسِّمت ألمانيا إلى شرقية وغربية بعد نهاية الحرب. حللنا في برلين في منتصف أغسطس، كانت الحرارة مرتفعة نسبياً، خصوصاً ونحن فـي شمال أوربا، هل يُعقل أن تكون الحرارة بين ثلاثين وخمس وثلاثين؟ لكن هكذا كان المناخ في أوربا، عموماً، خلال الصيف. بيد أن من يحل في برلين يتناسى قسوة الحر ويُدهش لمعالمها الجميلة وعمرانها المتسق والتوافق بين القديم والحديث. لا شك في أن برلين تطورت كثيراً بعد أن جرى توحيدها بعد سقوط الجدار العازل بين الشرق والغرب عام 1989. وقد أنفقت الحكومة الألمانية أموالاً طائلة لتطوير برلين التي أصبحت عاصمة ألمانيا الموحَّدة ضمن إعادة إعمار جميع أنحاء ألمانيا الشرقية التي كانت تعاني تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية آنذاك. يضاف إلى ذلك أن حيوية الشعب الألماني عززت التطورات خلال فترة قياسية، ومكَّنت سكان الجانب الشرقي من ألمانيا من اللحاق بأهلهم في الجانب الغربي، ما يمكن للزائر أن يشاهده في برلين هو ذلك التواصل المريح من خلال أنظمة النقل العام، من قطارات وترامات وباصات أو حافلات، كما أن شوارع المدينة تنعم بالاخضرار، نظراً لوجود الأشجار الباسقة التي تظللها. ويمكن للمرء أن يلحظ أن المدينة قد تدفق عليها كثير من البشر خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، أي منذ توحيدها، من مختلف الجنسيات والأصول. هؤلاء أضافوا لمساتهم الثقافية والحضارية على المدينة من خلال محالهم ومطاعمهم وغير ذلك من مظاهر.
يحكــى أن برليـــن أصبحـــت عاصمـــة ماغرافايت براندبرغ أو Bandenburg Margravite of خلال الفترة من 1417 - 1701، ثم عاصمة مملكة بروسيا Kingdom of Prusia خلال الفترة من 1701 - 1918، ثم عاصمة جمهورية الفايمر Weimar Republic من 1919 حتى 1933، ثم عاصمة الرايخ الثالث Third Reich من 1933 حتى 1945، أي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. في القرن العشرين كانت برلين ثالث أكبر مقاطعة بلدية في العالم. وبعد الحرب العالمية الثانية قُسِّمت برلين إلى برلين الشرقية، عاصمة ألمانيا الشرقية، وبرلين الغربية كجزء من ألمانيا الغربية، وقد كُرِّس التقسيم بعد إقامة جدار برلين الذي استمر من 1961 حتى هدمه في 1989.
ويعتمد اقتصاد مدينة برلين على الصناعات عالية التقنية، كما أن قطاع الخدمات يحظى بنشاط فاعل. يضاف إلى ذلك أن برلين تلعب دوراً حيوياً في ربط مختلف المدن والمناطق في أوربا من خلال مطاراتها وشبكة السكك الحديدية، بالإضافة إلى الطرق البرية المؤهلة. وقد أصبحت برلين مزاراً مهماً للسياح، ويمكن للمرء أن يشاهد هؤلاء السياح القادمين من مختلف المدن في أوربا ومن بلدان بعيدة مثل الصين واليابان، بالإضافة إلى العرب القادمين من بلدان الخليج أو مصر أو سورية أو بلدان شمال إفريقيا. كذلك استوطن كثير من هؤلاء العرب مدينة برلين، وأصبحت لديهم مؤسسات اجتماعية وثقافية ونوادي جاليات متنوعة. يقيم الفنانون العرب والمثقفون معارض تشكيلية وأمسيات شعرية وموسيقية ويتفننون في إعداد المآدب التي تجذب عديداً من أصدقائهم الألمان.
برلين، الآن، تحوي الجامعات المتميزة، وبذلك أصبحت مركزاً تعليمياً أساسياً في ألمانيا وفي أوربا عموماً. كذلك هناك قاعات الأوركسترا وعديد من المتاحف ومراكز التسلية واللهو.
وتقوم برلين بتوفير تسهيلات لإقامة مسابقات رياضية متنوعة، وتستضيف البطولات عندما تكون هناك مناسبات محددة لها. كذلك يعمل عديد من السينمائيين على إخراج الأفلام في هذه المدينة، خصوصاً التي تكون ذات مواضيع وصلة بالأحداث التي دارت في ألمانيا، وبالتحديد أحداث الحرب العالمية الثانية وما سبقها أو لحقها من أحداث ذات طابع سياسي أو اجتماعي.
يقدر عدد سكان برلين في الوقت الحاضر بـ 3.5 ملايين نسمة، وأما مساحتها فهي تقل عن 900 كيلومتر مربع، لكن اقتصاد هذه المدينة يحقق ناتجاً إجمالياً يصل إلى 110 مليارات يورو أو 125 مليار دولار سنوياً.
ويعد هذا الحجم الاقتصادي مهماً لمدينة واحدة.
وتمكن ملاحظة عديد من السياح القادمين من بلدان مختلفة يتجولون في برلين ويقصدون المواقع الأساسية التي تحكي قصة المدينة وما مر بها من أحداث، مثل مبنى البرلمان وموقع الحائط الذي تم تحديد موقعه بشكل يسمح للزائر أن يتعرف على طبيعة بنائه. كما أن هناك مواقع تحكي المعاناة التي مر بها الشعب الألماني، خصوصاً في سنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا بد أن أهل برلين يودون أن يؤكدوا أن مدينتهم تميزت بالقدرة على مواجهة المصاعب ثم عادت للانتعاش وتطوير ملامحها بما يتوافق مع التطورات الحضارية.
تظل برلين من أجمل المدن، وهي لا ريب تستحق الزيارة للتعرف على معالمها وقياس التقدم الذي أحرزته في مجالات عديدة على مدى ربع القرن الماضي، أي منذ إعادة توحيدها.
بــراغ
وصلنا إلى براغ ظهر الأربعاء 19 أغسطس، بعد أن قطعنا 900 كيلومتر في الطريق من مقر إقامتنا الصيفية في شرق بولندا. كان الطريق جميلاً والجو مشمساً وإن كان حاراً. من لا يعرف براغ التي اشتهرت بربيعها في بدايات التمرد على النظام الاشتراكي وتبعيته للاتحاد السوفييتي في صيف عام 1968؟ في ذلك العام حاول ألكنسدر دوبشيك Alexander Dubcek أن يغير النظام ويتجه نحو الديمقراطية، لكن روسيا ودول حلف وارسو قامت بالتدخل العسكري وإيقاف عملية التغيير. خلال القرن العشرين مرت تشيكوسلوفاكيا بنظم حكــم مختلفة. بعد هزيمة إمبراطوريــة Austro-Hungarian (المجرية – النمساوية) تم تأسيس الجمهورية الأولى، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتم اختيار براغ عاصمة للجمهورية. وقد بلغ عدد سكان الجمهورية في عام 1930 ما يربو على 850 ألفاً. لكن براغ، وتشيكوسلوفاكيا مرتا بمحنة الحرب العالمية الثانية عندما دخلهما الجيش الألماني في الخامس عشر من مارس عام 1939. وظلت البلاد محتلة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية عام 1945. خلال الحرب عانت براغ من القصف الجوي الذي قام به الحلفاء ضد القوات النازية. لكنها لم تستسلم تماماً للاحتلال النازي، حيث قامت فرق المقاومة بتنفيذ عمليات انتقامية ضد القوات المحتلة، وجرت اغتيالات لقادة من الجيش الألماني وشخصيات أخرى محسوبة على الحكم النازي. بطبيعة الحال فإن هتلر أمر بالانتقام الشديد من أهل براغ، وقد تم تحرير المدينة في أوائل مايو من عام 1945 من قبل قوات الجيش الأحمر السوفييتية... لكن المحنة لم تنته، فقد تم تأسيس الحكم الشمولي بقيادة الحزب الشيوعي بعد التحرر من القوات الألمانية. لم تتوقف المقاومة، بأشكالها المتعددة، ومنها ما هو ثقافي وآخر نقابي وغير ذلك من أشكال المقاومة السلمية بشكل عام. وقد توجت تلك المقاومة بتمرد دوبشيك زعيم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، الذي أحبط، كما سبق ذكره في أغسطس 1968.
تعتبر براغ، الآن، من أهم المدن الأوربية، وتحظى بشعبية كبيرة بين السياح في أوربا والعالم. وتحوي المدينة تحفاً معمارية عجيبة، ومنها ما هو كلاسيكي وآخر حديث أو عصري. ومن أهم المعالم المعمارية في المدينة، والتي أصبحت عاصمة جمهورية التشيك بعد أن انفصلت عن سلوفاكيا بعد نهاية الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، قلعة براغ مع كاتدرائية سانت فاتيوس «St.Vitus Cathedral» التي تحوي مجوهرات التاج التشيكي القديمة. هناك، أيضاً، المدينة القديمة، التي تحوي عدداً من الكنائس المهمة في تاريخ البلاد، منها كنيسة سيدتنا قبل تاين Church of Our Lady before Tyn، والتي أقيمت في القرن الرابع عشر، وتشمل أبراجاً بارتفاع 80 متراً. وهناك معبد يهودي يعود تاريخه إلى عام 1270.
يقدر عدد سكان براغ بـ 1.260.000 نسمة ولا تزيد مساحتها على 296 كيلومتراً، ويبدو أن سكان المدينة يتمتعون بمستويات تعليمية جيدة، وهم يجيدون التحدث باللغات الرئيسة، مثل الإنجليزية والفرنسية، وبطبيعة الحال الألمانية. ويمكن للزائر أن يلحظ حيوية الشعب التشيكي ودماثة الأخلاق والانضباط في الحياة. تعد المدينة من حيث التركيب السكاني الخامسة عشرة في الاتحاد الأوربي. ومن أهم ما تشتهر به أنها عاصمة بوهيما القديمة، التي تقع في الشمال الغربي من جمهورية التشيك على نهر فيلتافا Vltava. ويذكر المختصون أن براغ مركز سياسي وثقافي واقتصادي مهم في منطقة وسط أوربا، ويشهد لها تاريخها الذي يقارب الآن 1100 عام من بداية وجودها. وتتميز المدينة بوجود عديد من المعالم الجذابة، منها قلعة براغ وجسر شارلي وميدان المدينة القديمة وساعة براغ الفلكية والحي اليهودي. وقد اعتبرت منظمة اليونسكو UNESCO هذه المعالم ضمن قائمة التراث العالمي. هناك، أيضا، ما يقارب عشرة متاحف مهمة بالإضافة إلى عديد من المسارح ومعارض الفن التشكيلي وقاعات السينما. تملك المدينة نظام مواصلات عامة يُمكِّن من الانتقال بسلاسة بين مختلف مناطقها. أما الإمكانات التعليمية فهي متكاملة، حيث يوجد عديد من مدارس التعليم العام المتميزة والجامعات ومنها جامعة شارل (Charles University).
يفد إلى براغ ما يزيد على 4.4 ملايين زائر سنوياً من مختلف أنحاء العالم، وقد اعتبرت المدينة خامس مزار سياحي في العالم من قبل جهات متخصصة بأعمال السياحة العالمية، وهي أيضا خامس مدينة مستهدفة من السياح في أوربا بعد لندن وباريس وإسطنبول وروما. ما يلفت النظر في براغ هو تداخل القديم مع الحديث والشعور بالرقي في منظومة القيم بين سكان المدينة والإحساس بالاهتمام بالثقافة المتنوعة. وليس هناك أدل على ارتقاء المستوى الثقافي من أن فاكلاف هافل Vaclav Havel تولى رئاسة الجمهورية بعد قيام جمهورية التشيك بعد الانفصال الودي عن سلوفاكيا عام 1993 واستمر حتى عام 2003. ومن المعروف أن هافل هو من الكتاب المسرحيين (Playwright) وآمن بفلسفة حقوق الإنسان وتعرض للاضطهاد من قبل النظام الشيوعي الذي حكم البلاد خلال فترة الحرب الباردة. وقد ترأس بعد نهاية الحكم الشمولي حزب المنتدى المدني.
براغ الآن على موعد مع فعاليات دولية عديدة يمكن أن تستضيفها، منها فعاليات فنية وأخرى رياضية. وقد سبق لها خلال السنوات القليلة الماضية أن استضافت اجتماعات للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذه مدينة غنية في معالمها المعمارية ومتاحفها وغنية برقي المسرح والسينما والثقافة، ولكن الأهم من ذلك أنها غنية بأهلها، أو مواطنيها، الذين تميزوا بعلمهم وثقافتهم وقدرتهم على التواصل الودود مع زوارهم .