حكايات المدن

حكايات المدن

المدينة‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬نقلة‭ ‬حضارية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشر،‭ ‬وكانت‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬القرون‭ ‬والعقود‭ ‬الماضية‭. ‬تمكن‭ ‬المدينة‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬تبني‭ ‬قيم‭ ‬وسلوكيات‭ ‬وأنماط‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسكانية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬أو‭ ‬البادية‭ ‬أو‭ ‬المناطق‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬مراكز‭ ‬الحضر‭. ‬تُحفِّز‭ ‬المدينة‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬والتعليم‭ ‬والمعرفة‭ ‬واكتساب‭ ‬الثقافة‭ ‬وعلى‭ ‬ترشيد‭ ‬سلوكيات‭ ‬الناس‭ ‬وتحدد‭ ‬حجم‭ ‬العائلة‭ ‬وأساليب‭ ‬السكن‭ ‬والتناسل‭ ‬وتكوين‭ ‬العائلة‭ ‬وطقوس‭ ‬الزواج‭ ‬والطلاق‭. ‬تعزز‭ ‬المدينة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬الجاد‭ ‬والمتطور‭ ‬والابتكار‭ ‬والإبداع،‭ ‬لكن‭ ‬المدن‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬أنماطها‭ ‬وأساليب‭ ‬العيش‭ ‬فيها‭. ‬هناك‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬المكتظة‭ ‬بالسكان‭ ‬وتفتقر‭ ‬إلى‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬الملائمة‭ ‬والمناسبة‭ ‬لارتقاء‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة‭. ‬وتكثر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬الأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬غير‭ ‬المؤهلة‭ ‬للعيش‭ ‬الكريم‭. ‬وهناك‭ ‬العشوائيات‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬المدن‭ ‬الكبرى‭ ‬مثل‭ ‬بغداد‭ ‬ودمشق‭ ‬والقاهرة‭ ‬والدار‭ ‬البيضاء‭ ‬وطهران‭ ‬ومومبي‭ ‬وغيرها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬ويطلق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬Slums،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬توفر‭ ‬للإنسان‭ ‬المعيشة‭ ‬الملائمة،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬الزعم‭ ‬أن‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والأرياف‭ ‬أكرم‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العشوائيات‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬المتطورة‭ ‬تتميز‭ ‬بتوفير‭ ‬جميع‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬العصرية‭ ‬والبنى‭ ‬التحتية‭ ‬الملائمة‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬توفر‭ ‬مرافق‭ ‬التعليم‭ ‬المتميزة‭ ‬ومراكز‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭. ‬وتعمل‭ ‬مدن‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬البيئي‭ ‬وتطورات‭ ‬المطالب‭ ‬لدى‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬التلوث‭ ‬بكل‭ ‬أشكاله‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬التزمت،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تفاوت‭ ‬مواقفها‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الصحية‭ ‬للبشر‭ ‬والحيوان،‭ ‬ودفع‭ ‬الحكومات‭ ‬لوقف‭ ‬التلوث‭ ‬الصناعي‭ ‬أو‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬السيارات‭ ‬والعربات‭ ‬وتنظيف‭ ‬الأنهر‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭. ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬بلدان‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ .‬

باريــس

خلال‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬المنصرم‭ (‬2015‭) ‬قضيت‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬الشهر‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬سياحية‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية‭. ‬بدأت‭ ‬رحلتي‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬مدينة‭ ‬النور،‭ ‬عاصمة‭ ‬فرنسا،‭ ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬تزخر‭ ‬بالعبق‭ ‬التاريخي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬المباني‭ ‬وما‭ ‬تحويه‭ ‬متاحفها‭ ‬العديدة‭ ‬من‭ ‬أعمال،‭ ‬مثل‭ ‬اللوحات‭ ‬والتماثيل‭ ‬التي‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬إنتاجها‭ ‬ألمع‭ ‬الفنانين‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬القرون‭ ‬والعقود‭ ‬الماضية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬تتسم‭ ‬بالحداثة‭ ‬والتطور،‭ ‬وتفيض‭ ‬فيها‭ ‬المحال‭ ‬والمتاجر‭ ‬الجميلة،‭ ‬التي‭ ‬توفر‭ ‬للزبائن‭ ‬أفضل‭ ‬المنتجات‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬وسلع‭ ‬كمالية‭ ‬وغيرها،‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬اهتمام‭ ‬الفئات‭ ‬الميسورة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تمل‭ ‬ولا‭ ‬تقتنع‭ ‬بما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬ألبسة‭ ‬ومقتنيات‭ ‬أخرى،‭ ‬ولديها‭ ‬الاستعداد‭ ‬لبذل‭ ‬المال‭ ‬الكثير‭ ‬للحصول‭ ‬عليها‭. ‬أما‭ ‬مطاعم‭ ‬باريس‭ ‬فحدِّث‭ ‬ولا‭ ‬حرج،‭ ‬فعندما‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬شوارعها‭ ‬ومن‭ ‬أهمها‭ ‬جادة‭ ‬الشانزليزيه‭ ‬المشهورة،‭ ‬فإنك‭ ‬تجد‭ ‬المقاهي‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬تعج‭ ‬بالزبائن‭ ‬من‭ ‬فرنسيين‭ ‬وأجانب،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تلحظ‭ ‬في‭ ‬شهور‭ ‬الصيف‭ ‬خاصة‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الخليجيين‭ ‬وبعضهم‭ ‬مع‭ ‬نسائهم‭ ‬بملابسهم‭ ‬المتنوعة‭. ‬ومطاعم‭ ‬فرنسا،‭ ‬وباريس‭ ‬خاصة،‭ ‬ذات‭ ‬نكهة‭ ‬مشهورة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي،‭ ‬فهي‭ ‬تجذب‭ ‬السياح،‭ ‬أمريكيين‭ ‬وأوربيين‭ ‬آخرين‭ ‬ومن‭ ‬بلاد‭ ‬الصين‭ ‬واليابان،‭ ‬للتمتع‭ ‬بالأكلات‭ ‬الشهية‭ ‬التي‭ ‬يتقنها‭ ‬الطهاة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬المتميز‭ ‬بالتذوق‭ ‬في‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬وجميع‭ ‬الأمور‭. ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المطاعم‭ ‬والمقاهي‭ ‬تجني‭ ‬الكثير‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬فصول‭ ‬السنة‭. ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬فرنسا‭ ‬تجذب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬مليوناً‭ ‬من‭ ‬الزوار‭ ‬الأجانب‭ ‬سنوياً،‭ ‬وهي‭ ‬مصنفة‭ ‬بالدولة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬منظمة‭ ‬السياحة‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عدد‭ ‬السياح‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بزيارتها‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬السياح‭ ‬يأتون‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬عديدة،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬يشملون‭ ‬الأغنياء‭ ‬ومتوسطي‭ ‬الحال‭ ‬وأصحاب‭ ‬الدخول‭ ‬المحدودة‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬مجاورة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭.‬

وأكدت‭ ‬دراسات‭ ‬تاريخية‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬مخيمات‭ ‬الصيادين‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬9800‭ ‬إلى‭ ‬7500‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬وفي‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬250‭ ‬إلى‭ ‬225‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬استوطن‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬Celtic-Senones‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬السين‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬شيدوا‭ ‬الجسور‭ ‬والقلاع‭ ‬على‭ ‬النهر‭. ‬كذلك‭ ‬سكوا‭ ‬عملات‭ ‬للتعامل‭ ‬في‭ ‬التجارة‭. ‬وقد‭ ‬استمر‭ ‬الاستيطان‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وحولها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬القرون‭ ‬اللاحقة‭. ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭ ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية،‭ ‬تم‭ ‬احتلال‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كلوفس‭ ‬Clovis‭ ‬ملك‭ ‬الفرنجة،‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬عاصمة‭ ‬لملكه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬508م‭. ‬وازدهرت‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وأصبحت‭ ‬أكبر‭ ‬مدن‭ ‬أوربا،‭ ‬ومركزاً‭ ‬تجارياً‭ ‬ودينياً‭ ‬مهماً،‭ ‬وتميزت‭ ‬بالمعمار‭ ‬القوطي‭ ‬Gothic،‭ ‬كذلك‭ ‬أصبحت‭ ‬مركزاً‭ ‬ثقافياً‭ ‬وعلمياً‭ ‬عندما‭ ‬أُسست‭ ‬جامعة‭ ‬باريس‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬اليسرى‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬السين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭. ‬هذه‭ ‬تواريخ‭ ‬قديمة،‭ ‬ولكن‭ ‬باريس‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عام‭ ‬1789‭ ‬قادت‭ ‬تحولات‭ ‬مهمة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬القرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية‭. ‬أهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أكدت‭ ‬روح‭ ‬المقاومة‭ ‬ومحاولة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬والأدبي‭ ‬والفني،‭ ‬حيث‭ ‬مارس‭ ‬النازيون‭ ‬بربرية‭ ‬طاغية‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬التراث‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬تراكم‭ ‬لديها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العقود‭ ‬والقرون‭. ‬خـلال‭ ‬تلك‭ ‬السنـوات‭ ‬الصعبـة‭ (‬1940‭ ‬–‭ ‬1944‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تعرضت‭ ‬لقصف‭ ‬عنيف‭ ‬من‭ ‬القوات‭ ‬الألمانية‭ ‬تعززت‭ ‬روح‭ ‬المقاومة،‭ ‬وانتفض‭ ‬الباريسيون،‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬لمواجهته،‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬حدث‭ ‬تضامن‭ ‬نوعي‭ ‬بين‭ ‬الفنانين‭ ‬والمثقفين‭ ‬لحماية‭ ‬معالم‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭. ‬وتشمل‭ ‬باريس‭ ‬الآن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المتاحف‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬منها‭ ‬متحف‭ ‬أو‭ ‬مركز‭ ‬جورج‭ ‬بومبيدو‭ ‬ومسرح‭ ‬مارمونان‭ ‬مونيه،‭ ‬ومتحف‭ ‬أورساي‭ ‬Musee dorsay،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬هناك‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬Lovre‭.‬

لعبت‭ ‬باريس‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬التضاريس‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الخمسين‭ ‬الماضية،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وفي‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬حركة‭ ‬تمرد‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬القائمة‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬العام،‭ ‬قامت‭ ‬مجموعات‭ ‬عمالية‭ ‬وشبابية‭ ‬بحركات‭ ‬احتجاج‭ ‬وتمرد‭ ‬ونظمت‭ ‬إضرابات‭ ‬واحتلت‭ ‬الجامعات‭ ‬والمصانع‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬الفرنسية‭. ‬وقد‭ ‬أدت‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬إلى‭ ‬توقف‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬تماماً‭. ‬وتعطلت‭ ‬دور‭ ‬الحكومة‭ ‬وشُلَّت‭ ‬أعمالها‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأوضاع‭ ‬الصعبة،‭ ‬فقد‭ ‬رافق‭ ‬تلك‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬نشاط‭ ‬ثقافي‭ ‬وترفيهي‭ ‬وأعمال‭ ‬فنية‭ ‬متنوعة‭. ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬القوى‭ ‬الأمنية‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬حدّاً‭ ‬لتلك‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬بالقوة،‭ ‬ولكن‭ ‬اتساع‭ ‬رقعة‭ ‬الإضرابات‭ ‬لم‭ ‬يسعف‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭. ‬وقد‭ ‬دفعت‭ ‬الأحداث‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬شارل‭ ‬ديجول‭ ‬لحل‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬والدعوة‭ ‬لانتخابات‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬يونيو‭ ‬1968‭ ‬التي‭ ‬نجح‭ ‬فيها‭ ‬الحزب‭ ‬الديجولي‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان‭ ‬بالقوة‭. ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬الرئيس‭ ‬ديجول‭ ‬أن‭ ‬يطور‭ ‬النظام‭ ‬الإداري‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬ويعزز‭ ‬اللامركزية‭ ‬وطرح‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬استفتاء‭ ‬عام،‭ ‬ولكنه‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬الأغلبية‭ ‬لمصلحة‭ ‬الاستفتاء،‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬للاستقالة‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬أبريل‭ ‬1969‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ترأس‭ ‬البلاد‭ ‬مدة‭ ‬تزيد‭ ‬قليلاً‭ ‬على‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬فرنسا‭ ‬بعد‭ ‬ديجول‭ ‬قد‭ ‬تغيَّرَت،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬رئيساً‭ ‬بإمكاناته‭ ‬القيادية‭ ‬وشخصيته‭ ‬التاريخية،‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬الاستقرار‭ ‬بعد‭ ‬تأسيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬الخامسة‭. ‬لكن‭ ‬فرنسا‭ ‬ظلت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الانتعاش‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬وتطوير‭ ‬الفنون‭ ‬والسينما‭ ‬والمسرح‭ ‬والآداب‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬باريس‭ ‬تظل‭ ‬مركزاً‭ ‬مهماً‭ ‬للثقافة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تجاوزها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النشاط،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬القارات‭.‬

وارســو

بلغنا‭ ‬وارسو،‭ ‬عاصمة‭ ‬بولندا،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الزيارة‭ ‬الأولى‭ ‬لهذه‭ ‬المدينة‭. ‬وارسو‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬ذات‭ ‬النكهة‭ ‬الأوربية‭ ‬التقليدية،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تلحظ‭ ‬المعالم‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬مثل‭ ‬فيينا‭ ‬أو‭ ‬بودابست‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الألمانية‭. ‬عُرفت‭ ‬وارسو‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬كمقر‭ ‬لحلف‭ ‬وارسو‭ ‬الذي‭ ‬انتظمت‭ ‬فيه‭ ‬بلدان‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬بقيادة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬عسكري‭ ‬مضاد‭ ‬لحلف‭ ‬الناتو،‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وبذلك‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الحلف‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1990،‭ ‬وانتهت‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬وتحرر‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬نير‭ ‬الحكم‭ ‬الشمولي‭ ‬والهيمنة‭ ‬السوفييتية‭. ‬لكن‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬تضاريس‭ ‬المدينة؟‭ ‬يمر‭ ‬بالمدينة‭ ‬نهر‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬بولندا‭ ‬هو‭ ‬نهر‭ ‬فيستولا‭ ‬Vistula،‭ ‬والمدينة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬وسط‭ ‬بولندا،‭ ‬وتبعد‭ ‬بما‭ ‬يقارب‭ ‬260‭ ‬كيلومتراً‭ ‬جنوب‭ ‬بحر‭ ‬البلطيق‭. ‬يقدر‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬وارسو‭ ‬بما‭ ‬يقارب‭ ‬مليوناً‭ ‬وسبعمائة‭ ‬وخمسين‭ ‬ألف‭ ‬نسمة،‭ ‬وتعد‭ ‬تاسع‭ ‬مدينة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحجم‭ ‬السكاني‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭. ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬أن‭ ‬بولندا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تمتعت‭ ‬بنظام‭ ‬حكم‭ ‬ديمقراطي‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الصعوبات‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬حروبها‭ ‬الوطنية‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬الروسي‭ ‬والنضال‭ ‬ضد‭ ‬النازية‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الهيمنة‭ ‬السوفييتية‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وإقامة‭ ‬نظام‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد،‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬البولندي،‭ ‬الذي‭ ‬تحكم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬لكن‭ ‬بولندا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تتوق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية،‭ ‬وقد‭ ‬تمكنت‭ ‬حركة‭ ‬‮«‬Solidarity‮»‬‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬والمدعومة‭ ‬من‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثولوكية،‭ ‬من‭ ‬كسب‭ ‬تعاطف‭ ‬وثقة‭ ‬الجماهير‭ ‬في‭ ‬بولندا،‭ ‬بما‭ ‬عزز‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الاستبداد‭ ‬والشمولية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الشرقية‭.‬

تتمتع‭ ‬وارسو‭ ‬بأنماط‭ ‬معمارية‭ ‬متنوعة،‭ ‬فيمكن‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬الكنائس‭ ‬القوطية‭ (‬Gothic‭) ‬والقصور‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المباني‭ ‬السكنية‭ ‬التي‭ ‬شُيِّدت‭ ‬بموجب‭ ‬المفاهيم‭ ‬السوفييتية‭ ‬لاحتواء‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬شقق‭ ‬ضئيلة‭ ‬الحجم‭. ‬لكن‭ ‬وارسو‭ ‬تتمتع‭ ‬بوجود‭ ‬مدينة‭ ‬قديمة‭ ‬مليئة‭ ‬بالحيوية،‭ ‬حيث‭ ‬تنتشر‭ ‬فيها‭ ‬مطاعم‭ ‬عديدة‭ ‬ومقاهٍ‭ ‬ومراكز‭ ‬للهو‭ ‬الليلي‭. ‬ويمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يتمتع‭ ‬بالمناخ‭ ‬المعتدل‭ ‬في‭ ‬وارسو،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬شهر‭ ‬أغسطس‭ ‬قد‭ ‬تتراوح‭ ‬خلاله‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬بين‭ ‬15‭ ‬و30‭ ‬درجة‭ ‬مئوية،‭ ‬ومن‭ ‬المعتاد‭ ‬أن‭ ‬تنخفض‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الشهر‭. ‬تعد‭ ‬وارسو‭ ‬مركزاً‭ ‬تعليمياً‭ ‬وثقافياً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬أوربا،‭ ‬حيث‭ ‬تحوي‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬المهمة‭ ‬مثل‭ ‬جامعة‭ ‬وارسو،‭ ‬وجامعة‭ ‬وارسو‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬وجامعة‭ ‬وارسو‭ ‬للطب،‭ ‬ومدرسة‭ ‬وارسو‭ ‬للاقتصاد،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬جامعات‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬أو‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭.‬

عرفت‭ ‬وارسو‭ ‬المقاومة‭ ‬الشعبية‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وواجهت‭ ‬القمع‭ ‬من‭ ‬القوات‭ ‬الألمانية‭ ‬المحتلة‭ ‬بشجاعة،‭ ‬وقد‭ ‬قدمت‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬ضحية‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬المقاومة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬سجناء‭ ‬الحرب‭ ‬الذين‭ ‬نقلوا‭ ‬لمراكز‭ ‬الاعتقال‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭. ‬وقد‭ ‬هدم‭ ‬النازيون‭ ‬وارسو‭ ‬بشكل‭ ‬جنوني‭ ‬وعنيف،‭ ‬وتم‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬محتويات‭ ‬المتاحف‭ ‬فيها‭ ‬ونقلت‭ ‬تلك‭ ‬المحتويات‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭ ‬وأُحرق‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منها‭. ‬ويذكر‭ ‬المؤرخون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬85‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬قد‭ ‬دمره‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المدينة‭ ‬التاريخية‭ ‬القديمة‭ ‬والقلعة‭ ‬الملكية‭.‬

وارسو‭ ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬حداثة‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬وهي‭ ‬تعج‭ ‬بالمطاعم‭ ‬والبنوك‭ ‬والمنشآت‭ ‬السياحية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أسواقها‭ ‬تضم‭ ‬محال‭ ‬تعرض‭ ‬أفخم‭ ‬الملابس‭ ‬والأحذية،‭ ‬كذلك‭ ‬هناك‭ ‬معارض‭ ‬للسيارات‭ ‬الحديثة‭. ‬مباني‭ ‬الشقق‭ ‬أصبحت‭ ‬مختلفة‭ ‬عما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬أيام‭ ‬الحكم‭ ‬الشيوعي‭... ‬الناس‭ ‬يبدون‭ ‬في‭ ‬أوضاع‭ ‬معيشية‭ ‬طيبة‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬أسعار‭ ‬السلع‭ ‬والخدمات‭ ‬تظل‭ ‬معقولة‭ ‬قياساً‭ ‬بالأسعار‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬الفنادق‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬فخامة‭ ‬عن‭ ‬مثيلاتها‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬مثل‭ ‬روما‭ ‬وباريس‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬المنشآت‭ ‬السياحية‭ ‬يتمتعون‭ ‬بإمكانات‭ ‬تنظيمية‭ ‬وعملية‭ ‬مواتية‭ ‬لخدمة‭ ‬الزائرين‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ترتيب‭ ‬مدينة‭ ‬وارسو‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬الـ‭ ‬32‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬نوعية‭ ‬الحياة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬اعتُبرت‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬المدن‭ ‬للمعيشة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬أوربا،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المدن‭ ‬السياحية‭.‬

يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره‭ ‬أن‭ ‬وارسو‭ ‬أصبحت‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مراكز‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية،‭ ‬وأيضاً‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مراكز‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬بولندا‭ ‬ووسط‭ ‬أوربا‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬المهم‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬يعزز‭ ‬قدرات‭ ‬مراكز‭ ‬البحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬في‭ ‬وارسو‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬يتقنون‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬الرئيسة،‭ ‬مثل‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أو‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬تعزيز‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬يتطلب‭ ‬من‭ ‬البولنديين‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتدريس‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭.  ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬ممن‭ ‬يتقنون‭ ‬الألمانية،‭ ‬لكن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬زوار‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬البلاد‭ ‬لا‭ ‬يُلمّون‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإن‭ ‬الشعب‭ ‬البولندي،‭ ‬وسكان‭ ‬وارسو‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالنباهة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التعلم،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬التطورات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬وحولهم‭ ‬ستدفع‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬القدرات‭. ‬ولذلك‭ ‬ستكون‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬المقبلة،‭ ‬وسوف‭ ‬تصبح‭ ‬مزاراً‭ ‬مهماً‭ ‬لعديد‭ ‬من‭ ‬ضيوف‭ ‬البلاد‭ ‬والقادمين‭ ‬من‭ ‬أقاصي‭ ‬الديار‭.‬

برليــن

هل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬برلين،‭ ‬عاصمة‭ ‬ألمانيا؟‭ ‬برلين‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وخضعت‭ ‬لضربات‭ ‬الطيران‭ ‬الحربي‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬ثم‭ ‬قُسِّمت‭ ‬ألمانيا‭ ‬إلى‭ ‬شرقية‭ ‬وغربية‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭. ‬حللنا‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬أغسطس،‭ ‬كانت‭ ‬الحرارة‭ ‬مرتفعة‭ ‬نسبياً،‭ ‬خصوصاً‭ ‬ونحن‭ ‬فـي‭ ‬شمال‭ ‬أوربا،‭ ‬هل‭ ‬يُعقل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الحرارة‭ ‬بين‭ ‬ثلاثين‭ ‬وخمس‭ ‬وثلاثين؟‭ ‬لكن‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬المناخ‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬عموماً،‭ ‬خلال‭ ‬الصيف‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يحل‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬يتناسى‭ ‬قسوة‭ ‬الحر‭ ‬ويُدهش‭ ‬لمعالمها‭ ‬الجميلة‭ ‬وعمرانها‭ ‬المتسق‭ ‬والتوافق‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬برلين‭ ‬تطورت‭ ‬كثيراً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جرى‭ ‬توحيدها‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الجدار‭ ‬العازل‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬عام‭ ‬1989‭. ‬وقد‭ ‬أنفقت‭ ‬الحكومة‭ ‬الألمانية‭ ‬أموالاً‭ ‬طائلة‭ ‬لتطوير‭ ‬برلين‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬عاصمة‭ ‬ألمانيا‭ ‬الموحَّدة‭ ‬ضمن‭ ‬إعادة‭ ‬إعمار‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬ألمانيا‭ ‬الشرقية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬تردي‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمعيشية‭ ‬آنذاك‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬حيوية‭ ‬الشعب‭ ‬الألماني‭ ‬عززت‭ ‬التطورات‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬قياسية،‭ ‬ومكَّنت‭ ‬سكان‭ ‬الجانب‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬من‭ ‬اللحاق‭ ‬بأهلهم‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الغربي،‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬للزائر‭ ‬أن‭ ‬يشاهده‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬التواصل‭ ‬المريح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنظمة‭ ‬النقل‭ ‬العام،‭ ‬من‭ ‬قطارات‭ ‬وترامات‭ ‬وباصات‭ ‬أو‭ ‬حافلات،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬تنعم‭ ‬بالاخضرار،‭ ‬نظراً‭ ‬لوجود‭ ‬الأشجار‭ ‬الباسقة‭ ‬التي‭ ‬تظللها‭. ‬ويمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يلحظ‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬قد‭ ‬تدفق‭ ‬عليها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬والعشرين‭ ‬الماضية،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬توحيدها،‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الجنسيات‭ ‬والأصول‭. ‬هؤلاء‭ ‬أضافوا‭ ‬لمساتهم‭ ‬الثقافية‭ ‬والحضارية‭ ‬على‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محالهم‭ ‬ومطاعمهم‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭.‬

يحكــى‭ ‬أن‭ ‬برليـــن‭ ‬أصبحـــت‭ ‬عاصمـــة‭ ‬ماغرافايت‭ ‬براندبرغ‭ ‬أو‭ ‬Bandenburg‭ ‬Margravite of‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1417‭ - ‬1701،‭ ‬ثم‭ ‬عاصمة‭ ‬مملكة‭ ‬بروسيا‭ ‬Kingdom‭ ‬of Prusia‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1701‭ - ‬1918،‭ ‬ثم‭ ‬عاصمة‭ ‬جمهورية‭ ‬الفايمر‭ ‬Weimar‭ ‬Republic‭ ‬من‭ ‬1919‭ ‬حتى‭ ‬1933،‭ ‬ثم‭ ‬عاصمة‭ ‬الرايخ‭ ‬الثالث‭ ‬Third Reich‭ ‬من‭ ‬1933‭ ‬حتى‭ ‬1945،‭ ‬أي‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كانت‭ ‬برلين‭ ‬ثالث‭ ‬أكبر‭ ‬مقاطعة‭ ‬بلدية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬وبعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬قُسِّمت‭ ‬برلين‭ ‬إلى‭ ‬برلين‭ ‬الشرقية،‭ ‬عاصمة‭ ‬ألمانيا‭ ‬الشرقية،‭ ‬وبرلين‭ ‬الغربية‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬الغربية،‭ ‬وقد‭ ‬كُرِّس‭ ‬التقسيم‭ ‬بعد‭ ‬إقامة‭ ‬جدار‭ ‬برلين‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬من‭ ‬1961‭ ‬حتى‭ ‬هدمه‭ ‬في‭ ‬1989‭.‬

ويعتمد‭ ‬اقتصاد‭ ‬مدينة‭ ‬برلين‭ ‬على‭ ‬الصناعات‭ ‬عالية‭ ‬التقنية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قطاع‭ ‬الخدمات‭ ‬يحظى‭ ‬بنشاط‭ ‬فاعل‭. ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬برلين‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬حيوياً‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬والمناطق‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مطاراتها‭  ‬وشبكة‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الطرق‭ ‬البرية‭ ‬المؤهلة‭. ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬برلين‭ ‬مزاراً‭ ‬مهماً‭ ‬للسياح،‭ ‬ويمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يشاهد‭ ‬هؤلاء‭ ‬السياح‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬ومن‭ ‬بلدان‭ ‬بعيدة‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬واليابان،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬الخليج‭ ‬أو‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬سورية‭ ‬أو‭ ‬بلدان‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭. ‬كذلك‭ ‬استوطن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬العرب‭ ‬مدينة‭ ‬برلين،‭ ‬وأصبحت‭ ‬لديهم‭ ‬مؤسسات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وثقافية‭ ‬ونوادي‭ ‬جاليات‭ ‬متنوعة‭. ‬يقيم‭ ‬الفنانون‭ ‬العرب‭ ‬والمثقفون‭ ‬معارض‭ ‬تشكيلية‭ ‬وأمسيات‭ ‬شعرية‭ ‬وموسيقية‭ ‬ويتفننون‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬المآدب‭ ‬التي‭ ‬تجذب‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬أصدقائهم‭ ‬الألمان‭.‬

برلين،‭ ‬الآن،‭ ‬تحوي‭ ‬الجامعات‭ ‬المتميزة،‭ ‬وبذلك‭ ‬أصبحت‭ ‬مركزاً‭ ‬تعليمياً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفي‭ ‬أوربا‭ ‬عموماً‭. ‬كذلك‭ ‬هناك‭ ‬قاعات‭ ‬الأوركسترا‭ ‬وعديد‭ ‬من‭ ‬المتاحف‭ ‬ومراكز‭ ‬التسلية‭ ‬واللهو‭. ‬

وتقوم‭ ‬برلين‭ ‬بتوفير‭ ‬تسهيلات‭ ‬لإقامة‭ ‬مسابقات‭ ‬رياضية‭ ‬متنوعة،‭ ‬وتستضيف‭ ‬البطولات‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مناسبات‭ ‬محددة‭ ‬لها‭. ‬كذلك‭ ‬يعمل‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬السينمائيين‭ ‬على‭ ‬إخراج‭ ‬الأفلام‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬ذات‭ ‬مواضيع‭ ‬وصلة‭ ‬بالأحداث‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬أحداث‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وما‭ ‬سبقها‭ ‬أو‭ ‬لحقها‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬اجتماعي‭.‬

يقدر‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬برلين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬بـ‭ ‬3.5‭ ‬ملايين‭ ‬نسمة،‭ ‬وأما‭ ‬مساحتها‭ ‬فهي‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬900‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع،‭ ‬لكن‭ ‬اقتصاد‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬يحقق‭ ‬ناتجاً‭ ‬إجمالياً‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬110‭ ‬مليارات‭ ‬يورو‭ ‬أو‭ ‬125‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬سنوياً‭. ‬
ويعد‭ ‬هذا‭ ‬الحجم‭ ‬الاقتصادي‭ ‬مهماً‭ ‬لمدينة‭ ‬واحدة‭.‬

وتمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬السياح‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬مختلفة‭ ‬يتجولون‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬ويقصدون‭ ‬المواقع‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬قصة‭ ‬المدينة‭ ‬وما‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أحداث،‭ ‬مثل‭ ‬مبنى‭ ‬البرلمان‭ ‬وموقع‭ ‬الحائط‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تحديد‭ ‬موقعه‭ ‬بشكل‭ ‬يسمح‭ ‬للزائر‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬بنائه‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مواقع‭ ‬تحكي‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الشعب‭ ‬الألماني،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬برلين‭ ‬يودون‭ ‬أن‭ ‬يؤكدوا‭ ‬أن‭ ‬مدينتهم‭ ‬تميزت‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬المصاعب‭ ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬للانتعاش‭ ‬وتطوير‭ ‬ملامحها‭ ‬بما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬التطورات‭ ‬الحضارية‭.‬

تظل‭ ‬برلين‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬المدن،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬تستحق‭ ‬الزيارة‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬معالمها‭ ‬وقياس‭ ‬التقدم‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬إعادة‭ ‬توحيدها‭.‬

بــراغ

وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬براغ‭  ‬ظهر‭ ‬الأربعاء‭ ‬19‭ ‬أغسطس،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطعنا‭ ‬900‭ ‬كيلومتر‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬مقر‭ ‬إقامتنا‭ ‬الصيفية‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬بولندا‭. ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬جميلاً‭ ‬والجو‭ ‬مشمساً‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬حاراً‭. ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬براغ‭ ‬التي‭ ‬اشتهرت‭ ‬بربيعها‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الاشتراكي‭ ‬وتبعيته‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬1968؟‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬حاول‭ ‬ألكنسدر‭ ‬دوبشيك‭ ‬Alexander Dubcek‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬النظام‭ ‬ويتجه‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬لكن‭ ‬روسيا‭ ‬ودول‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭ ‬قامت‭ ‬بالتدخل‭ ‬العسكري‭ ‬وإيقاف‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭. ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬مرت‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‭ ‬بنظم‭ ‬حكــم‭ ‬مختلفة‭. ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬إمبراطوريــة‭ ‬Austro‭-‬Hungarian‭ (‬المجرية‭ ‬–‭ ‬النمساوية‭) ‬تم‭ ‬تأسيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬الأولى،‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وتم‭ ‬اختيار‭ ‬براغ‭ ‬عاصمة‭ ‬للجمهورية‭. ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬الجمهورية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1930‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬850‭ ‬ألفاً‭. ‬لكن‭ ‬براغ،‭ ‬وتشيكوسلوفاكيا‭ ‬مرتا‭ ‬بمحنة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬عندما‭ ‬دخلهما‭ ‬الجيش‭ ‬الألماني‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬عام‭ ‬1939‭. ‬وظلت‭ ‬البلاد‭ ‬محتلة‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وهزيمة‭ ‬النازية‭ ‬عام‭ ‬1945‭. ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬عانت‭ ‬براغ‭ ‬من‭ ‬القصف‭ ‬الجوي‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الحلفاء‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬النازية‭. ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تستسلم‭ ‬تماماً‭ ‬للاحتلال‭ ‬النازي،‭ ‬حيث‭ ‬قامت‭ ‬فرق‭ ‬المقاومة‭ ‬بتنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬انتقامية‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬المحتلة،‭ ‬وجرت‭ ‬اغتيالات‭ ‬لقادة‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬الألماني‭ ‬وشخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬النازي‭. ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬فإن‭ ‬هتلر‭ ‬أمر‭ ‬بالانتقام‭ ‬الشديد‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬براغ،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تحرير‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1945‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قوات‭ ‬الجيش‭ ‬الأحمر‭ ‬السوفييتية‭... ‬لكن‭ ‬المحنة‭ ‬لم‭ ‬تنته،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬تأسيس‭ ‬الحكم‭ ‬الشمولي‭ ‬بقيادة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬بعد‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬القوات‭ ‬الألمانية‭. ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬المقاومة،‭ ‬بأشكالها‭ ‬المتعددة،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ثقافي‭ ‬وآخر‭ ‬نقابي‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬المقاومة‭ ‬السلمية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬وقد‭ ‬توجت‭ ‬تلك‭ ‬المقاومة‭ ‬بتمرد‭ ‬دوبشيك‭ ‬زعيم‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬التشيكوسلوفاكي،‭ ‬الذي‭ ‬أحبط،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬1968‭. ‬

تعتبر‭ ‬براغ،‭ ‬الآن،‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية،‭ ‬وتحظى‭ ‬بشعبية‭ ‬كبيرة‭ ‬بين‭ ‬السياح‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬والعالم‭. ‬وتحوي‭ ‬المدينة‭ ‬تحفاً‭ ‬معمارية‭ ‬عجيبة،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كلاسيكي‭ ‬وآخر‭ ‬حديث‭ ‬أو‭ ‬عصري‭. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬المعالم‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬عاصمة‭ ‬جمهورية‭ ‬التشيك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انفصلت‭ ‬عن‭ ‬سلوفاكيا‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬قلعة‭ ‬براغ‭ ‬مع‭ ‬كاتدرائية‭ ‬سانت‭ ‬فاتيوس‭ ‬‮«‬St‭.‬Vitus Cathedral‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬مجوهرات‭ ‬التاج‭ ‬التشيكي‭ ‬القديمة‭. ‬هناك،‭ ‬أيضاً،‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الكنائس‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاد،‭ ‬منها‭ ‬كنيسة‭ ‬سيدتنا‭ ‬قبل‭ ‬تاين‭ ‬Church of Our‭ ‬Lady before‭ ‬Tyn،‭ ‬والتي‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬وتشمل‭ ‬أبراجاً‭ ‬بارتفاع‭ ‬80‭ ‬متراً‭. ‬وهناك‭ ‬معبد‭ ‬يهودي‭ ‬يعود‭ ‬تاريخه‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1270‭.‬

يقدر‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬براغ‭ ‬بـ‭ ‬1‭.‬260‭.‬000‭ ‬نسمة‭ ‬ولا‭ ‬تزيد‭ ‬مساحتها‭ ‬على‭ ‬296‭ ‬كيلومتراً،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬سكان‭ ‬المدينة‭ ‬يتمتعون‭ ‬بمستويات‭ ‬تعليمية‭ ‬جيدة،‭ ‬وهم‭ ‬يجيدون‭ ‬التحدث‭ ‬باللغات‭ ‬الرئيسة،‭ ‬مثل‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬الألمانية‭. ‬ويمكن‭ ‬للزائر‭ ‬أن‭ ‬يلحظ‭ ‬حيوية‭ ‬الشعب‭ ‬التشيكي‭ ‬ودماثة‭ ‬الأخلاق‭ ‬والانضباط‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬تعد‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التركيب‭ ‬السكاني‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تشتهر‭ ‬به‭ ‬أنها‭ ‬عاصمة‭ ‬بوهيما‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬جمهورية‭ ‬التشيك‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬فيلتافا‭ ‬Vltava‭. ‬ويذكر‭ ‬المختصون‭ ‬أن‭ ‬براغ‭ ‬مركز‭ ‬سياسي‭ ‬وثقافي‭ ‬واقتصادي‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬وسط‭ ‬أوربا،‭ ‬ويشهد‭ ‬لها‭ ‬تاريخها‭ ‬الذي‭ ‬يقارب‭ ‬الآن‭ ‬1100‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬وجودها‭. ‬وتتميز‭ ‬المدينة‭ ‬بوجود‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬الجذابة،‭ ‬منها‭ ‬قلعة‭ ‬براغ‭ ‬وجسر‭ ‬شارلي‭ ‬وميدان‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬وساعة‭ ‬براغ‭ ‬الفلكية‭ ‬والحي‭ ‬اليهودي‭. ‬وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬UNESCO‭ ‬هذه‭ ‬المعالم‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭. ‬هناك،‭ ‬أيضا،‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬عشرة‭ ‬متاحف‭ ‬مهمة‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المسارح‭ ‬ومعارض‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬وقاعات‭ ‬السينما‭. ‬تملك‭ ‬المدينة‭ ‬نظام‭ ‬مواصلات‭ ‬عامة‭ ‬يُمكِّن‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬بسلاسة‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬مناطقها‭. ‬أما‭ ‬الإمكانات‭ ‬التعليمية‭ ‬فهي‭ ‬متكاملة،‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬مدارس‭ ‬التعليم‭ ‬العام‭ ‬المتميزة‭ ‬والجامعات‭ ‬ومنها‭ ‬جامعة‭ ‬شارل‭ (‬Charles University‭).‬

يفد‭ ‬إلى‭ ‬براغ‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬4‭.‬4‭ ‬ملايين‭ ‬زائر‭ ‬سنوياً‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬المدينة‭ ‬خامس‭ ‬مزار‭ ‬سياحي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬جهات‭ ‬متخصصة‭ ‬بأعمال‭ ‬السياحة‭ ‬العالمية،‭ ‬وهي‭ ‬أيضا‭ ‬خامس‭ ‬مدينة‭ ‬مستهدفة‭ ‬من‭ ‬السياح‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بعد‭ ‬لندن‭ ‬وباريس‭ ‬وإسطنبول‭ ‬وروما‭. ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬براغ‭ ‬هو‭ ‬تداخل‭ ‬القديم‭ ‬مع‭ ‬الحديث‭ ‬والشعور‭ ‬بالرقي‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬المدينة‭ ‬والإحساس‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بالثقافة‭ ‬المتنوعة‭. ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ارتقاء‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬فاكلاف‭ ‬هافل‭ ‬Vaclav Havel‭ ‬تولى‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬جمهورية‭ ‬التشيك‭ ‬بعد‭ ‬الانفصال‭ ‬الودي‭ ‬عن‭ ‬سلوفاكيا‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬واستمر‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬2003‭. ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬هافل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المسرحيين‭ (‬Playwright‭) ‬وآمن‭ ‬بفلسفة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتعرض‭ ‬للاضطهاد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعي‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬وقد‭ ‬ترأس‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحكم‭ ‬الشمولي‭ ‬حزب‭ ‬المنتدى‭ ‬المدني‭.‬

براغ‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬فعاليات‭ ‬دولية‭ ‬عديدة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستضيفها،‭ ‬منها‭ ‬فعاليات‭ ‬فنية‭ ‬وأخرى‭ ‬رياضية‭. ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬أن‭ ‬استضافت‭ ‬اجتماعات‭ ‬للبنك‭ ‬الدولي‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭. ‬هذه‭ ‬مدينة‭ ‬غنية‭ ‬في‭ ‬معالمها‭ ‬المعمارية‭ ‬ومتاحفها‭ ‬وغنية‭ ‬برقي‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والثقافة،‭ ‬ولكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬غنية‭ ‬بأهلها،‭ ‬أو‭ ‬مواطنيها،‭ ‬الذين‭ ‬تميزوا‭ ‬بعلمهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وقدرتهم‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬الودود‭ ‬مع‭ ‬زوارهم‭ .