التجارة الصامتة
من المعروف أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الحدث الإنساني ربما يعيد اكتشاف نفسه من جديد في زمن آخر، دون الارتباط بالحدث السابق. وكثيرة هي الوقائع والأحداث التاريخية التي تخلق تشابهاً لا يمكن إغفاله بينها وبين وقائع وأحداث أخرى، جرت في أزمنة سحيقة وغابرة، ما دفع البعض إلى القول بإعادة التاريخ لنفسه.
الحق أن ما يمكن تسميته بجزيئات الحدث يكون مختلفاً تمام الاختلاف عما سبق، لأن تدفق الأحداث في جريانها نحو المستقبل يحفل بمتغيرات عديدة ومتشابكة، تجعل منها - على الرغم من تشابهها الظاهري مع ما قد سبق أحياناً - حالة جديدة وفريدة من نوعها، وسبقاً تاريخياً لم يتحقق من قبل، بل وإيذاناً بإيجاد سلسلة من المتواليات المتركزة عليها، لا تمكن إعادة تفسيرها بالمنحى التقليدي، اعتماداً على الدورة التاريخية الزمنية، أو إعادة إنتاج التاريخ لآلياته السابقة من جديد، بل عبر اتساع الرؤية الإنسانية، والإيمان بمقدرة الزمان والإنسان على إنتاج علاقات جدلية جديدة تتسق مع التفاعلات المجتمعية والفلسفية لعالمنا المتجدد بشكل دائم.
ويمكننا أن نحاول تلمس بعض الأحداث التاريخية التي نزعم أن تشابهها الظاهري لا يمكن أن يعيد نفسه أبداً، بل إن العلاقات الإنسانية، وتفاعل عاملي الإنسان والصيرورة الزمنية هما المسؤولان بشكل أكيد عن استمرارية بعض الأنشطة البشرية دون اتفاق، وفي صورة وصياغة أخرى جديدة تتسق مع الزمن الحديث.
وتعد مسألة «التجارة الصامتة» إحدى أهم وأقدم تلك المسائل التي ينطبق عليها ما تم ذكره سابقاً. ولكي نحاول - معاً - تلمس تلك الظاهرة، علينا أن نستعيد الحكاية من بدايتها:
البداية في قرطاجنة
ذكر أبوالتاريخ هيرودوت Herodotus في القرن الخامس قبل الميلاد أن تجار قرطاجنة الذين كانوا يجوبون البحر المتوسط قد مارسوا نوعاً مختلفاً وغير عادي من التجارة مع سكان الساحل الغربي لإفريقيا، لا يعتمد على توجّه التجار إلى الأسواق مباشرة، ومن ثم عرض سلعهم وبضاعتهم على التجار المحليين في تلك المناطق، ومقابلتهم واقتراح أسعار معينة لها، مقابل السعر الذي يقترحه التجار المشترون، سواء تم ذلك عبر استخدام المقايضة أو الدفع النقدي المعروفين آنذاك. بل تفرد التجار القرطاجنيون بنوع مغاير من عمليات البيع والشراء، اختلف عن الأعراف التجارية السائدة. إذ كانوا يهبطون من سفنهم ويقومون باختيار مكان منبسط صالح لعرض سلعهم وبضائعهم بالقرب من المرفأ، ثم يشعلون النار بالقرب منه من أجل لفت انتباه السكان المحليين إلى موقعهم، قبل أن يقفلوا عائدين إلى سفنهم.
وبعد انسحاب التجار، يقوم المشترون المحليون من أهل البلاد بالحضور إلى مكان وجود السلع والبضائع، حيث يأخذون في تقييم سعرها، ويضعون مقابل كل سلعة مقداراً من الذهب على الأرض. يحدث هذا قبل أن يتراجعوا إلى الخلف، مختبئين في أماكن خاصة بهم. وبعد الانتهاء من ذلك، يهبط تجار قرطاجنة من سفنهم ثانية ويأخذون في تقييم مقادير الذهب الذي تركه أهل البلاد مقابل السلع والبضائع، فإذا وجدوه مكافئاً لها، فإن ذلك يعني أن المبادلة التجارية قد تمت بنجاح، فيتناولون الذهب معهم ويقومون بمغادرة المكان، وبعدها يعود المشترون لحمل السلع والبضائع التي أصبحت من نصيبهم.
أما إذا وجد التجار أن قيمة الذهب لا تعادل تجارتهم، فإنهم يعودون أدراجهم تاركين السلع والذهب في مكانهما. وكان ذلك التصرف يعني أن مقدار الذهب الموضوع لم يرض التجار، وبالتالي فإنه يجب على المشترين إضافة كمية جديدة من الذهب حتى يقتنع التجار بعملية البيع.
وعلق هيرودوت على هذا النوع من «التجارة الصامتة» أو «المقايضة الخرساء» بأن «...الصدق والأمانة بين الطرفين موجودان على أتم وجه، فلا يمس المشترون البضائع قبل أن يحمل أصحابها الذهب ويمضون في طريقهم».
وبهذه الطريقة الفريدة، جرت عمليات تبادل تجاري كاملة الأركان، عبر تبادل السلع والبضائع بين البائعين والمشترين دون أن يرى أحدهما الآخر على الإطلاق، كل ذلك مع وجود حالة من الرضا التام بين الجميع.
والمثير في الأمر أن هذا النمط من المبادلات التجارية قد استمر طويلاً عبر عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث، دون معرفة كنه ومغزى الصمت وعدم المواجهة اللذين صاحبا عمليات البيع والشراء منذ البداية إلى النهاية.
صمت على طريق الحرير
وعلى سبيل المثال، فقد وجد هذا النوع من التجارة الصامتة في ما بعد على طريق الحرير في آسيا في القرن الأول الميلادي، خاصة في المبادلات التي كانت تجري عبر تجارة الحرير بين الرومان والتجار الصينيين على شواطئ أحد الأنهار في بارثيا Parthia. وهو الأمر الذي أشار إليه أيضاً بومبونيوس ميلا Pomponius Mela، أول الجغرافيين الرومان، عندما ذكر وجود هذه التجارة عند سكان جبال الهملايا.
كما أن المؤرخ الروماني الشهير، أميانوس ماركيللينوس Ammianus Marcellenus 329 - 3250 م أشار أيضاً في القرن الرابع الميلادي إلى تلك التجارة الصامتة بوصفها معتمدة لدى أهالي Tashkurghan وهي مدينة طاجنكية كانت تدعى أيضاً Taxkorgan، تقع غربي إقليم شينجيانج الصيني، وهي حالياً مدينة Khulm في إقليم باخ شمال أفغانستان، شرقي مدينة مزار شريف.
ومن المثير أيضاً أن نذكّر بأنه خلال القرن الخامس الميلادي، خلّف الراهب الصيني فا-هين Fa-hein ذكرياته عن الرحلة التي قام بها إلى معبد الإله بوذا في الهند (339-414م)، من أجل الحصول على الكتب المقدسة الخاصة بالبوذية، حيث أشار فيها إلى أنه شاهد بنفسه تلك الممارسة التجارية وهي تجري في جزيرة سيلان.
وفي القارة الإفريقية
وبالمتابعة الزمنية للمصادر التاريخية المتنوعة، نجد أن هذا النوع من «التجارة الصامتة» قد تمت الإشارة إليه من جديد في القارة الإفريقية في ما بعد، عبر تجارة الذهب في الحبشة في القرن السادس الميلادي.
وكان ذلك بفضل إشارة وردت لدى الراهب والملاح النسطوري السكندري كوزماس، الذي عرف باسم «الملاح الهندي كوزماس» Cosmas Indicopleustes، إبّان ترحاله في البحر الأحمر مقابل مدن شرقي إفريقية، حين تحدث عن «تجارة صامتة» أو «مقايضة خرساء» تحدث بين الأحباش وسكان الصومال.
وفي جميع تلك الحالات التي تم ذكرها سابقا، حدث ذلك النوع من التواصل التجاري من دون أن يلتقي البائع والمشتري وجهاً لوجه، ما يشي بأن هذا النمط من التجارة كان وليد قدر من الثقة بين الطرفين، الأمر الذي أوجد حالة من الأمان التام، تجلت في عدم غدر أحدهما بالطرف الآخر الذي لا يراه أبداً.
كما عادت المصادر التاريخية الصينية من جديد للإشارة إلى «التجارة الصامتة»، إذ يحدثنا المؤرخ الصيني شوجو-كوا Chau Ju-Kua في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي عن وجود هذا النوع من التجارة بين التجار الصينيين وسكان الفلبين.
لكن الغريب أنه حينما كان شوجو-كوا يتحدث عن مدينة بغداد عاصمة العباسيين، ذكر أنه توجد في البحر الغربي (الخليج العربي أو البحر المتوسط حسب المصادر الصينية)، سوق كبيرة يجري فيها اتفاق صامت بين البائعين والمشترين، فإذا حضر أحدهم ذهب الآخر، والعكس. فكان المشتري يضع ما يساوي السلعة إلى جوارها، وبعد ذلك يحضر البائع لأخذ مقابل سلعته. ويذكر شوجو - كوا أن السوق التي تتم فيها هذه المبادلات الصامتة تسمى «سوق الشيطان».
واستمرت ظاهرة «التجارة الصامتة» في تنقلها بين الأماكن الجغرافية والأزمنة المختلفة حتى وصلت إلى المصادر التاريخية والجغرافية الإسلامية. وعلى الرغم من وجود إشارة في المصدر الجغرافي المهم «حدود العالم» الذي كتبه فارسي مجهول في القرن العاشر الميلادي إلى وجود تجارة تتم في «جزيرة الذهب» أو سومطرة، بواسطة أهلها الذين كانوا يستقبلون تجار الصين ليشتروا منهم الحديد ويبيعونهم الطعام والحبوب، عبر التعامل بالإشارة، دون تبادل أي حديث على الإطلاق, فإن ذلك يعد شيئاً عادياً في ظل اختلاف اللغة. بينما كان الغالب في التجارة الصامتة، التي استمرت عبر التاريخو أنها تمت دون أن يلتقي البائعون والمشترون على الإطلاق.
تجارة الذهب والصمت
وتناولت المصادر الإسلامية عملية «التجارة الصامتة» بوصفها تحدث على الأراضي الإفريقية من جديد، فقد أورد المؤرخ والجغرافي المسعودي في القرن العاشر الميلادي أن التجارة الصامتة كانت قد بلغت شأواً كبيراً في مدينة سجلماسة عندما تعلقت بالذهب. وهو ما أكّده في القرن الثالث عشر الميلادي ياقوت الحموي، عندما تناول تفصيلياً تجارة الذهب من سجلماسة إلى درعة جنوبي جبال الأطلس الصغير، إلى بلاد السودان، بعدما ذكر أن التجار الغرباء كانوا يصلون إلى ضفاف أحد أنهار جنوب الصحراء الإفريقية ويقومون بقرع طبولهم الكبيرة, من أجل التجارة مع السكان الزنوج، الذين كانوا مجردين من ملابسهم ويعيشون في حفر تحت الأرض، حيث يشتغلون بها في التنقيب عن الذهب. غير أن هؤلاء السكان المحليين كانوا يتجنبون الظهور وجهاً لوجه أمام التجار الغرباء.
وهكذا قام التجار بإخراج سلعهم وبضائعهم التي يريدون مبادلتها بالذهب مع السكان المحليين، ثم قاموا بوضعها على شكل أكوام على ضفة النهر، قبل أن يتراجعوا مختفين تاركين تجارتهم هناك. بعد ذلك يحضر السكان المحليون لمعاينة السلع والبضائع وتقدير قيمتها، ويقومون بوضع مقدار من الذهب إلى جوار كل كومة من البضائع، قبل أن يقوموا بالتراجع أيضاً إلى أماكنهم التي انطلقوا منها.
وتماماً مثلما كانت الحال في زمن هيرودوت، في القرن الخامس قبل الميلاد، يعود التجار بعد وقت معين مرة أخرى إلى «ساحة المبادلة التجارية الخرساء». فإذا ارتضوا بكمية الذهب التي تركها المشترون يقومون بتناولها، مخلفين سلعهم وبضائعهم التي أصبحت ملكاً للسكان المحليين.
وبعد الانتهاء من تلك العملية، تعود قافلة التجار أدراجها، بينما يأخذ رجالها في قرع الطبول لإبلاغ السكان المحليين أن المقايضة الخرساء قد تمت بنجاح.
وتنبغي هنا ملاحظة أنه إذا لم يرض التجار عن كمية الذهب الموجودة، كان عليهم أن يتركوا بضائعهم حتى يعود السكان المحليون ويزيدوا من كمية الذهب، وعندها يرضى التجار الغرباء عن هذه المبادلة ويعودون أدراجهم.
وحدث أن حاول التجار المسلمون الوصول إلى مصدر الذهب مباشرة، وكسر طقوس تلك المبادلة التجارية الفريدة بعد الاستغناء عن السكان المحليين. فكمنوا ذات مرّة، ونجحوا في القبض على أحد السكان الزنوج، وحاولوا إرغامه على الاعتراف بالمكان الذي يوجد فيه الذهب، غير أن المسكين لم ينبس ببنت شفة، قبل أن يموت من الهزال بين أيديهم.
ورداً على تلك الحادثة، قام السكان المحليون الزنوج بإيقاف «التجارة الصامتة» في الذهب مع التجار الغرباء لمدة ثلاث سنوات. حدث هذا قبل أن تعود المياه لمجاريها بين الجانبين، تحت ضغط وطأة حاجة السكان الزنوج للملح، الذي كان أهم سلع التجار الغرباء.
ويشرح لنا القلقشندي في القرنين الرابع عشر/الخامس عشر الميلادي أيضاً تفاصيل ما تم بين التجار والسكان الزنوج بالقرب من سجلماسة، فذكر أنهم «كانوا يضعون أكوام الملح ثم يغيبون، قبل أن يحضر الزنوج بذهبهم، فإذا أخذ التجار الذهب، أخذ الزنوج الملح، بحيث يصير نظير كل صبرة ملح مثلها من الذهب».
كما أشار الرحالة الشهير ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي أيضاً إلى مملكة تغازي شمال غرب تاودني بالصحراء الكبرى، التي بنت بيوتها ومسجدها من حجارة الملح، بعدما اشتغل أهلها بالحفر بحثاً عنه، حيث كانت توجد منه ألواح ضخمة يحمل الجمل منها لوحين. وكان المسوفة من قبيلة صهناجة قد استولوا على مملحة تغازي آنذاك من أجل مبادلة الملح مع السكان الزنوج في أيوالتن شمالي بلاد مالي بعشرة مثاقيل إلى ثمانية من الذهب، وبمدينة مالي نفسها من عشرين إلى أربعين مثقالاً من الذهب.
تعاون تجار الرقيق
وحدث الأمر نفسه في منطقة ونقارة التي ذكرها الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي، وأشار إلى شهرتها بالذهب، بعدما ذكر أن التجار المغاربة قد حصلوا على ذهبها «وأخرجوه إلى دور السك في بلادهم فيضربونه دنانير ويتصرفون بها في التجارات والبضائع».
ومن الجليّ أن تلك المبادلة التجارية الفريدة قد استمرت في أفريقيا حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، فقد أشار تاجر الرقيق الإيطالي ألفيس كاداموستو Alvise Cadamosto ذ الذي قام برحلتين إلى هناك عامي 1455م و1456م - إلى أنه علم من التجار العرب والصهناجيين أن «التجارة الصامتة» مازالت تجري بطقوسهما في البلاد جنوبي الصحراء الكبرى وخاصة في ونقارة Wangara، كما وصفها رحالة آخرون بعد ذلك بقرون عدة. وإلى عهد قريب كان سكان الكونغو الأقزام Pygmies يمارسون التجارة الصامتة مع الغرباء.
والحقيقة أنه إذا ما حاولنا معرفة مغزى التجارة الصامتة، أو كنه المقايضة الخرساء عبر عصور التاريخ، فلا مفر من الالتجاء إلى معالجة مسألة الصعوبات الأولوية للغة، فضلاً عن خطورة التكيُّف مع قوم غرباء عن البلد وأهله.
غير أن ذلك لا يميط اللثام تماماً عن سر التجارة الصامتة، لأن المقايضة بظروفها العادية، والمنتشرة عبر التاريخ، كانت تحدث بين طرفين يجتمعان معاً من أجل تقدير بضائعهما والوصول إلى نتيجة مرضية، عبر مفاوضات تتم عن طريق اللغة، أو عبر المترجمين الذين وجدوا بشكل دائم في الأسواق، أو حتى عبر ما تمكن تسميته بحديث السلع والبضائع عن نفسها.
أما التجارة الصامتة التي ارتحلنا معها عبر هيرودوت منذ القرن الخامس قبل الميلاد وحتى مشارف العصر الحديث، على الشكل الذي رأيناه يحدث دون أن يلتقي أو يتواجه البائع والمشتري على الإطلاق، فربما يمكن تفسير حدوثها عبر الاستعانة بعاملي الخوف والاحتكار.
وهكذا، من المرجح أن الخوف الفطري لزنوج إفريقيا من التاجر الغريب كان سبباً في ذلك. غير أن هذا الخوف لم يصل إلى درجة مقاطعة التجارة تماماً، وذلك من أجل تلبية الرغبة الملحة للسكان الزنوج في الحصول على الملح.
كما أن لجوءنا إلى عامل الرغبة في الاحتكار، ربما يكون مناسباً لتفسير تلك التجارة الصامتة، حيث لا يتقابل البائع والمشتري، وهو الأمر الذي يجعل الطرف الأول غير قادر على إدارة حوار أو ممارسة ضغوطات على الطرف الثاني، وربما يخرج منها بمعرفة مكان ومصدر السلعة ومن ثم الوصول إليها واحتكارها.
وهكذا كانت أفضل طريقة بالنسبة للسكان المحليين في أسواق التجارة الصامتة التي تناثرت عبر الطرق التجارية في العالم القديم، هي تجنب الاتصال تماماً بالتجار الغرباء، من أجل الحفاظ على مكان مصدرهم من الذهب، ومن ثم احتكار تلك التجارة اللازمة للتجار بشكل ملح.
هكذا حدثت ظاهرة «التجارة الصامتة» عبر قرون متتالية، وعبر ميادين جغرافية امتدت من الغرب الإفريقي إلى طريق الحرير في آسيا، إلى جزيرة سيلان في المحيط الهندي، ومن جبال الهملايا إلى السواحل الشرقية لإفريقيا، ثم إلى جنوب الصحراء الإفريقية.
وهـــو مـــا يـــــــدفـــعـــــنا إلـــى الــــقول إن حدوث تلك الظاهرة وتكــرارها الزمني
وتنـــوعها المكـــاني، جعلت منهـــا ظاهـــرة يمكن رصدها وتتبعها عبر الحقب التاريخية المتعاقبة.
حدث ذلك كله قبل أن تتوقف تلك الممارسة التجارية نتيجة لتـــقدم سبل وطرق التجارة، وكذلك لانتشار اللغات وبالتالي كثرة أعداد المترجمين، فضلاً عن الاكتشافات الجغرافية التي لم تجعل ما كان يمكن إخفاؤه في الماضي على حاله في الحاضر، بالإضافة إلى ذلك كله جاء بفضل استخدام سبل التقنية الحديثة، مروراً بأجهزة الاستشعار عن بعد، وصولاً إلى صور الأقمار الاصطناعية، وإلى الانفجار المعلوماتي الكبير، وثورة الاتصالات الكونية الكبرى.
غير أن المثير في الأمر أن كل هذا التقدم العلمي والتقني المذهل قد أفضى في النهاية إلى عودة ظاهرة «التجارة الصامتة» من جديد، وبشكل أكثر مما كانت عليه، بل وعبر مختلف المناطق الجغرافية على كوكب الأرض.
فعبر استخدام شبكة الاتصالات الدولية على أجهزة الكمبيوتر، انتشرت «التجارة الصامتة» عبر بائعين ومشترين لا يظهرون لبعضهم، وربما لا فائدة ترجى من ظهورهم بالفعل، بعد زوال عاملي الخوف والاحتكار.
كما أن «التجارة الصامتة» الحديثة لم تعد تتقيد ببائعين ومشترين في منطقة جغرافية بعينها كما كان يحدث سابقاً، بل ربما كان البائع في أمريكا الشمالية والمشتري في إفريقيا الجنوبية، أو كان البائع في أقصى الشمال الأوربي والمشتري في أقصى الشرق الآسيوي أو العكس.
وهكذا عادت «التجــــارة الصامتة» إلى ساحة المبادلات التجــــارية العالمــــية على نطاق أوسع مما كانت عليه، ما قد يصنع مبرراً للقائليــــن إن الـــتاريخ يعيد نفسه من جديد.
غير أن الحاصل لا يفضـــي إلى هذا الأمر نتيجة لكل ما سبق الحديث عنه في البداية، من أن الحدث التاريخي الإنساني ربما يعيد اكتشاف نفسه من جديد في زمن آخر، وأن جـــزيئات الحدث التاريخي تختلف من عصر لآخر، على الرغم من التشــــابه الــــظاهري البـــادي
بينهما .