التجارة الصامتة

التجارة الصامتة

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه،‭ ‬لكن‭ ‬الحدث‭ ‬الإنساني‭ ‬ربما‭ ‬يعيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬آخر،‭ ‬دون‭ ‬الارتباط‭ ‬بالحدث‭ ‬السابق‭. ‬وكثيرة‭ ‬هي‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تخلق‭ ‬تشابهاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إغفاله‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬وقائع‭ ‬وأحداث‭ ‬أخرى،‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬سحيقة‭ ‬وغابرة،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بإعادة‭ ‬التاريخ‭ ‬لنفسه‭.‬

الحق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بجزيئات‭ ‬الحدث‭ ‬يكون‭ ‬مختلفاً‭ ‬تمام‭ ‬الاختلاف‭ ‬عما‭ ‬سبق،‭ ‬لأن‭ ‬تدفق‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬جريانها‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭ ‬يحفل‭ ‬بمتغيرات‭ ‬عديدة‭ ‬ومتشابكة،‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ - ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تشابهها‭ ‬الظاهري‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬أحياناً‭ -‬‭ ‬حالة‭ ‬جديدة‭ ‬وفريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬وسبقاً‭ ‬تاريخياً‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬بل‭ ‬وإيذاناً‭ ‬بإيجاد‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المتواليات‭ ‬المتركزة‭ ‬عليها،‭ ‬لا‭ ‬تمكن‭ ‬إعادة‭ ‬تفسيرها‭ ‬بالمنحى‭ ‬التقليدي،‭ ‬اعتماداً‭ ‬على‭ ‬الدورة‭ ‬التاريخية‭ ‬الزمنية،‭ ‬أو‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬التاريخ‭ ‬لآلياته‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬اتساع‭ ‬الرؤية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والإيمان‭ ‬بمقدرة‭ ‬الزمان‭ ‬والإنسان‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬علاقات‭ ‬جدلية‭ ‬جديدة‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬التفاعلات‭ ‬المجتمعية‭ ‬والفلسفية‭ ‬لعالمنا‭ ‬المتجدد‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭.‬

ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬تلمس‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬نزعم‭ ‬أن‭ ‬تشابهها‭ ‬الظاهري‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬أبداً،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وتفاعل‭ ‬عاملي‭ ‬الإنسان‭ ‬والصيرورة‭ ‬الزمنية‭ ‬هما‭ ‬المسؤولان‭ ‬بشكل‭ ‬أكيد‭ ‬عن‭ ‬استمرارية‭ ‬بعض‭ ‬الأنشطة‭ ‬البشرية‭ ‬دون‭ ‬اتفاق،‭ ‬وفي‭ ‬صورة‭ ‬وصياغة‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬الحديث‭. ‬

وتعد‭ ‬مسألة‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬وأقدم‭ ‬تلك‭ ‬المسائل‭ ‬التي‭ ‬ينطبق‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬ذكره‭ ‬سابقاً‭. ‬ولكي‭ ‬نحاول‭ - ‬معاً‭ - ‬تلمس‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستعيد‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬بدايتها‭:‬

 

البداية‭ ‬في‭ ‬قرطاجنة

ذكر‭ ‬أبوالتاريخ‭ ‬هيرودوت‭ ‬Herodotus‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬أن‭ ‬تجار‭ ‬قرطاجنة‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يجوبون‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬قد‭ ‬مارسوا‭ ‬نوعاً‭ ‬مختلفاً‭ ‬وغير‭ ‬عادي‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬مع‭ ‬سكان‭ ‬الساحل‭ ‬الغربي‭ ‬لإفريقيا،‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬توجّه‭ ‬التجار‭ ‬إلى‭ ‬الأسواق‭ ‬مباشرة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬عرض‭ ‬سلعهم‭ ‬وبضاعتهم‭ ‬على‭ ‬التجار‭ ‬المحليين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناطق،‭ ‬ومقابلتهم‭ ‬واقتراح‭ ‬أسعار‭ ‬معينة‭ ‬لها،‭ ‬مقابل‭ ‬السعر‭ ‬الذي‭ ‬يقترحه‭ ‬التجار‭ ‬المشترون،‭ ‬سواء‭ ‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬استخدام‭ ‬المقايضة‭ ‬أو‭ ‬الدفع‭ ‬النقدي‭ ‬المعروفين‭ ‬آنذاك‭. ‬بل‭ ‬تفرد‭ ‬التجار‭ ‬القرطاجنيون‭ ‬بنوع‭ ‬مغاير‭ ‬من‭  ‬عمليات‭ ‬البيع‭ ‬والشراء،‭ ‬اختلف‭ ‬عن‭ ‬الأعراف‭ ‬التجارية‭ ‬السائدة‭. ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬يهبطون‭ ‬من‭ ‬سفنهم‭ ‬ويقومون‭ ‬باختيار‭ ‬مكان‭ ‬منبسط‭ ‬صالح‭ ‬لعرض‭ ‬سلعهم‭ ‬وبضائعهم‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬المرفأ،‭ ‬ثم‭ ‬يشعلون‭ ‬النار‭ ‬بالقرب‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لفت‭ ‬انتباه‭ ‬السكان‭ ‬المحليين‭ ‬إلى‭ ‬موقعهم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقفلوا‭ ‬عائدين‭ ‬إلى‭ ‬سفنهم‭.‬

وبعد‭ ‬انسحاب‭ ‬التجار،‭ ‬يقوم‭ ‬المشترون‭ ‬المحليون‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬بالحضور‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬وجود‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع،‭ ‬حيث‭ ‬يأخذون‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬سعرها،‭ ‬ويضعون‭ ‬مقابل‭ ‬كل‭ ‬سلعة‭ ‬مقداراً‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتراجعوا‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬مختبئين‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭. ‬وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬يهبط‭ ‬تجار‭ ‬قرطاجنة‭ ‬من‭ ‬سفنهم‭ ‬ثانية‭ ‬ويأخذون‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬مقادير‭ ‬الذهب‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬مقابل‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع،‭ ‬فإذا‭ ‬وجدوه‭ ‬مكافئاً‭ ‬لها،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المبادلة‭ ‬التجارية‭ ‬قد‭ ‬تمت‭ ‬بنجاح،‭ ‬فيتناولون‭ ‬الذهب‭ ‬معهم‭ ‬ويقومون‭ ‬بمغادرة‭ ‬المكان،‭ ‬وبعدها‭ ‬يعود‭ ‬المشترون‭ ‬لحمل‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬نصيبهم‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬وجد‭ ‬التجار‭ ‬أن‭ ‬قيمة‭ ‬الذهب‭ ‬لا‭ ‬تعادل‭ ‬تجارتهم،‭ ‬فإنهم‭ ‬يعودون‭ ‬أدراجهم‭ ‬تاركين‭ ‬السلع‭ ‬والذهب‭ ‬في‭ ‬مكانهما‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬التصرف‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬مقدار‭ ‬الذهب‭ ‬الموضوع‭ ‬لم‭ ‬يرض‭ ‬التجار،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنه‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬المشترين‭ ‬إضافة‭ ‬كمية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬حتى‭ ‬يقتنع‭ ‬التجار‭ ‬بعملية‭ ‬البيع‭.‬

وعلق‭ ‬هيرودوت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المقايضة‭ ‬الخرساء‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬‭...‬الصدق‭ ‬والأمانة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬موجودان‭ ‬على‭ ‬أتم‭ ‬وجه،‭ ‬فلا‭ ‬يمس‭ ‬المشترون‭ ‬البضائع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬أصحابها‭ ‬الذهب‭ ‬ويمضون‭ ‬في‭ ‬طريقهم‮»‬‭.‬

وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الفريدة،‭ ‬جرت‭ ‬عمليات‭ ‬تبادل‭ ‬تجاري‭ ‬كاملة‭ ‬الأركان،‭ ‬عبر‭ ‬تبادل‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع‭ ‬بين‭ ‬البائعين‭ ‬والمشترين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أحدهما‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الرضا‭ ‬التام‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭.‬

والمثير‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬المبادلات‭ ‬التجارية‭ ‬قد‭ ‬استمر‭ ‬طويلاً‭ ‬عبر‭ ‬عصور‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬والوسيط‭ ‬والحديث،‭ ‬دون‭ ‬معرفة‭ ‬كنه‭ ‬ومغزى‭ ‬الصمت‭ ‬وعدم‭ ‬المواجهة‭ ‬اللذين‭ ‬صاحبا‭ ‬عمليات‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬النهاية‭.‬

 

صمت‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير

وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فقد‭ ‬وجد‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬الميلادي،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المبادلات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجري‭ ‬عبر‭ ‬تجارة‭ ‬الحرير‭ ‬بين‭ ‬الرومان‭ ‬والتجار‭ ‬الصينيين‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬أحد‭ ‬الأنهار‭ ‬في‭ ‬بارثيا‭ ‬Parthia‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬أيضاً‭ ‬بومبونيوس‭ ‬ميلا‭  ‬Pomponius‭ ‬Mela،‭ ‬أول‭ ‬الجغرافيين‭ ‬الرومان،‭ ‬عندما‭ ‬ذكر‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬التجارة‭ ‬عند‭ ‬سكان‭ ‬جبال‭ ‬الهملايا‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬المؤرخ‭ ‬الروماني‭ ‬الشهير،‭ ‬أميانوس‭ ‬ماركيللينوس‭  ‬Ammianus‭ ‬Marcellenus‭   ‬329‭ ‬‭- ‬3250‭ ‬م‭ ‬أشار‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬بوصفها‭ ‬معتمدة‭ ‬لدى‭ ‬أهالي‭  ‬Tashkurghan‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬طاجنكية‭ ‬كانت‭ ‬تدعى‭ ‬أيضاً‭  ‬Taxkorgan،‭ ‬تقع‭ ‬غربي‭ ‬إقليم‭ ‬شينجيانج‭ ‬الصيني،‭ ‬وهي‭ ‬حالياً‭ ‬مدينة‭  ‬Khulm‭  ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬باخ‭ ‬شمال‭ ‬أفغانستان،‭ ‬شرقي‭ ‬مدينة‭ ‬مزار‭ ‬شريف‭.‬

ومن‭ ‬المثير‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬نذكّر‭ ‬بأنه‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الميلادي،‭ ‬خلّف‭ ‬الراهب‭ ‬الصيني‭ ‬فا‭-‬هين‭ ‬Fa‭-‬hein‭ ‬ذكرياته‭ ‬عن‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬معبد‭ ‬الإله‭ ‬بوذا‭ ‬في‭ ‬الهند‭ (‬339‭-‬414م‭)‬،‭  ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الكتب‭ ‬المقدسة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالبوذية،‭ ‬حيث‭ ‬أشار‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬شاهد‭ ‬بنفسه‭ ‬تلك‭ ‬الممارسة‭ ‬التجارية‭ ‬وهي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬سيلان‭.‬

 

وفي‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية

وبالمتابعة‭ ‬الزمنية‭ ‬للمصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬عبر‭ ‬تجارة‭ ‬الذهب‭ ‬في‭ ‬الحبشة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭. ‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بفضل‭ ‬إشارة‭ ‬وردت‭ ‬لدى‭ ‬الراهب‭ ‬والملاح‭ ‬النسطوري‭ ‬السكندري‭ ‬كوزماس،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الملاح‭ ‬الهندي‭ ‬كوزماس‮»‬‭  ‬Cosmas‭ ‬Indicopleustes،‭ ‬إبّان‭ ‬ترحاله‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬مقابل‭ ‬مدن‭ ‬شرقي‭ ‬إفريقية،‭ ‬حين‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تجارة‭ ‬صامتة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مقايضة‭ ‬خرساء‮»‬‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬الأحباش‭ ‬وسكان‭ ‬الصومال‭.‬

وفي‭ ‬جميع‭ ‬تلك‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬ذكرها‭ ‬سابقا،‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬التجاري‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬البائع‭ ‬والمشتري‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه،‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬كان‭ ‬وليد‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أوجد‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الأمان‭ ‬التام،‭ ‬تجلت‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬غدر‭ ‬أحدهما‭ ‬بالطرف‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬أبداً‭.‬

كما‭ ‬عادت‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬الصينية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬يحدثنا‭ ‬المؤرخ‭ ‬الصيني‭ ‬شوجو‭-‬كوا‭  ‬Chau‭ ‬Ju‭-‬Kua‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬التجار‭ ‬الصينيين‭ ‬وسكان‭ ‬الفلبين‭.‬

لكن‭ ‬الغريب‭ ‬أنه‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬شوجو‭-‬كوا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬بغداد‭ ‬عاصمة‭ ‬العباسيين،‭ ‬ذكر‭ ‬أنه‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الغربي‭ (‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬حسب‭ ‬المصادر‭ ‬الصينية‭)‬،‭ ‬سوق‭ ‬كبيرة‭ ‬يجري‭ ‬فيها‭ ‬اتفاق‭ ‬صامت‭ ‬بين‭ ‬البائعين‭ ‬والمشترين،‭ ‬فإذا‭ ‬حضر‭ ‬أحدهم‭ ‬ذهب‭ ‬الآخر،‭ ‬والعكس‭. ‬فكان‭ ‬المشتري‭ ‬يضع‭ ‬ما‭ ‬يساوي‭ ‬السلعة‭ ‬إلى‭ ‬جوارها،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬يحضر‭ ‬البائع‭ ‬لأخذ‭ ‬مقابل‭ ‬سلعته‭. ‬ويذكر‭ ‬شوجو‭ - ‬كوا‭ ‬أن‭ ‬السوق‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬المبادلات‭ ‬الصامتة‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬سوق‭ ‬الشيطان‮»‬‭.‬

واستمرت‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تنقلها‭ ‬بين‭ ‬الأماكن‭ ‬الجغرافية‭ ‬والأزمنة‭ ‬المختلفة‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬والجغرافية‭ ‬الإسلامية‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬إشارة‭ ‬في‭ ‬المصدر‭ ‬الجغرافي‭ ‬المهم‭ ‬‮«‬حدود‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬فارسي‭ ‬مجهول‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬الميلادي‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬تجارة‭ ‬تتم‭ ‬في‭ ‬‮«‬جزيرة‭ ‬الذهب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬سومطرة،‭ ‬بواسطة‭ ‬أهلها‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يستقبلون‭ ‬تجار‭ ‬الصين‭ ‬ليشتروا‭ ‬منهم‭ ‬الحديد‭ ‬ويبيعونهم‭ ‬الطعام‭ ‬والحبوب،‭ ‬عبر‭ ‬التعامل‭ ‬بالإشارة،‭ ‬دون‭ ‬تبادل‭ ‬أي‭ ‬حديث‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭,‬‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعد‭ ‬شيئاً‭ ‬عادياً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬اختلاف‭ ‬اللغة‭. ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الغالب‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة،‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬عبر‭ ‬التاريخو‭ ‬أنها‭ ‬تمت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬البائعون‭ ‬والمشترون‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

 

تجارة‭ ‬الذهب‭ ‬والصمت

وتناولت‭ ‬المصادر‭ ‬الإسلامية‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬بوصفها‭ ‬تحدث‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الإفريقية‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬فقد‭ ‬أورد‭ ‬المؤرخ‭ ‬والجغرافي‭ ‬المسعودي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬الميلادي‭ ‬أن‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬شأواً‭  ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬سجلماسة‭ ‬عندما‭ ‬تعلقت‭ ‬بالذهب‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أكّده‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬ياقوت‭ ‬الحموي،‭ ‬عندما‭ ‬تناول‭ ‬تفصيلياً‭ ‬تجارة‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬سجلماسة‭ ‬إلى‭ ‬درعة‭ ‬جنوبي‭ ‬جبال‭ ‬الأطلس‭ ‬الصغير،‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬السودان،‭ ‬بعدما‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬التجار‭ ‬الغرباء‭ ‬كانوا‭ ‬يصلون‭ ‬إلى‭ ‬ضفاف‭ ‬أحد‭ ‬أنهار‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء‭ ‬الإفريقية‭ ‬ويقومون‭ ‬بقرع‭ ‬طبولهم‭ ‬الكبيرة‭,‬‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التجارة‭ ‬مع‭ ‬السكان‭ ‬الزنوج،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬مجردين‭ ‬من‭ ‬ملابسهم‭ ‬ويعيشون‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬حيث‭ ‬يشتغلون‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬الذهب‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬السكان‭  ‬المحليين‭ ‬كانوا‭ ‬يتجنبون‭ ‬الظهور‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه‭ ‬أمام‭ ‬التجار‭ ‬الغرباء‭.‬

وهكذا‭ ‬قام‭ ‬التجار‭ ‬بإخراج‭ ‬سلعهم‭ ‬وبضائعهم‭ ‬التي‭ ‬يريدون‭ ‬مبادلتها‭ ‬بالذهب‭ ‬مع‭ ‬السكان‭ ‬المحليين،‭ ‬ثم‭ ‬قاموا‭ ‬بوضعها‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أكوام‭ ‬على‭ ‬ضفة‭ ‬النهر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتراجعوا‭ ‬مختفين‭ ‬تاركين‭ ‬تجارتهم‭ ‬هناك‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يحضر‭ ‬السكان‭ ‬المحليون‭ ‬لمعاينة‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع‭ ‬وتقدير‭ ‬قيمتها،‭ ‬ويقومون‭ ‬بوضع‭ ‬مقدار‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬كل‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬البضائع،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقوموا‭ ‬بالتراجع‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أماكنهم‭ ‬التي‭ ‬انطلقوا‭ ‬منها‭.‬

وتماماً‭ ‬مثلما‭ ‬كانت‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬هيرودوت،‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬يعود‭ ‬التجار‭ ‬بعد‭ ‬وقت‭ ‬معين‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬ساحة‭ ‬المبادلة‭ ‬التجارية‭ ‬الخرساء‮»‬‭. ‬فإذا‭ ‬ارتضوا‭ ‬بكمية‭ ‬الذهب‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬المشترون‭ ‬يقومون‭ ‬بتناولها،‭ ‬مخلفين‭ ‬سلعهم‭ ‬وبضائعهم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬ملكاً‭ ‬للسكان‭ ‬المحليين‭.‬

وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬العملية،‭ ‬تعود‭ ‬قافلة‭ ‬التجار‭ ‬أدراجها،‭ ‬بينما‭ ‬يأخذ‭ ‬رجالها‭ ‬في‭ ‬قرع‭ ‬الطبول‭ ‬لإبلاغ‭ ‬السكان‭ ‬المحليين‭ ‬أن‭ ‬المقايضة‭ ‬الخرساء‭ ‬قد‭ ‬تمت‭ ‬بنجاح‭.‬

وتنبغي‭ ‬هنا‭ ‬ملاحظة‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يرض‭ ‬التجار‭ ‬عن‭ ‬كمية‭ ‬الذهب‭ ‬الموجودة،‭ ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬بضائعهم‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬السكان‭ ‬المحليون‭ ‬ويزيدوا‭ ‬من‭ ‬كمية‭ ‬الذهب،‭ ‬وعندها‭ ‬يرضى‭ ‬التجار‭ ‬الغرباء‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المبادلة‭ ‬ويعودون‭ ‬أدراجهم‭.‬

وحدث‭ ‬أن‭ ‬حاول‭ ‬التجار‭ ‬المسلمون‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬الذهب‭ ‬مباشرة،‭ ‬وكسر‭ ‬طقوس‭ ‬تلك‭ ‬المبادلة‭ ‬التجارية‭ ‬الفريدة‭ ‬بعد‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬السكان‭ ‬المحليين‭. ‬فكمنوا‭ ‬ذات‭ ‬مرّة،‭ ‬ونجحوا‭ ‬في‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬السكان‭ ‬الزنوج،‭ ‬وحاولوا‭ ‬إرغامه‭ ‬على‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالمكان‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬الذهب،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬المسكين‭ ‬لم‭ ‬ينبس‭ ‬ببنت‭ ‬شفة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬من‭ ‬الهزال‭ ‬بين‭ ‬أيديهم‭.‬

ورداً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة،‭ ‬قام‭ ‬السكان‭ ‬المحليون‭ ‬الزنوج‭ ‬بإيقاف‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الذهب‭ ‬مع‭ ‬التجار‭ ‬الغرباء‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬المياه‭ ‬لمجاريها‭ ‬بين‭ ‬الجانبين،‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬وطأة‭ ‬حاجة‭ ‬السكان‭ ‬الزنوج‭ ‬للملح،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أهم‭ ‬سلع‭ ‬التجار‭ ‬الغرباء‭.‬

ويشرح‭ ‬لنا‭ ‬القلقشندي‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭/‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬أيضاً‭ ‬تفاصيل‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬بين‭ ‬التجار‭ ‬والسكان‭ ‬الزنوج‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬سجلماسة،‭ ‬فذكر‭ ‬أنهم‭ ‬‮«‬كانوا‭ ‬يضعون‭ ‬أكوام‭ ‬الملح‭ ‬ثم‭ ‬يغيبون،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬الزنوج‭ ‬بذهبهم،‭ ‬فإذا‭ ‬أخذ‭ ‬التجار‭ ‬الذهب،‭ ‬أخذ‭ ‬الزنوج‭ ‬الملح،‭ ‬بحيث‭ ‬يصير‭ ‬نظير‭ ‬كل‭ ‬صبرة‭ ‬ملح‭ ‬مثلها‭ ‬من‭ ‬الذهب‮»‬‭.‬

كما‭ ‬أشار‭ ‬الرحالة‭ ‬الشهير‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬مملكة‭ ‬تغازي‭ ‬شمال‭ ‬غرب‭ ‬تاودني‭ ‬بالصحراء‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬بنت‭ ‬بيوتها‭ ‬ومسجدها‭ ‬من‭ ‬حجارة‭ ‬الملح،‭ ‬بعدما‭ ‬اشتغل‭ ‬أهلها‭ ‬بالحفر‭ ‬بحثاً‭ ‬عنه،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬توجد‭ ‬منه‭ ‬ألواح‭ ‬ضخمة‭ ‬يحمل‭ ‬الجمل‭ ‬منها‭ ‬لوحين‭. ‬وكان‭ ‬المسوفة‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬صهناجة‭ ‬قد‭ ‬استولوا‭ ‬على‭ ‬مملحة‭ ‬تغازي‭ ‬آنذاك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مبادلة‭ ‬الملح‭ ‬مع‭ ‬السكان‭ ‬الزنوج‭ ‬في‭ ‬أيوالتن‭ ‬شمالي‭ ‬بلاد‭ ‬مالي‭ ‬بعشرة‭ ‬مثاقيل‭ ‬إلى‭ ‬ثمانية‭ ‬من‭ ‬الذهب،‭ ‬وبمدينة‭ ‬مالي‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬إلى‭ ‬أربعين‭ ‬مثقالاً‭ ‬من‭ ‬الذهب‭.‬

 

تعاون‭ ‬تجار‭ ‬الرقيق

وحدث‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬ونقارة‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬الإدريسي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭  ‬شهرتها‭ ‬بالذهب،‭ ‬بعدما‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬التجار‭ ‬المغاربة‭ ‬قد‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬ذهبها‭ ‬‮«‬وأخرجوه‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬السك‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬فيضربونه‭ ‬دنانير‭ ‬ويتصرفون‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬التجارات‭ ‬والبضائع‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬الجليّ‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المبادلة‭ ‬التجارية‭ ‬الفريدة‭ ‬قد‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬أفريقيا‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬فقد‭ ‬أشار‭ ‬تاجر‭ ‬الرقيق‭ ‬الإيطالي‭ ‬ألفيس‭ ‬كاداموستو‭ ‬Alvise‭ ‬Cadamosto‭ ‬ذ‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬برحلتين‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬عامي‭ ‬1455م‭ ‬و1456م‭ - ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬علم‭ ‬من‭ ‬التجار‭ ‬العرب‭ ‬والصهناجيين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬مازالت‭ ‬تجري‭ ‬بطقوسهما‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬جنوبي‭ ‬الصحراء‭ ‬الكبرى‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬ونقارة‭ ‬Wangara،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬رحالة‭ ‬آخرون‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بقرون‭ ‬عدة‭. ‬وإلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬كان‭ ‬سكان‭ ‬الكونغو‭ ‬الأقزام‭ ‬Pygmies‭ ‬يمارسون‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬مع‭ ‬الغرباء‭.‬

والحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬حاولنا‭ ‬معرفة‭ ‬مغزى‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة،‭ ‬أو‭ ‬كنه‭ ‬المقايضة‭ ‬الخرساء‭ ‬عبر‭ ‬عصور‭ ‬التاريخ،‭ ‬فلا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬الالتجاء‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬مسألة‭ ‬الصعوبات‭ ‬الأولوية‭ ‬للغة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬خطورة‭ ‬التكيُّف‭ ‬مع‭ ‬قوم‭ ‬غرباء‭ ‬عن‭ ‬البلد‭ ‬وأهله‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يميط‭ ‬اللثام‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة،‭ ‬لأن‭ ‬المقايضة‭ ‬بظروفها‭ ‬العادية،‭ ‬والمنتشرة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬يجتمعان‭ ‬معاً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقدير‭ ‬بضائعهما‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مرضية،‭ ‬عبر‭ ‬مفاوضات‭ ‬تتم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬اللغة،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬المترجمين‭ ‬الذين‭ ‬وجدوا‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭ ‬في‭ ‬الأسواق،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬تمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بحديث‭ ‬السلع‭ ‬والبضائع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭.‬

أما‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬التي‭ ‬ارتحلنا‭ ‬معها‭ ‬عبر‭ ‬هيرودوت‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬وحتى‭ ‬مشارف‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬رأيناه‭ ‬يحدث‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬أو‭ ‬يتواجه‭ ‬البائع‭ ‬والمشتري‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فربما‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬حدوثها‭ ‬عبر‭ ‬الاستعانة‭ ‬بعاملي‭ ‬الخوف‭ ‬والاحتكار‭.‬

وهكذا،‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬الخوف‭ ‬الفطري‭ ‬لزنوج‭ ‬إفريقيا‭ ‬من‭ ‬التاجر‭ ‬الغريب‭ ‬كان‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬مقاطعة‭ ‬التجارة‭ ‬تماماً،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تلبية‭ ‬الرغبة‭ ‬الملحة‭ ‬للسكان‭ ‬الزنوج‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الملح‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬لجوءنا‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الاحتكار،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬مناسباً‭ ‬لتفسير‭ ‬تلك‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يتقابل‭ ‬البائع‭ ‬والمشتري،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الطرف‭ ‬الأول‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬حوار‭ ‬أو‭ ‬ممارسة‭ ‬ضغوطات‭ ‬على‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني،‭ ‬وربما‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بمعرفة‭ ‬مكان‭ ‬ومصدر‭ ‬السلعة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬واحتكارها‭. ‬

وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬أفضل‭ ‬طريقة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للسكان‭ ‬المحليين‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬التجارة‭ ‬الصامتة‭ ‬التي‭ ‬تناثرت‭ ‬عبر‭ ‬الطرق‭ ‬التجارية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬القديم،‭ ‬هي‭ ‬تجنب‭ ‬الاتصال‭ ‬تماماً‭ ‬بالتجار‭ ‬الغرباء،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬مصدرهم‭ ‬من‭ ‬الذهب،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬احتكار‭ ‬تلك‭ ‬التجارة‭ ‬اللازمة‭ ‬للتجار‭ ‬بشكل‭ ‬ملح‭.‬

هكذا‭ ‬حدثت‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬قرون‭ ‬متتالية،‭ ‬وعبر‭ ‬ميادين‭ ‬جغرافية‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬الإفريقي‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬سيلان‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهندي،‭ ‬ومن‭ ‬جبال‭ ‬الهملايا‭ ‬إلى‭ ‬السواحل‭ ‬الشرقية‭ ‬لإفريقيا،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء‭ ‬الإفريقية‭. ‬

وهـــو‭ ‬مـــا‭ ‬يـــــــدفـــعـــــنا‭ ‬إلـــى‭ ‬الــــقول‭ ‬إن‭ ‬حدوث‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬وتكــرارها‭ ‬الزمني
وتنـــوعها‭ ‬المكـــاني،‭ ‬جعلت‭ ‬منهـــا‭ ‬ظاهـــرة‭ ‬يمكن‭ ‬رصدها‭ ‬وتتبعها‭ ‬عبر‭ ‬الحقب‭ ‬التاريخية‭ ‬المتعاقبة‭.‬

حدث‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬تلك‭ ‬الممارسة‭ ‬التجارية‭ ‬نتيجة‭ ‬لتـــقدم‭ ‬سبل‭ ‬وطرق‭ ‬التجارة،‭ ‬وكذلك‭ ‬لانتشار‭ ‬اللغات‭ ‬وبالتالي‭ ‬كثرة‭ ‬أعداد‭ ‬المترجمين،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاكتشافات‭ ‬الجغرافية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تجعل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬إخفاؤه‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬جاء‭ ‬بفضل‭ ‬استخدام‭ ‬سبل‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬مروراً‭ ‬بأجهزة‭ ‬الاستشعار‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬الأقمار‭ ‬الاصطناعية،‭ ‬وإلى‭ ‬الانفجار‭ ‬المعلوماتي‭ ‬الكبير،‭ ‬وثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬الكونية‭ ‬الكبرى‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬المثير‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والتقني‭ ‬المذهل‭ ‬قد‭ ‬أفضى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬ظاهرة‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وبشكل‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬وعبر‭ ‬مختلف‭ ‬المناطق‭ ‬الجغرافية‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭.‬

فعبر‭ ‬استخدام‭ ‬شبكة‭ ‬الاتصالات‭ ‬الدولية‭ ‬على‭ ‬أجهزة‭ ‬الكمبيوتر،‭ ‬انتشرت‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬بائعين‭ ‬ومشترين‭ ‬لا‭ ‬يظهرون‭ ‬لبعضهم،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬ترجى‭ ‬من‭ ‬ظهورهم‭ ‬بالفعل،‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬عاملي‭ ‬الخوف‭ ‬والاحتكار‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التجارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬الحديثة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تتقيد‭ ‬ببائعين‭ ‬ومشترين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬جغرافية‭ ‬بعينها‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬سابقاً،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬البائع‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬والمشتري‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬البائع‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الشمال‭ ‬الأوربي‭ ‬والمشتري‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الشرق‭ ‬الآسيوي‭ ‬أو‭ ‬العكس‭.‬

وهكذا‭ ‬عادت‭ ‬‮«‬التجــــارة‭ ‬الصامتة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬المبادلات‭ ‬التجــــارية‭ ‬العالمــــية‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬عليه،‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يصنع‭ ‬مبرراً‭ ‬للقائليــــن‭ ‬إن‭ ‬الـــتاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الحاصل‭ ‬لا‭ ‬يفضـــي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬نتيجة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬الإنساني‭ ‬ربما‭ ‬يعيد‭ ‬اكتشاف‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬آخر،‭ ‬وأن‭ ‬جـــزيئات‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬لآخر،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التشــــابه‭ ‬الــــظاهري‭ ‬البـــادي‭ ‬
بينهما‭ .‬