الروائية إيزابيل الليندي و«الحبيب الياباني»
تضمن العدد قبل الأخير من المجلة الثقافية الإسبانية «كي ليير» Que Leer حواراً أجراه دفيد زوردو مع الكاتبة الشــــيلــــية الــــــمــــقيمة في الولايات المتحدة الأمـــــريكية، إيــــــــــــزابيل الليندي، التي أغنت الخزانة الأدبية العالمية بعـــديد من الــــروايات، التــــي تـــرجم بعـضها إلى العــــربية. وأخــــيراً وصلت إلى المكتبات روايتها الأخيرة «الحبيب الياباني» El amante japonés، التي تحدث فــــيها الـــــــــقراء عـــــــن الشيخوخة، الحب، الألم، الرأي المسبق وقرارات الحياة.
وفي ما يلي نص الحوار مترجماً إلى «العربية»:
- السيدة «الليندي»، ما التعريف الذي قد تعطينه لأسلوبك لحظة الكتابة؟
- من الصعب جداً الإجابة عن هذا السؤال، فأنا لست قادرة على تعريف أسلوبي... هناك من يقول لي إنه يستطيع قراءة قليل من الفقرات ومعرفة ما إذا كنت أنا من كتبتها أو لا، لكن أنا لا أعرف. ليس بوسعي الكلام عن أسلوب بهذا المعنى في مؤلفاتي.
- بداية «الحبيب الياباني» ممتعة وفي الآن نفسه مشبكة؟
- هي رواية تبتدئ في دار للمتقاعدين. لا أقدر أن أستهل الرواية بشكل مذهل. ألتزم إعطاءها وتيرة هادئة في البدء. وفي ما بعد تكون الحركة كثيرة، لكن في البداية أود أن يشعر القارئ بأنه في غرفة استراحة.
- إذن، كما كان يقول ترومان كابوتي Truman Capote، أنت تلتزمين تطبيق الأسلوب المناسب بحسب الكتاب الذي تؤلفينه؟
- بالضبط، الحكاية تعيِّن الكيفية، تعيِّن الوتيرة... هناك روايات عبارة عن حوار خالص، وأخرى سردية أكثر. أعتقد أن الأمر يتعلق كثيراً بالقصة التي أنت بصدد حكيها.
- لك شعار عام: «اتركوا خيالكم يحلق، واكتبوا ما هو ضروري»... هل تظلين مخلصة لهذا الشعار؟
- من الطبيعي أن أبقى مخلصة، لكن الناس يظنون أني أكتب لتشغيل القلم، بالخيال، بالإبداع. أنا أشتغل كثيرا، أبحث كثيرا، لا أكتب لتشغيل القلم.
- لكن هذا ما يبدو للناس. شكل كتابتك رشيق تماماً، أنت تقولين إنك عندما تكتبين لا يكون لك خطة عمل، فكيف تكتبين؟
- لا، أنا لا أضع خطة عمل أو سيناريو. حينما أكون بصدد الكتابة عن شخصية معينة، أعرف مثلا أنني سأحدد مكانها في سان فرانسيسكو، في خليج صغير، وأنني سأؤلف رواية معاصرة، وأنها ستعيش في منزل محدد. لكن ما سيحدث وما سيقع وكيف ستتطور القصة وكيف سأحكيها، لا أملك أي فكرة عن ذلك.
- إذن، يكون عليك القيام بتمرين كبير للذاكرة؟
- حينما أجلس للكتابة لا أقوم من مقعدي، وذلك لأنقل كل ما اختزنته ذاكرتي، يجب أن أكون مستغرقة تماما في القصة لكي لا تنفلت مني أي جزئية. أكتب مباشرة على الحاسوب ولا أطبع الصفحات إلا حين تصبح منتهية. لا الكتاب التام وإنما الحكاية. وعندما أطبعها أقف على ما ينقصها، وعلى العقدة التي بقيت من دون ربط. آنذاك فقط يبدأ العمل الدقيق لكي لا تنفلت مني التفاصيل، لكن القصة صارت محكية.
- أفهم من ذلك أن الكتابة بالنسبة إليك هي إعادة كتابة؟
- نعم، هذا واضح: أقرأ وأكتب. وعلاوة على ذلك، لدينا اليوم هذه الميزة العجيبة للتكنولوجيا التي تمكنك من التصحيح في اللحظة نفسها. في الماضي، حينما تكتب، كنت تفعل ذلك بالآلة أو بالقلم، وإذا ما ارتكبت خطأ ما، يجب عليك أن تعود لكتابة الصفحة من جديد.
- هناك بعض الكتَّاب يعتبرون أن استعمال معالجات النص مشكل أكثر مما هو ميزة؟
- فترة آلة الكتابة كان لها فضل أن يبدأ المرء بنظام، وكان عليه أن يفكر جيداً في ما سيكتبه، مع تنظيمه في الذهن. لكن التكنولوجيا تمكنك اليوم من التصحيح أثناء الكتابة. أنا تقريباً لا أستطيع العودة إلى الطريقة السابقة،
لا أستطيع الرجوع إلى الكتابة بالقلم أو بالآلة الكاتبة والمسح باستعمال السائل الأبيض الذي صار فظيعاً بالنسبة إلي.
- كتبت رواية «منزل الأرواح» بعد رسالة من جدتك... كيف نشأت رواية «الحبيب الياباني» في خيالك؟
- نشأت هذه الرواية من محادثة في الشارع، جولة مع صديقة في نيويورك، حكت لي هذه الصديقة أن أمها كان لها صديق، بستاني ياباني، صار في عداد الموتى، وهي كانت تظن أنهما كانا عشيقين. بقيت الفكرة في ذهني وهي التي طورتها في ما بعد.
- هل تجلب الشيخوخة معها الشعور بالوحدة وأن الأمر ليس كذلك؟
- أعتقد أن الأمر كذلك، مباشرة، لأن هذا ما يحدث معي الآن وعمري يفوق الـ 70 عاما. أشعر أن المرء يأتي إلى هذا العالم فاقداً كل شيء. كلما شاخ المرء فقد أشياء. الأبناء يذهبون إلى الجامعة ولا تراهم إلا مرة في السنة، يبدأ الأصدقاء في الرحيل عن الحياة، الحب أيضا يرحل ويترك مكانه أحياناً للكره. إذن فالمرء يشعر بالوحدة كثيراً. إنه زمن دخول المرء إلى ذاته واللقاء مع ذاته، لأن الذات هي الرفقة الوحيدة التي ستكون لك في النهاية. كانت والدتي تقول إن الفرد يولد وحيداً ويموت وحيداً.
- ماذا تقولين عن وحدة الكاتب، وكيف تواجه إيزابيل الليندي وحدة الكاتب؟
- الكتابة كبقية الفنون، انعزالية كثيراً، شخصية جداً. هي عمل طويل جداً، وبطيء جداً. يجب أن تكون منعزلاً. أتوفر خلف المنزل على كوخ جعلت منه مكتبا لي. لا هاتف ولا فاكس هناك؛ الشيء الوحيد الموجود هو حاسوب يحوي الكتاب الذي أنا بصدد كتابته. لا يوجد بريد إلكتروني ولا أي شيء آخر. أذهب إلى هناك في الصباح الباكر، أحبس نفسي ولا أرى ولا أحدث أحداً أياً كان.
- في روايتك تتحدثين عن مسنين في وضعية جيدة، مسنين متسلين. هل تتصورين آخر سنوات العمر بهذا الشكل؟
- يوجد مسنون في محيطي. أمي أولاً التي يناهز عمرها 95 عاماً، هناك أيضا صديقة عمرها 90 سنة، كانت حاضرة خلال زلزال نيبال. تمكث عشرة أيام من دون أن تتمكن من الاغتسال. إنها امرأة لديها برنامج لمساعدة الأطفال في ذلك البلد، وهي تعمل مثل شابة، تتدفق طاقة وسروراً. أعتقد أن الأمر متعلق كثيرا بالحالة الصحية للشخص، بموارده الاقتصادية... كما هو متعلق بامتلاك قصد ما، شيء ما يحفزك، يمنحك السرور. ما أشاهده في محيطي هو أن الأشخاص الفرحين جداً هم أيضا الأشخاص المبدعون، الذين يساعدون الآخرين.
- تذكرين في الرواية أن هناك أطفالاً بقدرات سيكولوجية... هل تعتقدين بالفعل أن لدينا حاسة سادسة، قدرات سيكولوجية ما وراء ما حكي لنا؟
- أجل، هناك أشخاص يطورون هذه القدرات وآخرون لا، لكني أعتقد أن العالم ملغز ومعقد أكثر من هذا الذي يعاش في الظاهر، هناك أشياء لا نفهمها. أتخيل أنه منذ بضع مئات السنين كانت أي ظاهرة كهربائية تبدو «ملغزة» وسحرية، وهي اليوم عادية جداً. أعتقد أن هذه العلاقات التي تحدث مع الأشخاص ذوي الحدس الكبير قد تصير أكيدة في المستقبل بالنسبة لنا. أنا منفتحة على كل ما تعطينا الحياة من سحر.
< في حكايتك تتعمقين في المآسي الشخصية التي تقع أثناء الحروب. في حالة الحرب العالمية الثانية لا تسترجعين فحسب مأساة اضطهاد النازيين لليهود، المشهورة جداً، بل أيضاً مأساة معروفة بقدر أقل، هي مأساة اليابانيين في الولايات المتحدة الأمريكية؟
- اضطهاد اليابانيين غير معروف بقدر كبير حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ليس نتيجة عملية إخفاء. في تلك اللحظة التاريخية كان هناك كره موجه ضد الجميع: الألمان، الإيطاليين، الشرقيين، الذين كانوا يشتغلون ويقتصدون كثيراً، ولم يكن الأمريكيون قادرين على منافستهم. هم ضحية هوس دائري. مازالت العنصرية موجودة وهي في تزايد.
- لا يمكنك دائما الاختيار، لكن يجب اتخاذ قرارات في الحب وفي الحياة؟
- سأحكي من أين جاء هذا. كانت لي صديقة مهنتها طبيبة ذ يرد ذكرها في الكتاب ذ صديقة حقيقية، ودائما ما كانت تقول إنها عندما تكون مع أهلها، تراودها فكرة القيام بما يدور بخلدها، مثلا «لم أتواصل مع والدتي منذ مدة طويلة». إذا وددت فعل ذلك، كلمها، لا تنتظر. لا يمكنك أن تستمر في الانتظار، لا يمكنك العيش بالماضي والنظر إلى المستقبل. يجب عليك اتخاذ قرارات.
- في كتابك، يمكننا قراءة الجملة التالية: «يوجد ناس كثيرون خيرون جداً، يا «إيرينا»، لكنهم كاتمون لسرهم. الشريرون، بالمقابل، كثيرو الصخب، ولذلك هم البارزون أكثر»، هل تعتقدين أن العالم مكون أساساً من أشخاص خيرين؟
- أجل، أعتقد أنه كذلك. انظر حولك! والآن، أنا أوجه لك السؤال: قل لي، كم تعرف من الأفراد السيئين؟
- شريرون حقاً، قليل جداً. تقريبا لا أحد؟
- الشر هو أسوأ ضرر يمكن أن يوجد. لكنه ليس بالشيوع الذي يبدو به.
- والحب، هل ينتصر دائماً، أو أنه متعلق بالحروب والفصل العنصري والتفاوت الاقتصادي؟ كيف تحددين رسالة روايتك؟
- في الرواية، الحب لا ينتصر. إنه يحتضر في أولئك الذين لا يستطيعون البقاء بعد حياة لم تكن لائقة. غير أنه مع مرور الوقت، سيعودون للقاء، لكي يولد الحب من جديد. وفي الأخير، يظهر أنه بالإمكان، بفضل الخيال، تسريع الحب. وهو تقريبا ما يحدث لي. أنا رومانسية. إذا صادفت رجلا قد أحبه، أتخيل قصة حب تفوق بكثير ما قد يمنحني واقعياً. خيالاً ورومانسية. هذا ما وقع لـ «ألما» في الكتاب: بخيالها وحبها تحافظ بسمو على ما لم يعد متمتعاً بالحياة.
- لن نكشف عن نهاية الرواية، لكن القصة في جملتها تتضمن، بالنسبة إلي، قسطا من التعليم للبطلة، «إيرينا»... هل الأمر كذلك؟
- أعتقد أنه كذلك، إنه تعلم بالنسبة إلى «إيرينا». لماذا تميل بشدة إلى «ألما»؟ لأن «ألما» في العمق بمنزلة مرشدة لها، رفيقة وصديقة تساعدها على الخروج من البؤس الذي كانت فيه. وأنا أعتقد أن حب حفيدها لـ «إيرينا» شيء عجيب. كان يعشقها تمام العشق، منذ البداية، لكنه كان قادراً على الانتظار. وسينتبه إلى أن إصراره قد يجعلها ترحل عنه. ينتظر وهو واعٍ بأنها ملاك حبه. يعجبني كثيراً أن ألتقي رجلاً مثله! لم أتعرف إلى أي واحد، وهو ما قد يجعلني مفتونة.
- ما الذي يبقى لنا في نهاية الحياة؟
- أعتقد أن ما يبقى لك هو ذكرى كم أحببت. تفقد مفاتيحك، حيوانات، أشخاصا، لكن ما يبقى لك هو كم أحببت. أنا أتشبث بابني، إلا أن ابنتي «باولا» توفيت منذ ما يزيد على عشرين سنة. ما زلت أحبها بالقدر نفسه حتى بعد موتها، إنها ترافقني.
- سيروقني أن تعلقي على نظرتك إلى الولايات المتحدة، آخذة بعين الاعتبار أن اسمك العائلي هو «الليندي».
- أنا أعيش في الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة. كل ما جرى مع «سالفادور الليندي» تم منذ أربعين سنة. لا أحد هنا يربط علاقة بين اسمي واسمه. يمر ذلك من دون حزن ولا مجد. الولايات المتحدة بلد رهيب، مهووس بالعنف، لكنه بلد يمنح في الوقت نفسه فرصاً للناس. لهذا السبب يستمر المهاجرون في المجيء إلى هنا، رغم كل شيء. أنا أعيش في الجزء الأفضل من البلاد، سان فرانسيسكو، حيث توجد كل التكنولوجيا، كل التقدم. إنه بلد يتميز بتعدد القوميات وكثرة الاختلافات، وأعترف أنني أحبه كثيراً. لا أستطيع تركه. وبالفعل فابني أمريكي الجنسية.
- بماذا تشعرين حينما تعلمين أن لديك قراء كثيرين في إسبانيا؟
-إنهم كرماء جداً، واهتمامهم عميق. أتذكر أنه عندما توفّيت ابنتي ارتمى الناس علي لمعانقتي، ما جعلني أشعر بالخجل... لطيف جدا، وهذا يعجبني لأنهم متعلقون بالأدب.
- أنت طبَّاخة ماهرة، إذا كان عليك أن تعدي طبقاً يمثل مؤلفاتك، فماذا سيكون؟
- بصفة عامة، رواياتي غنية بالتفاصيل، أمنحها كثيراً من الزينة. يمكن لأي واحدة من رواياتي أن تمثل بأطباق بدوية بحمص وسجق وبطاطس... وبكل شيء، يجب أن يكون طبقاً شعبياً قروياً.