وَهْمُ شعاراتِ الحرية

وَهْمُ شعاراتِ الحرية

مائة عام مضت على انطلاق الثورة البلشفية في روسيا، تلك الثورة التي اتخذت من نظرية كارل ماركس التي صاغها في كتابه «رأس المال» نظام ثورة ودستوراً عاماً. 

في هذا الكتاب يرى ماركس نفي الملكية الخاصة للأفراد ليلغيها ويستبدل بها فكرة الملكية الجماعية العامة. وقد لاقت هذه النظرية رواجاً وقبولاً كبيرين في روسيا لدى الأغلبية (البلشفيك) في حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي، الذين رأوا أنّ أياً من مبادئهم لن يتحقق إلا بقوة السلاح والثورة على الرأسمالية، بينما رأت الأقلية في الحزب (المونشفيك) أنّ هناك حلولاً سلمية للتغيير. في كتابه «تاريخ القرن العشرين»، يسجل بيير رونوفن، أستاذ التاريخ الحديث في جامعتي السوربون وباريس، أسباب الانهيار السريع للنظام القيصري كالتالي:
أولاً: ضعف القيصر واستعلاؤه على حكومته وشعبه 
يتجلى ضعف القيصر في قراراته العامة للدولة، كما يتجلى في حياته الخاصة بالقدْر نفسه. لقد كان القيصر يجمع تحت عباءته كل السلطات، الدينية والسياسية والعسكرية، إلا أنّ إسرافه وحياة الترف التي كان يعيشها هو وعائلته، جعلته مكروها لدى شعبه، كما جعلته قراراته العسكرية، خاصة قرار الحرب ضد اليابان وألمانيا، ساذجاً عند قادة جيشه.
وكان الكيان الروحي للكنيسة الأرثوذكسية يراه سطحياً، وذلك عندما اتخذ من جريجوري راسبوتين مرشداً روحياً له ولعائلته. إذ سرعان ما اندمجت حياة راسبوتين بحياة الأسرة المالكة في روسيا، حيث ارتقى من كونه معالجاً، أو قل مشعوذاً، إلى مُنَظّر يسهم برأيه في كل قرارات الدولة. 
لعل ما حيكَ من روايات وخيالات وزيادات في قصة راسبوتين جعله أشبه بالأسطورة، أو الشخصية الأكثر جدلاً في تاريخ روسيا القرن العشرين، حيث كان سبباً أساسياً من أسباب الإطاحة بقيصر روسيا وسقوط حكمه. 
وقد أضفت سذاجة القيصر والرومانسية المفرطة لزوجته على هذا المشعوذ شخصية القديس ذي المعجزات والكرامات. ففي البداية استطاع راسبوتين، المطرود من كنيسة سيبيريا بسبب سكره الشديد وعدم التزامه بالشعائر الدينية، وربما فسقه وفجوره، الوصول إلى البلاط القيصري، وذلك لمعالجة ابن القيصر، الذي كان يعاني مرض نزف الدم الوراثي، أو عدم تخثر الدم، الذي يُطلق عليه علمياً «الهيموفيليا» haemophilia.
يقول عميد معهد جوركي للآداب، ألكسي فارلاموف، الذي خصّ راسبوتين بدراسة بحثية مستمدة من واقع الوثائق والمخطوطات، إنّ راسبوتين استطاع معالجة ابن القيصر عن طريق التنويم المغناطيسي. لذلك طلبت زوجة القيصر من راسبوتين ملازمة ابنها والعيش معهم في القصر، الأمر الذي أدى إلى إطلاق الشائعات على عنانها، ومنها أنّ زوجة القيصر على علاقة عاطفية حميمة مع راسبوتين، مما زاد من كره الشعب للطبقة الحاكمة في روسيا.
وتكشف الوثائق أنّ كبار الشخصيات من الأسرة الحاكمة، من أمثال الأمير ميخائيل أخ القيصر والأمير الأعظم ألكسندر الكبير، أسنُّ شخص في الأسرة وعم القيصر، قد حذرا القيصر من راسبوتين، قائلين إنّ عليه إبعاده من القصر والعاصمة كلها، وإلا فإن ذلك سوف يتسبب في الثورة على البلاط، وقد أصبحت حديث التجمعات بكل مناسبة.
كما تكشف الوثائق أيضاً أنّ كبار رجال الدولة، ومنهم وزراء، قد حاولوا رشوة راسبوتين بأموال طائلة، فقط ليتمكن من إقناع القيصر ببعض القرارات التي تصب في مصلحتهم. وعلى الرغم من أنّ راسبوتين لم يقبل أيّ رشوة من أي نوع، فإنّ في عرضها فقط إشارة إلى أنّه قد أصبح في نظر هؤلاء من المؤثرين في اتخاذ القرارات القيصرية.
لا شك في أن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا قد تأثرت تأثراً كبيراً بـ «الثيوصوفية» التي كانت تؤكد تناسخ أرواح القديسين، مما أثر على الاعتقاد العام لدى زوجة القيصر وحاشيتها بأنّ راسبوتين قديس سوف يُخَلّص روسيا والأسرة الحاكمة من كل أزمة أو محنة قادمة.
ثانياً: عدم كفاءة الإدارة الروسية
 بسبب الفوضى المستحكمة في الوزارات، لم تستطع الإدارة الروسية تأمين حاجيات المؤسسات المهمة في البلاد، خاصة الجيش والشرطة. 
لقد انتشرت الرشوة لدرجة أنّ المناصب الإدارية الكبرى كانت تُشترى، لتعتلي تلك المناصب أسماء مشبوهة ومعروف عنها الفساد وعدم الكفاءة الإدارية. وعلى الرغم من علو صيحات التغيير والتصحيح، فإن القيصر كان يتجاهل كل النصائح التي تُقدم له من القادة المستنيرين في الجيش والشرطة والمؤسسات الاقتصادية.
 وقد مُني الجيش بهزائم عدة، وتقوض جهاز الأمن والشرطة، وأدى فساد الإدارة في المؤسسات المالية والاقتصادية إلى أزمات بطالة وجوع وتشرد. كما أدى الفساد في مؤسسة السكك الحديدية إلى أزمة في النقل والانتقال من المدن الكبرى وإليها، ووضع ذلك البلاد في أزمة اقتصادية كبرى. لم يعهد الجيش الروسي حروباً طويلة، فكانت الحرب العالمية الأولى تجربة أولى باءت بالفشل الذريع.

سقوط القياصرة
على الرغم من محاولات قادة الجيش لتدريب جنودهم على مثل تلك الحروب، فإنّ النقص في العدة والعتاد كان حائلاً كبيراً ضد تطوير إمكانات الجيش الروسي. ولنقص خبرة القيصر في إدارة المعارك، وتدخله المباشر في خطط الجيش، مُنيَ بهزائم عدة راح ضحيتها ملايين من الشعب الروسي. كل تلك الظروف كانت عبئاً ثقيلاً على القيصر ودولته. 
 ثالثاً: قوة المعارضة وتنظيمها
مهما يكن من أمر، فإنّ نضال الطبقة العاملة من مزارعين وعمال مصانع، التي كانت تشكل 80 في المائة من سكان الإمبراطورية الروسية، نجح في الإطاحة بالنظام الإقطاعي الرأسمالي في روسيا، وسقط نظام حكم القياصرة وسيطرة الكنيسة الأرثوذكسية.
ولم يتحقق حلم الثورة إلا بقيادة المثقفين الأحرار من الطبقة الوسطى، من الكُتّاب والمحامين من أمثال تولستوي ولينين وستالين. عانت الأغلبية من الشعب الروسي الجوع والفقر والعوز في ظل النظام القيصري المستبد، الذي بدا غير مكترث لمحـــنة الشعب ومتطلباته الملحة. 
وعندما بدأت هجرة الفقراء من المدن إلى الأرياف للبحث عن الطعام، تكونت خلايا ثورية منظمة، استطاعت الإطاحة بالنظام الحاكم، الذي خسر الملايين من جنود جيشه في حربه ضد اليابان. حينذاك، يعود لينين من منفاه في ألمانيا ليرفع شعار «الخبز والسلام والحرية»، ويتم عرض منظومته عن طريق الصحافة والإذاعة وتوزيع المنشورات، ودعا إلى تسليح الثورة التي قوامها الطبقة الكادحة (البلوريتاريا) من الفلاحين والعمال.

ملامح الثورة
في الثامن من شهر مارس 1917م، بدأت ملامح الثورة في بتروغراد كتمرد عمالي ضد فساد الإدارة التي عاملت العمال كسخرة، حيث فاقت ساعات العمل أكثر من 12 ساعة دون انقطاع أو راحة للغذاء. السبب الذي أدى إلى خروج هؤلاء العمال في تظاهرات استدعت الصدام مع الشرطة، مما اضطر الحكومة، بأمر مباشر من القيصر نيوكلاس الثاني، إلى أن تطلب من الجيش التدخل لقمع التظاهرات. لكن الجيش رفض التدخل بحجة أن ذلك ليس من اختصاصه، فقوى الجيش غير معنية إلا بحماية البلاد من العدوان الخارجي. 
هكذا كان العذر، فلما رأت الحكومة موقف الجيش، وتخلي قادته عن دعم موقفها، تقدمت الوزارة باستقالتـها، وأكــثر من ذلك أن تخلى القيصر عن عرشــه إلى أخيه ميخـــائيل الذي رفــض بدوره اعـتلاء عرش القيـــصرية، وأعلن في 17 مارس 1917م أنّ اختيار النــظام الروسي الجديد قد أصبح من صلاحيات «الجمعية التأسيسية».
وبناء على هذا التصريح، شُكلت الحكومة المؤقتة لتدير البلاد مؤقتاً. ويبدو أنّ هذه الحكومة ليست لها سلطة فاعلة، حيث تعرضت لمعارضة مزدوجة من كتلة اليمين (الجيش) وكتلة اليسار (البلاشفة). كان الجيش بقيادة الجنرال كورنيلوف يعارض بشدة تدابير الحكومة المؤقتة تجاه الجيش، وطالب بالإصلاح العسكري. وعندما لم يُستجب طلبه، زحف كورنيلوف بجيش الفرسان لقلب نظام الحكومة المؤقتة، ولكنه انهزم بجيشه أمام التنظيمات العمالية المسلحة، التي تنتمي إلى الأغلبية الاشتراكية. وعندما وصلت الحالة إلى انحلال الجيش وسقوط سلطة الحكومة المؤقتة، تحرك البلاشفة في معظم مدن روسيا في وقت واحد منادين بالثورة، ثورة أكتوبر العظمى، ثورة المزارعين والعمال، هي التي أصبحت شعاراً للثورة، لتصبح فيما بعد أيقونة العَلَم السوفييتي (المطرقة والمنجل).

اشتراكية لينين
قاد لينين الثورة حتى أصبح على رأس الدولة. وبدأ يطبق المبادئ والتعاليم الماركسية بما يتناسب وواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفي خطاب له في اللجنة المركزية للحزب، أعلن لينين مشروعه الذي يسعى إلى تحقيق الإصلاحات التي ستغير الحياة العامة للمجتمع الروسي آنذاك، وسيكون ذلك من خلال تحقيق مفهوم الاشتراكية.
في 14 نوفمبر 1917م، قررت حكومة الثورة تأميم جميع أراضي الكنيسة وجميع إقطاعيات وملكيات الأرستقراطيين والبرجوازيين، كما قررت إعطاء العمّال حق الرقابة على المعامل والمصانع، وكان ذلك بداية لتأميم المشاريع الكبرى. منذ ذلك الحين، وبعد فلاديمير لينين، تعاقب على قيادة الحكم في الاتحاد السوفييتي كل من جوزيف ستالين، ثم نيكيتا خورتشوف، ومن بعده ليونيد بريجنيف، ثم يوري أندروبوف، ثم قسطنطين تشيرنينكو، وأخيرا ميخائيل غورباتشوف. وهذا الأخير هو واضع سياسة إعادة بناء الاقتصاد الوطني (البريسترويكا)، وهي خطة تنمية عامة للدولة تبدأ بانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي. ومن دون قصد، أتت هذه الخطة على تفكيك الاتحاد السوفييتي، ومن ثم استقلال معظم دُوَله لتصبح جمهوريات مستقلة فيما بعد. ونحن نتابع معاناة الشعب السوفييتي، الذي عاش سجيناً جائعاً في أرضه الغنية، وعندما طالب بالحرية كبّل نفسه بقيد الاشتراكية، نبَذَ العبودية وناضل ضد استغلاله من البرجوازية والرأسمالية، فصنع قيادة دكتاتورية شيوعية حرمته من التمتع بثرواته... واكتشف بعد قرن من الزمان أنّه وباْسم العدالة الاجتماعية كان يعيش وَهْم شعارات الحرية. 

الحرية حقّ إنساني
الحرية ليست شعاراً، إنّما هي ممارسة حقّ إنساني كفلته كلّ دساتير دول العالم. وفيما يخصنا، نحن العرب، فقد رفعت شعارات ورايات وتشكلت أحزاب معارضة، وصل بعضها إلى سدّة الحكم، في تاريخنا الحديث والمعاصر، وباسم «التقدمية» لم نرَ إلا رجعية. لقد ألقت التجربة الشيوعية ظلالها على العالم العربي، فأيدتها دول ورفضتها أخرى، وكان العرب يترقبون التجربة السوفييتية ونتائجها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما نجح السوفييت في الوصول إلى برلين. في مصر وسورية والعراق، انتشرت الأفكار الشيوعية بمنظور «الاشتراكية»، واستطاع رئيس يوغوسلافيا جوزيف تيتو، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، والرئيس المصري جمال عبدالناصر إنشاء تجمع، أو سمّها كتلة دولية وسطية، بين الشيوعية والرأسمالية، عُرفَت بدول «عدم الانحياز». كل تلك الدول، لم تستطع أن تصنع كياناً دولياً مؤثراً، يقف أمام المدّ الرأسمالي الأمريكي، الذي أصبح اليوم «القطب الأوحد» في السياسة الدولية، وأصبحت دول العالم ترجو السلامة قبل السلام، وتنشد في كل خطوة تخطوها رضا الولايات المتحدة الأمريكية ومباركتها.
إنّ من قال «لا» قُتل بيد نعرفها كلنا، رحم الله الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية الراحل، والرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، الذي وافته المنية في مثل هذا الشهر، 6 أكتوبر 1981م.  وفي أكتوبر صار المجد لمصر بانتصارها على الكيان الصهيوني وتكسير فكرة وأسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، واسترجعت مصر أراضيها بالحنكة والصبر والقوة. ومن موقف القوة، أعلن السادات السلام. رحم الله الزعيمين، فقد قالا «لا» من أجل كرامة وسيادة دولتيهما. وعلى الرغم من الدخان الأسود الذي انطلق من النفوس المريضة قبل البنادق والمدافع وقصف القنابل، وعلى الرغم من استباحة الأرض والمال في الوطن العربي، تنطلق صيحات المجد أبيّة، تسترجع ذكرى السلام. وها هو قائد السلام أمير دولة الكويت، صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، يجوب العالم منادياً بالسلام بين قيادات وشعوب العالم. وآخر مسعاه في رأب الصدع بين دول مجلس التعاون الخليجية الذي كُلّل بالنجاح والوفاق وتهدئة النفوس في العالم أجمع. ولا أقل من تسجيل الشكر الجزيل والحبّ لقائد الإنسانية وشعب دولة الكويت الأبيّ .