سرقة العقل

سرقة العقل

نعني بسرقة العقل، سرقة نتاج العقل البشري، وسرقة الابتكارات والاختراعات، المستمدة من المعارف والخبرات والمهارات وأرشيف الذاكرة الخاصة، ولا نقصد الاستعارة أو الاقتباس، أو الرجوع إلى المُنجز السابق لأغراض علمية أو تعليمية، أي لا نقصد الاستناد إلى منجزات العلم أو التراث الفكري، فهذا طبيعي لكل منتج أو ابتكار  جديد، يستند إلى فكرة من سبقه ليطور شيئاً أو يخلق منتجاً مادياً أو فكرياً جديداً، فالابتكار هو ملكية خاصة للمبتكر، ونتاج خاص من إبداعاته.

العقل ليس هو الدماغ أو المخ بالتأكيد، إنما هو وظائف المخ واستخدامها من قبل شخص معين، وخاصة تلك التي تخرج من العقل الباطن.
والكتاب موضوعنا، هو عصارة ذهن أحدهم أو بعضهم، أي يحوي خبراته الخاصة ومهاراته ومعارفه، إذاً هو ملك لهذا العقل المحدد والمعين، ونسب ذلك لآخرين هو سرقة وجريمة منكرة، لعلها أكثر فداحة من سرقة شيء مادي، كالأرض والمال رغم أهميتهما القصوى. فنلاحظ - على سبيل المثال - أن الغزاة عبر التاريخ يبدأون باستباحة الثقافة بكل ما تعنيه من معنى أولاً، أي النتاج الفكري للمجتمعات، وقد يعمد الغازي إلى تدمير المباني والمنشآت، لكنها جميعاً قابلة لإعادة البناء، إلا الثقافة والنتاج الفكري، فهما ذاكرة الشعوب وخاصيتها في التفكير والسلوك والتركيب الشخصي أو شخصيتها، أو عقلها، إن جاز التعبير، في مكان وزمان معينين، وهذا يعني في النهاية سرقة العقول التي قصدت.
فمثلاً، هولاكو أحرق الكتب وأغرقها في دجلة، وهتلر أحرق النتاجات الفكرية للشعوب، وصدام حسين استهدف أولاً مكتبة جامعة الكويت، والآثار التي تشكل هوية الكويت، وكل ما يرمز إلى الثقافة والإبداع من مؤسسات ثقافية وعلمية، ونتاجات بما فيها أرشيفا الإذاعة والتلفزيون واللوحات التشكيلية، ويذكر التاريخ أن هتلر عندما اجتاح الاتحاد السوفييتي، هدم قبور الكتَّاب والمبدعين، مثل بوشكين وتولستوي وديستوفسكي، أما تركيا فقد منعت دخول أشعار الشاعر الكبير ناظم حكمت، بل منعت دخول رفاته لعقود طويلة كي تدفن في أرض بلاده، فما الخطر الذي يشكله الإبداع الثقافي على حكومات وجيوش قوية؟ بل ما هو خطر شاعر أو مفكر أو صاحب رأي، لكي يودع في السجون؟
إن كان الكتاب والإبداع الفني بهذه الأهمية والدلالة، بل هذه الخطورة على الغازي والمحتل والمستعمر والدكتاتور، فكيف نصف سرقة العقل أو اضطهاده؟ لا أظن أنها أقل من جريمة نكراء.

سرقة العقول دولياً
وفق بعض النظريات، فقد بدأت المنازعات حول حق الملكية، منذ المجتمعات البدائية، وبالتحديد مع تقسيم العمل وظهور الملكية الخاصة، مثل ملكية الأراضي والحقول والمراعي، التي يتم التنازع عليها من خلال الحروب، ثم تطور الأمر في مجتمع الإنتاج البضاعي البسيط، عندما بدأت البضاعة تنقل لتباع في الأسواق الخارجية، فأصبح الإنسان، وفي سبيل الربح، يسرق فكرة غيره لهذه البضاعة أو تلك، من دون إذن أو تصريح، أو من دون دفع ثمن لهذا الابتكار أو الاختراع، وهذا سبب الخسارة لصاحب الإنتاج المبتكر. من هنا بدأت «المانيفاكتورة» أو المشغل البسيط، بوضع وسمها الخاص على البضاعة، ومنها تطورت فكرة العلامة التجارية وبلد المنشأ، واستمرت المنازعات للاستحواذ وسرقة نتاج الآخرين، وأيضاً تطورت البشرية وتطورت معها براءات الاختراع العلمي، لأن المخترع كان فرداً يعمل في مختبره الخاص، فابتكر الرأسماليون الأوائل في ذلك الوقت، شراء براءات الاختراع وتوفير مختبرات خاصة لمنتجاتها من الاختراعات المبتكرة واحتكرتها، وجنت وحدها الأرباح من وراء الابتكار الجديد، حتى بدأت الأبحاث العلمية والمعادلات تسرق صراحة، فيما سمي بالجرائم الصناعية والتجسس الصناعي، وبناء عليه عرف الاغتيال الصناعي، مثل قتل العلماء والمخترعين.

وضع بائس
في العالم هناك عديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان، وملكية الأراضي وسيادتها، وتقليد الماركات التجارية وسرقة أفكار الآخرين الأدبية والفنية، رغم المعاهدات والمواثيق الدولية، وحتى سرقة العقول واستدراجها للهجرة، بسبب الوضع البائس في البلدان النامية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وعدم إتاحة بيئة البحث العلمي المناسبة، أو الاهتمام والإنفاق على البحث العلمي ورعاية المبدعين. وبعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، توالت الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، المستندة أساساً بالجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية Trips، وهو اتفاق دولي من قبل منظمة التجارة العالمية، وقيل إن معيار «تريبس»، هو إلزام لجميع البلدان على إنشاء أنظمة صارمة للملكية الفكرية.
أصبحت هناك المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) Wipo،  وتشمل حقوق المؤلفات الأدبية والفنية والتسجيلات الصوتية وغيرها، للحد من سرقة نتاج العقل بما فيها الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، فهل استطاعت هذه الاتفاقيات الدولية الحد من سرقة إبداع المفكر والباحث العلمي والأديب والموسيقى في الدول العربية؟ انتظرت البشرية قروناً طويلة قبل أن يصدر قانون أو اتفاق أو معاهدة دولية، تحد من سرقة الإبداع والكتاب والفكر حصراً، بعد أن عاث الإنسان نهباً لنتاج وأفكار أخيه الإنسان، وذلك عندما اتفقت 117 دولة، يوم 15 ديسمبر 1993 بالتوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وتقرر أن يكون التوقيع النهائي في أبريل 1994 في المملكة المغربية، وترتب على ذلك أن حلت منظمة التجارة العالمية (WTO) محل «الجات» (GATT).

 خلفية المعاهدة
يرى البعض أن الولايات المتحدة لديها ثلاث مؤسسات دولية، تتم من خلالها السيطرة على عقول شعوب العالم النامي وثرواته لمصلحتها، هذا إذا تم استثناء المؤسسة العسكرية، التي تستهدف أبنية الشعوب النامية التحتية، وجيوشها وعلمائها ومفكريها ومؤسساتها الثقافية، مثل المتاحف والمكتبات والآثار، وغيرها. 
هذه المؤسسات الدولية هي «صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية»، وهذه الأخيرة تندرج تحتها اتفاقية حقوق الملكية، فمن خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تستولي الولايات المتحدة والعالم الرأسمالي على ثروات البلدان والشعوب، وتقوم بفرض السياسات الاقتصادية عليها، مثل سياسات الخصخصة ورفع يد القطاع العام عن الدعم الاجتماعي، وتسليم القطاع الخاص اقتصاد البلد، مثل التعليم والصحة والتأمين الاجتماعي، وفرض ضرائب على الشعوب، ورفع رسوم الخدمات، مثل البنزين والكهرباء والماء والطرق وغيرها، وتفرض على الحكومات سياسات التقشف، لتصب الأموال في خزائن الشركات الرأسمالية، وتُفقر الشعوب من جراء ذلك، مثلما يحدث في اليونان والبرتغال وإيطاليا الآن، أي دول الجنوب الأوربي، والبلدان العربية.
أما في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي الجديد، وهو طور جديد في النظام الرأسمالي، ويختزل الاقتصاديون ذلك في كلمة واحدة لا غير هي «العولمة» أو تدويل الإنتاج، أو ما سمي بالسياسة الاقتصادية النيوليبرالية، أي عولمة الاستغلال والنهب والإفقار، أي السرقة طوال الوقت وفي كل مكان.
فمن خلال التطور التكنولوجي يوظف النظام الرأسمالي، القوى العاملة في القارات المختلفة عبر الإنترنت، ويتقاضون رواتبهم عبر الإنترنت ويطردون عبر الإنترنت، مستغلين الأيدي العاملة الرخيصة ومواد الخام الرخيصة، وتستولي الشركات على فائض القيمة، بينما يحصل العامل الذهني والعضلي على الفتات، فأغلب العاملين في مجال البرمجة والإنترنت، هم من شبه القارة الهندية ومن آسيا الشرقية، وهنا وبالتعاون مع صندوق النقد الدولي، تتم سرقة قوى الإنتاج سواء العضلية أو الذهنية على نطاق العالم. 

سرقة العقول بالإغراء 
تضاعفت في القرن العشرين، وبشكل ملحوظ، أعداد المهاجرين من الدول النامية إلى الدول المتقدمة، لأسباب منها البحث عن الحرية بسبب قمع الأنظمة الدكتاتورية في البلدان النامية، والبحث عن دخل وفرص معيشية أفضل، والبحث عن بيئة تسعُ إبداعات العلماء والمبدعين والمخترعين، إضافة إلى قلة الإنفاق على البحوث العلمية، بعد أن ضاقت الفرص في البلدان النامية.
وهنا على من يقع الذنب أولاً؟ بالتأكيد الذنب والمسؤولية يقعان أولاً على البلدان النامية، التي تصادر الحريات، فتمنع حرية التعبير والرأي وتمنع حق الاطلاع على المعلومة، وتساهم بشكل كبير في وضعها الاقتصادي، وعدم تنميتها لمواردها بل نهبها من قبل النخب الخاصة، وغياب الاستقلال الاقتصادي، وعدم الاهتمام ببيئة البحث والإبداع، وعدم الإنفاق عليها بشكل كاف، إلى جملة أوضاع البلدان النامية.
وقد تتاح للمبدع الذي لم يجد البيئة المناسبة للإبداع في بلده، فرص لتطوير أفكاره البحثية وتطبيقها، في بيئات أكثر صحية وتشجيعاً، ويحصل على المكافـــــأة والتقـــــدير المناسبين، مثل بعض العلماء من أصول عربية، الذين أتيحت لهم فرصة الإبداع في بلدان المهجر، وحصل عدد منهم على جائزة نوبل وجوائز أخرى، بل يعمد كثير منهم لإنشاء مشاريع علمية في بلدانهم النامية، مثل العالم زويل الذي أنشأ مدينة زويل العلمية، ود. مجدي يعقوب الذي أنشأ أحدث مستشفى أمراض قلب في مصر، رغم أنهما لم يعودا ويستقرا في بلدهما الأصلي.
ولكننا أيضاً لا نعفي الدول المتقدمة ومسؤوليتها عن هجرة العقول، منذ أزمان الاستعمار الكولونيالي، ثم ما يسمى بالاستعمار الاقتصادي والثقافي لاحقاً أو تبعية البلدان النامية للبلدان المتقدمة، وهي من الأسباب الرئيسة التي تخلفت بسببها البلدان النامية، فأصبحت طاردة للعقول والكفاءات المختلفة.
ويرى الأكاديمي المصري د. رفعت العوضي أنه «إذا استمرت أوضاع البحث العلمي في البلاد النامية على ما هي عليه الآن، من حيث الاهتمام الكافي وضآلة الإنفاق وإهمال العلماء والخبراء، وعدم وجود البيئة الملائمة للتقدم العلمي والتكنولوجي، فإن اتفاقية حقوق الملكية الفكرية، سوف تمكن الدول المتقدمة من السيطرة والتحكم، في الثورة التكنولوجية الثالثة، بحيث تتيح الاستفادة منها لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء».
ويضيف: «نعلم أن العنصر البشري في البلاد النامية، مثل نظيره في البلاد المتقدمة، من حيث إمكانية وجود أناس مؤهلين ومبدعين ومخترعين ومكتشفين، وعلماء ومفكرين وموهوبين، والهجرة هي حق من حقوقه كإنسان، ولكن هؤلاء العلماء أو الذين أصبحوا علماء بعد الهجرة، كانت بلادهم قد أنفقت عليهم قبل الهجرة، وتبدأ هذه النفقات قبل أن يولدوا وتستمر معهم إلى أن يهاجروا». ويردف العوضي: «إذن البلاد النامية تعتبر دائنة للبلاد المتقدمة، بالمبالغ التي أنفقتها على هؤلاء العلماء المهاجرين، والمسألة لا تقدر بالملايين، بل بالمليارات من الدولارات»، مستندة في ذلك إلى بند من بنود اتفاقية حقوق الملكية الفكرية، وهو:
«إذا كانت اتفاقــــية حقــوق الملكية الفكرية، تعمل على تحقيــق الحمــــاية الفكـــــرية بوسيلتيــــن رئيستين: الأولى هي الحصول على تـــصريح من مالك الحق الفكـــري، والثانيــة هي دفـــع ثمن لهذا الانتـــفاع»، فإن الدول المتقــــدمة تقوم علناً بســـرقــة العقول، دون تصـــريح من دولة المهاجر الأصليــــة، ودون دفع ثمــــن الإنفـــاق على هذا المهاجر قبل الهجرة، وهــو ما قد يــسبب مشكلات في العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية والعلمية»، كما يرى د. العوضي.
لكننا لا نرى الأمر من هذا الجانب فقط، بل نرى أن الدول النامية، لم تلتفت من قبل لهذا المبدع قبل أن يقرر الهجرة، هذا إذا لم يكن قد وقع عليه اضطهاد في بلده، فلا يحق لها المطالبة بتعويض عن تدريسه أو تطبيبه، فهذا حق من حقوقه المشروعة كمواطن وإنسان. وقد نعذر الدول النامية، على احتجاجها على إغراء الكفاءات الوطنية، عن طريق الشراء والتجنيد بواسطة السفارات الأجنبية، لكن لماذا تلجأ الكفاءات للهجرة وتترك وطنها طالما وفرت هذه البلدان البيئة السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية؟
هناك سرقة من الدول المتقدمة للعقول في بلدها نفسها، «ففي كتاب نشر في عام 2010، بعنوان: The quants how a new breed of math whizzes conquered wall street and nearly destroyed it، لمؤلفه سكوت باترسون، وهو يتحدث ليس فقط عن سرقة الدول المتقدمة للعقول من الدول النامية، بل عن العقول الأمريكية المحلية أيضاً، ويركز على استقطاب شركات المال في «وول ستريت» لخريجي الرياضيات والعلوم المتفوقين، والمؤهلين لكي يصبحوا علماء في المستقبل، للعمل لديها بأجر عالٍ، بدلاً من خدمة مجتمعاتهم باختراعات علمية، أو العمل في المختبرات العلمية الحكومية بأجور أقل، وبذلك تجني الشركات فائض القيمة.

حقوق الملكية الفكرية عربياً
نستطيع القول بقليل من المبالغة إنه لا توجد حقوق ملكية فكرية في العالم العربي، ولا توجد وسائل وأدوات لحماية هذه الحقوق، رغم أن معظم الدول العربية وقعت على اتفاقية الملكية الفكرية، فكما قلنا فإنه من الشائع سرقة البحوث إما مباشرة وإما عن طريق النقل باسم وعنوان آخرين، وأيضاً من الشائع سرقة الأشعار والمؤلفات الموسيقية، وهذا ما نلاحظه حتى عند بعض كبار الملحنين والمؤلفين الموسيقيين في العالم العربي،  وكذا المسرحيات والمسلسلات التلفزيونية المأخوذة عن روايات وأفلام سينمائية، من دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي، كأن يذكر «عن رواية كذا..»، أو «عن مقطوعة فلان..».
إذاً مازال الباحث المخـــــتص، الذي بــذل جهوداً كبيرة واستلزم وقــــتاً طـــويلاً واستخدم مراجع ومصادر عدة، مازال يعـــاني مما يسمى النقل، وهو في حقيقــــته سرقة للإبـــــداع والابتكار، في الدراسات والرسائل الأكاديمية،  ويقدمونها لإجازة رسائلهم للدراسات الأكاديمية العليا، وينسبونها لأنفسهم.
وأيضاً ترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغة العربية، فكثيراً من الأحيان تتم ترجمة العمل دون إذن مسبق من دار النشر صاحبة الحقوق الفكرية، أو من الأديب نفسه، ولعل إجراءات الموافقة على ترجمة الكتب تكون ضمن عقود صارمة أو تستغرق زمنا طويلا لإجازتها. وأخيراً، فإن مثل هذا الموضوع يحتاج إلى التوسع، والبحث عن مصادر ومراجع أخرى لإغنائه من جوانب أخرى .