رفيق الدرب الطويل المليء بالمسرات والأوجاع

رفيق الدرب الطويل المليء بالمسرات والأوجاع

عندما دخلتُ كلية الحقوق في بغداد كان يوسف العاني معي في الدورة نفسها، وعرفتُ أنه شكَّل مجموعة فنية أطلق عليها تسمية «مجموعة جبر الخواطر»، غرضها تقديم تمثيليات شعبية لجمهور الطلبة، ووددتُ يومها أن أكون معه، إلا أنني ترددتُ في الالتقاء به لاعتقادي أنه ينتمي إلى طبقة اجتماعية تختلف عن الطبقة الوسطى التي أنتمي إليها.

في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬جاءني‭ ‬زميلي‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬محمد‭ ‬منير‭ ‬آل‭ ‬ياسين،‭ ‬مقترحاً‭ ‬عليَّ‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬شكسبير‭ ‬‮«‬تاجر‭ ‬البندقية‮»‬،‭ ‬لأمثّل‭ ‬دور‭ ‬‮«‬أنطونيو‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬يمثل‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬‮«‬شايلوك‮»‬،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يُخرج‭ ‬المسرحية‭ ‬الأستاذ‭ ‬إبراهيم‭ ‬جلال‭.‬

وافقتُ‭ ‬على‭ ‬المقترح،‭ ‬وبالفعل‭ ‬تم‭ ‬إنجاز‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬سيتم‭ ‬تقديمها‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬معهد‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬وكان‭ ‬هدفنا‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬منافسة‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬ومجموعته‭. ‬وقتها‭ ‬اقترح‭ ‬عليَّ‭ ‬الأستاذ‭ ‬إبراهيم‭ ‬جلال‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬معهد‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬ودراسة‭ ‬المسرح،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تمّ‭ ‬بعد‭ ‬تخرجي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الحقوق‭ ‬عام‭ ‬1950‭. ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬التحق‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬بالمعهد،‭ ‬وكان‭ ‬إبراهيم‭ ‬جلال‭ ‬رئيساً‭ ‬لفرع‭ ‬التمثيل‭ ‬فيه،‭ ‬وقد‭ ‬سعى‭ ‬مع‭ ‬إدارة‭ ‬المعهد‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬إداري‭ ‬بقبول‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثاني،‭ ‬وذلك‭ ‬يعني‭ ‬تجاوزه‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬بحسب‭ ‬القرار‭ ‬الإداري‭. ‬حينها‭ ‬قدّمتُ‭ ‬وزميلي‭ ‬بدري‭ ‬حسون‭ ‬فريد‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬القرار،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬النظر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إدارة‭ ‬المعهد‭ ‬في‭ ‬احتجاجنا‭!‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬علاقتي‭ ‬بيوسف‭ ‬قد‭ ‬توثقت،‭ ‬إذ‭ ‬وجدتُ‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬اتفاقاً‭ ‬فكرياً‭ ‬وفنياً‭ ‬يجمعنا‭ ‬حول‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬العمل‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المجتمع‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬‮«‬الفن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الفن‮»‬‭. ‬واستطاع‭ ‬يوسف‭ ‬أن‭ ‬يُقنع‭ ‬أستاذنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جلال‭ ‬بتأسيس‭ ‬فرقة‭ ‬مسرحية‭ ‬تعمل‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬المعهد،‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شهد‭ ‬الإقبال‭ ‬والحماس‭ ‬الكبيرين‭ ‬اللذين‭ ‬لاقتهما‭ ‬مسرحياته‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة‭. ‬ومن‭ ‬جانبي‭ ‬فقد‭ ‬استحسنتُ‭ ‬الفكرة،‭ ‬وأيدتها‭ ‬بحماس،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬اختلفت‭ ‬مع‭ ‬يوسف‭ ‬ومع‭ ‬إبراهيم‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬الأعضاء‭ ‬المؤسسين‭ ‬من‭ ‬طلبة‭ ‬المعهد،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬ينسجمون‭ ‬معنا‭ ‬فكرياً،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬الخطوات‭ ‬الأولى‭ ‬لتأسيس‭ ‬‮«‬فرقة‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اسمها‭.‬

إلا‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬التقيتُ‭ ‬وفداً‭ ‬من‭ ‬يوسف‭ ‬وإبراهيم‭ ‬صار‭ ‬يؤكد‭ ‬عليّ‭ ‬بضرورة‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الفرقة،‭ ‬فنزلتُ‭ ‬عند‭ ‬إرادتهم،‭ ‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬كانت‭ ‬مساهمتي‭ ‬الفعالة‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الفرقة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيلها‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ألغيتْ‭ ‬إجازتها‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬لتكون‭ ‬بالاسم‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬استمرت‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭: ‬‮«‬فرقة‭ ‬المسرح‭ ‬الفني‭ ‬الحديث‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬انضمّ‭ ‬إليها‭ ‬أعضاء‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬المسرح‭ ‬الفني‮»‬‭ ‬بقيادة‭ ‬خليل‭ ‬شوقي‭ ‬ليكونوا‭ ‬أعضاء‭ ‬في‭ ‬الفرقة‭ ‬التي‭ ‬سيقودها‭ ‬الفنان‭ ‬إبراهيم‭ ‬جلال،‭ ‬ولكن،‭ ‬بغياب‭ ‬يوسف‭ ‬العاني،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬غادر‭ ‬العراق‭ ‬إثر‭ ‬أحداث‭ ‬1963،‭ ‬متجنباً‭ ‬ملاحقة‭ ‬السلطة‭ ‬له،‭ ‬لكونه‭ ‬يحمل‭ ‬أفكاراً‭ ‬تقدمية‭. ‬وعند‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬أخرجتُ‭ ‬له‭ ‬مسرحيته‭ ‬المتطورة‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬جديدة‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬مسرحيته‭ ‬الملحمية‭ ‬‮«‬المفتاح‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬بعدهما‭ ‬مسرحيته‭ ‬السياسية‭ ‬الوثائقية‭ ‬‮«‬الخرابة‮»‬‭.‬

واصلتُ‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬الراحل‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬‮«‬مسرح‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬اتخذناه‭ ‬مقراً‭ ‬للفرقة،‭ ‬فأخرجتُ‭ ‬له‭ ‬‮«‬الخان‮»‬،‭ ‬و«الجومة‮»‬،‭ ‬و«نجمة‮»‬‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬موضوعات‭ ‬مسرحيات‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬شعبنا‭ ‬ونضاله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والحياة‭ ‬الكريمة،‭ ‬وبالذات‭ ‬الطبقة‭ ‬المسحوقة‭ ‬منه،‭ ‬فإن‭ ‬أشكال‭ ‬مسرحياته‭ ‬تنوعت‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تقليدي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬متجدد،‭ ‬ولعل‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬كتاباته‭ ‬المسرحية‭ ‬هو‭ ‬حوار‭ ‬شخصياته‭ ‬الشعبية‭ ‬ببساطة،‭ ‬وحُسن‭ ‬تعبير،‭ ‬وبلاغة‭... ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬مسرحه‭ ‬