المعاني الإنسانية والبؤر المتناقضة بين إليوت والسيّاب

المعاني الإنسانية والبؤر المتناقضة بين إليوت والسيّاب

لا شك في أن «الأرض اليباب» لإليوت من القصائد الإنجليزية الغنية بصور متعددة للحظات الإبداع المعبّرة، التي يتفاعل معها القارئ على نحو يكشف إبداعية هذه الصور، وفنيّة لحظاتها المعبّرة عن الشدة والألم، والتي تتحول إلى إبداع شعري يتصل بالتجربة الإنسانية في معناها الشمولي. 
ولأن إليوت كرّس كل مؤهلاته الفنية والثقافية والإبداعية في الأرض اليباب، فقد انكشفت ومضات القصيدة من فجوة الألم والأمل من خلال المعاني الإنسانية الشمولية التي سعى إلى تضمينها قصيدته، مِن تحقق للحب وفقدانه، وانتظار للحياة في واقع الموت، وما إلى ذلك من البؤر المتناقضة للخصب والعقم، والفشل والنجاح.

استطاع‭ ‬السياب‭ ‬أن‭ ‬يستوعب‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬صيغت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب‭ ‬والرؤية‭ ‬التي‭ ‬تحكمت‭ ‬فيها،‭ ‬لذلك‭ ‬اشتركت‭ ‬اأنشودة‭ ‬المطرب‭ ‬واالأرض‭ ‬اليبابب‭ ‬في‭ ‬اللحظات‭ ‬الإيقاعية‭ ‬التي‭ ‬تتولد‭ ‬عن‭ ‬موسيقى‭ ‬داخلية‭ ‬توجّه‭ ‬الصورة‭ ‬كما‭ ‬توجه‭ ‬شكل‭ ‬الأداء‭ ‬الفني،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬إمكان‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬متوازية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المتوازيات‭ ‬المتناقضة‭ ‬التي‭ ‬تنتظم‭ ‬وحدات‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬وتكتسب‭ ‬معانيها‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬توحيه‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬في‭ ‬ارتباطها‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض‭.‬

ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬اأنشودة‭ ‬المطرب‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬لحظة‭ ‬الشّدة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬الإبداع،‭ ‬والتي‭ ‬توصف‭ ‬عند‭ ‬دانتي‭ ‬بحدّ‭ ‬وهمي‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬العالمين‭ ‬اللذين‭ ‬يمثّلان‭ ‬طرفي‭ ‬الصراع‭ ‬الأزلي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬والذي‭ ‬يشار‭ ‬إليه‭ ‬بتعبير‭ ‬Limbo‭ ‬في‭ ‬االكوميديا‭ ‬الإلهيةب‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬أحد‭ ‬مصادر‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب‭... ‬وتجيء‭ ‬لحظة‭ ‬الشدة‭ ‬في‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬أشبه‭ ‬بلحظة‭ ‬التجلّي‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬القدر،‭ ‬والتي‭ ‬يُعتَقد‭ ‬أن‭ ‬خير‭ ‬وقت‭ ‬للحاق‭ ‬بها‭ ‬هو‭ ‬ساعة‭ ‬السحر‭.‬

أكيد‭ ‬أن‭ ‬السياب‭ ‬وما‭ ‬عاشه‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬مع‭ ‬تجربة‭ ‬المرض،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬وثيق‭ ‬بتلك‭ ‬اللحظات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لحظات‭ ‬الألم‭ ‬الشديد،‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬أعانته‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سر‭ ‬التعبير‭ ‬المكثف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬متحررًا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬المادية‭.‬

وتتمحور‭ ‬لحظات‭ ‬الشدة‭ ‬والألم‭ ‬في‭ ‬اأنشودة‭ ‬المطرب‭ ‬حول‭ ‬حالتين‭ ‬متقاربتين‭ ‬تشكلان‭ ‬أيضًا‭ ‬متوازية‭ ‬متناقضة،‭ ‬وهما‭ ‬حالتا‭ ‬انحباس‭ ‬المطر،‭ ‬وما‭ ‬يشكّله‭ ‬من‭ ‬إحساس‭ ‬باقتراب‭ ‬الموت‭ ‬والعُقم،‭ ‬وحالة‭ ‬انتظار‭ ‬نزوله‭ ‬وما‭ ‬تشكله‭ ‬من‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬عودة‭ ‬الخصب‭ ‬والحياة‭. ‬

تُعد‭ ‬تيمة‭ ‬المَطر‭ ‬الصورةَ‭ ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إليوت‭ ‬معالم‭ ‬االأرض‭ ‬اليبابب‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬المأساوي‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تصويره‭. ‬وقد‭ ‬وظف‭ ‬السياب‭ ‬في‭ ‬أنشودته‭ ‬هذه‭ ‬التيمة‭ ‬التي‭ ‬تشي‭ ‬بتفاعله‭ ‬مع‭ ‬التجربة‭ ‬الإليوتية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬واستيعابه‭ ‬لها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تفاعل‭ ‬مع‭ ‬الجانب‭ ‬الشكلي‭ ‬التركيبي‭ ‬لإليوت‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يهم‭ ‬المضمون‭.‬

 

لازمة‭ ‬صوتية

فمفردة‭ ‬المطر‭ ‬التي‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬اأنشودة‭ ‬المطرب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬منتظم‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬لازمة‭ ‬صوتية‭ ‬تخلق‭ ‬جرسًا‭ ‬موسيقيًّا‭ ‬متناغمًا‭ ‬يعمّق‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬القصيدة،‭ ‬وتحيل‭ ‬على‭ ‬موضوعة‭ ‬االماءب‭ ‬التي‭ ‬تحضر‭ ‬في‭ ‬االأرض‭ ‬اليبابب،‭ ‬والتي‭ ‬شكلت‭ ‬موضوعة‭ ‬تفاعل‭ ‬معها‭ ‬السياب،‭ ‬واستوعب‭ ‬دلالات‭ ‬توظيفها‭.‬

فَقَوْلُ‭ ‬السياب‭:‬

ودغدغت‭ ‬صمت‭ ‬العصافير‭ ‬على‭ ‬الشجر

أنشودة‭ ‬المطر

مطر‭...‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

 

تفاعُلٌ‭ ‬مع‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬االأرض‭ ‬اليبابب‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬المعنون‭ ‬بـِ‭ ‬اما‭ ‬يقوله‭ ‬الرعدب،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬إليوت‭:‬

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬ماء

ولا‭ ‬صخر

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬صخر

وماءٌ

نبعٌ

بِركة‭ ‬بين‭ ‬الصخور

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬صوتُ‭ ‬الماء‭ ‬وحدَه

لا‭ ‬الزيز

‭... ‬ويابس‭ ‬العشب‭ ‬يغنّي

بل‭ ‬صوت‭ ‬ماء‭ ‬فوق‭ ‬صخرة

حيث‭ ‬الحسّون‭ ‬الناسك‭ ‬يغرّد‭ ‬في‭ ‬أشجار‭ ‬الصنوبر

سقسق‭ ‬سقسق‭ ‬سق‭ ‬سق‭ ‬سق

لكن‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬ماء

 

‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬تيمة‭ ‬المطر‭ ‬والماء‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬عند‭ ‬إليوت،‭ ‬تحضر‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬أنشودة‭ ‬السياب‭ ‬وتشكّل‭ ‬محورًا‭ ‬لقصيدته،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التيمة‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬السياب‭ ‬على‭ ‬اطّلاع‭ ‬بها،‭ ‬والتي‭ ‬وظّفها‭ ‬إليوت‭ ‬ليصور‭ ‬واقع‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب،‭ ‬بين‭ ‬انحباس‭ ‬المطر‭ ‬وانتظار‭ ‬نزوله،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬المطر‭ ‬عنصرًا‭ ‬من‭ ‬البيئتين‭ ‬الإنسانية‭ ‬والطبيعية‭.‬

 

تيمة‭ ‬غالبة

تتردد‭ ‬مفردة‭ ‬االمطرب‭ ‬في‭ ‬أنشودة‭ ‬السياب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يضفي‭ ‬عليها‭ ‬إيقاعًا‭ ‬موسيقيًّا‭ ‬تذوب‭ ‬فيه‭ ‬المعاني‭ ‬المعجمية‭ ‬والقواعد‭ ‬اللغوية،‭ ‬كما‭ ‬تتردد‭ ‬مفردة‭ ‬الماء‭ ‬لدى‭ ‬إليوت‭ ‬بشكل‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬المطر‭ ‬محورًا‭ ‬وتيمة‭ ‬غالبة‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب‭.‬

ويكشف‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬السياب‭ ‬وإليوت‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬قد‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية،‭ ‬والتوظيف‭ ‬الثوري‭ ‬للغة‭ ‬الذي‭ ‬يحرر‭ ‬المفردات‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الابتذال‭ ‬والتكرار‭ ‬الممل‭.‬

في‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬تتوحد‭ ‬الآلهة‭ ‬اعشتارب‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬الشعرية‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬التي‭ ‬تعزف‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬والخصب،‭ ‬وتبدو‭ ‬لفظة‭ ‬االمطرب‭ ‬المتكررة،‭ ‬وكأنها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ابتهال‭ ‬طقوسي‭ ‬إلى‭ ‬الربّة‭ ‬اعشتارب‭ ‬والطبيعة‭ ‬ليعم‭ ‬المطر،‭ ‬وتنبعث‭ ‬الحياة‭ ‬وتشبع‭ ‬أرض‭ ‬العراق،‭ ‬أرض‭ ‬البوار‭ ‬والجياع‭ ‬والعراة‭ ‬والعبيد‭.‬

يقول‭: ‬

وكلَّ‭ ‬عام‭ - ‬حين‭ ‬يعشب‭ ‬الثرى‭ - ‬نجوعْ

ما‭ ‬مرَّ‭ ‬عامٌ‭ ‬والعراق‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬جوعْ‭ ‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

مطر‭ ...‬

في‭ ‬كل‭ ‬قطرة‭ ‬من‭ ‬المطر

حمراءُ‭ ‬أو‭ ‬صفراء‭ ‬من‭ ‬أجنَّة‭ ‬الزَّهَرْ‭ ‬

وكلّ‭ ‬دمعةٍ‭ ‬من‭ ‬الجياع‭ ‬والعراة

وكلّ‭ ‬قطرة‭ ‬تراق‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬العبيدْ

فهي‭ ‬ابتسامٌ‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مبسم‭ ‬جديد

أو‭ ‬حُلمةٌ‭ ‬تورَّدتْ‭ ‬على‭ ‬فم‭ ‬الوليدْ

في‭ ‬عالم‭ ‬الغد‭ ‬الفتيّ،‭ ‬واهب‭ ‬الحياة‭!‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

 

الإلحاح‭ ‬على‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬والتوسل‭ ‬بالطبيعة‭ ‬وبالآلهة‭ ‬اعشتروتب‭ ‬لتنزل‭ ‬المطر‭ ‬أو‭ ‬ترسل‭ ‬اأدونيسب‭ ‬أو‭ ‬اتموزب‭ ‬إله‭ ‬الخصب‭ ‬والنماء،‭ ‬يرتبط‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬برؤية‭ ‬السياب‭ ‬الشعرية‭ ‬المؤمنة‭ ‬بالبعث‭ ‬والحياة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بنظام‭ ‬سياسي‭ ‬أيديولوجي‭ ‬يدين‭ ‬نظامًا‭ ‬أو‭ ‬سياسة‭ ‬ما،‭ ‬ويبشر‭ ‬بأخرى‭ ‬تلغي‭ ‬العبودية‭ ‬وتؤسس‭ ‬لغد‭ ‬جديد،‭ ‬يتحقق‭ ‬بمجيئه‭ ‬الخصب‭ ‬والنماء‭ ‬والعدل‭.‬

 

مفارقة‭ ‬غريبة

أعانت‭ ‬صور‭ ‬المطر‭ ‬المتعددة‭ ‬السياب‭ ‬اعلى‭ ‬بلورة‭ ‬ما‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقوله‭ ‬فنيًّا‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬ما‭ ‬أرادته‭ ‬مختلف‭ ‬الجماعات‭ ‬العراقية‭ ‬المتلهفة‭ ‬للمطر،‭ ‬لإزالة‭ ‬نوع‭ ‬الجفاف‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه،‭ ‬فالأنشودة؛‭ ‬أي‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر،‭ ‬هي‭ ‬أنشودة‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬وأنشودة‭ ‬السياب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسهب‭.‬

تنطوي‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬على‭ ‬مفارقة‭ ‬غريبة‭ ‬يُصبح‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬المطر‭ ‬رمزًا‭ ‬للموت‭ ‬والحزن،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬الحب‭ ‬والرومانسية‭ ‬والخصب‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬المألوفة‭ ‬للمطر‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬معاني‭ ‬الفرح‭ ‬والسرور‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬عودة‭ ‬الخصب‭ ‬والنماء‭ ‬والحياة،‭ ‬فإن‭ ‬الصورة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬أنشودة‭ ‬السياب،‭ ‬تجعل‭ ‬المطر‭ ‬يُشعر‭ ‬الفرد‭ ‬بالحزن‭ ‬والوحدة‭ ‬والضياع‭ ‬والجوع‭ ‬والموت‭.‬

يقول‭ ‬السياب‭:‬

أتعلمين‭ ‬أيَّ‭ ‬حُزْنٍ‭ ‬يبعث‭ ‬المطر؟

وكيف‭ ‬تنشج‭ ‬المزاريب‭ ‬إِذا‭ ‬انهمر؟

وكيف‭ ‬يشعر‭ ‬الوحيد‭ ‬فيه‭ ‬بالضّياع؟

بلا‭ ‬انتهاء‭ - ‬كالدَّم‭ ‬المراق،‭ ‬كالجياع،

كالحبّ،‭ ‬كالأطفال،‭ ‬كالموتى‭ - ‬هو‭ ‬المطر‭!‬

 

بالرغم‭ ‬من‭ ‬نزول‭ ‬المطر،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عقيم‭ ‬لا‭ ‬يخصب،‭ ‬لذلك‭ ‬يدعو‭ ‬سقوطه‭ ‬إلى‭ ‬الحزن‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفرح‭. ‬ويعم‭ ‬الحزن‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬فتبكي‭ ‬المزاريب،‭ ‬وتضيع‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان‭ ‬فيفقد‭ ‬انتماءه،‭ ‬ويبرز‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الرغبة‭ ‬والواقع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عدّه‭ ‬فراي‭ ‬حلمًا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفردي‭ ‬وأسطورة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الجماعي‭. ‬ويجمع‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬الأنشودة‭ ‬رمز‭ ‬المتناقضات،‭ ‬مثل‭ ‬رمز‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬علّته،‭ ‬فالمطر‭ ‬رمز‭ ‬التضحية‭ ‬والفداء‭ ‬كالدم‭ ‬المراق‭. ‬وهو‭ ‬رمز‭ ‬الطبقات‭ ‬الفقيرة‭ ‬الجائعة‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬التصاقًا‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬بالأرض‭ ‬والطبيعة،‭ ‬ورمز‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يهب‭ ‬الحياة،‭ ‬ورمز‭ ‬البراءة‭ ‬البكر‭ ‬الأولى‭ ‬المتجسدة‭ ‬في‭ ‬الأطفال‭. ‬وهو‭ ‬رمز‭ ‬الموتى‭ ‬الذين‭ ‬يرقدون‭ ‬بانتظار‭ ‬الانبعاث‭.‬

 

نيسان‭ ‬إليوت‭ ‬والسياب

لو‭ ‬أمعنّا‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬اأنشودة‭ ‬المطرب‭ ‬لوجدنا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تمثّل‭ ‬صورة‭ ‬انيسانب‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬السابق،‭ ‬وهي‭ ‬صورة‭ ‬تقابل‭ ‬صورة‭ ‬إليوت‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مغزى‭. ‬فالذكريات‭ ‬والرغبات‭ ‬الحزينة‭ ‬ترجع‭ ‬إلينا‭ ‬حية‭ ‬مثلما‭ ‬يحيا‭ ‬النبات‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭. ‬إذن،‭ ‬ما‭ ‬يقابل‭ ‬حزن‭ ‬نيسان‭ ‬عند‭ ‬إليوت،‭ ‬هو‭ ‬حزن‭ ‬المطر‭ ‬والمزاريب‭ ‬عند‭ ‬السياب‭. ‬

يقول‭ ‬إليوت‭:‬

نيسان‭ ‬أقسى‭ ‬الشهور،‭ ‬يُخرج

الليلكَ‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬المَوات،‭ ‬يَمزج

الذكرى‭ ‬بالرغبة،‭ ‬يُحرِّك

خاملَ‭ ‬الجذور‭ ‬بغَيثِ‭ ‬الربيع

ونحن‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬نيسان‭ ‬إليوت‭ ‬البريطاني‭ ‬أو‭ ‬الأوربي‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬نيسان‭ ‬السياب‭ ‬العراقي‭ ‬أو‭ ‬العربي،‭ ‬فنيسان‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬نيسان‭ ‬ماطر‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬رصيد‭ ‬من‭ ‬المطر‭ ‬يكفي‭ ‬لتهيئة‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬للنبات‭. ‬أما‭ ‬ما‭ ‬يهيئ‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬عراق‭ ‬السياب‭ ‬فهو‭ ‬المطر‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬واقع‭ ‬الحال،‭ ‬فإن‭ ‬تفتحّ‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬النبات‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬تفتّح‭ ‬الجروح‭ ‬عند‭ ‬الإنسان،‭ ‬كما‭ ‬توحي‭ ‬الصورة‭. ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬السياب‭ ‬بشاعرية‭ ‬فذة‭ ‬أن‭ ‬يلتقط‭ ‬هذا‭ ‬الإيحاء‭ ‬ويصنع‭ ‬منه‭ ‬صورته‭ ‬الشعرية‭ ‬داخل‭ ‬النسق‭ ‬العام‭ ‬للقصيدة‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الإيحاء‭ ‬الذي‭ ‬يولّد‭ ‬إثارة،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬مطابقة‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬المحسوس‭ ‬والخيال‭ ‬الذهني‭.‬

إن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تدل‭ ‬عليه‭ ‬صورة‭ ‬المطر‭ ‬عند‭ ‬السياب،‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬بأعمق‭ ‬أبعاد‭ ‬الصورة‭ ‬المماثلة‭ ‬عند‭ ‬إليوت،‭ ‬حيث‭ ‬أدرك‭ ‬السياب‭ ‬أن‭ ‬البعث‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬لأنه‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬البداية‭ ‬لا‭ ‬النهاية‭. ‬فجاء‭ ‬مطر‭ ‬السياب‭ ‬مشابهًا‭ ‬لنيسان‭ ‬إليوت،‭ ‬مخاضًا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬انبعاث‭ ‬يحرق‭ ‬المشاعر‭ ‬الدفينة‭ ‬التي‭ ‬تحييها‭ ‬حديقة‭ ‬الزهور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عبيرها،‭ ‬وهي‭ ‬صورة‭ ‬تقابلها‭ ‬عند‭ ‬السياب‭ ‬صورة‭ ‬المزاريب‭ ‬التي‭ ‬تبعث‭ ‬أصواتها‭ ‬ذكريات‭ ‬مماثلة‭. ‬

وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬تحيا‭ ‬الذكريات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصورتين‭ ‬الحسيّتين‭ ‬وترتبط‭ ‬إحداهما‭ ‬بالشم‭ ‬والأخرى‭ ‬بالسمع‭. ‬والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يواجهنا‭ ‬حول‭ ‬صورة‭ ‬السياب‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يواجهنا‭ ‬حول‭ ‬صورة‭ ‬إليوت،‭ ‬ومصدره‭ ‬واحد؛‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬التناقض‭ ‬الذي‭ ‬يبرز‭ ‬على‭ ‬التو‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الصورة‭ ‬الرومانسية‭ ‬المألوفة‭ ‬للمطر‭. ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬المطر‭ ‬يجلب‭ ‬الحزن‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬محمد‭ ‬شاهين؟‭ ‬

 

الموت‭ ‬بالماء

يبين‭ ‬لنا‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬االأرض‭ ‬اليبابب،‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬عنوان‭ ‬االموت‭ ‬بالماءب‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬عنصر‭ ‬االماءب‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬خطرًا‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬هلاك‭ ‬الناس،‭ ‬فيقول‭:‬

‮«‬فليباس‮»‬‭ ‬الفينيقي،‭ ‬ميّتٌ‭ ‬منذ‭ ‬أسبوعين،

نسيَ‭ ‬تَصخابَ‭ ‬النوارس،‭ ‬ولجَّة‭ ‬البحر‭ ‬العميق

والربح‭ ‬والخسارة

تيار‭ ‬بغَور‭ ‬البحر

فكَّك‭ ‬عظامه‭ ‬في‭ ‬همسٍ

وإذ‭ ‬راح‭ ‬يعلو‭ ‬ويسفّ

مرّ‭ ‬بمراحل‭ ‬شيخوخته‭ ‬والشباب

وهو‭ ‬يَلجُ‭ ‬الدوّامة‭ ‬

  ‬لقد‭ ‬سقط‭ ‬فليباس‭ ‬الفينيقي‭ ‬ومات‭ ‬غريقًا‭ ‬ونسي‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬تجارته،‭ ‬تتقاذفه‭ ‬الأمواج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ابتلعته‭ ‬الدوامة،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬الاستسلام‭ ‬المطلق‭ ‬لما‭ ‬تخفيه‭ ‬الأقدار‭. ‬لقد‭ ‬تعلّق‭ ‬بدفة‭ ‬السفينة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬تعلّق‭ ‬بها‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ويعني‭ ‬هذا‭ ‬التمسك‭ ‬بعجلة‭ ‬الحياة‭ ‬بآلامها‭ ‬وويلاتها،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬رمز‭ ‬لبعده‭ ‬عن‭ ‬منطقة‭ ‬الإرادة‭ ‬الحرّة‭ ‬الأبيّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الروابط‭. ‬وهي‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬عند‭ ‬السياب‭ ‬بمنطق‭ ‬مشابه،‭ ‬حيث‭ ‬المطر‭ ‬والبحر‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬والفداء‭ ‬والتضحية‭. ‬يقول‭:‬

أكاد‭ ‬أسمع‭ ‬النخيل‭ ‬يشربُ‭ ‬المطر

وأسمع‭ ‬القرى‭ ‬تئنّ،‭ ‬والمهاجرين

يصارعون‭ ‬بالمجاذيف‭ ‬وبالقلوع،

عواصف‭ ‬الخليج،‭ ‬والرعود،‭ ‬منشدين‭:‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

 

دراما‭ ‬داخلية

يمتد‭ ‬تفاعل‭ ‬السياب‭ ‬مع‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب‭ ‬إلى‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬اما‭ ‬قاله‭ ‬الرعدب،‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬فيه‭ ‬إليوت‭ ‬رحلة‭ ‬اتايريزياسب‭ ‬الشاقة‭ ‬وتجواله‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب،‭ ‬التي‭ ‬تنعدم‭ ‬فيها‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬طعامًا‭ ‬أو‭ ‬شرابًا‭ ‬أو‭ ‬مأوى‭ ‬يلجأ‭ ‬إليه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬هبّت‭ ‬رياح‭ ‬العاصفة،‭ ‬وقصف‭ ‬الرعد‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‭. ‬يقول‭:‬

لا‭ ‬ماءَ‭ ‬هنا،‭ ‬بل‭ ‬مُجرَّد‭ ‬صَخر

صخرٌ‭ ‬ولا‭ ‬ماء‭ ‬والطريق‭ ‬الرملي

الطريق‭ ‬المتلوّي‭ ‬صُعدًا‭ ‬بين‭ ‬الجبال

التي‭ ‬هي‭ ‬جبال‭ ‬صخر‭ ‬بلا‭ ‬ماء

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمَّة‭ ‬ماء‭ ‬لوقفنا‭ ‬وشربنا‭ ‬

بين‭ ‬الصخور‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬أو‭ ‬يفكّر

العرَقُ‭ ‬جاف‭ ‬والأقدام‭ ‬في‭ ‬الرمل

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬ماء‭ ‬بين‭ ‬الصخر

 

‭ ‬بخلاف‭ ‬الطابع‭ ‬المسرحي‭ ‬الذي‭ ‬ميّز‭ ‬الأجزاء‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬االأرض‭ ‬اليبابب،‭ ‬يأتي‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬ليوحي‭ ‬إلى‭ ‬دراما‭ ‬داخلية‭ ‬تحكم‭ ‬القصيدة،‭ ‬فتصبح‭ ‬تحمل‭ ‬دلالات‭ ‬الموت‭ ‬والمناجاة‭ ‬متأرجحة‭ ‬بين‭ ‬الألم‭ ‬واليأس‭ ‬والأمل‭ ‬والقنوط،‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬معاناة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحاضر‭. ‬فمعاني‭ ‬القنوط‭ ‬والعقم‭ ‬والجفاف،‭ ‬وإشراقة‭ ‬الأمل‭ ‬التي‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع،‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تحضر‭ ‬لدى‭ ‬السياب‭ ‬في‭ ‬أنشودته،‭ ‬يقول‭:‬

وفي‭ ‬العراق‭ ‬جوع

وينثر‭ ‬الغلال‭ ‬فيه‭ ‬موسم‭ ‬الحصاد

لتشبع‭ ‬الغربان‭ ‬والجراد

وتطحن‭ ‬الشوان‭ ‬والحجر

رحى‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬الحقول‭... ‬حولها‭ ‬بشر

مطر‭...‬

مطر‭...‬

مطر‭...‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬العذاب‭ ‬والقنوط‭ ‬الملمحَ‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬رحلة‭ ‬تاريزياس‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬اليباب،‭ ‬سيما‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭ ‬إليوت‭ ‬sit Here‭ ‬one can neither stand nor lie nor‭  ‭(‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬أو‭ ‬يستلقي‭ ‬أو‭ ‬يجلس‭), ‬فإن‭ ‬تاريزياس‭ ‬لا‭ ‬يفقد‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يعاوده‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين،‭ ‬وعودة‭ ‬المطر‭ ‬والخصب‭.‬

يقول‭ ‬إليوت‭:‬

لو‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬صوتُ‭ ‬الماء‭ ‬وحدَه

لا‭ ‬الزيز‭.... ‬ويابس‭ ‬العشب‭ ‬يغنّي

بل‭ ‬صوت‭ ‬ماء‭ ‬فوق‭ ‬صخرة

حيث‭ ‬الحسّون‭ ‬الناسك‭ ‬يغرّد‭ ‬في‭ ‬أشجار‭ ‬الصنوبر

سقسق‭ ‬سقسق‭ ‬سق‭ ‬سق‭ ‬سق

لكن‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬ماء

 

انبعاث‭ ‬حضاري

في‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬الخراب‭ ‬ينكشف‭ ‬أمل‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬عودة‭ ‬الأمل‭ ‬والخصب‭ ‬والاستقرار،‭ ‬وتشتاق‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬سماع‭ ‬صوت‭ ‬العصافير‭ ‬عوضًا‭ ‬عن‭ ‬سماع‭ ‬صوت‭ ‬الجراد‭ ‬أو‭ ‬حفيف‭ ‬الحشائش‭ ‬الجافة‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬الجفاف‭ ‬والقحط‭ ‬وانعدام‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭.‬

تفاعُل‭ ‬السياب‭ ‬مع‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬ينكشف‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أمل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬نزول‭ ‬قطرات‭ ‬المطر‭ ‬التي‭ ‬ستخلص‭ ‬العراق‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الجفاف‭ ‬والجوع،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬جفاف‭ ‬اجتماعي‭ ‬ومعنوي‭.‬

‭ ‬يقول‭:‬

في‭ ‬كل‭ ‬قطرة‭ ‬من‭ ‬المطر

حمراءُ‭ ‬أو‭ ‬صفراء‭ ‬من‭ ‬أجنَّة‭ ‬الزَّهَرْ‭ ‬

وكلّ‭ ‬دمعةٍ‭ ‬من‭ ‬الجياع‭ ‬والعراة

وكلّ‭ ‬قطرة‭ ‬تراق‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬العبيدْ

فهي‭ ‬ابتسامٌ‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مبسم‭ ‬جديد

أو‭ ‬حُلمةٌ‭ ‬تورَّدتْ‭ ‬على‭ ‬فم‭ ‬الوليدْ

في‭ ‬عالم‭ ‬الغد‭ ‬الفتيّ،‭ ‬واهب‭ ‬الحياة‭!‬

مطر‭ ...‬

مطر‭ ...‬

مطر‭ ...‬

سيُعشبُ‭ ‬العراق‭ ‬بالمطر‭...‬

 

هكذا‭ ‬إذن‭ ‬عبّرت‭ ‬أنشودة‭ ‬المطر‭ ‬للسياب‭ ‬والأرض‭ ‬اليباب‭ ‬لإليوت‭ ‬عن‭ ‬عمق‭ ‬المأساة،‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬انبعاث‭ ‬حضاري‭ ‬جديد‭ ‬يخلّص‭ ‬الأرض‭ ‬الموات‭ ‬من‭ ‬جفافها‭ ‬وتعود‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬والخصب‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬عقب‭ ‬إحساس‭ ‬بالجفاف‭ ‬والقحط‭ ‬والبؤس‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي،‭ ‬الذي‭ ‬عبّرت‭ ‬عنه‭ ‬القصيدتان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لحظات‭ ‬الشدة‭ ‬والفزع‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬صورها‭ ‬وحركة‭ ‬إيقاعها‭ ‬وتركيبتها‭ ‬اللغوية‭ ‬والفنية‭ ‬والدلالية‭ .