الكاريكاتير المصري... ابتسامة لكل الأجيال
لكل شعب أسلوبه في التعبير الفني الساخر بالكاريكاتير، ورغم أن هذا الفن ظهر في مصر مرتبطاً بالأجانب الذين كانوا يأخذون أفكارهم من مصريين، ثم يرسمونها على هيئة ساخرة، فإنه انتقل سريعاً إلى أيدي المصريين الذين برعوا في التعبير عن آرائهم السياسية والاجتماعية الساخرة في رسوم كاريكاتيرية تحمل الروح المصرية في تحديها لظروفها الخاصة بشجاعة نادرة، والتي تبحث دائماً في كل الأجيال عن ابتسامة تواجه بها متاعبها اليومية. ولعرض تاريخ الكاريكاتير المصري وحاضره ومستقبله، نظمت مجلة العربي حلقة حوارية حول الكاريكاتير المصري، شارك فيها عدد من أبرز رسامي الكاريكاتير في مصر، هم: عمرو سليم، وأحمد عبدالنعيم، وجمعة فرحات، وأحمد عزالعرب.
الأجانب يرسمون أفكار المصريين الساخرة
«العربي»: سوف نناقش عدداً من القضايا التي تدور حول الكاريكاتير المصري، ويمكن أن نبدأ بتاريخ هذا الكاريكاتير ومدى تفاعله مع الكاريكاتير العربي والأجنبي.
جمعة فرحات: من ناحية تأثير الكاريكاتير الأجنبي في المصري، فقد مارس الكاريكاتير في مصر في بدايته رسامون أجانب مثل خوان سانتس الإسباني ومعه رفقي وأخوه شوقي التركيزان، وسبقهم يعقوب صنوع وهو مصري أنشأ جريدة عام 1896. ومع ظهور المطبعة كان أول من قام برسوم الكاريكاتير هم فنانون لبنانيون وأتراك. خوان سانتس مثلاً كان كاريكاتيراً سياسياً، وكثير من بدايات المصريين، خاصة محمد عبدالمنعم رخا، أول رسام مصري، تأثرت به وتأثر به طوغان أيضاً. وفي 1827 ظهر صاروخان الأرمني الذي كان يعيش في بلجيكا وجاء إلى مصر فتأثر به كل الرسامين المصريين، ومنهم رخا وزهدي وعبدالسميع الذي استمر فترة طويلة متأثراً به. وكانت بدايات كل المصريين متأثرة بصاروخان. ولأن أغلب الرسامين كانوا أجانب، كان يتم إعطاء فكرة الرسم لهم ليرسموها، واستمرت هذه العادة لدى الرسامين المصريين أنفسهم بسبب عدد المجلات والصحف التي ينشرون فيها، فقد وصل عدد الصحف التي كان يعمل فيها رخا إلى أكثر من 25 جريدة ومثله زهدي، فلم يكن من السهل تقديم أفكار فكانوا يأخذون الأفكار من آخرين. وبداية، الرسام الذي نعرفه صاحب الفكرة والرسم كان عبدالسميع بعد عمله في «روز اليوسف» سنة 1946، وكان يجلس مع إحسان عبدالقدوس لعمل الكاريكاتير، بعد ذلك استقل عن رئيس التحرير إلا في غلاف «روز اليوسف»، فكان يقدم الفكرة والرسم، ووصل به الأمر إلى رسم المجلة من الغلاف إلى الغلاف. وكانت هذه بداية رسام الكاريكاتير الذي نعرفه حالياً، فهو مفكر سياسي ورسام في الوقت نفسه.
أحمد عبدالنعيم: أضيف هنا تعريف الكاريكاتير، إنه ببساطة محاولة نقل صورة مع المبالغة في العناصر المميزة بغية تحقيق التأثير الساخر, إذن لا بد من تحقيق هذه الشروط الثلاثة. هل ظهر الكاريكاتير في مصر في 1876 مع ظهور صحافة يعقوب صنوع؟ أو يعود إلى ما هو أقدم من ذلك؟ لو عدنا إلى رسوم الحضارة المصرية القديمة لوجدنا بعض الرسومات التي يطلق عليها مجازاً الكاريكاتير لكنه مفهوم حديث ويمكن تسميتها «رسوماً ساخرة». نجدها كما ذكرها سليم حسن في الجزء السادس من «الموسوعة المصرية القديمة» في بردية «الأوضاع المقلوبة» في عصر الرعامسة. واختلف هذا النهج الساخر في الحضارتين القبطية والإسلامية، وظهرت الكتابات الساخرة. أصدر يعقوب صنوع مطبوعة «أبو نضارة» في يوليو 1876 وكانت ضد النظام الحاكم فكانت تُصادر فيتم تغيير اسمها إلى «أبو زمارة» وأبو النضارة الصفراء والخضراء، حتى وصلت هذه الأسماء إلى 12 اسماً. وتمت ضده محاولتا اغتيال، لكنه نجا فاعتبره المصريون شخصاً مباركاً. وكانت هذه بداية الكاريكاتير الحواري وابتكار شخصيات مثل أبو الغُلْب ويرمز إلى المصري، وتلفيق ويرمز إلى توفيق، ومجلس الطراطير ويرمز إلى مجلس العموم. والبداية الحقيقية ظهرت مع مجلة «الكشكول» التي أصدرها القصر للسخرية من سعد زغلول، ورأينا الكاريكاتير والمبالغة. وظهر مصري لم يستمر هو إيهاب خلوصي، وكان يرسم في مجلة «اللطائف».
عمرو سليم: بدأ الكاريكاتير على يد الأجانب وكان يتم عمل مجلس تفكير، لأنهم لم يكونوا مصريين. ومع ظهور «صباح الخير» ظهر جيل جديد تتميز خطوطه بالبساطة والرشاقة، والميزة أنهم كانوا يفكرون لأنفسهم. وكانت البداية مع جورج البهجوري وصلاح جاهين وحجازي وبهجت عثمان. وكانت «صباح الخير» و«روز اليوسف» من أوائل مدارس الكاريكاتير، وظلتا حتى هذه اللحظة استناداً إلى هذا الجيل كله الذي تميز بأسلوب ساخر وخطوط مدهشة وبساطة في التعبير. وكانت هذه هي المرحلة الانتقالية وعاش هذا الجيل ثورة عبدالناصر ونكسة 1967 وأُحبط في كامب ديفيد، وهو جيل الستينيات، الجيل العظيم الذهبي في الكاريكاتير.
أحمد عز العرب: الناس يتعاملون مع مفهوم الكاريكاتير كما لو أنه غير متفق عليه. ومعنى أنه فن السخرية يجعلنا نعود به إلى مصر القديمة، فالسخرية فن قائم بذاته وموجود قبل ظهور الصحافة والطباعة، لكن الكاريكاتير نشأ مع الصحافة والطباعة، وبدأ في مصر من يعقوب صنوع. أما بالنسبة إلى تتابع الأجيال المصرية فالدراسات الأكاديمية الحديثة أثبتت أن رخا أول رسام مصري، والحقيقة أن إيهاب خلوصي هو أول رسام مصري، وبدأ في «اللطائف المصورة»، وأهميته أنه أدخل الكاريكاتير إلى غير ما كان يقوم به الرسامون من أعمال سياسية، فقام بعمل «إستربس»، ثم كاريكاتير اجتماعي لتوجيه أخلاقي، مثلاً حول كيفية تعامل الآباء مع الأبناء، والأزواج مع الزوجات. بعد ذلك كان التوجه سياسياً وأغلبهم توجه إلى الوطني ليس فقط رخا، بل نجد أيضاً رسوم محمود مختار النحات ومحمد حسن ومصري آخر هو رمزي. وأساتذة الفنون اتخذوا الكاريكاتير وسيلة أكثر شعبية للتفاهم مع الجمهور، وللحشد، وأصبح هناك من لديهم وعي سياسي خاص، وأولهم كان عبدالمنعم رخا أول رسام مصري يدخل السجن للعيب في الذات الملكية. ورخا بعد السجن أصبح حذراً وانتقل إلى الكاريكاتير الاجتماعي.
الفضاء الإلكتروني يجذب شباب رسامي الكاريكاتير
«العربي»: ما وضع الكاريكاتير المصري في الوقت الحاضر؟ وما مدى انتشاره في وسائل الإعلام؟ وما مساحة الحرية المتاحة له؟
جمعة فرحات: الكاريكاتير في مصر حالياً أخذ وضعه بشكل جيد جداً، رغم أن كثيراً من الجرائد تصدر من دون كاريكاتير, ويوجد عدد كبير من رسامي الكاريكاتير الشباب مستواهم جيد جداً، ولا يجدون فرصة للنشر، لكن ظهور الإنترنت كان وسيلة جيدة يستخدمها الشباب لينتشروا، ونعرف الآن أسماء كثير من الرسامين الذين لم ينتشروا في صحف لكنهم يرسمون على مواقع جرائد إلكترونية أو مواقع خاصة بهم وهم ممتازون. وكانت هناك محاولة لتشغيلهم في الجرائد لكن للأسف لم تنجح، فالجرائد التي تحتاج إلى رسامين لا تستطيع دفع أجور جيدة للرسام تشجعه على التفرغ للكاريكاتير، وهناك كثير من رسامي الكاريكاتير يرسمون كتباً للأطفال ويعملون مهندسي «جرافيك» ويعجزون عن التفرغ للكاريكاتير. والكاريكاتير من المواد التي تزعج أي رئيس تحرير، خاصة إذا كان الرسام له موقف سياسي، وهذا يثير خوف رؤساء التحرير. وجيلنا عاش أواخر عهد مبارك وعملنا بقوة، فبينما كنت أعمل في جريدة قومية عملت في خمس جرائد معارضة: الوفد والأهالي، والعربي الناصري والشعب، والأحرار، لكي أستطيع أن أقول ما أعجز عن قوله في جريدة قومية. وأعتقد أن لدينا حالياً حرية كاملة، ولم أجد من يقول لي «هذا ممنوع»، لأننا نرسم، ومن حق رئيس التحرير أو مدير التحرير أن ينشر أو لا ينشر ولا نسأل عن سبب ذلك. ولا توجد تعليمات واضحة، فكل جريدة لها سقفها الخاص لما هو ممنوع، ويختلف الأمر من جريدة إلى أخرى. أتذكر أيام كان عادل حمودة رئيساً لتحرير «روز اليوسف» كان خطه الأحمر عالياً حتى سألني البعض وأنا أعمل في الوفد، وهي جريدة معارضة، لماذا لا تقدم رسوماً قوية مثل ما تنشره في «روز اليوسف». وفي الوضع الراهن هناك من يرى أننا ندخل في مرحلة تقييد الحريات، لكن إلى الآن على الأقل لا توجد تعليمات تقيد عملنا، وأنا أرسل أعمالي لـ«الأهرام» وإذا لم تنشرها أنشرها في جريدة مستقلة.
«العربي»: ما تفسيرك لـــعدم وجود مجلات كاريكاتير شعبية؟
جمعة فرحات: كان عندنا مجلة كاريكاتير واحدة باسم «كاريكاتير» أشرف عليها مصطفى حسين، بمشاركة سعودية، وصل توزيعها إلى 170 ألف نسخة، وتوقفت بعد أن خرج منها السعوديون ولم تعد تدخل السعودية، حيث كان يصل توزيعها إلى نحو 70 ألفاً، وتحولت من أسبوعية إلى شهرية ثم توقفت. ونحن في الجمعية المصرية للكاريكاتير أعدنا إصدارها عام 2009 برئاسة مصطفى حسين الذي كان رئيساً للجمعية، وتوقفت عام 2011 بسبب التعثر المالي. ولقد فشلت محاولات إصدار مجلات الكاريكاتير، وقد يكون عدم انتظامها في الصدور هو السبب.
أحمد عبدالنعيم: كان لدينا من 1876 حتى 1952 حوالي 181 مجلة ساخرة، بدأت من «أبو نظارة» وانتهت بـ«البعكوكة» وما بعدها، وفي تلك الفترة في 1900 صدرت «حمارة منيتي» وكان توزيعها 80 ألف نسخة، وتصور أصحاب المجلات أن السبب هو اسم المجلة، فتم تغيير الرسم إلى «بغل المعشر» و«الحمارة» على سبيل المثال. وظهرت مجموعة من رسامي الكاريكاتير، كان رخا أول رسام يستمر، وغيره من الرسامين المصريين لم يستمر مثل عباس كامل وحسين فوزي. واليوم لدينا 24 جريدة يومية و250 مطبوعة بين يومية وأسبوعية وشهرية، وهي تمثل مجالاً واسعاً لرسامي الكاريكاتير. لكن العائد المادي ضئيل لذلك يجد الرسامون عائداً أكبر لو عملوا في «كوميك» أو «كرتون» أو في الرسوم المتحركة أو «الجرافيك». وهناك كثير من الرسامين الممتازين من بين الشباب بارعون في الاطلاع على وسائل الإعلام الجديدة، حيث يتم سنوياً تنظيم نحو 200 مسابقة كاريكاتير على المستوى العالمي، مما أوجد جيلاً جديداً يستوعب هذه المستجدات جيداً. وما زالت المساحة في الجرائد محدودة، فجريدة مثل «الأهرام» في عددها الخاص يوم الجمعة الذي يحتوي على 64 صفحة، نجد ثلاث قطع كاريكاتير فقط، مما يؤدي إلى عزوف بعض رسامي الكاريكاتير وخاصة الشباب.
هل على رئيس التحرير أن يقبّل رأس رسام الكاريكاتير؟
عمرو سليم: أنا أفصل بين فترة ما قبل 1952 وما بعدها في الكاريكاتير المصري, وأرى أن 2004 كان عاماً رئيساً في حركة الكاريكاتير، لأننا قررنا حينئذ إصدار جريدة «الدستور» للمرة الثانية، وكان رئيس تحريرها الزميل إبراهيم عيسى، وكنت رئيس قسم الكاريكاتير وطُلب مني إنشاء قسم من رسامين يرسمون لأول مرة، وكان معي بين 10 و11 رسام كاريكاتير، معظمهم ينشرون لأول مرة، وكانت المطبوعة تعتمد بشكل كامل على الكاريكاتير وليس الصورة، لدرجة أنني بعد عدد يحتوي على 70 كاريكاتيراً كلها أفكار متميزة مدهشة، حاولت أن أعيد تجربة مجلة صباح الخير، من ناحية لإعطاء الفرصة لرسامين جدد بأفكارهم المدهشة، ومن ناحية أخرى لكسر حدود المحظورات، وكان أمامي هدف محدد: لماذا يجب ألا ننتقد الحاكم وهو موجود في الحكم وننتقده بعد وفاته؟ كان هذا جزءًا من هدفنا ونجحنا فيه، وأتذكر أنه في «الدستور» كان الناس يرون نقداً لمبارك لأول مرة ورسمه مع ابنه، وأحدث ذلك اختلافاً كبيراً مع ذلك الجيل من الرسامين، وأتذكر أنه بعد صدور الجريدة بأربعة أشهر، كنت لا أزال أعمل في «روز اليوسف» وطلب مني رئيس تحريرها صديقي العزيز عبدالله كمال أن أعمل تجربة مثل تجربة «الدستور» وأكون رئيس قسم الكاريكاتير فيها، فأصبحت في الصباح التالي رئيس قسم الكاريكاتير في روز اليوسف، وبعد الظهر في «الدستور». ولا أقول هنا إنني كنت مؤيداً صباحاً وفي الليل معارضاً، لأنني في جميع الأحوال ضد فساد النظام، ولكن المشكلة أن قدراتي أعلى وأنا في «الدستور». وأنا فاهم ما هي حدودي في روز اليوسف. وكان هذا هو الاتفاق مع رئيس التحرير «لك مطلق الحرية لكن لا تقترب من مبارك». لذلك أنا أعلم ما أقوم به، وهذا اتفاق ودّي بيني وبينه. لكن تجربة «الدستور» كما لو كانت حجراً تم قذفه في مياه راكدة، مما أحدث انتعاشاً في مجال الكاريكاتير. وبدأ منذ هذه اللحظة في معظم الصحف القومية الاعتماد الأكبر على الكاريكاتير. وقت صدور «الدستور» كنت أعمل في «روز اليوسف» وكانت تحتوي على رسمتين أو ثلاث أسبوعياً، وكانت تعتمد على الصورة الفوتوغرافية، حتى لا يحدث قلق و«وجع دماغ». وعندما صدرت «الدستور» بدأت أرى زيادة في مساحات الكاريكاتير في «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» وبدأت معظم الجرائد تقلد تجربة «الدستور»، وانتعشت حركة الكاريكاتير وهذا في رأيي كان بداية ظهور الكاريكاتير في الصحف الخاصة. ولو قلنا إن الصحف الحزبية ضعفت ولم يعد الناس يقبلون عليها كما كان الوضع سابقاً، فإن التنافس أصبح بين الجرائد الخاصة والقومية، وانتصرت الصحف الخاصة بجرأتها وجسارتها في أن تقود معركة عجزت أمامها الصحف القومية، وما زلنا في هذا الوضع حتى الآن.
أحمد عز العرب: هناك إدراك لأهمية الكاريكاتير، مما جعل كثيرين يسعون إلى توظيف الكاريكاتير لحساباتهم، وهنا أتوقف عند تجربتين توضحان أهمية الكاريكاتير ومن يرسمونه، الأولى أن التلفزيون المصري يخصص برنامجاً أسبوعياً لزميلنا جمعة فرحات، يقدم خلاله رسامين جدداً ويجعلهم نجوماً. والتجربة الثانية أوجد خلالها عمرو سليم مجموعة من الرسامين الممتازين وكانت بداية لظهور العنصر النسائي لأول مرة في مصر، وهي رسامة الكاريكاتير دعاء العدل التي لم تكن ترسم مرة ثم تتوقف، لكنها استمرت حتى تحترف هذا الفن. هذا هو الجانب الإيجابي في مسيرة الكاريكاتير، أما الجانب السلبي فهو أن رئيس التحرير أصبح بالقانون هو المسؤول عما يُنشر، وله الرفض والقبول، وأصبح الوضع متأرجحاً بلا معيار، فلكل رسام سقف حرية يختلف عن غيره. ولدينا رسامون موهوبون وذوو كفاءات عالية يمكنهم إصدار عشرات المجلات، لكن الإطار العام الرسمي لديه رغبة في السيطرة على الرسامين، لذلك يهرب الشباب إلى جهات نشر بديلة مثل النشر الإلكتروني، وهو ما يمثل رؤية جديدة لهم ونافذة جديدة لنمو المواهب بشكل صحي.
جمعة فرحات: أحمد عبدالنعيم أوضح جوانب أساسية بالنسبة لرئيس التحرير، ونحن نتهم كثيراً من رؤساء التحرير بأنهم لا يفهمون الكاريكاتير، حتى إنهم لا ينظرون عند عرض الرسومات عليهم بوجهة نظر فنية كما كان يحدث في «روز اليوسف» سابقاً، بل يرونها كرسم مكمل للكتابة أو التعليق. أتذكر أن فتحي غانم، عندما كان رئيس تحرير «الجمهورية» كان ينشر كاريكاتيراً لبعض الرسامين على صفحة كاملة. لكن رؤساء التحرير الآن يحكمون على الكاريكاتير من الناحية السياسية ليتجنبوا الخطر الذي قد يجلبه لهم.
عمرو سليم: هناك اختلاف كبير بين أن تعمل في مكان يفهم المسؤول فيه في الكاريكاتير ومكان آخر لا يفهم القائمون عليه هذا الفن، ولا يتذوقونه، وأحكي هنا أمراً حدث بعد ثورة 25 يناير وتغيير رئاسة التحرير في جريدة «روز اليوسف» حيث طُلب ترشيح رسام كاريكاتير، فقلت لرسام في بداية حياته الفنية: ستذهب إلى هناك وستجد كل الناس تفهم الكاريكاتير. وجاءني آخر اليوم مندهشاً جداً، وقال: لن تصدق ما حدث، تخيل... رسمت فأخذني المشرف الفني إلى رئيس التحرير قائلاً انظر الهدية التي أرسلها لنا عمرو سليم.
انحنى رئيس التحرير وقبَّل رأسي، قائلاً: كلهم يفهمون في الكاريكاتير. وأنا جالس أعمل يأتي من يحمل الشاي والقهــــوة ويقول هذا شغل عظيم ما هذا الجمال! هناك كانوا يعاملونني كما لو كنت نجماً، بداية ممن يقف على الباب ومن يحضر لي الشاي والقهوة، حتى رئيس التحرير.
هذا نوع من التعامل مع رسام الكاريكاتير. أنت في مكان كل من فيه يفهم معنى «كاريكاتير»، بداية ممن يحضر الشــاي والقهوة وانتــــهاء برئيــــس تــــحرير، يقبِّل رأسك للفكرة الجميلة، ولست في مكان لا علاقة له بالكاريكاتيــر، ومن فيه يعتــــبرون أهـــم شيء ألا يكون الكاريكاتـــــير مصدر مشاكل، أي لو تركت المساحة خالية يكون أمراً جيداً. المهم ألا يزعجنا أحد ويقول: ما هذا الذي نشرتموه؟ وكيف استطاع الرسام أن يضحك عليكم لتوافقوا على نشره?، هذا هو الفرق، وهذا ما جعل «روز اليوسف» مدرسة لا يوجد رسام كاريكاتير إلا وكان فيها.
أحمد عز العرب: أسعدني حظي أن أكون تلميذاً لعبدالغني أبوالعنين في إصدار جريدة الأهالي، وأثار غيظي إذ كان يطلب مني إعادة كل ما أرسمه، وعندما اشتكيت لصلاح جاهين، وقلت: إنه يرهقني جداً فكلما قدمت له رسماً يطلب إعادته حتى إنه طلب مني عمل تصميم الصفحة الأولى مائة مرة، ضحك صلاح جاهين، وقال لي: انتبه، عبدالغني أبو العينين يدقق في كل شيء، وهو الذي علمني معنى الكاريكاتير بشكل جاد وجعلني أكتشف أن إعادة الرسم تساعد على اختزاله وعلى تلخيص مساحات وخطوط، فيصبح الشكل أكثر جمالاً.
هل بيع البطاطا أصبح أفضل لرسام الكاريكاتير؟
«العربي»: نناقش الآن مستقبل الكاريكاتير المصري.
جمعة فرحات: قبل ظهور عمرو سليم في «روز اليوسف» ظللت ما بين 5 أو 6 سنوات لا أستقبل أي رسام كاريكاتير هاو، حتى تصورت أنه لم يعد هناك مستقبل للكاريكاتير، وبعد ظهور عمرو فوجئت كأن صنبوراً تم فتحه ليظهر كثير من رسامي الكاريكاتير، بالفعل عدد كبير من الرسامين الآن، عندما أرى على «الفيس بوك» وفي الفضاء الإلكتروني أندهش من كمية الأعمال وجمالها، فهم رسامون على وعي ولهم مستقبل واعد، وأحمد الله على وجود شبكة «الإنترنت» التي تتيح للرسام نشر أعماله، فالكاريكاتير روحه النشر لكي يتم تطويره. لكنه كفن صحفي لا أرى له هذا المستقبل في الحقيقة، لأن الجرائد الورقية لا تكسب وهي مهددة بالإغلاق.
أحمد عبدالنعيم: أنا مع ما قاله عمرو عن مدرسة «روز اليوسف»، فهي مدرسة عظيمة، وكما قال إن من ساهم في نجاحها هم من أشرفوا عليها لأنهم كانوا يفهمون الكاريكاتير جيداً. وأذكر أن السيدة روز اليوسف عندما ترك صاروخان المجلة وذهب إلى «آخر ساعة» مع محمد التابعي بكت بالدموع. وأذكرها أيضاً عندما رسم جورج البهجوري وهو لا يزال شاباً، وكنا قد اعتدنا على كاريكاتير ما قبل 1952 الكلاسيكي الذي يهتم بالنسب والتشريح، فقد أحدث ثورة في الخطوط، بينما أحدث صلاح جاهين ثورة في الفكر. وجاء من قال لروز اليوسف: ماذا يحدث؟ هذه المجلة كان فيها عبدالسميع وزهدي والناس اعتادت على أسلوبهما. فقالت لهم: لا، اتركوه، سيكون مختلفاً. وهو ما حدث بالفعل. ورخا عندما خرج من السجن وذهب إلى دار الهلال لم يقدموا له المبلغ الذي كان يحصل عليه، فقال: كانت «روز اليوسف» تقسم معي المبلغ الموجود في جيبها، وذات مرة قلت لها ليس معي نقود فقلبت حقيبتها ووجدت خمسين قرشاً، وقالت خذ أنت ربع جنيه وأنا الربع الثاني.
وقال: مستعد أن أعمل بربع الجنيه هذا مع من يفهمون قيمة الكاريكاتير.
وبالنسبة للمستقبل، لدينا جيل من رسامي الكاريكاتير جيد جداً، وكل فترة تحدث طفرة في الكاريكاتير المصري. كان لدينا كاريكاتير في 1952 ثم جاءت مدرسة «صباح الخير» فأحدثت طفرة، ثم جاء جيل ثان من «صباح الخير»، ثم جاء عمرو سليم في «الدستور» وأسس مدرسة مختلفة، والآن هناك أجيال تشاهد «الإنترنت» وتنظر إلى الكاريكاتير بشكل مختلف.
عمرو سليم: بالنسبة لمستقبل رسامي الكاريكاتير كمهنة، أرى أننا في مأزق في الوقت الحالي، حيث يبدو أن هناك صحفاً غنية وأخرى فقيرة، الغنية هي الصحف الخاصة التي استقطبت نجوم الكاريكاتير وبدأت مرتباتهم ترتفع، بينما تعجز عن منافستها الصحف القومية. أتذكر رسام كاريكاتير جاء إلى «صباح الخير» ليرسم، وجاء ليحصل على مكافأته آخر الشهر فوجدها 150 جنيهاً، فذهب إلى رئيس التحرير متسائلاً: أستاذ رشاد... ما هذا؟ فرد عليه: أنت تعمل في «صباح الخير» ونحن نعطي لك مجداً. وبعد أربعة أشهر ترك المجلة قائلاً لي: يا أستاذ عمرو هل ستكون مكافأتي مجداً كل شهر وليس في جيبي ولا مليم. اسم الرسام أشرف حمدي وقد ترك الكاريكاتير وعمل في «الأنيميشن». والآن هناك مشكلة، فالرسامون لا يذهبون أساساً إلى الصحف القومية لأنها لا تستطيع دفع المكافآت، بينما الصحف الخاصة التي استوعبت الرسامين بدأت تقيم هيكلة جديدة، وبعضها يغلق أو يقلل جداً من العمالة. فلا بد من صحف جديدة، لأن الصحف الموجودة لا تستوعب رسامين جدداً. لكن من الناحية السياسية أتذكر أنه تم التحقيق معي في فترة مبارك بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، وفي فترة مرسي تم تقديم 3 بلاغات ضدي للنائب العام
بتهمة ازدراء الأديان. والآن لا أعرف مستقبل الكاريكاتير. فعندما كنت ترسم مبارك كنت تتجرأ وترسمه وتنتقده، وكنت تعرف أن الناس تعتبرك بطلاً. لكن الآن لو انتقدت الرئيس لن يمنعك أحد، وسوف يتم نشر الكاريكاتير، لكن الناس سوف تهينك، وخاصة على «الإنترنت». هذا هو مأزق رسام الكاريكاتير، فلأول مرة لا توجد توجيهات حول ماذا ترسم أو ما يجب ألا ترسم. لكنني أرى أن الكاريكاتير حصل على حرية، وعليه أن يحافظ عليها، لأن هذا هو ما يضمن وجود الكاريكاتير.
أحمد عز العرب: هناك مشاكل مادية تقلل فرص نجاح الرسام، لكن الأهم هو المناخ الاجتماعي، هناك حالة احتقان وتأزم ومظاهرها ليست فقط في الكاريكاتير، بل في الحياة اليومية أيضاً، فموضوع مثل «الأهلي» و«الزمالك»، لم يعد هناك تنافــــس بين الناديين، بل مسألة تدخل في الخيانة الوطنية، فرئـــيس نادي الزمالك مثلاً يقول: أعطي مهلة 48 ساعة لرئيس نادي الأهلي. ماذا يقصد بالمهلة؟ هل سيضرب بالمدافع أم ماذا سيفعل؟ البلد غير مهـــــيأ لدرجة من التسامح للتعامل مع الكاريكاتير الذي هو في الأصل سخرية. وفي هذا المناخ ماذا يفعل رسام الكاريكاتير وأمامه مليون حاجز لا بد أن يتخطاه من أجل الحصول في النهاية على 100 جنيه. لا... شكــــراً، أنا أبيع بطاطا أفضل.