تحولات الرمز في مسرح يوسف العاني

تحولات الرمز في مسرح يوسف العاني

رحل‭ ‬أخيراً‭ ‬الفنان‭ ‬والكاتب‭ ‬المسرحي‭ ‬الكبير‭ ‬يوسف‭ ‬العاني،‭ ‬وبرحيله‭ ‬فقد‭ ‬المسرح‭ ‬العراقي‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أعمدته‭ ‬الراسخة‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬وطورت‭ ‬وأبدعت‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والكتابة‭ ‬المسرحية‭. ‬وتكمن‭ ‬أهمية‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬العراقي‭ ‬والعربي،‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬أكثر‭ ‬الشخصيات‭ ‬الفنية‭ ‬والإبداعية‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تعميق‭ ‬جودة‭ ‬الأداء‭ ‬المسرحي‭ ‬والإبداع‭ ‬فيه،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬جوهر‭ ‬الحياة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬إذ‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬القوى‭ ‬المهمشة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والمجتمع‭ ‬وإبراز‭ ‬تطلعاتها‭ ‬وأحلامها‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬والبقاء،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬مواكبته‭ ‬الأحداث‭ ‬والتحولات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العراق‭ ‬الحديث‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬العاني‭ ‬وتمثلت‭ ‬فيها‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستويات‭ ‬فنية‭ ‬ورسالية‭ ‬وإبداعية،‭ ‬وتتبع‭ ‬هذه‭ ‬المستويات‭ ‬الظروف‭ ‬التاريخية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬العراق‭... ‬ففي‭ ‬المستوى‭ ‬الأول‭ ‬عبرّت‭ ‬مسرحياته‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬معارض‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬عام‭ ‬1958م،‭ ‬وكانت‭ ‬الحمولة‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬مسرحياته‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬معاناة‭ ‬الإنسان‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬مقارعة‭ ‬الظلم‭ ‬والجور‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة،‭ ‬إذ‭ ‬سيطر‭ ‬الهمّ‭ ‬الطبقي‭ ‬والفئات‭ ‬والشرائح‭ ‬المغيبة‭ ‬والمهمشة‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬والإنساني‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬الرسالة‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬العاني‭ ‬كتابة‭ ‬وتمثيلاً،‭ ‬ومنها‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬الشليلة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬عام1951م،‭ ‬إذ‭ ‬حظيت‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬باهتمام‭ ‬النخبة‭ ‬المثقفة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬مثلما‭ ‬حظيت‭ ‬باهتمام‭ ‬الأوساط‭ ‬الشعبية‭,‬‭ ‬وقد‭ ‬عرض‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬المشكلات‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬البيروقراطية‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية‭ ‬وكيفية‭ ‬انعكاسها‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الجماهير‭ ‬بمؤسساتها‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يرمز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬إلى‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تتعامل‭ ‬بها‭ ‬السلطة‭ ‬آنذاك‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬وكبحها‭ ‬وقمعها‭ ‬لتطلعاتهم‭ ‬وأحلامهم‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والاستقلال،‭ ‬وتقوم‭ ‬فكرة‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬انفصال‭ ‬بين‭ ‬الإدارة‭ ‬الحكومية‭ ‬والشعب،‭ ‬وتوضح‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬يكابدها‭ ‬الإنسان‭ ‬المهمش‭ ‬في‭ ‬مراجعته‭ ‬الدوائر‭ ‬الحكومية،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المعاناة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬للسعادة‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬المراجع‭ ‬لهذه‭ ‬الإدارات‭ ‬على‭ ‬بطاقة‭ ‬توصية‭ ‬من‭ ‬المتنفذين،‭ ‬لأنها‭ ‬تسهل‭ ‬كل‭ ‬الإجراءات‭ ‬الحكومية،‭ ‬وهي‭ ‬بمنزلة‭ ‬العصا‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬تنجز‭ ‬الإجراءات‭ ‬فوراً‭ ‬لمن‭ ‬يحملها،‭ ‬ففي‭ ‬المسرحية‭ ‬يعثر‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المهمشين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البطاقة‭ ‬بعد‭ ‬سقوطها‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬مراجع‭ ‬آخر‭ ‬ويستعملها‭ ‬في‭ ‬تسهيل‭ ‬مهمته‭ ‬وإنجاز‭ ‬معاملته‭ ‬وكأنها‭ ‬كنز‭ ‬منتظر‭. ‬وهذه‭ ‬البنية‭ ‬تعبر‭ ‬بشكل‭ ‬جدي‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬مؤلفها‭ ‬باستفحال‭ ‬الطبقية‭ ‬والتمييز‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الإدارة‭ ‬الحكومية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تعلن‭ ‬تعاطفها‭ ‬مع‭ ‬الفئات‭ ‬الشعبية‭ ‬المسحوقة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬البطاقة‭ ‬لتسهيل‭ ‬مهمتها‭ ‬في‭ ‬مراجعة‭ ‬الدوائر‭ ‬الحكومية،‭ ‬وبرسالة‭ ‬رمزية‭ ‬باطنة‭ ‬يدفع‭ ‬العاني‭ ‬متلقيه‭ ‬إلى‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬المهمشين‭ ‬ويدفعه‭ ‬للرفض‭ ‬والاحتجاج‭ ‬على‭ ‬الإدارة‭ ‬الحكومية‭ ‬والعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التغيير،‭ ‬لأن‭ ‬رمز‭ ‬المسرحية‭ ‬يمكن‭ ‬تعميمه‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬وطريقة‭ ‬تصريفها‭ ‬لأمور‭ ‬الناس‭ ‬آنذاك،‭ ‬وفي‭ ‬الاتجاه‭ ‬التحريضي‭ ‬نفسه‭ ‬كتب‭ ‬العاني‭ ‬مسرحيتي‭ ‬‮«‬ستة‭ ‬دراهم‮»‬،‭ ‬و«فلوس‭ ‬الدواء‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1954م‭ ‬ولكن‭ ‬بأطر‭ ‬أخرى‭. ‬

ذروة‭ ‬النضج

يبلغ‭ ‬النضج‭ ‬الفني‭ ‬لدى‭ ‬العاني‭ ‬مداه‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬أمك‭ ‬يا‭ ‬شاكر‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬يعلن‭ ‬العاني‭ ‬عن‭ ‬مواجهته‭ ‬مع‭ ‬الإدارة‭ ‬الحكومية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديمه‭ ‬الحالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬عائلة‭ ‬عراقية‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬وثلاثة‭ ‬أبناء،‭ ‬وهذه‭ ‬العائلة‭ ‬مهتمة‭ ‬بالعمل‭ ‬السياسي‭ ‬ومقارعة‭ ‬الظلم‭ ‬والاستبداد،‭ ‬وتتضح‭ ‬هذه‭ ‬المقارعة‭ ‬في‭ ‬مقتل‭ ‬‮«‬شاكر‮»‬‭ ‬الابن‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬والقتل‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬الموقف‭ ‬الوطني‭ ‬المعادي‭ ‬للاستعمار‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المقتول،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬وبأسلوب‭ ‬مبدع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جعل‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬شاكر‮»‬‭ ‬مهيمنة‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬كله‭ ‬وموجهة‭ ‬لحركة‭ ‬شخصياته،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بداية‭ ‬المسرحية‭ ‬أوحت‭ ‬بمقتله‭ ‬وعدم‭ ‬حضوره‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬المسرحي،‭ ‬وهي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشهداء‭ ‬هم‭ ‬الهداة‭ ‬لمسيرة‭ ‬الشعب‭ ‬ضمن‭ ‬العقلية‭ ‬التي‭ ‬تحكمت‭ ‬بالمثقفين‭ ‬والسياسيين‭ ‬الثوريين‭ ‬آنذاك‭. ‬أما‭ ‬الابن‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬سعدي‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬عبَّر‭ ‬عن‭ ‬الامتداد‭ ‬الطبيعي‭ ‬لشخصية‭ ‬أخيه‭ ‬‮«‬شاكر‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬انغمس‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الثوري‭ ‬واشترك‭ ‬في‭ ‬التظاهرات‭ ‬المعارضة‭ ‬للحكومة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬السلطات‭ ‬إلى‭ ‬اعتقاله‭ ‬وسجنه‭.‬

وتعرض‭ ‬المسرحية‭ ‬صورة‭ ‬المرأة‭ ‬العراقية‭ ‬المدافعة‭ ‬عن‭ ‬حقوقها‭ ‬في‭ ‬ابنة‭ ‬أم‭ ‬شاكر‭ (‬كوثر‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬بالنضال‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬والتبعية،‭ ‬وتنخرط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬السري،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترصدها‭ ‬عيون‭ ‬المخبرين،‭ ‬وتتلخص‭ ‬هذه‭ ‬الثلاثية‭ ‬في‭ ‬ثورتها‭ ‬وموقفها‭ ‬الوطني‭ ‬التحرري‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬أم‭ ‬شاكر‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬المرأة‭ ‬العراقية‭ ‬الحاضنة‭ ‬للنضال‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬المتلاحقة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬التحرر‭ ‬والخلاص‭ ‬من‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مباركتها‭ ‬لنضال‭ ‬أبنائها‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬أمك‭ ‬يا‭ ‬شاكر‮»‬‭ ‬تمثل‭ ‬أنموذج‭ ‬المستوى‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬مسرحيات‭ ‬العاني‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1958،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مثلت‭ ‬قمة‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬والإدارة‭ ‬الحكومية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬وعبرت‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬العطاء‭ ‬والتضحيات‭ ‬لأبناء‭ ‬الشعب‭ ‬وهم‭ ‬يخوضون‭ ‬نضالهم‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭.‬

أما‭ ‬المستوى‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الرمز‭ ‬فيتجلى‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬1958؛‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬الراحل‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬أهلاً‭ ‬بالحياة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬مسرحية‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬جاسوس‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬عطا‮»‬‭ ‬يحب‭ ‬ابنة‭ ‬عمه‭ ‬‮«‬فوزية‮»‬‭ ‬ويحاول‭ ‬الاقتران‭ ‬بها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تحبه،‭ ‬لذلك‭ ‬يحرضها‭ ‬ويساندها‭ ‬شقيقها‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬‮«‬عطا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬العداء‭ ‬من‭ ‬‮«‬فوزية‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬معرفته‭ ‬برفضها‭ ‬الزواج‭ ‬منه،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬شخصاً‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬صديق‭ ‬شقيقها،‭ ‬والمسرحية‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬خمسة‭ ‬تنتهي‭ ‬بزواج‭ ‬‮«‬فوزية‮»‬‭ ‬من‭ ‬حبيبها‭. ‬وتشير‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬دوّنت‭ ‬سيرة‭ ‬الراحل‭ ‬العاني‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬كتابتها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1957‭ ‬وأنجزها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1960‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬منفاه‭ ‬في‭ ‬لايبزغ‭ ‬بألمانيا،‭ ‬ولكن‭ ‬بنية‭ ‬المسرحية‭ ‬وطريقة‭ ‬علاقتها‭ ‬الفنية‭ ‬والنهاية‭ ‬السعيدة‭ ‬التي‭ ‬تضمنتها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الجمهوري‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1958،‭ ‬لأنها‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬القوى‭ ‬المضادة‭ ‬للثورة‭ ‬ولم‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬التعارض‭ ‬الطبقي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائداً‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الملكي،‭ ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬فبراير‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬اضطر‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬إلى‭ ‬الصمت‭ ‬ومغادرة‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬المنفى‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وعمل‭ ‬مع‭ ‬مسرح‭ ‬الرحابنة‭ ‬لوقت‭ ‬قصير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬عاطلاً‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬منفاه‭ ‬الأولى،‭ ‬وقد‭ ‬اطلع‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬بريخت‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يزور‭ ‬ألمانيا‭ ‬بين‭ ‬مدة‭ ‬وأخرى‭.‬

 

أثر‭ ‬بريخت

أثر‭ ‬المسرح‭ ‬البريختي‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬اتضح‭ ‬في‭ ‬المسرحيات‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬منها‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الخرابة‮»‬،‭ ‬و«الشريعة‮»‬،‭ ‬و«الخان‮»‬‭,‬‭ ‬وهذه‭ ‬المسرحيات‭ ‬تمثل‭ ‬المستوى‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬التطور‭ ‬الفني‭ ‬والكتابي‭ ‬والرمزي‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬يوسف‭ ‬العاني،‭ ‬ففي‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬الخرابة‮»‬‭ ‬حاول‭ ‬العاني‭ ‬أن‭ ‬يمازج‭ ‬بين‭ ‬التطور‭ ‬المسرحي‭ ‬العالمي‭ ‬والمسرح‭ ‬العراقي‭ ‬متأثراً‭ ‬بالمسرح‭ ‬الملحمي‭ ‬لبرتولد‭ ‬بريخت،‭ ‬لذلك‭ ‬تناولت‭ ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬رموزاً‭ ‬وشخصيات‭ ‬مختلفة‭ ‬عربية‭ ‬وغريبة،‭ ‬وهذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬جمعها‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الصراع‭ ‬الشمولي‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬مسرحيتي‭ ‬‮«‬الشريعة‮»‬‭ ‬و«الخان‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬حاول‭ ‬العاني‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الطابع‭ ‬المحلي‭ ‬الصرف،‭ ‬لكن‭ ‬البنية‭ ‬الفنية‭ ‬للمسرحيتين‭ ‬تحتمل‭ ‬وجود‭ ‬حمولات‭ ‬فكرية‭ ‬ورمزية‭ ‬عراقية‭ ‬وغير‭ ‬عراقية‭ ‬فيهما،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬الإطار‭ ‬الملحمي‭ ‬هو‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬العناصر‭ ‬الفنية‭ ‬فيهما،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬مسرح‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬نضجه‭ ‬وتطوره‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬إذ‭ ‬أسهمت‭ ‬التجارب‭ ‬الفنية‭ ‬السابقة‭ ‬بتعزيز‭ ‬تجربته‭ ‬الشخصية‭ ‬وغناها،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تطوره‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬واطلاعه‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭. ‬ويمكن‭ ‬إجمال‭ ‬التطور‭ ‬الإبداعي‭ ‬والرمزي‭ ‬في‭ ‬مسرحيات‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬بالعناصر‭ ‬الآتية‭: ‬إن‭ ‬المستوى‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬المسرحيات‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬الهم‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بنية‭ ‬البيئة‭ ‬الشعبية‭ ‬والأسرة‭ ‬العراقية،‭ ‬وهذا‭ ‬المستوى‭ ‬وجه‭ ‬الرمز‭ ‬من‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬العام،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬وكان‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬‮«‬عملقة‮»‬‭ ‬المهمشين‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ودفعهم‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬الصدارة‭ ‬في‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬واعتمد‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬على‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كائن‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬متصور،‭ ‬لذلك‭ ‬اتسمت‭ ‬مسرحياته‭ ‬بالمسحة‭ ‬الكوميدية،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الرسالة‭ ‬العقائدية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬العنصر‭ ‬الطاغي‭ ‬على‭ ‬محتوى‭ ‬مسرحياته،‭ ‬أما‭ ‬المرتكز‭ ‬الرئيس‭ ‬لهذه‭ ‬المسرحيات‭ ‬فهو‭ ‬الاعتراض‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ ‬آنذاك،‭ ‬ولذلك‭ ‬وجدت‭ ‬المسرحيات‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬قبولاً‭ ‬جماهيرياً‭ ‬واسعاً‭.‬

 

رسالة‭ ‬إنسانية

في‭ ‬المستوى‭ ‬الثاني‭ ‬الممتد‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1958حتى‭ ‬عام‭ ‬1963‭,‬‭ ‬اتسم‭ ‬مسرح‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬بالتوجه‭ ‬نحو‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬آمن‭ ‬بمبادئها،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عقدة‭ ‬المسرحية‭ ‬تحمل‭ ‬تناقضاً‭ ‬مع‭ ‬الشامل‭ ‬الكلي‭ ‬المتمثل‭ ‬بإدارة‭ ‬الوطن،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬التناقض‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يتجه‭ ‬من‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬العام،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬الأسرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬التناقض‭ ‬عند‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬يتجه‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬إلى‭ ‬الخاص،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬إجهاض‭ ‬الثورة،‭ ‬فأصبح‭ ‬نسغ‭ ‬التناقض‭ ‬هنا‭ ‬نسغاً‭ ‬نازلاً،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الأول‭ ‬نسغاً‭ ‬صاعداً،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬كرس‭ ‬العاني‭ ‬موقفه‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬المسرحيات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬القائم‭ ‬وليس‭ ‬الهجوم‭ ‬عليه،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬ليست‭ ‬فاعلة‭ ‬كسابقتها‭ ‬ولا‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬نتاجه‭ ‬الفني،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أجهضت‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬عام‭ ‬1963‭.‬

‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬عاد‭ ‬العاني‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراض،‭ ‬ليتشكل‭ ‬المستوى‭ ‬الثالث،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬في‭ ‬مسرحيات‭ ‬العاني‭ ‬ورمزها‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬الهم‭ ‬الإنساني،‭ ‬وأصبح‭ ‬الموقف‭ ‬في‭ ‬مسرحياته‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬الرسالة‭ ‬العقائدية‭ ‬قدر‭ ‬اعتماده‭ ‬الرسالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التفاعلية‭ ‬مع‭ ‬المتغيرات‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬كما‭ ‬حاول‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬إشراك‭ ‬الأفكار‭ ‬التقدمية‭ ‬بصيغها‭ ‬المختلفة‭ ‬مع‭ ‬أفكاره‭ ‬الخاصة،‭ ‬ليعبر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسرحياته‭ ‬عن‭ ‬توجه‭ ‬تضامني‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬المعترضين‭ ‬على‭ ‬الاستلاب‭ ‬ومصادرة‭ ‬الحريات‭,‬‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬عملية‭ ‬تقديس‭ ‬الحرية‭ ‬هي‭ ‬المصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬لأفكاره‭ ‬ورموزه‭ ‬في‭ ‬المسرحيات‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1968‭. ‬وبهذا‭ ‬تبدو‭ ‬تحولات‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬مسرحيات‭ ‬العاني‭ ‬متفاعلة‭ ‬مع‭ ‬النسق‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬أطر‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والعالم‭ ‬‭ ‬