سيميائية الفضاء العام ورمزيته الثقافية

سيميائية الفضاء العام  ورمزيته الثقافية

إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يكتسي‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬رمزيته‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفلسفية؟‭ ‬وهل‭ ‬له‭ ‬حدود‭ ‬معيّنة‭ ‬ذات‭ ‬دلالات‭ ‬متعددة‭ ‬قد‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬غموضه‭ ‬الدلالي،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬تفسير‭ ‬لحيز‭ ‬ومكان‭ ‬معيّن؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الإنسان‭ ‬بالفضاء‭ ‬وهندسته‭ ‬وحدوده؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يتماهى‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬الفضاء‭ ‬باعتباره‭ ‬تصور‭ ‬اً‭ ‬مطلقاً‭ ‬للتعبير‭ ‬والسلوك؟

لم‭ ‬يشكُ‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬الفراغ،‭ ‬لقد‭ ‬عرف‭ ‬اكتساحًا‭ ‬وسيطرة‭ ‬منقطعة‭ ‬النظير،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجماعات‭ ‬البشرية‭ ‬المنتفضة‭ ‬والثائرة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭. ‬إنه‭ ‬مجال‭ ‬للعرض‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬والديني‭ ‬بامتياز،‭ ‬تتنوع‭ ‬الأنشطة‭ ‬فيه‭ ‬ومجالات‭ ‬العرض‭ ‬حسب‭ ‬العرض‭ ‬والطلب،‭ ‬فهو‭ ‬رمز‭ ‬اجتماعي‭ ‬مصمم‭ ‬وفق‭ ‬التفكير‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رائجًا‭ ‬وقت‭ ‬تشييده،‭ ‬حيث‭ ‬يتميز‭ ‬بمميزات‭ ‬خاصة‭ ‬تعتري‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬وعراقتها‭ ‬وعاداتها‭ ‬وتقاليدها‭ ‬وتراثها‭ ‬البشري‭.‬

ورغم‭ ‬وجود‭ ‬أنماط‭ ‬عديدة‭ ‬للفضاء‭ ‬العام،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الغربية‭ ‬أم‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬فإن‭ ‬أهم‭ ‬العلامات‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬هذه‭ ‬الأنماط‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الواحد‭ ‬هي‭ ‬علامات‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬والشكل‭ ‬نفسيهما،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬فوارق‭ ‬بسيطة‭ ‬وقليلة‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تكوّن‭ ‬معنىً‭ ‬حقيقيَّا‭ ‬للاختلاف‭ ‬الظاهر‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غربي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬عربي‭.‬

إن‭ ‬أغلب‭ ‬الفضاءات‭ ‬العامة‭ ‬كالساحات‭ ‬والشوارع‭ ‬والمؤسسات‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬معماريتها،‭ ‬ومازالت‭ ‬تحافظ،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬على‭ ‬خصائصها‭ ‬المعمارية‭ ‬التراثية،‭ ‬مع‭ ‬إضافة‭ ‬بعض‭ ‬الرتوش‭ ‬التجديدية‭ ‬التي‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬الحداثي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العمران‭ ‬والثقافة‭. ‬

 

دافع‭ ‬قوي

وما‭ ‬يؤكد‭ ‬كلامنا‭ ‬هذا،‭ ‬هو‭ ‬تلك‭ ‬الألفة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬الفضاء‭ ‬وبين‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬ولعل‭ ‬لجوء‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬المنتفضة‭ ‬والثائرة‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية‭ ‬إلى‭ ‬الساحات‭ ‬العمومية‭ ‬والشوارع‭ ‬الرئيسة‭ ‬والاعتصام‭ ‬بها‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬تكاد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬شهور‭ ‬دافع‭ ‬قوي‭ ‬للقول‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الألفة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أوجّها‭ ‬ورمزيتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭. ‬

يرتبط‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬عند‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬بماضيه‭ ‬أولًا،‭ ‬ثم‭ ‬بمستوى‭ ‬وعيه‭ ‬السياسي‭ ‬والديني،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬بالرمزية‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يحافظ‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استمراره‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تحدي‭ ‬المخاطر‭ ‬البيئية‭ ‬والطبيعية‭ ‬والبشرية‭ ‬المدمرة‭. ‬إن‭ ‬الذاكرة‭ ‬باعتبارها‭ ‬وسيلة‭ ‬للعصف‭ ‬الذهني،‭ ‬وأداة‭ ‬لخلق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاسترجاع‭ ‬التاريخي‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬ثقافي‭ ‬وديني‭ ‬واجتماعي،‭ ‬تساهم‭ ‬مساهمة‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬جوٍّ‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الفضاء‭ ‬والإنسان‭. ‬وبالتالي‭ ‬إبداع‭ ‬طرق‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬وأساليب‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬البشري‭ ‬المنتج‭ ‬للمعرفة‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬والمتمثل‭ ‬بالخصوص‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬والميدان‭ ‬يعتبر‭ ‬فضاء‭ ‬شاسعًا‭ ‬للتنفيس‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭ ‬ومكنوناتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والعقلية‭ ‬والعاطفية،‭ ‬واستدعاء‭ ‬أفكارها‭ ‬ومواقفها‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والثقافية،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬مندغمًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الداخلي‭ ‬الخاص‭ ‬بكل‭ ‬فرد‭ ‬على‭ ‬حدة‭. ‬فالفضاء‭ ‬يحتضن‭ ‬ويجمع‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬والدلالات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬علاقاتنا‭ ‬وتقاليدنا‭ ‬وعاداتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬والدينية‭ ‬المشبعة‭ ‬بالرموز‭ ‬والمعاني‭.‬

‭ ‬إنه‭ ‬فضاء‭ ‬إيجابي‭ ‬ومتكلم‭ ‬وليس‭ ‬سلبيًا‭ ‬أو‭ ‬صامتًا،‭ ‬لأنه‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬دلالات‭ ‬تستحضر‭ ‬حركات‭ ‬وأفكار‭ ‬ومواقف‭ ‬وتفاعلات‭ ‬متعددة‭ ‬الأبعاد‭ ‬والمعاني‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬وبينه‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬النفسية‭ ‬والتأويلية‭ ‬والإجرائية‭.‬

 

ثقافة‭ ‬جديدة

لكي‭ ‬ينجح‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬رهان‭ ‬التغيير‭ ‬دون‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬علاقاته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬دينية،‭ ‬والثقافية‭ ‬ضاربة‭ ‬في‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬التحديث،‭ ‬ينبغي‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬ترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬مواجهة‭ ‬الفكر‭ ‬الرجعي‭ ‬والوقوف‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬ضد‭ ‬التغيير‭ ‬والإصلاح‭.‬

إن‭ ‬الغائب‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إصلاح‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬وعندما‭ ‬تمت‭ ‬المصالحة‭ ‬معه‭ ‬منذ‭ ‬2011،‭ ‬وتمّ‭ ‬التعاطي‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬فضاء‭ ‬للتعبير‭ ‬والحركة‭ ‬والتفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬وخلق‭ ‬دينامية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬معه،‭ ‬صار‭ ‬الواقع‭ ‬أفضل‭ ‬وتغيرت‭ ‬النظرة‭ ‬المجتمعية‭ ‬والشعبية‭ ‬إليه،‭ ‬فأصبح‭ ‬مكانًا‭ ‬لممارسة‭ ‬الحرية‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭ ‬دون‭ ‬استدعاء‭ ‬أي‭ ‬مظهر‭ ‬للمنع‭ ‬والتحريم‭ ‬والتجريم‭. ‬

لقد‭ ‬تعرض‭ ‬مفهوم‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬بعد‭ ‬2011‭ ‬إلى‭ ‬تشويه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الرؤية‭ ‬والتصور،‭ ‬حيث‭ ‬حاول‭ ‬الكثيرون‭ ‬توجيه‭ ‬تركيزه‭ ‬المفهومي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي‭ ‬فقط،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تمت‭ ‬محاربته‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بمبدأ‭ ‬التعددية‭ ‬والاختلاف‭ ‬والتداول‭ ‬الثقافي‭ ‬السلمي‭ ‬فيه‭. ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حيث‭ ‬هيمنت‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬سلطوية‭ ‬لترسيخ‭ ‬مفهوم‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السياسي‭ ‬دون‭ ‬الثقافي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬تستمد‭ ‬وجودها‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬ليبقى‭ ‬للفضاء‭ ‬العام‭ ‬ذلك‭ ‬الحيز‭ ‬المصطلحي‭ ‬والمفهومي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬واحد،‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه‭ ‬وإبعاده‭ ‬عن‭ ‬الشعب‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬العالي‭ ‬من‭ ‬التأويل‭ ‬والتحديد‭ ‬المفهومي‭.‬

وضمن‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬في‭ ‬التحليل،‭ ‬ظلت‭ ‬المقاربة‭ ‬المعرفية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬بآليات‭ ‬صياغة‭ ‬مفهوم‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬مرتبطة‭ ‬بتصور‭ ‬هابرماس‭ ‬للفضاء‭ ‬العام،‭ ‬دون‭ ‬وجود‭ ‬مخرج‭ ‬معرفي‭ ‬من‭ ‬أزمة‭ ‬التصور‭ ‬هذا‭ ‬والتي‭ ‬يعانيها‭ ‬العقل‭ ‬العربي،‭ ‬والشعبي‭ ‬بالخصوص‭.‬

فالجوهر‭ ‬العقلاني‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬تجربة‭ ‬ثقافية‭ ‬وسياسية‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬تصورها‭ ‬الخاص‭ ‬والجديد‭ ‬للمفاهيم‭. ‬ولذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬التوجه‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬تأصيل‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬نموذج‭ ‬عقلاني‭ ‬برهاني‭ ‬وتطبيقي‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬ولا‭ ‬تعدم‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬منهجًا‭ ‬وتصورًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭. ‬

 

 

رواية‭ ‬الوجود

مثّل‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المحطات‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬سردًا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬مختلف،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬السرد،‭ ‬وكأن‭ ‬السرد‭ ‬صار‭ ‬حياة‭ ‬قائمة‭ ‬الذات‭. ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬المرتبط‭ ‬بسرد‭ ‬الحياة‭ ‬وحياة‭ ‬السرد‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬وجوده‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الفرد‭ ‬والجماعة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الحضور‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬والسلوك‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬ضيق‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬واسع‭ ‬ورحب‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬والإصلاحي‭ ‬يتطلب‭ ‬استيعابًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬للتصورات‭ ‬والأفكار‭ ‬المختلفة‭ ‬والتوجهات‭ ‬المنهجية‭ ‬والمعرفية‭. 

يرتبط‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬العرف‭ ‬الإنساني‭ ‬بتفاعل‭ ‬الأحداث‭ ‬واختلافها،‭ ‬وبتعدد‭ ‬الأفكار‭ ‬وتفرع‭ ‬الأماكن‭ ‬المجاورة‭ ‬لفضاء‭ ‬ما‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تتخلى‭ ‬الفضاءات‭ ‬العامة‭ ‬عن‭ ‬جمودها‭ ‬كبناء‭ ‬أو‭ ‬فراغ‭ ‬لفائدة‭ ‬أمكنة‭ ‬سردية‭ ‬تروي‭ ‬تفاصيل‭ ‬وقصصًا‭ ‬إنسانية‭ ‬ملؤها‭ ‬العمق‭ ‬الفكري‭ ‬والتعبير‭ ‬الحر،‭ ‬وميزتها‭ ‬الحضور‭ ‬الثقافي‭ ‬المؤسس‭ ‬على‭ ‬الكينونة‭ ‬الدلالية‭ ‬للأشياء‭ ‬والناس‭.‬

هذه‭ ‬الفضاءات‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬لتنتج‭ ‬رواية‭ ‬الوجود‭ ‬البشري‭ ‬الخالص،‭ ‬فنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬بصدد‭ ‬تفاعل‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬آخر‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتبادل‭ ‬الثقافي‭ ‬بين‭ ‬الأمكنة‭ ‬والأشخاص‭ ‬لإبداع‭ ‬طرق‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬السرد‭. ‬فالسرد‭ ‬حياة‭ ‬تتفاعل‭ ‬فيها‭ ‬الشخصيات‭ ‬والفضاءات‭ ‬لخلق‭ ‬عالم‭ ‬متفرد‭ ‬متكامل‭ ‬الملامح‭ ‬تجري‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الحياة‭ ‬وأنماطها‭ ‬المتعددة‭.‬

 

تحوُّل‭ ‬في‭ ‬الرؤية

إن‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالمكان‭ ‬سرديًّا،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬نوع‭ ‬السرد،‭ ‬هو‭ ‬احتفاء‭ ‬بالشخصيات‭ ‬المرتبطة؛‭ ‬سواء‭ ‬بطريقة‭ ‬تراجيدية‭ ‬فردية‭ ‬أم‭ ‬بطريقة‭ ‬متخيلة‭ ‬غير‭ ‬واقعية‭ ‬ترتبط‭ ‬بتفكير‭ ‬السارد‭ ‬حول‭ ‬الفضاء‭ ‬وأهميته‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬القبح‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ ‬كيفما‭ ‬كان‭ ‬المنطلق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التحول‭. ‬إن‭ ‬التحول‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتاريخي‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم‭ ‬أســـهم‭ ‬بقوةٍ‭ ‬في‭ ‬حدوث‭ ‬تحول‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬للعالم‭ ‬والوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬خاصة‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية‭ ‬مختلفة‭ ‬اقتنع‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬عامة،‭ ‬ودافع‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬ثورته‭ ‬وانتفاضته،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬تواصله‭ ‬اليومي‭ ‬المباشر‭ ‬وغير‭ ‬المباشر‭.‬

إن‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬عموميته،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬خصوصيته،‭ ‬يبقى‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭ ‬الذي‭ ‬يتجلى‭ ‬فيه‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬تجليًّا‭ ‬بارزًا،‭ ‬ويبرز‭ ‬دلالة‭ ‬معيّنة‭ ‬تحدد‭ ‬مفهوم‭ ‬المكان‭ ‬وتصور‭ ‬الناس‭ ‬له،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬نابعا‭ ‬من‭ ‬علاقتهم‭ ‬به،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬فهمهم‭ ‬الواعي‭ ‬له‭ ‬ولمعناه‭.‬

للفضاء‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬دلالة‭ ‬معيّنة،‭ ‬تتسع‭ ‬مع‭ ‬توسع‭ ‬الفهـــم‭ ‬الــــخاص‭ ‬له،‭ ‬والتعلق‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬إطارٍ‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيـــــق‭ ‬به،‭ ‬وليس‭ ‬مردّ‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬العادية‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬بينهما‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتصـــور‭ ‬ثقافي‭ ‬وفكري‭ ‬يرتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬واضحًا‭ ‬بمدى‭ ‬أهمية‭ ‬الفضاء‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإنســان،‭ ‬ومدى‭ ‬خدمته‭ ‬وتفاعله‭ ‬معه‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفضاء‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الإنسان‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬هو‭ ‬المحرك‭ ‬الأساس‭ ‬لهذا‭ ‬الفضاء‭ ‬والفاعل‭ ‬الحقيقي‭ ‬داخله،‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬يشعر‭ ‬الفضاء‭ ‬بأهميته‭ ‬وواقعيته‭ ‬ورمزيته‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭. ‬

إن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬والاجـــتماعي‭ ‬هو‭ ‬اتجاهه‭ ‬الكلي‭ ‬المباشر‭ ‬نحو‭ ‬التعبــــير‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني‭ ‬بالمكان‭ ‬ضمن‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬تتحكــــم‭ ‬في‭ ‬ذهنيته‭ ‬المتوقــــدة،‭ ‬وفي‭ ‬طبيعة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الرؤيـــة‭ ‬تطـــبيقًا‭ ‬وممارسة‭. ‬ولذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬علينا‭ ‬ألا‭ ‬نســتغرب‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمة‭ ‬التــــي‭ ‬تربط‭ ‬الفضـــاء‭ ‬بالإنسان،‭ ‬خاصة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬من‭ ‬خــــلال‭ ‬الحلول‭ ‬فيه‭ ‬والذود‭ ‬عنه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يــــؤمن‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬يحتكم‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬وسائل‭. ‬هذا‭ ‬التعلـــق‭ ‬الكبير‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬وجوده‭ ‬وحضوره‭ ‬الواقعي‭ ‬والخــيالي‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭.‬

 

الفضاء‭ ‬العام‭ ‬والربيع‭ ‬العربي

تحوّل‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬منذ‭ ‬انطلاق‭ ‬شرارة‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2011‭ ‬من‭ ‬تصوره‭ ‬كفضاء‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬وتنظمه‭ ‬بمعرفتها،‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬للشعوب‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬حقوقه‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬مجالاته‭ ‬ومحيطه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تسيير‭ ‬أهم‭ ‬مرافقه‭ ‬وأجزائه‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬وخاصة‭ ‬الميادين‭ ‬الكبرى‭ ‬والشوارع،‭ ‬كانت‭ ‬مكانًا‭ ‬للتظاهر‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الفضاءات‭ ‬العامة‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬منذ‭ ‬2011‭ ‬إلى‭ ‬أمكنة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬ومختلف‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تمثله‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وللناس،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬تقدم‭ ‬خدمات‭ ‬كبيرة‭ ‬وجلية‭ ‬للناس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري،‭ ‬أو‭ ‬للتظاهر‭ ‬ضد‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية،‭ ‬والبقاء‭ ‬فيها‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬شهور،‭ ‬وذلك‭ ‬بالاعتصام‭ ‬فيها‭ ‬طويلًا‭.‬

لقد‭ ‬تغيّر‭ ‬المناخ‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬لتصبح‭ ‬للفضاء‭ ‬العام‭ ‬فلسفة‭ ‬جديدة‭ ‬والتعاطي‭ ‬معه‭ ‬بفكر‭ ‬مختلف‭ ‬وتفكير‭ ‬جديد‭ ‬وعصري‭ ‬ينهل‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬التراثية،‭ ‬ومن‭ ‬التجديد‭ ‬المعرفي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬غزا‭ ‬المنطقة‭. ‬فميدان‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مثلًا‭ ‬عرف‭ ‬تحولًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬منظور‭ ‬الفكر‭ ‬الشعبي‭ ‬المصري،‭ ‬وأصبح‭ ‬أيقونة‭ ‬محلية‭ ‬ووطنية‭ ‬وعربية‭ ‬وعالمية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬يستولي‭ ‬عليه‭ ‬وجعله‭ ‬فضاء‭ ‬شعبيًّا‭ ‬كأنه‭ ‬ملكية‭ ‬خاصة‭ ‬لهم‭ ‬أخذوه‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬عنوة‭ ‬وبقوة‭ ‬الشعب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُقهر‭.‬

 

صورة‭ ‬فاعلة

ككل‭ ‬الميادين‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬ثورات‭ ‬وانتفاضات‭ ‬قوية،‭ ‬أصبح‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬الفضاءات‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬يبحث‭ ‬فيها‭ ‬الفنانون‭ ‬والسينمائيون‭ ‬والشعراء‭ ‬والروائيون‭ ‬والمفكرون‭ ‬عمّا‭ ‬يساعدهم‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬نصوصهم‭ ‬وأفلامـــهم‭ ‬وقصائدهم‭ ‬وكتبهم‭ ‬المبدعة‭. ‬لقد‭ ‬نجح‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬صورته‭ ‬الجمودية‭ ‬إلى‭ ‬صورته‭ ‬الحية‭ ‬الفاعلة‭ ‬والمتحركة‭ ‬الرامزة‭ ‬إلــــى‭ ‬التفاعل‭ ‬الإنساني‭ ‬مع‭ ‬الفضاء،‭ ‬واتخاذه‭ ‬مكانًا‭ ‬لتغيير‭ ‬الوعي‭ ‬الفردي‭ ‬والجمعي‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬ومحـــاولــــة‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬المطلوب‭. ‬لأن‭ ‬التجديد‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬والدين‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الرؤية‭ ‬تجاه‭ ‬الفضاء‭ ‬وجعله‭ ‬وسيلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭ ‬والتحول‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الفضاء‭ ‬العـــام‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬ومازال‭ ‬حتــــى‭ ‬اليــــوم‭ ‬مجالًا‭ ‬شــــاملًا‭ ‬للجميع‭ ‬في‭ ‬الشعب،‭ ‬وحقـــلًا‭ ‬شاسعًا‭ ‬لاحتواء‭ ‬مختلف‭ ‬التوجهات‭ ‬والجماعات‭ ‬والأفكـــار‭ ‬والأحزاب‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬آرائها‭ ‬ومواقفها‭ ‬وأيديولوجـــــياتها،‭ ‬مما‭ ‬جعــله‭ ‬مكانًا‭ ‬نموذجيًّا‭ ‬لجمع‭ ‬كل‭ ‬الأطراف،‭ ‬رغم‭ ‬الاختلافات‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬منحه‭ ‬صفة‭ ‬المصلح‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يلم‭ ‬شمل‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬ظهور‭ ‬أي‭ ‬خلافات‭ ‬أو‭ ‬صراعات،‭ ‬لأن‭ ‬الهدف‭ ‬كان‭ ‬واحدًا،‭ ‬والغاية‭ ‬نبيلة،‭ ‬وهي‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬مستبد،‭ ‬وإصلاح‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬إصلاحه‭. ‬

 

فكر‭ ‬مختلف

يظهر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إيصال‭ ‬الصوت‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬وإبداع‭ ‬فكر‭ ‬جديد‭ ‬ومختلف‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬يعتبر‭ ‬بديلًا‭ ‬عما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬وتحوّل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التنظير‭ ‬والممارسة‭.‬

لذلك،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬يروّج‭ ‬البعض‭ ‬اليوم،‭ ‬لم‭ ‬يؤتِ‭ ‬أُكله‭ ‬ولم‭ ‬يحقق‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تصبو‭ ‬إليه‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬المقهورة،‭ ‬بل‭ ‬العكس‭ ‬هو‭ ‬الصحيح،‭ ‬لقد‭ ‬حققت‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬الثائرة‭ ‬هدفها‭ ‬في‭ ‬تحريك‭ ‬الماء‭ ‬الآسن،‭ ‬وتغيير‭ ‬الرؤية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تنتفض‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حقوقها،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭. ‬ولعل‭ ‬الطريقة‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬ولولا‭ ‬المؤامرات‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬المعاصرة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬النتائج‭ ‬بهذا‭ ‬السوء‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭. ‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬التصــــور‭ ‬عــــن‭ ‬الفضـاء‭ ‬العام‭ ‬وإمكانية‭ ‬تحوله‭ ‬من‭ ‬المفهـــوم‭ ‬القديــــم‭ ‬إلى‭ ‬المفهوم‭ ‬الجديد‭ ‬مع‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬اضطـــراب‭ ‬الوعي‭ ‬به‭ ‬وبمفهــــومه‭ ‬الجديد‭ ‬هذا،‭ ‬فالمجــــتمع‭ ‬العربي‭ ‬شهد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬والدينــــية‭ ‬كانت‭ ‬كــفـــيلة‭ ‬بإيقاف‭ ‬عجلة‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتغيـــير،‭ ‬رغـــم‭ ‬بــــروز‭ ‬أصــــوات‭ ‬فكــرية‭ ‬وسياسية‭ ‬قــويـــة‭ ‬أرادت‭ ‬لهذا‭ ‬الإصــــلاح‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لكنها‭ ‬اصطدمت‭ ‬بأنظــمة‭ ‬رجعية‭ ‬وتقلــــيدية‭ ‬متحالفة‭ ‬مع‭ ‬القوة‭ ‬الدينية‭ ‬المتمثلــــة‭ ‬في‭ ‬جمــــاعات‭ ‬دينية‭ ‬متطرفة‭ ‬ومتـــــشددة،‭ ‬وقفت‭ ‬أمامهــــم‭ ‬كالسد‭ ‬المنيع،‭ ‬فجاء‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬لتغيير‭ ‬هذه‭ ‬النظـــرة‭ ‬وتحويل‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العربي‭ ‬بالخـصوص‭ ‬من‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬الديني‭ ‬الداخلي‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬أساس‭ ‬المشكلة‭ ‬ومحرك‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬وهو‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬التــي‭ ‬تحاول‭ ‬خلق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الوهمي‭ ‬بيــن‭ ‬أطـــراف‭ ‬وهمــــية‭ ‬للإبقاء‭ ‬علــــى‭ ‬الوضــــع‭ ‬كـــما‭ ‬هــو،‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بسهــــولة‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مشكلات‭ ‬أو‭ ‬صعوبات‭ .