سيميائية الفضاء العام ورمزيته الثقافية
إلى أي حد يكتسي الفضاء العام رمزيته السياسية والثقافية والفلسفية؟ وهل له حدود معيّنة ذات دلالات متعددة قد تزيد من غموضه الدلالي، أم أنه مجرد تفسير لحيز ومكان معيّن؟ وما هي العلاقة التي تربط الإنسان بالفضاء وهندسته وحدوده؟ وإلى أي حد يتماهى الإنسان مع الفضاء باعتباره تصور اً مطلقاً للتعبير والسلوك؟
لم يشكُ الفضاء العام أبدًا من الفراغ، لقد عرف اكتساحًا وسيطرة منقطعة النظير، سواء من طرف الجهات الرسمية أم من طرف الجماعات البشرية المنتفضة والثائرة في العصر الحديث على الخصوص. إنه مجال للعرض الثقافي والسياسي والديني بامتياز، تتنوع الأنشطة فيه ومجالات العرض حسب العرض والطلب، فهو رمز اجتماعي مصمم وفق التفكير الإنساني الذي كان رائجًا وقت تشييده، حيث يتميز بمميزات خاصة تعتري الفكر والثقافة المستمدة من تاريخ الأمة وعراقتها وعاداتها وتقاليدها وتراثها البشري.
ورغم وجود أنماط عديدة للفضاء العام، سواء كان في البلدان الغربية أم البلدان العربية، فإن أهم العلامات التي تميز هذه الأنماط المختلفة في البلد الواحد هي علامات من الطراز والشكل نفسيهما، مع وجود فوارق بسيطة وقليلة لا تكاد تكوّن معنىً حقيقيَّا للاختلاف الظاهر بين ما هو غربي وما هو عربي.
إن أغلب الفضاءات العامة كالساحات والشوارع والمؤسسات في البلدان العربية حافظت على معماريتها، ومازالت تحافظ، إلى حد كبير، على خصائصها المعمارية التراثية، مع إضافة بعض الرتوش التجديدية التي تتماشى مع الفكر الحداثي في مجال العمران والثقافة.
دافع قوي
وما يؤكد كلامنا هذا، هو تلك الألفة التي تربط بين الفضاء وبين الإنسان العربي، ولعل لجوء الشعوب العربية المنتفضة والثائرة خلال السنوات الماضية إلى الساحات العمومية والشوارع الرئيسة والاعتصام بها لمدة طويلة تكاد تصل إلى شهور دافع قوي للقول بأن هذه الألفة كانت في أوجّها ورمزيتها الثقافية والفكرية.
يرتبط الفضاء العام عند المواطن العربي بماضيه أولًا، ثم بمستوى وعيه السياسي والديني، وأخيرًا بالرمزية التاريخية التي يحافظ عليها هذا الفضاء من خلال استمراره في الزمن وقدرته على تحدي المخاطر البيئية والطبيعية والبشرية المدمرة. إن الذاكرة باعتبارها وسيلة للعصف الذهني، وأداة لخلق نوع من الاسترجاع التاريخي لما هو ثقافي وديني واجتماعي، تساهم مساهمة فعالة في خلق جوٍّ من الارتباط الوثيق بين الفضاء والإنسان. وبالتالي إبداع طرق جديدة في التعبير وأساليب مختلفة في التفكير البشري المنتج للمعرفة.
ومن هنا يمكننا القول إن الفضاء العام والمتمثل بالخصوص في الشارع والميدان يعتبر فضاء شاسعًا للتنفيس عن الذات الفردية والجماعية ومكنوناتها الثقافية والعقلية والعاطفية، واستدعاء أفكارها ومواقفها السياسية والفكرية والثقافية، حيث يصبح العالم الخارجي في هذا الإطار مندغمًا في العالم الداخلي الخاص بكل فرد على حدة. فالفضاء يحتضن ويجمع كثيرًا من الرموز والدلالات الموجودة في علاقاتنا وتقاليدنا وعاداتنا الثقافية والدينية المشبعة بالرموز والمعاني.
إنه فضاء إيجابي ومتكلم وليس سلبيًا أو صامتًا، لأنه يحتوي على دلالات تستحضر حركات وأفكار ومواقف وتفاعلات متعددة الأبعاد والمعاني بين الإنسان وبينه من الناحية النفسية والتأويلية والإجرائية.
ثقافة جديدة
لكي ينجح أي مجتمع في تحقيق رهان التغيير دون التخلي عن علاقاته الاجتماعية التقليدية التي تقوم على علاقات دينية، والثقافية ضاربة في القدم في إطار من التحديث، ينبغي عليه أن يبحث عن ترسيخ ثقافة جديدة تقوم على أنقاض الثقافة التقليدية، أو على الأقل مواجهة الفكر الرجعي والوقوف ضد أي محاولة ضد التغيير والإصلاح.
إن الغائب الأكبر في كل إصلاح هو الفضاء العام، وعندما تمت المصالحة معه منذ 2011، وتمّ التعاطي معه على أساس أنه فضاء للتعبير والحركة والتفكير النقدي، وخلق دينامية جديدة في التفاعل معه، صار الواقع أفضل وتغيرت النظرة المجتمعية والشعبية إليه، فأصبح مكانًا لممارسة الحرية بكل أشكالها دون استدعاء أي مظهر للمنع والتحريم والتجريم.
لقد تعرض مفهوم الفضاء العام بعد 2011 إلى تشويه على مستوى الرؤية والتصور، حيث حاول الكثيرون توجيه تركيزه المفهومي على المستوى السياسي فقط، في حين تمت محاربته على المستوى الثقافي في علاقته بمبدأ التعددية والاختلاف والتداول الثقافي السلمي فيه. والأمر نفسه وقع على المستوى الاجتماعي، حيث هيمنت رؤية فكرية سلطوية لترسيخ مفهوم الفضاء العام في المجال السياسي دون الثقافي والاجتماعي، وهذا يدل على أن هذه النظرية تستمد وجودها من السلطة السياسية، ليبقى للفضاء العام ذلك الحيز المصطلحي والمفهومي على مستوى واحد، حتى يتم السيطرة عليه وإبعاده عن الشعب البسيط الذي لا يمكن فهم هذا المستوى العالي من التأويل والتحديد المفهومي.
وضمن هذا السياق في التحليل، ظلت المقاربة المعرفية والفكرية التي اهتمت بآليات صياغة مفهوم الفضاء العام مرتبطة بتصور هابرماس للفضاء العام، دون وجود مخرج معرفي من أزمة التصور هذا والتي يعانيها العقل العربي، والشعبي بالخصوص.
فالجوهر العقلاني المطلوب في أي تجربة ثقافية وسياسية تطمح إلى بناء تصورها الخاص والجديد للمفاهيم. ولذلك ينبغي التوجه مباشرة إلى تأصيل هذه المفاهيم بناء على نموذج عقلاني برهاني وتطبيقي في الواقع، ولا تعدم الثقافة العربية منهجًا وتصورًا من أجل ذلك.
رواية الوجود
مثّل الفضاء العام بالنسبة إلى العديد من المحطات الثقافية والسياسية سردًا من نوع مختلف، فكل شيء يدل على السرد، وكأن السرد صار حياة قائمة الذات. هذا الفضاء المرتبط بسرد الحياة وحياة السرد كان يبحث عن وجوده الحقيقي في ذهن الفرد والجماعة، وبالتالي الحضور الثقافي والفكري في الفعل والسلوك. كل هذا لا يتحقق في شكل ضيق من التفكير بقدر ما يتحقق في شكل واسع ورحب من التفكير النقدي والإصلاحي يتطلب استيعابًا مهمًّا للتصورات والأفكار المختلفة والتوجهات المنهجية والمعرفية.
يرتبط الفضاء العام في العرف الإنساني بتفاعل الأحداث واختلافها، وبتعدد الأفكار وتفرع الأماكن المجاورة لفضاء ما. ومن هنا تتخلى الفضاءات العامة عن جمودها كبناء أو فراغ لفائدة أمكنة سردية تروي تفاصيل وقصصًا إنسانية ملؤها العمق الفكري والتعبير الحر، وميزتها الحضور الثقافي المؤسس على الكينونة الدلالية للأشياء والناس.
هذه الفضاءات تتفاعل مع الناس لتنتج رواية الوجود البشري الخالص، فنجد أنفسنا بصدد تفاعل من جنس آخر يتعلق بالتبادل الثقافي بين الأمكنة والأشخاص لإبداع طرق جديدة في عملية السرد. فالسرد حياة تتفاعل فيها الشخصيات والفضاءات لخلق عالم متفرد متكامل الملامح تجري فيه كل أشكال الحياة وأنماطها المتعددة.
تحوُّل في الرؤية
إن الاحتفاء بالمكان سرديًّا، مهما كان نوع السرد، هو احتفاء بالشخصيات المرتبطة؛ سواء بطريقة تراجيدية فردية أم بطريقة متخيلة غير واقعية ترتبط بتفكير السارد حول الفضاء وأهميته في حياته.
كل هذا يساهم في خلق نوع من التحول من القبح إلى الجمال كيفما كان المنطلق في ذلك التحول. إن التحول الاجتماعي والتاريخي الذي نعيشه اليوم أســـهم بقوةٍ في حدوث تحول في الرؤية للعالم والوجود الإنساني، خاصة أننا أمام رؤية فكرية وثقافية مختلفة اقتنع بها الإنسان في الوطن العربي عامة، ودافع عنها في ثورته وانتفاضته، وحتى في تواصله اليومي المباشر وغير المباشر.
إن السرد في عموميته، كما في خصوصيته، يبقى المجال الثقافي والمعرفي الذي يتجلى فيه الفضاء العام تجليًّا بارزًا، ويبرز دلالة معيّنة تحدد مفهوم المكان وتصور الناس له، سواء كان هذا التصور نابعا من علاقتهم به، أم من فهمهم الواعي له ولمعناه.
للفضاء العام في السرد دلالة معيّنة، تتسع مع توسع الفهـــم الــــخاص له، والتعلق به في إطارٍ من الارتباط الوثيـــــق به، وليس مردّ ذلك إلى العلاقة العادية التي يمكنها أن تحصل بينهما بقدر ما يتعلق الأمر بتصـــور ثقافي وفكري يرتبط ارتباطًا واضحًا بمدى أهمية الفضاء بالنسبة للإنســان، ومدى خدمته وتفاعله معه. فلا يمكن الحديث عن الفضاء في غياب الإنسان خاصة وأن هذا الأخير هو المحرك الأساس لهذا الفضاء والفاعل الحقيقي داخله، من خلاله يشعر الفضاء بأهميته وواقعيته ورمزيته الثقافية والاجتماعية.
إن أهم ما يميز الفضاء العام على المستوى الثقافي والاجـــتماعي هو اتجاهه الكلي المباشر نحو التعبــــير عن الوعي الإنساني بالمكان ضمن رؤية فكرية تتحكــــم في ذهنيته المتوقــــدة، وفي طبيعة التعبير عن هذه الرؤيـــة تطـــبيقًا وممارسة. ولذلك ينبغي علينا ألا نســتغرب العلاقة الحميمة التــــي تربط الفضـــاء بالإنسان، خاصة الإنسان العربي، من خــــلال الحلول فيه والذود عنه بكل ما يــــؤمن به وما يحتكم عليه من وسائل. هذا التعلـــق الكبير يعبّر عن رواية وجوده وحضوره الواقعي والخــيالي في الفضاء.
الفضاء العام والربيع العربي
تحوّل الفضاء العام منذ انطلاق شرارة الربيع العربي في سنة 2011 من تصوره كفضاء تسيطر عليه السلطة السياسية وتنظمه بمعرفتها، إلى فضاء للشعوب والمجتمع المدني للتعبير عن حقوقه والتحكم في مجالاته ومحيطه من خلال تسيير أهم مرافقه وأجزائه.
ورغم أن هذا الفضاء العام، وخاصة الميادين الكبرى والشوارع، كانت مكانًا للتظاهر والتعبير عن الرأي منذ تأسيس الدولة الحديثة، فإن هذه الفضاءات العامة قد تحولت منذ 2011 إلى أمكنة من نوع آخر ومختلف عن كل ما كانت تمثله للمجتمع المدني وللناس، حيث أصبحت تقدم خدمات كبيرة وجلية للناس من خلال السيطرة عليها للتعبير عن الرأي السياسي والفكري، أو للتظاهر ضد السلطة السياسية، والبقاء فيها لمدة طويلة قد تصل إلى شهور، وذلك بالاعتصام فيها طويلًا.
لقد تغيّر المناخ السياسي في العالم العربي، لتصبح للفضاء العام فلسفة جديدة والتعاطي معه بفكر مختلف وتفكير جديد وعصري ينهل من الثقافة التراثية، ومن التجديد المعرفي الجديد الذي غزا المنطقة. فميدان التحرير في مصر مثلًا عرف تحولًا كبيرًا في منظور الفكر الشعبي المصري، وأصبح أيقونة محلية ووطنية وعربية وعالمية في الوقت نفسه، مما جعل الشعب المصري يستولي عليه وجعله فضاء شعبيًّا كأنه ملكية خاصة لهم أخذوه من الدولة عنوة وبقوة الشعب التي لا تُقهر.
صورة فاعلة
ككل الميادين العربية الأخرى التي عاشت ثورات وانتفاضات قوية، أصبح ميدان التحرير في مصر من الفضاءات التي تمثّل ثقافة جديدة يبحث فيها الفنانون والسينمائيون والشعراء والروائيون والمفكرون عمّا يساعدهم في إبداع نصوصهم وأفلامـــهم وقصائدهم وكتبهم المبدعة. لقد نجح الفضاء العام العربي في الانتقال من صورته الجمودية إلى صورته الحية الفاعلة والمتحركة الرامزة إلــــى التفاعل الإنساني مع الفضاء، واتخاذه مكانًا لتغيير الوعي الفردي والجمعي والتعبير عن الموقف ومحـــاولــــة التأثير في التحول الاجتماعي والثقافي المطلوب. لأن التجديد على مستوى الثقافة والفكر والدين لا يمكنه أن يتم إلا في تغيير الرؤية تجاه الفضاء وجعله وسيلة في هذا التغيير والتحول.
لقد كان الفضاء العـــام منذ بداية الربيع العربي ومازال حتــــى اليــــوم مجالًا شــــاملًا للجميع في الشعب، وحقـــلًا شاسعًا لاحتواء مختلف التوجهات والجماعات والأفكـــار والأحزاب للتعبير عن آرائها ومواقفها وأيديولوجـــــياتها، مما جعــله مكانًا نموذجيًّا لجمع كل الأطراف، رغم الاختلافات فيما بينهم، وهذا ما منحه صفة المصلح الذي استطاع أن يلم شمل الجميع دون ظهور أي خلافات أو صراعات، لأن الهدف كان واحدًا، والغاية نبيلة، وهي إسقاط نظام مستبد، وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
فكر مختلف
يظهر من كل هذا أن الربيع العربي، ومن خلال التفاعل مع الفضاء العام من أجل إيصال الصوت والتعبير عن الموقف وإبداع فكر جديد ومختلف عن المألوف والسائد منذ عقود، يعتبر بديلًا عما جاء به من تغيير وتحوّل على مستوى التنظير والممارسة.
لذلك، ليس من الحكمة القول إن الربيع العربي، كما يروّج البعض اليوم، لم يؤتِ أُكله ولم يحقق ما كانت تصبو إليه الشعوب العربية المقهورة، بل العكس هو الصحيح، لقد حققت الشعوب العربية الثائرة هدفها في تحريك الماء الآسن، وتغيير الرؤية السائدة في الوطن العربي، وهي أن الشعوب العربية لا تنتفض من أجل حقوقها، ولا تعرف كيف تعبّر عن ذلك. ولعل الطريقة الحضارية التي خرجت بها هذه الشعوب خير مثال على ذلك. ولولا المؤامرات التي تعرضت لها العديد من الثورات المعاصرة لما كانت النتائج بهذا السوء الذي نراه اليوم في عدد من البلدان.
كل هذا التصــــور عــــن الفضـاء العام وإمكانية تحوله من المفهـــوم القديــــم إلى المفهوم الجديد مع الربيع العربي، تسبب في اضطـــراب الوعي به وبمفهــــومه الجديد هذا، فالمجــــتمع العربي شهد العديد من الصراعات السياسية والفكرية والدينــــية كانت كــفـــيلة بإيقاف عجلة الإصلاح والتغيـــير، رغـــم بــــروز أصــــوات فكــرية وسياسية قــويـــة أرادت لهذا الإصــــلاح أن يتحقق في الواقع، لكنها اصطدمت بأنظــمة رجعية وتقلــــيدية متحالفة مع القوة الدينية المتمثلــــة في جمــــاعات دينية متطرفة ومتـــــشددة، وقفت أمامهــــم كالسد المنيع، فجاء الربيع العربي لتغيير هذه النظـــرة وتحويل الرأي العام العربي بالخـصوص من القضاء على الصراع الديني الداخلي إلى البحث في أساس المشكلة ومحرك هذا الصراع وهو السلطة السياسية التــي تحاول خلق نوع من الصراع الوهمي بيــن أطـــراف وهمــــية للإبقاء علــــى الوضــــع كـــما هــو، والسيطرة على السلطة بسهــــولة ومن دون مشكلات أو صعوبات .