مـــن الأقصـر إلــى أسـوان رحلة نيلية على «مراكب الشمس»

مـــن الأقصـر إلــى أسـوان رحلة نيلية على «مراكب الشمس»

حدثتني نفسي، الأمّارة بالسفر، بالخروج عن علاقتي المعتادة بأم الدنيا إلى ما هو أوسع، فمصر «التي في خاطري» ممتدة حسب قواعد الجغرافيا والتاريخ إلى ما هو خارج عاصمتها القاهرة، وما فيها من نقوش حضارات، فرعونية وفاطمية وغيرهما، كلما شاء للزمان أن يضع بصمة على أرض النيل.

عرفت مدن مصر المعروفة، وسرتُ إلى الإسكندرية ودمياط والمنوفية والغردقة وغيرها، لكن بقيتْ صورة الأقصر محفورة في ذهني منذ أن رأيتها قبل عشرين عاماً، وكانت صورتي أمام معبد حتشبسوت تستنطق مرحلة من الزمن تكدس فوقها عقدان، وتجارب، ومياه كثيرة مرّت من تحت جسر السنين المتلاحقة على أجندة الحياة.. والمتناقصة من أوراق العمر. كانت شمس العمر صاهدة، حينها، كما يليق بوادي الملوك وهو يشتعل بشمسه في البر الغربي، وكانت الدماء مازالت طرية حينما هاجم مسلحون السياح في معبد حتشبسوت، فقتلوا 58 شخصاً فيه، حينئذٍ ذهبت في رحلة صحفية، لأكتب أن ما جرى محض استثناء، وأن الملكة المصرية ستبقى «الاستثناء» أيضاً بين فراعنة مصر، فهي المصرية الوحيدة التي حكمت، وبنت للكهنة معبداً كي يمنحوها تأييدهم، باعتبارها مباركة من الآلهة.
 لكنني أجيء هذه المرة أسحب نصف قرن من الزمان على مفرقي، أتأمل بعينين مختلفتين، أنظر إلى مجريات الزمان كما يليق به أكثر من نظرة سابقة بدت لي، الآن، متعجّلة، وغير معنيّة كما ينبغي بحوادث الدهر، وهي تتدافع آلاف السنين، كأنما الحكاية متوارثة، رجال الدين يفصّلون للسياسيين ما يناسبهم، يخترعون الأساطير من أجل عروشهم، وصولهم إليها وبقائهم عليها، لينعم الطرفان بمجد الحياة الدنيا، وينتظر الناس البسطاء.. نعم الحياة الآخرة!
 قبل أن يغوص قرص الشمس في ماء النهر وصلتُ إلى الأقصر، كانت تضع على كتفها شال الغروب القرمزي، وكان «عم سيّد» متحمساً للترحيب بنا، الصعيدي الذي يُخجل زبائنه بكرم أخلاقه، ويُطلق الضحكات على آخر نكتة قيلت في بني جلدته، وهم أصحاب الشهامة والمروءة، يقول مداعباً «احنا اللي جبناه لنفسنا»، ويأتي بالمزيد. كان وجه «سيد» بطاقة اكتشافنا للمدينة، رؤيتها بزاوية أخرى، للبدء في رحلة عبر النيل إلى أسوان، حيث الجنوب المصري، وكان المكان يرتدي ثوب الليل بتؤدة، كما تقول الأضواء الخاشعة في معبديه، الكرنك والأقصر، تكتب مهابتها بكثير من الإيحاء والتحفيز لإطلاق ملكة التأمل فيما جرى، ويجري، فيما مرّ، ويمر. هي الأقصر إذن، شوارعها، بيوتها، بشرها، مدينة المائة باب، مدينة الشمس، هذه طيبة، عاصمة مصر في عصر «خالد» في أجندة التاريخ المصري، العصر الفرعوني، وهي عاصمة المحافظة التي تحمل اسمها، ولأنها ابنة النيل فقد أرادته أن يقطعها، أو بالأحرى يوصلها، كشريان يجمع شطريها، البر الشرقي والبر الغربي، وكنت أقرأ وجهها الأول منذ الساعات الأولى في تقليبي لدفتر المكان.هي رحلة نيلية، كما أردتها، لكن السياحي فيها لا يمرق دون عبور التاريخ الديني للفراعنة، ليس عبر قصورهم، إذ لم يأمنوا للحياة الدنيا، ولم يُعرف عنهم ترف حياة، ولكن من خلال المعابد والمقابر، وهذه المفارقة اللافتة، قوم عرف عنهم العظمة والإدهاش لكن أمام الموت ينحنون، يُعدّون العدة من أجله في اليوم التالي لجلوسهم على العرش، يجهزون مقابرهم، وما يحتاجونه في حياتهم الأخرى.. الأبدية. إيمانهم الدنيوي بقداسة الأمكنة، تلك التي تمتد عبر وساطة الكهنة للحصول على رضا الآلهة وبركتها، آلهة الشمس والخصب والجمال، وغيرها، من قداسات تصبح الوسيلة للسعادة، لمن يقدم القرابين.. ومن يستفيد منها! وإيمانهم الآخروي بقداسة حياة ما بعد الموت، حيث العتمة الباهرة في باطن الأرض، مضاءة بنقوش وأساطير وحكايات ونفائس، كأنما حائط المقبرة لوحة تشكيلية، أو كتاب توثيقي، يرعى الراقد في تابوته الصخري، ريثما تعود الروح إليه، متعرفة على صاحبها، فيستأنفان الرحلة من جديد، لكنها في مسار الخلود ترتقي سلالمها. كان طريق الكِباش في معبد الكرنك يأخذنا في المسار، صفان من التماثيل، كل تمثال يحمل رأس كبش على جسد أسد، طوله 52 متراً، وعرضه 13 متراً، هؤلاء حراس المعبد، فالكبش، في معتقدهم، أحد مظاهر الإله آمون.. من هنا مرت عروش، وفيضانات وزلازل، وتساقط ما تساقط منها، بفعل عوامل التعرية، ودوران الأفلاك عبر آلاف السنين، مدينة من المعابد «الأكثر قدسية واختيارا»، عمرها أكثر من ألفي عام تمتد على مساحة 200 فدان، طولها 1500 متر وعرضها 800 متر، هناك الثالوث المقدس، آمون (يمتد على مساحة 61 فداناً) وموت وخونسو، كانت الأعمدة الشامخة ملاذي من شمس ما بعد الظهيرة، أقرأ على زواياها قصص الغرام والانتقام، وحكايات الماء الذي كتب تاريخ طيبة، الماء الذي حمل النبي موسى \ إلى عرش فرعون، والماء الذي أغرق العظمة، عظمة فرعون وعظمة المعابد، فتحطم تحت سطوته ما تحطم، وتساقط من الأعمدة ما تساقط، في قاعة الأعمدة نحو 134 عموداً، منقوش عليها عظمة المكان وهيبة الأمس، وإن كان الأمس يبعد كل هذه المسافات من السنين. الماء المتبقي في المكان يبدو حقيقياً هذه المرة، لفّني صمت غريب أمام البحيرة المقدسة، رأيت فيها تاريخاً طويلاً، يعوم في قداسة مترعة بالقدامة، تعوم فيها أزمنة، ليس الحاضر من بينها، تمتد البحيرة نحو 129 متراً، وعرضها 77 متراً، وحولها مخازن الغلال وسكن الكهنة، وعليها كانت تسير المراكب المقدسة للآلهة الثلاثة خلال مهرجان الأوبت السنوي. فكرة مهرجان الأوبت منطلقها أنه في نهاية الدورة الزراعية السنوية تكون الآلهة والأرض منهكين من العمل، بما يستدعي وجود مصادر جديدة للطاقة من الكون، وهذا ما يتطلب الاحتفال بالعلاقة بين آمون والفرعون الحاكم على مدار 27 يوماً، ويبدأ موكب المهرجان من الكرنك وينتهي في جنوب الأقصر، ويتم غسل (استحمام) آمون سنوياً بالمياه المقدسة، وتغطيته بما يستحق من الملابس الحريرية الثمينة، مع وضع الزينات من المشغولات الفضية والذهبية وسائر المجوهرات. كانت تماثيل الآلهة الثلاثة تسير في موكب من معبد آمون إلى معبد الأقصر، ميل واحد يجمع إليه طيبة، في موكب زفاف فخم، ففي «الكرنك» بهاء يجذب إليه الجميع، هنا اجتمعت كل الأسر الفرعونية الحاكمة لتترك بصماتها.
في معبد الأقصر عبور آخر، لم أتخيل أن كل هذا العدد من الحكايات مرق من بين هذه الأعمدة والزوايا، إنما كان مسجد سيدي يوسف أبي الحجاج في الأعلى حكاية أخّاذة، بناه الفاطميون فوق المعبد، حيث لم يعرف أحد أن تحت الأرض مدينة قديمة، دفنها التراب على مدار قرون راكمت غبارها على قيمة هائلة المعنى للتراث الإنساني.هو لمسات الملك أمنحوتب الثالث (من ملوك الأسرة الـ18)، وإضافات الملك رمسيس الثاني (من ملوك الأسرة الـ19)، ويضع المؤرخون الأثريون احتمالاً أن النواة الأولى لهذا المعبد وضعت في عصر الدولة الوسطى، أراده الملك أمنحوتب، ليؤكد شرعيته للعرش بإثبات نسبه للإله آمون نفسه، كما فعلت حتشبسوت من قبله، فاستشار الكهنة بتسجيل ولادته المقدسة على جدران غرفة الولادة بالمعبد، وهذا ما أعطاه ميزة فاقت ملوك مصر السابقين ذوي العروق الملكية النقية، فهو ابن الإله آمون رع، ومن صلبه.. رضي الكهنة لأنه أقام لهم معبداً كبيراً يعلي شأن آمون العظيم، ولم يرفض الشعب، لأن الكهنة أعلم بأمور الدين! وتتالت أزمنة أخرى أضافت على المعبد ومحت، وحين وصل الأمر إلى رمسيس الثاني أضاف الفناء الكبير المفتوح ذا الأساطين، والأهم تماثيله الستة، ولأن المكان دال على تواتر عصور وديانات، فتوجد كنيسة أيضا بناها المسيحيون، لكن عظمة المكان بقيت بمنأى عن هذه التواترات والتوترات الحادثة عبر عصور متغيرة الأهواء، فتاريخ رمسيس الثاني باقٍ منقوش على واجهة الصرح الكبير الذي أقامه، هناك حكايات معاركه الحربية ضد الحيثيين في العام الخامس من عهده، خاصة معركة قادش، فتكتب الهيروغليفية المعركة شعراً يبدأ من الجناح الغربي وينتهي بالشرقي، فهناك يجلس رمسيس الثاني على عربته الحربية يرمي أعداءه الحيثيين بالسهام فيتساقطون صرعى، أما الأحياء فيفرون مذعورين، وعلى الواجهات المتعددة يحضر رمسيس الثاني بقوة، مرة مع زوجته، ومع الآلهة والآلهات، وفي مناسبات مختلفة. في صبيحة تالية أشار علينا المرشد السياحي بأهمية العبور إلى البر الغربي مبكراً، قبل أن تستيقظ الشمس أكثر، هناك وادٍ يضم مقابر ملوك وملكات ونبلاء.. وغيرهم ممن زحفت عليهم الآجال المحتومة، هم أمام الموت سواء، لكنهم في المقابر ليسوا سواء، فمقبرة الملك ليست كضريح الإنسان العادي.حينما اجتزنا الجسر كانت مياه النيل تكتب سفر حياة خالدة، والفلاحون يرسمون على ضفتي الماء أدوارهم في مسار هذا الخلود الذي كتبه الشاعر محمود حسن إسماعيل، وصدحت به موسيقى محمد عبدالوهاب وصوته في «النهر الخالد»، وقد رأيت نفسي في فيئه:
مسافر زاده الخيال 
والسحر والعطر والظلال
وكنت أحمل كل ذلك، مجتازاً الجمال المتماهي بين لوني الماء والزرع، وعربات تنقل تلالاً من قصب السكر، إلى هناك، حيث قسوة المكان، ورمز القداسة، الجبل الذي يبدو كهرم، وتحت سفوحه تبدو بدايات المتاهات المندسة في بطن الجبل أيقونات إدهاش، هؤلاء الذين انحازوا لحياة الخلود لم يختاروا مقابرهم داخل قصور من المرمر والعجائب التي يمكن أن تكتب على صفحة النيل، بل أيقنوا أن الصخر به منعة قادرة على حفظ كنوزه، لكنه الإنسان، الباحث عن مجده، وهو يجتاز تخوم أمجاد كتبتها أيادي أسلافه، وعزّ عليه أن يمنع نفسه عنها. أخذنا «الطفطف» جماعات إلى وادي بيبان الملوك، كما يعرف أيضاً، وادٍ استخدم عبر 500 سنة، خلال الفترة ما بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد، لتشييد مقابر الفراعنة ونبلاء «الدولة الحديثة»، التي امتدت من الأسرة الثامنة عشرة حتى الأسرة العشرين.
المكان يضم 63 مقبرة اكتشفت حتى الآن، والطموح مازال يقود بعثات التنقيب إلى المزيد، فما وجدوه من ذهب في مقبرة توت عنخ آمون يسيل اللعاب، لعل كنوزاً أخرى سلمت من تاريخ السرقات الذي مر على المنطقة أكثر من غيره من تواريخ.
في ممر ليس بضيّق عبرنا المكان هبوطاً، على الحائطين الجبليين يميناً ويساراً رسومات، كل واحدة منها تقول حكاية ما، الحروف القديمة من طائر وشمس وغيرهما تكتب التاريخ والعقائد الدينية والمراسم التأبينية، لكنها لوحات تشكيلية فرعونية حفظها الحجر، تماماً كالتابوت الصخري الهائل المدسوسة داخله جثة الملك/ الفرعون، والجرار التي تحفظ قلبه وسائر أعضائه، تنتظره ريثما تعود الروح مرة أخرى في مستهل رحلة الخلود. أي مجد سادر في تلك الأزمنة؟ الفلسفة السامقة برؤية اعتمدت الدهر أبداً لبقاء جسد ينتظر عودة الروح، مجد أبقته القبور درساً لمن جاء بعد آلاف السنين يفتش عن شيء من الماضي يعزز به قدرته على مواجهة اليوم، حينما يصبح الأمس كنزا، يستفاد منه في اليوم والغد، فأزاميل بعثات التنقيب لا تعرف الملل، وأصابع المنقبين لا تصاب بالكلل، ولا تخيفها لعنة الفراعنة، فمن يفطن إلى النقش المحفور في حضرة توت عنخ آمون: «سيضرب الموت بجناحيه السامين كل من يعكر صفو الملك»؟! أشار المرشد السياحي بأصابعه من بعيد إلى فوهات المقابر، ثماني مقابر فقط يمكن زيارتها، البقية مغلقة، وإن أردتم دخول مقبرة توت عنخ آمون فهناك المزيد من الرسوم، ربما لأن الإنجليز يعتزون بمواطنهم كارتر، مكتشفها عام 1922، ولذلك هم الأكثر رغبة في دخولها، أما البقية فلا، يدخل السائح ومعه «المرشد»، بل عليه أن يذهب بصمت، ويخرج من دهليز الصمت سريعاً، حيث لا يتسع المكان للأعداد الكثيرة.. ولا للضجيج! نقاوم حرارة الشمس، برغم أنها في بدايات الربيع، لكن الفراعنة اختاروا النأي عن ضجيج البشر الأحياء، وكان المرشد السياحي (عمر) يجلس تحت مظلة اصطناعية خُصصت للاستراحة، يستريح إلى فيئها السياح، بين مجيء وذهاب، يكمل قليلا بعض الشرح عن أهمية المكان، خاصة في علاقته مع السينما، حيث الرهبة والإثارة والغموض وحكايات الشرق القديم، اختارت السينما الأميركية ثيمة المغامرة لإنتاجها عام 1945 فيلم «وادي الملوك»، وبعده بعشرة أعوام أنتجت فيلماً آخر.. بالعنوان نفسه، وفي عام 1980 قدمت فيلم الاستيقاظ، لكن تعود علاقة السينما بالمكان إلى ما قبل ذلك، ففي عام 1938 أنتج فيلم أمريكي بعنوان «مصر القديمة» مدته تسع دقائق، سرد عملية اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون. على الضفة الأخرى من الصحراء يوجد معبد حتشبسوت، المخصص لعبادة إله الشمس آمون رع، فخامة المعمار وكبرياء الأنثى، المكان صارخ في طبيعته القاسية، لا أثر للون الأخضر سوى جذع أثري بالغ الصغر يقال إنه ما تبقى من شجرة قديمة زُرعت في المكان ضمن ما أحضرته الملكة من بلاد بونت، أيام المجد الحتشبسوتي، قالت للكهنة إنها رأت في الحلم أن الآلهة تريدها لحكم مصر، وبنت لهم معبداً على خلفيته يقع ذلك الحائط الصخري الشاهق، كأنه الحارس الأبدي للمكان، بقي يجابه عوامل التعرية، مع أن حائطه لا يبدو بتلك المتانة العصية على جريان الدهر. صعدت مستويات عدة يتكون منها المعبد لأصل إلى أعلى بقعة فيه، شرفة المعبد بأعمدتها العديدة والطويلة، تلك الشرفة لم يكن يصلها سوى الخاصة وذوي المراتب العليا، في طبقتهم الملكية أو الدينية، وداخل المعبد توجد قاعة الشمس والمذبح والمعبد الصغير، صممه سينيموت ليكون فريداً، وبعد آلاف السنوات يقف شاهداً على فخامة البناء، برغم أن بعض أعمدته تهاوت، لكن ما بقي يظل باذخ الإشارة إلى الإنسان وهو يضع ذاته ككائن مقدس، فنقوش الجدران تروي قصة ولادة مقدسة للملكة، وما بلغته البلاد خلال حكمهما من مجد خاصة رحلاتها التجارية إلى بلاد بونت المعروفة الآن بدولة الصومال الحديثة أو شبه الجزيرة العربية. وكان وادي الملوك ومعبد حتشبسوت يعيشان يومياتهما كشأنهما يومياً مع آلاف البشر الزائرين، المستقرئين لعظمة حضارة مرت على أرض النيل ذات حين من الدهر، ونحن نبتعد عنه بين المزارع وحقول القصب التي تحمل حصادها العربات أحمالا، واللون الأخضر يتدثر بما تبقى من شتاء يزحف عليه ربيع «الصعيد»، لكن بين ثنايا الاخضرار بدا أمامنا تمثالان منعزلان كأنهما خارج السياق، صخريان مدهشان، وحولهما الزرع، قيل لنا إنهما تمثالا ممنون. في زمن ما اعتقد الإغريق عند دخولهم مصر أن أحدهما يغني مع شروق الشمس بما أثار مخيلة بعض شعرائهم ليكتبوا سورة الحنين، تحية روح الامبراطور أجامنون لأمه كل صباح، روح البطل الأسطوري وقائد الجيش، لم يفطنوا إلى أن تصدع الحجر يستوجب الأنين أيضاً، وأن الشقوق التي يعبرها الهواء تصبح بمنزلة الناي، القادر على رواية ما حدث لهذا المعبد الجنائزي القديم لأمنحوتب الثالث، كان التمثالان بوابة المعبد، وحتى يتدارك أحد أباطرة الرومان عدم سقوط التمثالين بسبب عوامل التعرية قام بسدّ الشقوق، حينها توقف الصخر عن الأنين.. أو أن روح أجامنون كفّت عن تحية أمه. كانت شمس ما بعد الظهيرة تنسكب بحيوية الضوء على نصف غرف السفينة، لكنها مع شغفها بالمغيب اليومي تعطي لساكني هذه الغرف النظر إلى الغروب حتى وهم يتمددون على أسرّتهم، يبقى الماء لوحة دائمة أمام أعينهم، تعبرها شموس وأشرعة ومراكب صيد ونوارس، وكان المسير صوب مدينة إدفو، قيل إن الوصول إليها بعد الثانية عشرة ليلا، وكان اللقاء الحميم بين السفينة ومرساها كافياً ليقول استيقظوا، فسكنى غرفة على اليابسة لا يشبه غرفة تحملها سفينة تسير على الماء بين مدينة وأخرى، وكان صوت أم كلثوم يغالب جلبة شارع، يا إلهي، كيف يمكنك تخيل أن غرفتك التي غفوت وهي تطل على ماء وهناك على ضفة اليابسة تلوح منارة مسجد.. لتجدها، حينما تستيقظ، أمام محلات تجارية يفصلك عنها رصيف صغير وشارع تجوبه الحناطير.. وجلبة ركض الخيول التي تجرها، والبشر؟!
 كان قاع السفينة، المطعم الذي يكاد الماء يطفو فوق نافذته، يعج بحيوية مختلفة، هاجس الترحال على درب «عذب»، وعلى بوابة المرسى وقف «الحنطور» خلف سابقه ينقل السياح إلى معبد آخر يروي حكاية أخرى في ملحمة الحضارة الفرعونية. في ساحة معبد إدفو شاهدت للمرة الأولى مواقف مخصصة لعربات الحناطير، وليس للسيارات، امتداد يتسع للمئات منها، وعبر خطوات تحت شمس «الصعيد» أخذنا دربنا للمعبد المشيد في العصر البطلمي عام 237 قبل الميلاد، وكان الإله حورس بطل الملحمة، معبده الفخم الذي بناه بطليموس الثالث، وجاء بطليموس الرابع ليكمل البناء، واكتمل البناء والزخرفة عام 57 قبل الميلاد، ليبقى من أهم المعابد المصرية القديمة وأجملها.تفاءلت بعودة السياحة، بتلك الحشود الداخلة بما يزحم المكان، عودتها تعني نهوضاً اقتصادياً لبلد يضم ثلث آثار العالم تقريباً، ونهضته قاطرة لنهوض عربي، كانت اللغات متداخلة على ألسنة المرشدين السياحيين، وهم يتخذون من تنوع اللغات مصدر رزق، وكانت تماثيل حورس تتعدد أيضاً وتتنوع، مرة صخرية هنا وهناك، ومرات نقوشاً على الحيطان، فتأخذك الغرف على الجوانب لتصل إلى آخرها، هناك لا يصل إلا من أوتي سعة في الملك والدين، كشأن كل المعابد الأخرى. فيما كانت السفينة تيمّم وجهها شطر أسوان توقفت قليلاً، وكان المساء ينثر ورده على الماء، قال لنا المرشد السياحي إن هذه كوم أمبو، وإن هنا معبد آخر، تركه أجدادنا، على مدخله كان الحاوي يراقص أفاعي الكوبرا، يقبّلها طالباً من السياح المتحلقين حوله أن يفعلوا مثله، التحلي بالشجاعة قبل دخول معبد، كأنما الكوبرا ستخرج من نقوش الأعمدة المتشابهة مع غيرها الشامخة في معابد المحروسة مصر، لكن هنا رأينا معبد التماسيح، هذه التي جاءت من تلك الأزمنة أيضاً، محنطّة، فنهر النيل كان يضم بين مفرداته التماسيح الشرسة، قبل أن يمنعها السد العالي من السباحة في مياهه وصولا إلى القاهرة. خصص المعبد للإلهة سوبك والإله حورس الأكبر، وعبر مدخلين متطابقين يمكن فهم عمق التعبير عن احترام ذلك الارتباط المقدس بين الآلهة.. ومن المدخلين العبور إلى قاعات الأعمدة والمزارات المقدسة، ولأنه واقع على نتوء في منحنى نهر النيل، فإنه كان تجمعاً للتماسيح في تلك العصور، بما يصنع تماثلاً مع طبيعة أدوار هذه الزواحف المتوحشة في أجندة الكهنة المصريين القدامى. وقبل أن تلتحف أسوان بمنتصف عباءتها من الليل وصلنا إليها، ودعتنا في صبيحة اليوم التالي إلى تجربة أخرى، قارب صغير يعمل بمحرك، انتظرنا على مرسى صغير، في بدايته كان عازف ربابة يشدو بلغته النوبية، إنما نوبي آخر أوصلنا بقاربه إلى معبد فيلة على جزيرة أجيليكا، تاريخ مثير، كيف يمكن نقل كل هذا من مكانه الأصلي، من جزيرته التي حملت اسمه؟ كيف استجابت الإلهة إيزيس لخطوة «اليونسكو» لنقل المعبد الغارق بسبب بناء السد العالي، ليقطّع آلاف القطع فتنقل حسب أرقامها، ويشيد المعبد من جديد؟
في الطريق إلى السد صبيحة اليوم التالي، أشار السائق إلى تمثال كأنما يشير إلى معلم عادي يمكننا التعرف عليه، قال إن هذا تمثال عباس محمود العقاد، وذلك ضريحه.. لا يعلم هذا الرجل أنني واقع في حبّ تاريخ هذا الرجل، عبقرياته، شخصيته، آراؤه في المرأة، معاركه الأدبية، طلبت منه أن يتوقف، أن أقترب منه، ولو بالوقوف أمام تمثاله، أو على باب الضريح، حيث هناك قامة لم تمت، وإن ضمها اللحد.
ماذا فعل السد العالي بمصر، ماذا أفادها، وبماذا أضرها؟ وجب عليّ أن أحجز أسئلتي وراء السد إذ أجتازه، رؤية على منفذه حيث النهر يهب مصر الماء، والمولدات الكهربائية تمنحها الكهرباء، وعلى الجانب الآخر بحيرة ناصر، ممتدة نحو 500 كيلومتر، خارجة من الجغرافية المصرية، شامخ هذا العالي يمنع عن المحروسة أخطار الفيضانات، ويحجب عنها شدائد الجفاف، ولا مجال للأسئلة المضادة للفوائد. تذكرتُ حينها «الهويس» الذي أسمع به أول مرة، حيث عبرناه. في المسافة بين الأقصر وأسوان عايشت تجربة فريدة، كيف تعبر السفينة لحظة ميلاد شعرت بها لتعبر مأزق اختلاف مستويي ماء النهر، فمستوى الماء خلف الباب الخشبي العملاق أمام السفينة يكاد يفيض، ونحن بين حائطين ضخمين، خلفنا باب آخر، والانتظار طال، والسفينة واقفة، كأنما الباب لا يفتح لنا خشية الغرق، إنما زحف الماء بسلاسة تحت أقدام السفينة فعلتْ تدريجياً، حتى كنا في مستوى الماء خلف الباب العملاق. وفي فترة الانتظار ما قبل دخولنا «الهويس»، كان الباعة على قواربهم يعرضون الملابس على السياح المترقبين فوق سطح السفينة، ما أبعد المسافة تبدو، لكن خبرة البائع تجعل الرمية تخرج من يده إلى سطح السفينة بكل يسر، كيس من النايلون يحمي الملابس داخله من البلل، وإما تعود أدراجها مرة أخرى إليه بعدم رغبة السائح في الشراء، وإما أنه يستقبل الكيس وبه المبلغ، حصيلة «الفصال».. بين البائع والمشتري. 
وكرّت مسبحة التجارب مرة أخرى. في عصرية ما قبل الختام قادتنا «الفلوكة» إلى جزيرة النباتات، وكان الهواء «طرياً» بما يكفي لدفع الشراع، وعلى لوح صغير كان صبيان يدفعان الماء للوصول إلى القوارب الشراعية، ليس لبيع الملابس أو التذكارات هذه المرة، ولكن للغناء «المدفوع الأجر»، لغة نوبية صافية كصفاء النيل.. وبسيطة كبساطة كل شيء حولنا. نظرت إلى المراكب الشراعية وخلفها تلال الرمل، كأنما الصحراء ترسم خلفية الجفاف على صفحة النيل، إنما مصر «هبة» النيل، وقد رأيتها هذه المرة.. كأنما لم أرها من قبل ثلاثين مرة! .