الغيطاني حارس الفلسفة والتصوف في الرواية العربية

يا من تمضي، ستعود..
يا من تنام، سوف تصحو..
يا من تموت، سوف تُبعث فالمجد لك.
(كتاب الموتى 1500 ق.م)
يُشكل رحيل الفنان أو المبدع، في أي زمان، وأي مكان، خسارة للوطن الذي ينتمي إليه، ورحيله يساوي رحيل مساحة من الجمال والإبداع، وبغيابه تغيب عوالم كثيرة، كان ينبغي أن تُضاف إلى هذا الكون الإنساني المحدود.
أقبل علينا هذا الشاب السمهري، الذي تبرق طلعته خلف نظارته الطبية، تدرج بسرعة في العمل الحكومي حتى أصبح مفتشاً عامّاً على مصانع السجاد، هذا الموظف البسيط، يأتيك في تؤدةٍ ورزانة، كان طويل القامة، معتدل السمت، عظيم الهامة، حسن الطلعة واللحية حليقة، والشارب معتدل مهذب، تعلوه سُمرة في وجهه، وزبيبة سوداء من أثر السجود، لا يلتفت إذا مشى يمنة أو يسرة، يضوع المسك من أردانه على القرب، وعلى البعد، حيث يشع الأرج إذا خرج من بيته، فتعرف أنه القادم إليك... فإذا طالعك ودنا منك، رأيت رجلاً عليه بزة بسيطة، لكنها فاخرة، تباهي بذوق صاحبها في قماشها وطرازها، اجتمع فيه ذوق البائع والمشتري.
إنه الكاتب والروائي جمال الغيطاني ابن مركز جهينة بصعيد مصر.
في لحظة من اللاوعي، وخارج حدود الزمن، رحل عنا هذا الروائي المصري، فوقفت مشدوهاً، مضطرباً، فتشت عنه في سراديب الجبل، وفي قِصاع الأطعمة المهجورة، كنت تواقاً إلى رؤيته، عبر مؤلفاته الكثيرة، فرأيته كهلاً، تغلب السُمرة على سحنته الصعيدية، يرقد- كعادته - خلف نظارة طبية ذات «شنبر» عريض، ورأسه الذي يمتلئ بالفكر يرقد بين فودين تعملق الشيب فيهما وأشعلا حريقاً، هو يأتي من بعيد يحمل على ظهره عقوداً كثيرة من العمر، هو «سبعيني»، هو الإنسان الذي عاش ألف عام، هو كذلك، قل ما شئت، فأنت في كل المواضع صائب، لقد صال جمال الغيطاني وجال، ثم غادر، هكذا الحياة جولات وصولات، فمغادرة، لا بقاء في الدنيا، هي فترة نشاط أو صراع، يعقبها هجعة إلى أمد، كثيرون مروا من هنا، وغادروا، فهذا الـــــ «غيطاني»، نعده حارساً أميناً لـــ «موروث التراث في الرواية العربية»، يخرج بصوته المجلجل، الجهوري، يصرخ في وجه الأوضاع الثقافية المتردية، فقال عنه الشاعر الدكتور علاء عبدالهادي رئيس اتحاد كتاب مصر؛ ليؤكد تلك الخصلة التي تأصلت بكيان هذا المبدع:
«برحيل المبدع جمال الغيطاني، تكون الرواية المصرية والعربية قد خسرت صوتاً متفرداً، لا يتكرر كثيراً، ومجدداً في الحِراك الثقافي والسياسي، أيضاً».
ومن المقولات الشهيرة للراحل، التي صدرت على لسانه، من سنوات: «جئنا إلى الدنيا، وسنمضي عنها، وسنترك آخرين، يأملون في قدوم الأيام السعيدة».
الكاتب والروائي جمال الغيطاني انتقل للرفيق الأعلى، صباح الأحد، الموافق 18 أكتوبر 2015، بعد معاناة مع المرض استمرت أشهراً عدة ، ورحيله يُعد خسارة حقيقية لدنيا الكلمة، وبغيابه تنطوي صفحة سبعين عاماً من النضال على الصعيدين الوطني والإبداعي، وما يضاعف من الشعور بالفقد لرحيل هذا المبدع أنه لم يكن أديباً ضليعاً فحسب، وإنما كان بارعاً في مناح ٍ كثيرة، القصة القصيرة، والرواية، والمقالات الصحفية، والدراسات والأبحاث النقدية... إلخ.
وفي وداع جنائزي مهيب، حزناً وأسفاً، شيَّع المصريون الطيبون، بقلوب منفطرة، فارس الكلمة، وحارس الذاكرة، جمال الغيطاني.
فلسفة وتصوف
الثابت، أن الغيطاني، - برؤية النقاد - تأثر أيما تأثر بالموروث الثقافي الثري لإعلام المتصوفة، واجترح لغة أقطاب التصوف، وفي مقدمتهم النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي، كان «صاحب موقف صوفي حيال الموت»، ولعل عمله الثقافي الإبداعي الكبير «التجليات» من أهم أعماله التي تحوي تبصراته وتأملاته في رحلة المسير والمصير الإنساني.
وبروحه الإيمانية استقر في وجدان الغيطاني قول الحق {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة لقمان ، آية 34) لقد انشغل الغيطاني في كتاباته الأخيرة بفكرة «الوداع» كما يتجلى في «دفتر الدفاتر»، الذي تضمن عنوانين دالين: «في وداع أشياء» و«في وداع أماكن».
فبصيغة إبداعية متفردة جمع الغيطاني بين تقنيات صانع السجاد والمعماري الفيلسوف والمتصوف العاشق، مع نزعة غلابة نحو البحث عن الخصوصية، في حين رأى أن «اللغة حالة وليست أسلوباً، وهي تتغير من عمل لآخر، بينما يجاهد مع اللغة ويكتشفها وتكتشفه».
كما نجد الغيطاني يلجأ إلى نصوص لبعض كبار المتصوفة، لافتاً إلى أن أسلوبه الخاص يأتي على نحو يضارع لغة المتصوفة أنفسهم، بحيث لا يمكن للقارئ أن يميز بين نصوص الغيطاني ونصوص الصوفية المقتبسة إلا من خلال الإشارة إلى صاحبها، التي يضعها الغيطاني أسفل النص.
وبينما يرى أن «التصوف أعلى مستويات اللغة» واختار «كتاب الوجود» عنواناً لأحد نصوصه، لا يخلو نص من نصوص الغيطاني الكثيفة المقتضبة من أسئلة الوجود بصورة تمزج ما بين الأدب والفلسفة، أو على حد قول الناقد د. سعيد توفيق: «إننا نجد أنفسنا إزاء نص أدبي ممتزج بطابع فلسفي صوفي».
والروائي جمال الغيطاني هو صاحب الابتسامة الوادعة الودودة والهدوء المطمئن والفخر الدائم بأن جذوره تغوص عميقاً في حواري منطقة الجمالية.
الكاتب الشجاع
من المعارك التي خاضها الغيطاني، تلك التي أشعل فتيلها عبر أحد تصريحاته السابقة بجريدة الأهرام، عندما قال إنه دفع الكثير ثمناً لصراحته حول حقيقة الأوضاع الثقافية المتردية التي تمر بها البلاد، فلم يكن يوماً محسوباً على «شلة» وزير، أو ممن رافق رجال الدولة المرضيِّ عنهم، كان يشعر بأنه في حالة حرب لا تنتهي، وزاد لهيب المعارك، وتأجج أوار النار، عندما وقف الغيطاني على ربوة عالية، يبصر مصر كلها، يصرخ بأعلى صوته، ينبّه ويحذر من اقتياد «الإخوان» لبعض الشباب الثوري إلى هاوية الوقيعة مع الجيش، والإساءة له، لقد فند لهم ادعاءات الإخوان وأذنابهم، وروى وقائع من التاريخ التي توثق أواصر العلاقة القوية بين الشعب المصري وجيشه عبر التاريخ.
الغيطاني... ذاكرة نجيب محفوظ
الكل يعرف تمام المعرفة ما كان يربط الأستاذ بتلميذه، فتلك العلاقة هي من أهم الملامح التي شكلت حياته الثقافية، فقد كان الغيطاني من مريدي نجيب محفوظ، فهما أبناء حي واحد «حي الجمالية»، كما كان الغيطاني يلتحف برداء واحد هو ونجيب محفوظ، فقد كانا مولعين بالتراث المصري التاريخي والإنساني، هذا بالإضافة إلى اللمحة الصوفية المتينة التي كانت قاسماً مشتركاً بينهما.
فمن كلمات الغيطاني التي تقاوم النسيان: «التحديات التي أمارسها بقلمي، هي ذاكرة نجيب محفوظ».
أعمال وإبداع
ليس ثم أجمل من المعرفة المارّة بالكتب، والحال أنها أكثر متانة وأكثر صدقاً من أي نسق في المعارف الأخرى... لم يتسن لي لقاء الكاتب جمال الغيطاني على المستوى الشخصي، غير أن الدنو منه تحقق من طريق منجزه، وفي هذا حظ وافر بلا ريب، فمن أعماله التي ستظل سامقة في سماء الأدب العربي نذكر:
أوراق شاب عاش منذ ألف عام، الزويل، حراس البوابة الشرقية، متون الأهرام، شطح المدينة، منتهى الطلب إلى تراث العرب، سفر البنيان، حكايات المؤسسة، التجليات (ثلاثة أسفار)، دنا فتدلى، نثار المحو، خلسات الكرى، الزيني بركات (تحولت إلى مسلسل ناجح بطولة أحمد بدير)، رشحات الحمراء، نوافذ النوافذ، مطربة الغروب، وقائع حارة الزعفراني، الرفاعي، رسالة في الصبابة والوجد، رسالة البصائر والمصائر، الخطوط الفاصلة (يوميات القلب المفتوح)، أسفار المشتاق، سفر الأسفار، نجيب محفوظ يتذكر، مصطفى أمين يتذكر، المجالس المحفوظية، أيام الحصر، مقاربة الأبد، خطط الغيطاني، وقائع حارة، الطبلاوي، هاتف المغيب، قصتان في الكتاب الخامس لمنتدى إطلالة الأدبي، توفيق الحكيم يتذكر.
جوائز وأوسمة
عبر مسيرة حافلة بالإبداع والتفرد، حصل الغيطاني على جوائز عديدة، من مصر، ومن خارجها... أهمها:
جائزة الدولة التشجيعية في الرواية 1980م
جائزة الصداقة العربية 1994
جائزة سلطان العويس 1997م
جائزة الشيخ زايد 2009 م
جائزة «جرينزانا أنا كافور» 2006 للأدب الإيطالي، وجائزة الدولة التقديرية وأخيراً... جائزة النيل للأدب عام 2015م.
نعم، فاضت روح الغيطاني عن جسده الذي أضناه المرض، ونخره الداء بعد نضال ومقاومة مستميتة، وها هي ذي روحه النقية تسبقنا متخفية، ما أمكن من الودائع والأمانات، لقد ترك لنا كل شيء في دفاتره، وغادر حتى دون الحاجة إلى وصية.
وكلمتي الأخيرة أقولها، وقلبي ينفطر من الحزن، ولكنها إرادة الله:
«وداعاً جمال الغيطاني.. وإلى المُلتقى»! .
الغيطاني بجوار عبدالرحمن الأبنودي ونجيب محفوظ