الغيطاني حارس الفلسفة والتصوف في الرواية العربية

الغيطاني  حارس الفلسفة والتصوف في الرواية العربية

يا‭ ‬من‭ ‬تمضي،‭ ‬ستعود‭..‬

يا‭ ‬من‭ ‬تنام،‭ ‬سوف‭ ‬تصحو‭..‬

يا‭ ‬من‭ ‬تموت،‭ ‬سوف‭ ‬تُبعث‭ ‬فالمجد‭ ‬لك‭. ‬

‭(‬كتاب‭ ‬الموتى‭ ‬1500‭ ‬ق‭.‬م‭)‬

يُشكل‭ ‬رحيل‭ ‬الفنان‭ ‬أو‭ ‬المبدع،‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زمان،‭ ‬وأي‭ ‬مكان،‭ ‬خسارة‭ ‬للوطن‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه،‭ ‬ورحيله‭ ‬يساوي‭ ‬رحيل‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬والإبداع،‭ ‬وبغيابه‭ ‬تغيب‭ ‬عوالم‭ ‬كثيرة،‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الإنساني‭ ‬المحدود‭.‬

أقبل‭ ‬علينا‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬السمهري،‭ ‬الذي‭ ‬تبرق‭ ‬طلعته‭ ‬خلف‭ ‬نظارته‭ ‬الطبية،‭ ‬تدرج‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الحكومي‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬مفتشاً‭ ‬عامّاً‭ ‬على‭ ‬مصانع‭ ‬السجاد،‭ ‬هذا‭ ‬الموظف‭ ‬البسيط،‭ ‬يأتيك‭ ‬في‭ ‬تؤدةٍ‭ ‬ورزانة،‭ ‬كان‭ ‬طويل‭ ‬القامة،‭ ‬معتدل‭ ‬السمت،‭ ‬عظيم‭ ‬الهامة،‭ ‬حسن‭ ‬الطلعة‭ ‬واللحية‭ ‬حليقة،‭ ‬والشارب‭ ‬معتدل‭ ‬مهذب،‭ ‬تعلوه‭ ‬سُمرة‭ ‬في‭ ‬وجهه،‭ ‬وزبيبة‭ ‬سوداء‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬السجود،‭ ‬لا‭ ‬يلتفت‭ ‬إذا‭ ‬مشى‭ ‬يمنة‭ ‬أو‭ ‬يسرة،‭ ‬يضوع‭ ‬المسك‭ ‬من‭ ‬أردانه‭ ‬على‭ ‬القرب،‭ ‬وعلى‭ ‬البعد،‭ ‬حيث‭ ‬يشع‭ ‬الأرج‭ ‬إذا‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬بيته،‭ ‬فتعرف‭ ‬أنه‭ ‬القادم‭ ‬إليك‭... ‬فإذا‭ ‬طالعك‭ ‬ودنا‭ ‬منك،‭ ‬رأيت‭ ‬رجلاً‭ ‬عليه‭ ‬بزة‭ ‬بسيطة،‭ ‬لكنها‭ ‬فاخرة،‭ ‬تباهي‭ ‬بذوق‭ ‬صاحبها‭ ‬في‭ ‬قماشها‭ ‬وطرازها،‭ ‬اجتمع‭ ‬فيه‭ ‬ذوق‭ ‬البائع‭ ‬والمشتري‭.‬

إنه‭ ‬الكاتب‭ ‬والروائي‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬ابن‭ ‬مركز‭ ‬جهينة‭ ‬بصعيد‭ ‬مصر‭.‬

في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬اللاوعي،‭ ‬وخارج‭ ‬حدود‭ ‬الزمن،‭ ‬رحل‭ ‬عنا‭ ‬هذا‭ ‬الروائي‭ ‬المصري،‭ ‬فوقفت‭ ‬مشدوهاً،‭ ‬مضطرباً،‭ ‬فتشت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬الجبل،‭ ‬وفي‭ ‬قِصاع‭ ‬الأطعمة‭ ‬المهجورة،‭ ‬كنت‭ ‬تواقاً‭ ‬إلى‭ ‬رؤيته،‭ ‬عبر‭ ‬مؤلفاته‭ ‬الكثيرة،‭ ‬فرأيته‭ ‬كهلاً،‭ ‬تغلب‭ ‬السُمرة‭ ‬على‭ ‬سحنته‭ ‬الصعيدية،‭ ‬يرقد‭- ‬كعادته‭ - ‬خلف‭ ‬نظارة‭ ‬طبية‭ ‬ذات‭ ‬‮«‬شنبر‮»‬‭ ‬عريض،‭ ‬ورأسه‭ ‬الذي‭ ‬يمتلئ‭ ‬بالفكر‭ ‬يرقد‭ ‬بين‭ ‬فودين‭ ‬تعملق‭ ‬الشيب‭ ‬فيهما‭ ‬وأشعلا‭ ‬حريقاً،‭ ‬هو‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬عقوداً‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬سبعيني‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬هو‭ ‬كذلك،‭ ‬قل‭ ‬ما‭ ‬شئت،‭ ‬فأنت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المواضع‭ ‬صائب،‭ ‬لقد‭ ‬صال‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬وجال،‭ ‬ثم‭ ‬غادر،‭ ‬هكذا‭ ‬الحياة‭ ‬جولات‭ ‬وصولات،‭ ‬فمغادرة،‭ ‬لا‭ ‬بقاء‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬هي‭ ‬فترة‭ ‬نشاط‭ ‬أو‭ ‬صراع،‭ ‬يعقبها‭ ‬هجعة‭ ‬إلى‭ ‬أمد،‭ ‬كثيرون‭ ‬مروا‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬وغادروا،‭ ‬فهذا‭ ‬الـــــ‭ ‬‮«‬غيطاني‮»‬،‭ ‬نعده‭ ‬حارساً‭ ‬أميناً‭ ‬لـــ‭ ‬‮«‬موروث‭ ‬التراث‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬يخرج‭ ‬بصوته‭ ‬المجلجل،‭ ‬الجهوري،‭ ‬يصرخ‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الأوضاع‭ ‬الثقافية‭ ‬المتردية،‭ ‬فقال‭ ‬عنه‭ ‬الشاعر‭ ‬الدكتور‭ ‬علاء‭ ‬عبدالهادي‭ ‬رئيس‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬مصر؛‭ ‬ليؤكد‭ ‬تلك‭ ‬الخصلة‭ ‬التي‭ ‬تأصلت‭ ‬بكيان‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭:‬

‮«‬برحيل‭ ‬المبدع‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬تكون‭ ‬الرواية‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية‭ ‬قد‭ ‬خسرت‭ ‬صوتاً‭ ‬متفرداً،‭ ‬لا‭ ‬يتكرر‭ ‬كثيراً،‭ ‬ومجدداً‭ ‬في‭ ‬الحِراك‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي،‭ ‬أيضاً‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬المقولات‭ ‬الشهيرة‭ ‬للراحل،‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬على‭ ‬لسانه،‭ ‬من‭ ‬سنوات‭: ‬‮«‬جئنا‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا،‭ ‬وسنمضي‭ ‬عنها،‭ ‬وسنترك‭ ‬آخرين،‭ ‬يأملون‭ ‬في‭ ‬قدوم‭ ‬الأيام‭ ‬السعيدة‮»‬‭.‬

الكاتب‭ ‬والروائي‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬انتقل‭ ‬للرفيق‭ ‬الأعلى،‭ ‬صباح‭ ‬الأحد،‭ ‬الموافق‭ ‬18‭ ‬أكتوبر‭ ‬2015،‭ ‬بعد‭ ‬معاناة‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬استمرت‭ ‬أشهراً‭ ‬عدة‭ ‬،‭ ‬ورحيله‭ ‬يُعد‭ ‬خسارة‭ ‬حقيقية‭ ‬لدنيا‭ ‬الكلمة،‭ ‬وبغيابه‭ ‬تنطوي‭ ‬صفحة‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬النضال‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الوطني‭ ‬والإبداعي،‭ ‬وما‭ ‬يضاعف‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالفقد‭ ‬لرحيل‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أديباً‭ ‬ضليعاً‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬بارعاً‭ ‬في‭ ‬مناح‭ ‬ٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬والرواية،‭ ‬والمقالات‭ ‬الصحفية،‭ ‬والدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬النقدية‭... ‬إلخ‭.‬

وفي‭ ‬وداع‭ ‬جنائزي‭ ‬مهيب،‭ ‬حزناً‭ ‬وأسفاً،‭ ‬شيَّع‭ ‬المصريون‭ ‬الطيبون،‭ ‬بقلوب‭ ‬منفطرة،‭ ‬فارس‭ ‬الكلمة،‭ ‬وحارس‭ ‬الذاكرة،‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭.‬

 

فلسفة‭ ‬وتصوف

الثابت،‭ ‬أن‭ ‬الغيطاني،‭ - ‬برؤية‭ ‬النقاد‭ - ‬تأثر‭ ‬أيما‭ ‬تأثر‭ ‬بالموروث‭ ‬الثقافي‭ ‬الثري‭ ‬لإعلام‭ ‬المتصوفة،‭ ‬واجترح‭ ‬لغة‭ ‬أقطاب‭ ‬التصوف،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬النفري‭ ‬وابن‭ ‬عربي‭ ‬وجلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي،‭ ‬كان‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬موقف‭ ‬صوفي‭ ‬حيال‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬ولعل‭ ‬عمله‭ ‬الثقافي‭ ‬الإبداعي‭ ‬الكبير‭ ‬‮«‬التجليات‮»‬‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬تحوي‭ ‬تبصراته‭ ‬وتأملاته‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬المسير‭ ‬والمصير‭ ‬الإنساني‭.‬

وبروحه‭ ‬الإيمانية‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الغيطاني‭ ‬قول‭ ‬الحق‭ {‬وَمَا‭ ‬تَدْرِي‭ ‬نَفْسٌ‭ ‬بِأَيِّ‭ ‬أَرْضٍ‭ ‬تَمُوتُ‭  ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عَلِيمٌ‭ ‬خَبِيرٌ‭}‬‮ ‬‭(‬سورة‭ ‬لقمان‭ ‬،‭ ‬آية‭ ‬34‭)‬‭ ‬لقد‭ ‬انشغل‭ ‬الغيطاني‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬الأخيرة‭ ‬بفكرة‭ ‬‮«‬الوداع‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬الدفاتر‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬تضمن‭ ‬عنوانين‭ ‬دالين‭: ‬‮«‬في‭ ‬وداع‭ ‬أشياء‮»‬‭ ‬و«في‭ ‬وداع‭ ‬أماكن‮»‬‭.‬

فبصيغة‭ ‬إبداعية‭ ‬متفردة‭ ‬جمع‭ ‬الغيطاني‭ ‬بين‭ ‬تقنيات‭ ‬صانع‭ ‬السجاد‭ ‬والمعماري‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والمتصوف‭ ‬العاشق،‭ ‬مع‭ ‬نزعة‭ ‬غلابة‭ ‬نحو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الخصوصية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬حالة‭ ‬وليست‭ ‬أسلوباً،‭ ‬وهي‭ ‬تتغير‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬لآخر،‭ ‬بينما‭ ‬يجاهد‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬ويكتشفها‭ ‬وتكتشفه‮»‬‭.‬

كما‭ ‬نجد‭ ‬الغيطاني‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬لبعض‭ ‬كبار‭ ‬المتصوفة،‭ ‬لافتاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أسلوبه‭ ‬الخاص‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يضارع‭ ‬لغة‭ ‬المتصوفة‭ ‬أنفسهم،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬نصوص‭ ‬الغيطاني‭ ‬ونصوص‭ ‬الصوفية‭ ‬المقتبسة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬صاحبها،‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬الغيطاني‭ ‬أسفل‭ ‬النص‭.‬

وبينما‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التصوف‭ ‬أعلى‭ ‬مستويات‭ ‬اللغة‮»‬‭ ‬واختار‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الوجود‮»‬‭ ‬عنواناً‭ ‬لأحد‭ ‬نصوصه،‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬نص‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬الغيطاني‭ ‬الكثيفة‭ ‬المقتضبة‭ ‬من‭ ‬أسئلة‭ ‬الوجود‭ ‬بصورة‭ ‬تمزج‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والفلسفة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬سعيد‭ ‬توفيق‭: ‬‮«‬إننا‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬إزاء‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬ممتزج‭ ‬بطابع‭ ‬فلسفي‭ ‬صوفي‮»‬‭.‬

والروائي‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬الابتسامة‭ ‬الوادعة‭ ‬الودودة‭ ‬والهدوء‭ ‬المطمئن‭ ‬والفخر‭ ‬الدائم‭ ‬بأن‭ ‬جذوره‭ ‬تغوص‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬حواري‭ ‬منطقة‭ ‬الجمالية‭.‬

‭ ‬الكاتب‭ ‬الشجاع

من‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬الغيطاني،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أشعل‭ ‬فتيلها‭ ‬عبر‭ ‬أحد‭ ‬تصريحاته‭ ‬السابقة‭ ‬بجريدة‭ ‬الأهرام،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬دفع‭ ‬الكثير‭ ‬ثمناً‭ ‬لصراحته‭ ‬حول‭ ‬حقيقة‭ ‬الأوضاع‭ ‬الثقافية‭ ‬المتردية‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬البلاد،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يوماً‭ ‬محسوباً‭ ‬على‭ ‬‮«‬شلة‮»‬‭ ‬وزير،‭ ‬أو‭ ‬ممن‭ ‬رافق‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬المرضيِّ‭ ‬عنهم،‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حرب‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬وزاد‭ ‬لهيب‭ ‬المعارك،‭ ‬وتأجج‭ ‬أوار‭ ‬النار،‭ ‬عندما‭ ‬وقف‭ ‬الغيطاني‭ ‬على‭ ‬ربوة‭ ‬عالية،‭ ‬يبصر‭ ‬مصر‭ ‬كلها،‭ ‬يصرخ‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته،‭ ‬ينبّه‭ ‬ويحذر‭ ‬من‭ ‬اقتياد‭ ‬‮«‬الإخوان‮»‬‭ ‬لبعض‭ ‬الشباب‭ ‬الثوري‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬الوقيعة‭ ‬مع‭ ‬الجيش،‭ ‬والإساءة‭ ‬له،‭ ‬لقد‭ ‬فند‭ ‬لهم‭ ‬ادعاءات‭ ‬الإخوان‭ ‬وأذنابهم،‭ ‬وروى‭ ‬وقائع‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬التي‭ ‬توثق‭ ‬أواصر‭ ‬العلاقة‭ ‬القوية‭ ‬بين‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬وجيشه‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭.‬

 

الغيطاني‭... ‬ذاكرة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ

الكل‭ ‬يعرف‭ ‬تمام‭ ‬المعرفة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يربط‭ ‬الأستاذ‭ ‬بتلميذه،‭ ‬فتلك‭ ‬العلاقة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الملامح‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬حياته‭ ‬الثقافية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الغيطاني‭ ‬من‭ ‬مريدي‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬فهما‭ ‬أبناء‭ ‬حي‭ ‬واحد‭ ‬‮«‬حي‭ ‬الجمالية‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الغيطاني‭ ‬يلتحف‭ ‬برداء‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬فقد‭ ‬كانا‭ ‬مولعين‭ ‬بالتراث‭ ‬المصري‭ ‬التاريخي‭ ‬والإنساني،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬اللمحة‭ ‬الصوفية‭ ‬المتينة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قاسماً‭ ‬مشتركاً‭ ‬بينهما‭.‬

فمن‭ ‬كلمات‭ ‬الغيطاني‭ ‬التي‭ ‬تقاوم‭ ‬النسيان‭: ‬‮«‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬أمارسها‭ ‬بقلمي،‭ ‬هي‭ ‬ذاكرة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‮»‬‭.‬

‭ ‬

 

أعمال‭ ‬وإبداع

ليس‭ ‬ثم‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬المارّة‭ ‬بالكتب،‭ ‬والحال‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬متانة‭ ‬وأكثر‭ ‬صدقاً‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نسق‭ ‬في‭ ‬المعارف‭ ‬الأخرى‭... ‬لم‭ ‬يتسن‭ ‬لي‭ ‬لقاء‭ ‬الكاتب‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الدنو‭ ‬منه‭ ‬تحقق‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬منجزه،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬حظ‭ ‬وافر‭ ‬بلا‭ ‬ريب،‭ ‬فمن‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬ستظل‭ ‬سامقة‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬نذكر‭:‬

أوراق‭ ‬شاب‭ ‬عاش‭ ‬منذ‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬الزويل،‭ ‬حراس‭ ‬البوابة‭ ‬الشرقية،‭ ‬متون‭ ‬الأهرام،‭ ‬شطح‭ ‬المدينة،‭ ‬منتهى‭ ‬الطلب‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬العرب،‭ ‬سفر‭ ‬البنيان،‭ ‬حكايات‭ ‬المؤسسة،‭ ‬التجليات‭ (‬ثلاثة‭ ‬أسفار‭)‬،‭ ‬دنا‭ ‬فتدلى،‭ ‬نثار‭ ‬المحو،‭ ‬خلسات‭ ‬الكرى،‭ ‬الزيني‭ ‬بركات‭ (‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مسلسل‭ ‬ناجح‭ ‬بطولة‭ ‬أحمد‭ ‬بدير‭)‬،‭ ‬رشحات‭ ‬الحمراء،‭ ‬نوافذ‭ ‬النوافذ،‭ ‬مطربة‭ ‬الغروب،‭ ‬وقائع‭ ‬حارة‭ ‬الزعفراني،‭ ‬الرفاعي،‭ ‬رسالة‭ ‬في‭ ‬الصبابة‭ ‬والوجد،‭ ‬رسالة‭ ‬البصائر‭ ‬والمصائر،‭ ‬الخطوط‭ ‬الفاصلة‭ (‬يوميات‭ ‬القلب‭ ‬المفتوح‭)‬،‭ ‬أسفار‭ ‬المشتاق،‭ ‬سفر‭ ‬الأسفار،‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬يتذكر،‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬يتذكر،‭ ‬المجالس‭ ‬المحفوظية،‭ ‬أيام‭ ‬الحصر،‭ ‬مقاربة‭ ‬الأبد،‭ ‬خطط‭ ‬الغيطاني،‭ ‬وقائع‭ ‬حارة،‭ ‬الطبلاوي،‭ ‬هاتف‭ ‬المغيب،‭ ‬قصتان‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬الخامس‭ ‬لمنتدى‭ ‬إطلالة‭ ‬الأدبي،‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬يتذكر‭.‬

جوائز‭ ‬وأوسمة

عبر‭ ‬مسيرة‭ ‬حافلة‭ ‬بالإبداع‭ ‬والتفرد،‭ ‬حصل‭ ‬الغيطاني‭ ‬على‭ ‬جوائز‭ ‬عديدة،‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬ومن‭ ‬خارجها‭... ‬أهمها‭:‬

جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التشجيعية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬1980م

جائزة‭ ‬الصداقة‭ ‬العربية‭ ‬1994

جائزة‭ ‬سلطان‭ ‬العويس‭ ‬1997م

جائزة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬2009‭ ‬م

جائزة‭ ‬‮«‬جرينزانا‭ ‬أنا‭ ‬كافور‮»‬‭ ‬2006‭ ‬للأدب‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وجائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬وأخيراً‭... ‬جائزة‭ ‬النيل‭ ‬للأدب‭ ‬عام‭ ‬2015م‭.‬

نعم،‭ ‬فاضت‭ ‬روح‭ ‬الغيطاني‭ ‬عن‭ ‬جسده‭ ‬الذي‭ ‬أضناه‭ ‬المرض،‭ ‬ونخره‭ ‬الداء‭ ‬بعد‭ ‬نضال‭ ‬ومقاومة‭ ‬مستميتة،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬ذي‭ ‬روحه‭ ‬النقية‭ ‬تسبقنا‭ ‬متخفية،‭ ‬ما‭ ‬أمكن‭ ‬من‭ ‬الودائع‭ ‬والأمانات،‭ ‬لقد‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬دفاتره،‭ ‬وغادر‭ ‬حتى‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬وصية‭.‬

وكلمتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬أقولها،‭ ‬وقلبي‭ ‬ينفطر‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬ولكنها‭ ‬إرادة‭ ‬الله‭:‬

‮«‬وداعاً‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني‭.. ‬وإلى‭ ‬المُلتقى‮»‬‭! ‬.

الغيطاني‭ ‬بجوار‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الأبنودي‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ