الشاعرة أمينة المريني: أَجودُ الشِّعر وأَصدُقه ما ينبثق من سراديب الدهشة
تعتبر الشاعرة المغربية أمينة المريني من طينة الشاعرات اللواتي بصمن المشهد الشعري المغربي والعربي بصوتها الشعري وبإسهاماتها الشعرية الفريدة، إبداعًا وإنشادًا، فقد استطاعت التجربة الإبداعية لشاعرتنا، بما راكمته من دواوين شعرية لافتة، أن تشدّ إليها أنظار القراء والنقاد والدارسين، وقد اخترق صداها عديد الجغرافيات واتسعت دائرة تلقيّاتها وتنوعت، مما جعل أشعارها محط دراسات، وضعتها جنبًا إلى جنب مع شاعرات عربيات كبيرات، من قبيل فدوى طوقان ونازك الملائكة وسعاد الصباح، وغيرهن.
تعرف الشاعرة أمينة المريني بإسهاماتها المؤثرة في تحريك المشهد الشعري العربي وإثرائه وتطويره؛ فهي الطالعة من سلالة عريقة، ومن أسرة أصيلة، حافظة للشعر ومتذوقة له، بشكل جعلها تنخرط كليًّا في الجو الروحاني لمدينتها فاس، وتفتتن بمآذنها وبمزاراتها وطقوسها الدينية، فحصل أن تمكنت من ناصية الشعر في سنّ مبكرة؛ إذ حفظت ألف بيت من الشعر، ثم تملّكت بحوره، فتملكتها القصيدة، فأرهف ذلك حاستها الموسيقية، هي التي تمرست - منذ وقت مبكر - على طقوس الكتابة وخبرت تضاريسها الصعبة واكتشفت أسرارها، في مزاوجتها باقتدار بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، بعيدًا عن أي تعصّب لهذا الاتجاه أو ذاك، وفي تنويع جميل في موضوعات قصائدها وقضاياها ورؤاها وصورها وموسيقاها، مما أضفى على تجربتها الشعرية تميزًا خاصًا وأكسبها عمقًا جماليًّا ودلاليًّا وبُعدًا روحيًا.
تمتح الشاعرة المريني من التجربة الإنسانية بشكل عام، في أبعادها وملامحها الإسلامية والوطنية والسياسية والصوفية والروحية والاجتماعية والذاتية والوجدانية والنفسية والأخلاقية، في نشدان أشعارها للمطلق وللحقيقة والرؤية العرفانية والحب الإنساني والعشق الإلهي، وفي اكتواء شاعرتنا بقضايا العصر والحياة وهموم الناس، وفي إصغائها لآلامهم وأوجاعهم، وأيضًا في تعبيرها عن أحوالهم وآمالهم، فكان للأمة وللمرأة نصيب لافت في أشعارها، بمثل ما امتدت قصيدتها في الأمكنة التاريخية العتيقة، من فاس إلى القدس، ومن البوسنة إلى العراق، مرورًا بغيرها من الأمكنة الساخنة والملتهبة.
خنساء المغرب
الشاعرة المريني التي تلقب بـ اخنساء المغربب، عضوة في عديد الجمعيات والروابط العربية والإسلامية، من بينها ارابطة الأدب الإسلامي العالميةب، حازت جوائز من داخل المغرب وخارجه، من بينها اجائزة الثقافة والإعلام بفاسب. ومن بين إصداراتها الشعرية العديدة، نذكر اورود من زناتةب، واحرة في ظل الإسلامب واسآتيك فردًاب، واالمكابداتب، واالمكاشفاتب، وغيرها.
في هذا الحوار الماتع، نسافر مع شاعرتنا في بعض عوالم الكتابة الشعرية، وقضاياها وتحولاتها، بشكل يقرّبنا من مسارها الإبداعي الطافح بالتنوع والتميز والدهشة.
< بدأت رحلتك مع كتابة الشعر منذ زمن مبكر، فهل لك أن تحدثينا عن البدايات، وعن أهم الموجهات الذاتية والموضوعية والبيئية، التي دفعت بك نحو معانقة القصيدة بدل الكتابة داخل أجناس تعبيرية أخرى، لها هيمنتها هي أيضًا في الساحة الأدبية العربية والعالمية؟
- كل كاتب لا ينشأ من فراغ، فهو نبتة تنمو داخل بيئة عامة وظروف خاصة، تشكل فكره وتصوره للحياة... ولربما لا أستطيع أن أتحدث عن علاقتي بالشعر إلا إذا تحدثت عن عمرين لهذا الشعر؛ عمر بيولوجي وآخر كوني.
فأما الأول، فيتعلق بالدوافع التي أسست لبدايات النشأة والتربية، والثاني ضارب في أعماق الزمن وفي ثنايا الروح. إن أي عمل أدبي لابد أن تشده إلى بدايته جذور أشد عمقًا وتنوعًا، بصر بها الكاتب أم لم يبصر، فحين نقرأ أي كاتب لا نقرأه إلا ذاتًا في خضم تفاعلاتها ومرجعياتها البعيدة، التي دفعته لأن يعانق أي جنس أدبي، قصيدة كان أو غيرها.
الشعر موسوم بذات هذه الشاعرة مذ كانت طفلة، فمنذ بداياتي البعيدة وجدتني أحب الشعر وأنشده بطريقة مختلفة عن رفاقي إنشادًا يشد معلمي. وكان للوالدة دور كبير في توجيهي الأدبي. فقد كانت حفّاظة جيدة للشعر متذوقة له، ولعلها مارست على ذلك الجذب الروحي الذي جعلني أحفظ الشعر بتلقائية وأتذوقه بحب وأفهمه بسليقة متناهية. إنها الفتنة القصيّة التي ساقتني من محاضني الأولى لأجوس في أفياء الشعر. ولولا هذا الحب العميق الطبعي للشعر، الذي كان موردي الأول الذي رشفته داخل الأسرة وفي المدرسة خلال ستينيات القرن الماضي، لما كنت هذا الكائن الشعري الذي ربط عمره بخيوط القصيدة.
وأمر عادي أن يكون الكاتب خلاصة إرثه الخاص وبيئته التي عاش فيها. فوعيه الجماعي لا يمكن إلا أن يربطه بزمانه ومكانه، اللذين أترعاه سلامة قلب وصفاء نفس. أنا ابنة المغرب الأصيل، وابنة فاس مدينة الألف مئذنة، درجت بين حواريها تطالعني قباب المساجد صباح مساء، وبين أهليها الطيبين تنسّمت عبق كل جميل، هناك فتحت كتاب الشعر، إذ قرأت الشعراء قديمهم وحديثهم وحفظت من الأشعار خلاصتها، واطّلعت على تراث أدبي حافل، كل هذه مرجعيات فتقت في روحي حبها الأزلي للشعر.
حفظتُ ألف بيت
< تعرفين في الوسط الأدبي، بكونك قارئة نهمة للشعر العربي والعالمي، ولنظريات الشعر قديمها وحديثها، وهذا ما يظهر بشكل ضمني أو مباشر في أشعارك، فهل لك أن تقربينا من بعض المؤثرات التي ساهمت في توجيهك وفي تهذيب ذوقك الشعري، وخصوصًا تلك التي استفدت منها في بناء تجربتك الشعرية الثرية، وساعدتك في استيعاب معاني الحياة، وفي تكوين تصور خاص بك عن الكون والإنسان والحب والوطن في أشعارك؟
- عطفًا على ما سبق، أقول إن البدايات كانت مع الشعر العربي، ذلك أنني لست قارئة فحسب، ولكنني كنت حفّاظة لعيونه. وأذكر أنني خلال سنة واحدة حفظت ألف بيت من الشعر القديم، وكنت أجد في ذلك متعة كبرى.
ولم تخلُ مسيرتي من توجيهات أساتذتي خلال الدراسة الثانوية والعليا. وما زلت أذكر ملاحظات بعضهم على تجاربي الأولى، وهي ملاحظات كانت تضعني دائمًا على محكّ التجربة، وتفتح لي بابًا جديدًا في الكتابة الشعرية. ويحضرني في تجربتي هذه أستاذي المرحوم د. محمد الدناي الذي درسنا العروض بطريقة تعتمد على السماع لا على القواعد الجامدة. وكان انبهاري بالتقطيع الصوتي بابًا آخر تفتّح أمامي لأنصرف إلى التجريب بنفسي، ولأتذوق موسيقى الشعر وأفهم الفروق بين بحوره.
لقد أحسست وكأني عثرت على بناء موسيقي باذخ من الألحان تمتد جذوره من عمق التاريخ ومن ترانيم الصحراء وهمسها وصخبها نحو قلبي التواق إلى تلك الموسيقى العربية اللامتناهية، وهكذا شرعت أميّز بين موسيقى البحور، وأتلمس زحافاتها وعللها دون معرفة أسمائها، لأكتب أول نص عمودي كان على بحر الكامل.
وتوالى التجريب في البيت والبيتين حتى قطعت علاقتي بقصيدة النثر التي كانت أول عهدي بالكتابة الشعرية وبعدها، لأجمع قصائدي العمودية الأولى في ديواني الأول اورود من زناتةب، الذي أعتبره في تقديري تمارين شعرية، ويستمر كلفي بالشعر فأقرأ شعراء بعينهم، كصلاح عبدالصبور والسياب ونازك الملائكة، وأقرأ ترجمات شعرية لجوته وجلال الدين الرومي.
وما زلت أيضًا أذكر أنني انخرطت في فترات من حياتي في الاطلاع على بعض المصنفات الأدبية الكبرى، من قبيل طبقات الشعراء والبيان والتبيين والشعر والشعراء، وبعض مؤلفات شوقي ضيف وطه حسين وأحمد أمين، مما كان يحتفل به الدارسون في السبعينيات من القرن الماضي.
مدينة تسكن الذات
< استوحيت في دواوينك مجموعة من المدن العربية والأجنبية، في نوستالجيتها وسخونتها، من بينها فاس تحديدًا؛ مدينة النشأة والعلم والأصالة والمآذن والتراث والطقوس الدينية والجو الروحاني البديع، فهل لك أن تقربينا من طبيعة تمثّلك الشعري للمدينة بشكل عام، في أبعادها وتجلياتها الإبداعية المختلفة؟
- لولا الانعكاس الذي يشبه إلى حد كبير عملية المرآة لما حضرت بعض المدن العتيقة التي استوطنت خيالي أو كياني في تجربتي الشعرية. وأمر طبيعي أن أستمد شعري من هذه الأمكنة التي تقبع في أعماق خيالي أو في سراديب اللاشعور أو في ثنايا الروح، وأستطيع أن أتبين حضور القدس ومكة المكرمة في تجربتي بشكل لافت. أما فاس، فقد كانت المدينة التي تسكن الذات، لدرجة أنني أحسست أنها الأم الثانية التي ألهمتني الشعر. هكذا أمسكت بي فاس من تلابيبي لتكون حاضرة القلب والروح، والملاك الذي يحفزني على القول الشعري.
لقد ثوت هذه المدينة في الأعماق إلى أن طفرت فجأة في ديواني اخرجت من هذه الأرخبيلاتب، ذلك الديوان الذي كان ديوان فاس بامتياز، والذي لخّص علاقتي القوية بالمكان إلى درجة أن أقول في أول ورقة منه االمكان أنا...ب، بل أن أعتبر فاس البيت القديم الذي يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية، حسب تعبير كاستون باشلر، بل أن أعتبر فاس النهاية المحيطة لكونها استكمالًا لأجسام متحركة وغاية تحريكها، على تعبير ابن رشد.
واسطة العقد
هكذا اعتبرت فاس أرخبيلاتي الأولى التي خرجت منها، فحضرت قصائد تبدأ بكلمة الخروج، يليها ذكر بعض أبواب فاس وحواريها التاريخية، كباب أبي الفتوح وباب الحمراء وباب السلسلة وزقاق الرمان وباب المحروق والرصيف، إلى جانب حضور شخوص مؤثرة ظلت ماثلة في وعيي، كشخص الأب والأم والجيران وعسالة المرأة الزاهدة، فضلًا عن المساجد والبيوت التقليدية وساحات اللعب والسطوح ذات الحدائق والأصص الزاهرة.
لقد كانت فاس في وعيي المدينة المغلقة المعلّقة التي لم نكن نعرف أن وراء شبابيكها الضيقة وكواتها الصغيرة، عالمًا أفسح هو العالم الذي سيجر القلب يومًا ما لأغادر الأرخبيلات، لأصور في قصيدتي االحلاج يخرج من رأس الجنانب، وهو الحي الذي ولدت فيه، شغب الطفلة التي كُنتها لمعرفة ما وراء أسوار فاس وأقول: يا هذا الدرب الموغل في الفتنة والإشراق /يا هذا الواقف فوق دم مهراق /كان الدرب سماء خاوية تلهو في حلم الطفل المجنون وتخترق الأعماق.
ولا غرو أن المدينة التي حضرت في الديوان المذكور هي مدينة الحلم ومدينة الماضي ومدينة الذكرى التي كانت في وقت من الأوقات واسطة العقد بين المدن التاريخية العريقة.
تدرّج طبيعي
< تعرفين بكونك من الشاعرات الأصيلات المبدعات داخل القصيدة العمودية والمنتصرات لها، دون أن تهجري بقية الاتجاهات الشعرية الأخرى أو تتنكري لها (قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر)، وأيضًا دون أن يعرف عنك أنك تتعصبين لهذا الاتجاه دون غيره، فما الذي تمثّله القصيدة العمودية بالنسبة إليك في زمننا هذا، أي في وقت يحارب فيه الشعر العمودي بعضُ من يستعصي عليهم الإبداع فيه، إذ يتم ذلك عندهم بشكل غير مقنع وغير مسنود بأي فكر نقدي أو معرفي يبرر هذا التهجم؟
- بدأت تجربتي بقصيدة النثر، ومنها إلى القصيدة العمودية ثم إلى التفعيلة، وظللت أزاوج بين الأخيرتين. وأعتقد أن التدرج في توظيف أدوات الشعر تدرّج طبيعي، فلكل فترة أدواتها الشعرية، وكثير من الشعراء بدأوا بالقصيدة العمودية وأحدثوا فتوحات محمودة في قصيدة النثر (الشاعر المغربي محمد السرغيني مثلًا)، بينما أحس بعضهم أن قصيدة النثر قد دخلت قوالب معيارية مستوردة، فبدأ يتجه نحو الجذور.
وفي تقديري أن تجربة أدونيس مثلًا، لا يشكّل النثر إلا جزءًا منها، بينما ألقه الشعري كان في قصائد موزونة، ويجب ألا ننظر إلى أن الكتابة بالوزن تقليد، وأن كتابة النثر محض تجديد، فالوزن ليس معيارًا مطلقًا لكتابة النص، والنثر لا يحقق شعرية القصيدة إلا بأدوات كالصورة واللغة والرؤية، فالأمر في اعتباري محسوم، ذلك أن الشاعر يكتب ذاته ولذاته، ويجب ألا يلتفت إلى ما قد يحدث حوله من ضوضاء.
مزايدة فارغة
الشعر هو الشعر خارج الأشكال، فقد تكون القصيدة العمودية نظمًا باردًا فتصبح بذلك نثرًا، وقد يصبح النثر شعرًا بأدوات داخلية أهمها اللغة، فهو على رأي هيدجر (الشعر لا موطن له إلا في اللغة)، وقد سبق نقادنا إلى ذلك، فالجاحظ يرى أن (الشعر صياغة وضرب من التصوير) والجرجاني الذي وقفت طويلاً عند رأيه، واستلهمت منه بعض أساليب الكتابة قد أفحم في قضية النظم، فالشاعر من قدّم وأخّر وعرّف ونكّر وحذف وأضمر وأعاد وكرر، وهو هنا يتحدث عن بناء الجملة، أي عن لغة تضمن شعرية النص، والاستعارة عنده مثلاً تكون أتم بيانًا إذا لم تبن، والكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوضح من التصريح، فإذا خرج الشعر عن لغته الشعرية التي هي موطن الهزة، كما يرى البعض، والمنطقة الجياشة بالفتنة، فالنص مجرد قطع خزف؛ سواء كان عموديًّا أو تفعيليًّا أو نثريًّا.
إن الدخول في صدامات من أجل شكل القصيدة هو ضرب من العبث والمزايدة الفارغة، فالأولى أن يعكف الشاعر على أدواته ليصقلها ويغديها، وأن يبتعد عن النظر المتطرف والعدائي للأشكال، وهناك شعراء كتبوا قصيدة النثر عن دراية وفكر نقدي عميق، بينما بعضهم انطلقوا نحوها متحررين من تقاليد اللغة، متمردين على القوالب (في زعمهم)، لكنهم كانوا أشبه بضربة سيف طائشة، ذلك أنهم لم يعوضوا عما رفضوه بإمكانات فنية جديدة، مما جعل هذا النوع من الكتابة يجانب الجوهر الحقيقي لشعرية قصيدة النثر.
اختلاف فنيّ
< سؤال يرتبط بسابقه، ففي ضوء تجريبك البديع والمبدع بين أكثر من تيار شعري، كيف تحددين زمنك الشعري ورؤيتك الشعرية، أو بتعبير آخر، ما مفهومك للحداثة الشعرية، في ظل تدرّجك في أدوات الشعر المختلفة، وما الاتجاه الذي يستجيب اليوم لأفق انتظارك الشعري؟
- أشرت سابقًا إلى أن لكل فترة أدواتها، والشاعر يمر بمحطات شعرية ويتدرج في تجربته انطلاقًا من متطلبات عصره ومن قدراته، ومن ثمّ فأنا أعتقد أن تجربتي انطلقت من ديوان اورود من زناتةب وانتهت إلى سبعة دواوين شعرية ينتظمها خيط واحد، وتمر بأرض شعرية تختلف تضاريسها من محطة إلى أخرى، هذا هو خيط الرؤية الشعرية الذي يمتد عبر هذه الأرض منسابًا صامتًا صاخبًا منعرجًا مستويًا، وبالضبط الذي يجعلني لا أكتب نصًّا واحدًا، بل لكل ديوان سمته الجديد.
ولعل الرؤية الشعرية التي يجب أن يختزنها الشاعر، والتي تكون كلًّا منسجمًا داخل نصه، ويقدم من خلالها رؤيته للعالم، هي الطبقة المائية التي تختزنها التضاريس التي تمر منها تجربتي، والتي هي بالتأكيد مختلفة بين ديوان وآخر.
وأشير هنا إلى أن نظرتي إلى الشعر تتلخص في أن الشاعر يجب أن يحمل فكرة يتبناها فكريًّا وجماليًّا، ثم يحفر بعمق مجرى نهره ليفتح في الوقت المناسب نوافذ رؤياه على كوى جديدة قطعًا، وبذلك يحقق اختلافًا فنيًّا.
أما بالنسبة إلى الحداثة، فهي في تقديري يجب أن تمتح من التراث الذي باستطاعته أن يقدم للشاعر إمكانات جمالية كبيرة، والنشاز في رأيي أن بعض الأصوات التي تعلن القطيعة مع المرجع والانتماء تتغذى من فتات سيطرة أدبية غريبة واستهلاك بضاعة الشاعر الغربي، مما يوقع في تبعية مقيتة، فلا معنى أن يرفض الشاعر العربي الماضي ويقاطعه، ويستهلك في الوقت نفسه بضاعة غريبة عنه.
وقد اشترط إليوت في أي شاعر ينوي كتابة الشعر أن تتوافر لديه حاسة تاريخية لا يكتب من خلالها وفي عظام جيله فقط، بل تفرض عليه أن يعتبر أدب أوربا كله منذ هوميروس ممتلكًا وجوديًّا معاصرًا واحدًا، فتراثنا الشعري يسمح بمنجزات عظيمة نخلق من خلالها لحظة انسجام بين الماضي والحاضر.
قصيدة كونية
< عطفًا على السؤالين السابقين، تعرفين أيضًا في المشهد الشعري المغربي والعربي بنزعتك الصوفية في أشعارك، وبتفرّدك بهذا الأسلوب الشعري في مشهدنا الشعري المغربي، فهل انشدادك إلى هذه النزعة، في بداياتك كما في راهنك الشعري، هو نتيجة لانكفائك على الذات في شبه انزواء عن الدنيا، أم هو استجابة لحالة لا شعورية عبر الاحتماء بالقصيدة العرفانية أو الوجدانية أو الكونية، كما تسمينها، أم هو رد فعل ضد خيبة أمل من تجربة معيشة وهروب من واقع كان يطلب دمك في مرحلة سابقة؟
- المتتبع لتجربتي منذ بداياتها الأولى سيجد هذا المنزع في بعض نصوص اورود من زناتةب، ثم برزت بشكل فطري في ديوان اسآتيك فردًاب، الذي بدأته قبل رحلة العمرة في تسعينيات القرن الماضي، ثم أكملته بعدها، وقد تركت هذه الرحلة سماتها في الديوان.
فالتجربة إذًا كامنة في أعماق الروح، تنتظر أن تطفر تحت أي ظرف، ولها وشائج قوية بما نشأت عليه داخل أسرة محافظة، وفي حي يعج بالمساجد والزوايا، كل هذا جعلني كائنًا صوفيًّا ينتظر أن يحلّق متى دُعي إلى ذلك، أضف إلى ذلك أنني وجدت أن القصيدة العرفانية التي أعتبرها قصيدة كونية، هي ما يناسب تصوري للشعر، وإيماني بالهدف من كتابته، وقد قال شاعر (وهذا يرعبني كثيرًا):
وما من كاتب إلا سيفنى
ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء
يسرُّك في القيامة أن تراه
نعم، أغوص بين الفينة والأخرى في عوالم الذات، وحين تقوى لديّ تتعمق عندي ينابيع التجربة الصوفية، وهكذا عبرت بوعي أو دونه إلى القصيدة الصوفية لأجد فيها الملاذ الروحي وحاجات جمالية شتّى، وإشراقات لا تخلو من مكابدة وكشف، فالقصيدة الصوفية معبر نحو السعادة، والخيال الخلاق هو الوسيلة إلى السمو من الجمال الأرضي نحو الجمال الكوني، والبحث عن اللانهائي، وربما الاعتبار من الظاهر بالباطن على حد قوله تعالى افاعتبروا يا أولي الأبصارب (سورة الحشر - من الآية 2).
إن القصيدة الصوفية صعود نحو سماء روحانية وانعتاق من القبح والطين والأسر المادي، وبحث عن الجمال الأعلى والعودة إلى المحل الأرفع، على حد تعبير ابن سينا.
اشتغال لافت
< في قصائدك الصوفية، نلمس اشتغالاً لافتًا على اللغة، أو ما تسمينه أنت بـ «قصيدة ثانية داخل القصيدة»، فهل لك أن تقربينا من طبيعة اشتغالك على اللغة في أشعارك الصوفية، بما أنها تكتسي لديك خصوصية ما، تميّزك عن شعراء آخرين يكتبون القصيدة الصوفية نفسها؟
- الكتابة في تقديري هي تجربة فردية وعالم ومشروع ورسالة لأي كاتب، وهي خلاصة حياته بما فيها من نزعات ودوافع غامضة، ولذلك فأيّ كاتب يخلق لغته وخياله من النبع الذي ينبجس لديه.
في القصيدة هناك تقنيات كثيرة، المعمار، البداية، النهاية، التفاصيل، اللغة، الرؤية، كل هذا الخضم لا أستطيع حتى الساعة أن أتبين بوعي كيف يتمازج ويتسق ليصبح نصًّا صوفيًّا له خصائص الاختلاف عن سابقيه، تشتغل فيه جذوة الفتنة والحيوية حتى في القصي والعصيّ، والفظ والمشاكس، فقد يسوقني النص إلى موقع لم أكن أتوقعه، لكن ربما كان له وجود قوي في اللاشعور، وربما كل ذلك يتعلّق بالبصيرة الشعرية التي يختزنها الشاعر، والتي هي خلاصة تجربته وتكوينه.
فهي إذا اللغة والفكرة والصورة ومدى تفاعله مع ما حوله، وفي النهاية لا مناص من التأكيد بأن النص الصوفي عندي ينبثق من صدق مع الذات وصداقة مع الفطرة، وكتابتها تمد بالقوة والنشوة والانتصار على الحياة، وتمسح القبح القائم في الواقع، وتمتن العلاقة بكل ما هو جميل وخير، زمن القذارة والظلم والإحباط، واللغة هي الأداة التي يمكن أن تشيد هذا المعمار.
لماذا نكتب؟
< يغلب على مجموعة من قصائدك تمثّلها لهموم الناس ولسلوكياتهم ونقدها للأخلاق المشينة، وتصويرها لغربة الإنسان في الحياة ولتناقضاته وضياعه وألمه وقهره وظلمه وفقره، وغيرها من الموضوعات والقضايا الذاتية والموضوعية التي تزخر بها قصائدك، في استنادها إلى حس إسلامي قوي متشبع بقيم الإسلام السمحة، فهل هذا كله وغيره نابع من مفهوم خاص لديك للشعر، في وقت تغيّر فيه العالم، وتبدلت فيه القيم، وسقط فيه كثير من القناعات؟
- لربما هذا السؤال يرتبط بسؤال آخر: لماذا نكتب؟ فالكتابة هي خبرة وتصور يدافع عنه الشاعر، وفكرة يؤمن بها، وهي التي تحرر من كل سلطة مادية سوى سلطة الشاعر الذي يؤثث وجوده بما يجب أن يكون، وما يجب أن يسود هو وجود آخر للإنسان لا ضياع فيه ولا ألم ولا قهر ولا ظلم ولا قبح، وبذلك تأتي الكتابة أحيانًا للانتصار للإنسان أينما كان.
وفي هذا الصدد قد أعيب على الشاعر أن يكتب بهدف أناني، صحيح، طبيعي أن يخلّد الشاعر نفسه وجيناته الفكرية والنفسية عن طريق ما يكتبه، وهنا تغدو الكتابة بابًا للخلود يتحدى النسيان، لكن الانكفاء على الذات واجترار دواخلها في ألم هامس أحيانًا قد لا يفيد شيئًا، فإذا كانت للشعر وظيفة نفسية بتعبيره عن الشاعر، فإن له وظيفة اجتماعية وأخلاقية أكبر يجب ألا نغفلها، وتلك اللذة الفنية التي تحدث عنها سارتر، والتي يمنحها الكاتب لقرائه، قد تتحقق وبشروط جمالية راقية، سواء عبّر الشاعر عن ذاته أو عن غيره. والفلاسفة المسلمون أنفسهم قرروا قديمًا أن (الشعر لذيذ ونافع يستخدم في أمور الجد وأمور اللهو...).
بُعد تكويني
< من يتابع تجربتك الشعرية وحواراتك وشهاداتك حول تجربتك وتجارب الآخرين، سرعان ما سيفطن إلى مدى ما تتسم به ثقافتك من اتساع وكثافة وتنوع وإدراك وتمثّل لقضايا الإبداع الشعري الإنساني، خلافًا لشعراء آخرين تعوزهم هذه الثقافة الموازية والضرورية لأي إبداع؛ أقصد هنا أحاديثك وآراءك وتصوراتك الموازية حول عديد القضايا والمفاهيم المتصلة بتجربتك الشعرية، أو بكتابة الشعر وفهمه وتلقّيه، وذلك في كونها أحاديث تتدثر بلغة واصفة عالية، يمتزج فيها النظري بالمعرفي والنقدي بالإبداعي، فهل لك أن تقربينا من هذا البعد التكويني الموازي لتجربتك الشعرية، في خلفياته ومرجعياته ومؤثراته؟
- لا أدّعي أنني قد أكون أكثر تمثّلًا للقضايا والمفاهيم من الآخرين، فالإصغاء إلى تجارب الناس وإلى تمثّلاتهم للمعرفي والإبداعي وتتبّعهم باهتمام، قد يكون عاملاً من عوامل البناء في هذا البعد التكويني، وأعتبر نفسي متتبعة جيدة لمن يهمني من الشعراء ولما يهمني من التجارب الأدبية، كما أن الاشتغال على أدوات الشعر لدى أي شاعر مهتم لابد من أن يوسع إدراكه للقضايا الإبداعية، إن الحاجة إلى تطوير الأدوات تتساوق والشعور بقيمة ما أنا فيه، فالشعراء الذين حرصوا على تحقيق قيمة شعرية مضافة لابد أنهم حفروا مجرى النهر عميقًا، وقد التفتّ بانتباه إلى بعضهم، كأدونيس ومحمد علي الرباوي ومحمد السرغيني وعبدالكريم الطبال، وهذا الحفر العميق للمجرى بعصامية وحرص مطلوب ليس في الإبداع فقط، ولكن في أي عمل إنساني.
أمر مجحف
< استطاعت كتاباتك الشعرية أن تشد إليها أنظار القراء والنقاد والدارسين، داخل المغرب وخارجه، فحظيت بعديد التلقيات والقراءات والتأويلات، ومن بينها دراسات وضعتك جنبًا إلى جنب مع شاعرات عربيات، من قبيل فدوى طوقان ونازك الملائكة وسعاد الصباح، وغيرهن، فما الذي أضافته هذه التلقيات لتجربتك الشعرية بشكل عام، وهل ساهم النقد في تطوير تجربتك الخاصة، وهل من تأثير مواز لها على مفهومك للشعر وللكتابة الشعرية؟
- ألتفت هنا أولًا إلى أولئك الطلبة الباحثين والأساتذة الدارسين الذين اهتموا بقراءة أعمالي وتدارسها، سواء في الدرس الأكاديمي أو غيره، وأهتبل هذه المناسبة لأحييهم من هذا المنبر الثقافي الكبير، فأغلبهم تجمعهم عروة واحدة، تتمثل في كونهم درسوا أعمالي دون أن يتعرفوا إليّ معرفة شخصية، مما انتفى معه ما يمكن أن يمارسه الشاعر على الناقد والمتذوق من عمليات التأثير والجذب، مما لا يصور الحقيقة الإبداعية كما هي.
والمعروف في كثير من الكتابات النقدية عن شعراء كثيرين أنها لا تخلو من محاباة، مما يقطع الطريق على المتلقي ليقترب اقترابًا حقيقيًّا من تجربة الشاعر، وكثيرًا ما يتلبس اسم الشاعر بتجربته فتصدر عليه أحكام مجانبة لحقيقة هذه التجربة، سواء في النقد أو في الجوائز التي عهدنا في كثير منها أن تعطى للاسم لا للعمل، وهو أمر مجحف في أمر الإبداع الأدبي عامة، أما ما كُتب عني وما أصغيت إليه في نقاشات أدبية كثيرة حول تجربتي، فقد قرّبني بوعي كبير منها، خصوصًا أن الوعي يغيب في كثير من الأحوال الشعرية عند الكتابة، لأن الكتابة عملية فطرية تتعلق بالموهبة، وهي لعبة غامضة محاطة بكثير من الأسرار، ولا تستطيع تفسير كيميائها في أثناء حدوثها، ولا يمكن للشاعر أن يتدخل في ما يكتبه في أثناء الكتابة ولا أن يوجه أوامر إلى وعيه.
ومن ثم تكون أجود الأعمال وأكثرها صدقًا وشفافية تلك التي تنبثق من سراديب مدهشة ومن عوالم داخلية بأشكال فنية غير مخطط لها مسبقًا، وتبقى للنقد فضيلته المتمثلة في كونه يضع الشاعر أمام مرآة ذاته، لكن هناك نقد جائر لم يسلم منه الشعراء، ذلك النقد الذي يحمّل التجربة ما لم يقصده الشاعر. ومن أطرف ما حدث لي في هذا الصدد أن ناقدًا ادّعى أنني في ديواني (سآتيك فردًا...) - وهو نصوص ثلاثية مركّزة - قد كنت أروّج لفكرة التثليث المسيحية، وهو الأمر الذي لم يخطر لي على بال، ولا يستحق بالطبع الرد عليه، بل يتنافى مع الرؤية التي تحكم الديوان.
الشّعر بخير
< حازت بعض أعمالك الشعرية بعض الجوائز المهمة، من المغرب وبعض الأقطار العربية، فما الذي تضيفه الجوائز عادة للمبدع، في وقت قلّت فيه جوائز الشعر، الذي هو ديوان العرب الأول، وكثرت فيه جوائز الرواية، وقد أصبحت ديوان العرب الجديد في نظر البعض؟
- أصنف الجوائز بحسب الهيئة التي تمنحها، فقيمتها من قيمة تلك الهيئة، فالجوائز ليست سواء، بعضها أفسد جمهور الشعر وتذوقه ولوّث المشهد بشكل عام، وبعضها فقد مصداقيته فلم يعد كثيرون يقيمون لها وزنًا، خصوصًا تلك التي تعطى للاسم قبل العمل، أو تلك التي تصنع فيها اللجان على مقاس ما تريده الهيئة المنظمة، وفي هذه الحالة لا تضيف الجائزة شيئًا إلى المبدع، وليس له إلا أن يتفرج على المهازل كيف تصاغ، بصفة عامة، عالَم كثير من الجوائز عالَم لا يسلم من الأذى.
< تعج الساحة الأدبية العربية بعديد الأصوات الشعرية، إلى درجة أضحى معها الأمر مزعجًا نوعًا ما، وذلك نتيجة استسهال مجموعة ممن يحسبون اليوم على الشعر لهذا النوع من الكتابة الصعبة والنبيلة، فما رأيك أنت في وضع كثر فيه الشعراء وقلّ فيه الشعر؟
- على الرغم من ذلك لا يزال الشعر بخير، ولا يمكن تضييق الخناق على أحد، خصوصًا أن الوسائط الإلكترونية قد شجعت ذلك وسهّلته، ما زلت أقرأ هنا وهناك ولمختلف الحساسيات الشعرية لشعراء جيدين، لا يمكن أن تخطئ الأذن شاعرًا مهما علا الصوت النشاز، وسيأتي اليوم الذي يكتب فيه التاريخ ما خرس عنه الواقع، لأنه هو المنصف الأول لمن لا منصف لهم من الشعراء.
لكن ما يجب أن نحذر منه، وما هو حاصل الآن، هو وجود دوائر كثيرة تشجع الرداءة بكل الأشكال، في وقت يتوارى فيه شعراء حقيقيون في الظل، فالمسؤولية جسيمة وتاريخية، ومن واجب المثقف أن يبتعد عن المحاباة مهما كان ظرفها، ولا يسدر في إضفاء المصداقية على شعراء لا مصداقية لهم .
د.عبدالرحيم العلام محاوراً الشاعرة أمينة المريني