الشاعرة أمينة المريني: أَجودُ الشِّعر وأَصدُقه ما ينبثق من سراديب الدهشة

الشاعرة أمينة المريني: أَجودُ الشِّعر وأَصدُقه ما ينبثق من سراديب الدهشة

تعتبر‭ ‬الشاعرة‭ ‬المغربية‭ ‬أمينة‭ ‬المريني‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬الشاعرات‭ ‬اللواتي‭ ‬بصمن‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬المغربي‭ ‬والعربي‭ ‬بصوتها‭ ‬الشعري‭ ‬وبإسهاماتها‭ ‬الشعرية‭ ‬الفريدة،‭ ‬إبداعًا‭ ‬وإنشادًا،‭ ‬فقد‭ ‬استطاعت‭ ‬التجربة‭ ‬الإبداعية‭ ‬لشاعرتنا،‭ ‬بما‭ ‬راكمته‭ ‬من‭ ‬دواوين‭ ‬شعرية‭ ‬لافتة،‭ ‬أن‭ ‬تشدّ‭ ‬إليها‭ ‬أنظار‭ ‬القراء‭ ‬والنقاد‭ ‬والدارسين،‭ ‬وقد‭ ‬اخترق‭ ‬صداها‭ ‬عديد‭ ‬الجغرافيات‭ ‬واتسعت‭ ‬دائرة‭ ‬تلقيّاتها‭ ‬وتنوعت،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬أشعارها‭ ‬محط‭ ‬دراسات،‭ ‬وضعتها‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬شاعرات‭ ‬عربيات‭ ‬كبيرات،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬فدوى‭ ‬طوقان‭ ‬ونازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وسعاد‭ ‬الصباح،‭ ‬وغيرهن‭.‬

تعرف‭ ‬الشاعرة‭ ‬أمينة‭ ‬المريني‭ ‬بإسهاماتها‭ ‬المؤثرة‭ ‬في‭ ‬تحريك‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬وإثرائه‭ ‬وتطويره؛‭ ‬فهي‭ ‬الطالعة‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬عريقة،‭ ‬ومن‭ ‬أسرة‭ ‬أصيلة،‭ ‬حافظة‭ ‬للشعر‭ ‬ومتذوقة‭ ‬له،‭ ‬بشكل‭ ‬جعلها‭ ‬تنخرط‭ ‬كليًّا‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬الروحاني‭ ‬لمدينتها‭ ‬فاس،‭ ‬وتفتتن‭ ‬بمآذنها‭ ‬وبمزاراتها‭ ‬وطقوسها‭ ‬الدينية،‭ ‬فحصل‭ ‬أن‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬ناصية‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬مبكرة؛‭ ‬إذ‭ ‬حفظت‭ ‬ألف‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬ثم‭ ‬تملّكت‭ ‬بحوره،‭ ‬فتملكتها‭ ‬القصيدة،‭ ‬فأرهف‭ ‬ذلك‭ ‬حاستها‭ ‬الموسيقية،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تمرست‭ - ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ - ‬على‭ ‬طقوس‭ ‬الكتابة‭ ‬وخبرت‭ ‬تضاريسها‭ ‬الصعبة‭ ‬واكتشفت‭ ‬أسرارها،‭ ‬في‭ ‬مزاوجتها‭ ‬باقتدار‭ ‬بين‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تعصّب‭ ‬لهذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬وفي‭ ‬تنويع‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬قصائدها‭ ‬وقضاياها‭ ‬ورؤاها‭ ‬وصورها‭ ‬وموسيقاها،‭ ‬مما‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬تجربتها‭ ‬الشعرية‭ ‬تميزًا‭ ‬خاصًا‭ ‬وأكسبها‭ ‬عمقًا‭ ‬جماليًّا‭ ‬ودلاليًّا‭ ‬وبُعدًا‭ ‬روحيًا‭.‬

تمتح‭ ‬الشاعرة‭ ‬المريني‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬وملامحها‭ ‬الإسلامية‭ ‬والوطنية‭ ‬والسياسية‭ ‬والصوفية‭ ‬والروحية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والذاتية‭ ‬والوجدانية‭ ‬والنفسية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬في‭ ‬نشدان‭ ‬أشعارها‭ ‬للمطلق‭ ‬وللحقيقة‭ ‬والرؤية‭ ‬العرفانية‭ ‬والحب‭ ‬الإنساني‭ ‬والعشق‭ ‬الإلهي،‭ ‬وفي‭ ‬اكتواء‭ ‬شاعرتنا‭ ‬بقضايا‭ ‬العصر‭ ‬والحياة‭ ‬وهموم‭ ‬الناس،‭ ‬وفي‭ ‬إصغائها‭ ‬لآلامهم‭ ‬وأوجاعهم،‭ ‬وأيضًا‭ ‬في‭ ‬تعبيرها‭ ‬عن‭ ‬أحوالهم‭ ‬وآمالهم،‭ ‬فكان‭ ‬للأمة‭ ‬وللمرأة‭ ‬نصيب‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬أشعارها،‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬امتدت‭ ‬قصيدتها‭ ‬في‭ ‬الأمكنة‭ ‬التاريخية‭ ‬العتيقة،‭ ‬من‭ ‬فاس‭ ‬إلى‭ ‬القدس،‭ ‬ومن‭ ‬البوسنة‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬مرورًا‭ ‬بغيرها‭ ‬من‭ ‬الأمكنة‭ ‬الساخنة‭ ‬والملتهبة‭.‬

 

خنساء‭ ‬المغرب

الشاعرة‭ ‬المريني‭ ‬التي‭ ‬تلقب‭ ‬بـ‭ ‬اخنساء‭ ‬المغربب،‭ ‬عضوة‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬الجمعيات‭ ‬والروابط‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬ارابطة‭ ‬الأدب‭ ‬الإسلامي‭ ‬العالميةب،‭ ‬حازت‭ ‬جوائز‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬اجائزة‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام‭ ‬بفاسب‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬إصداراتها‭ ‬الشعرية‭ ‬العديدة،‭ ‬نذكر‭ ‬اورود‭ ‬من‭ ‬زناتةب،‭ ‬واحرة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإسلامب‭ ‬واسآتيك‭ ‬فردًاب،‭ ‬واالمكابداتب،‭ ‬واالمكاشفاتب،‭ ‬وغيرها‭. 

في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الماتع،‭ ‬نسافر‭ ‬مع‭ ‬شاعرتنا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬عوالم‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وقضاياها‭ ‬وتحولاتها،‭ ‬بشكل‭ ‬يقرّبنا‭ ‬من‭ ‬مسارها‭ ‬الإبداعي‭ ‬الطافح‭ ‬بالتنوع‭ ‬والتميز‭ ‬والدهشة‭.‬

‭<‬‭ ‬بدأت‭ ‬رحلتك‭ ‬مع‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬مبكر،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تحدثينا‭ ‬عن‭ ‬البدايات،‭ ‬وعن‭ ‬أهم‭ ‬الموجهات‭ ‬الذاتية‭ ‬والموضوعية‭ ‬والبيئية،‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬بك‭ ‬نحو‭ ‬معانقة‭ ‬القصيدة‭ ‬بدل‭ ‬الكتابة‭ ‬داخل‭ ‬أجناس‭ ‬تعبيرية‭ ‬أخرى،‭ ‬لها‭ ‬هيمنتها‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية؟

‭-  ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬لا‭ ‬ينشأ‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬فهو‭ ‬نبتة‭ ‬تنمو‭ ‬داخل‭ ‬بيئة‭ ‬عامة‭ ‬وظروف‭ ‬خاصة،‭ ‬تشكل‭ ‬فكره‭ ‬وتصوره‭ ‬للحياة‭... ‬ولربما‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬علاقتي‭ ‬بالشعر‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬عمرين‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر؛‭ ‬عمر‭ ‬بيولوجي‭ ‬وآخر‭ ‬كوني‭.‬

فأما‭ ‬الأول،‭ ‬فيتعلق‭ ‬بالدوافع‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬لبدايات‭ ‬النشأة‭ ‬والتربية،‭ ‬والثاني‭ ‬ضارب‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الزمن‭ ‬وفي‭ ‬ثنايا‭ ‬الروح‭. ‬إن‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تشده‭ ‬إلى‭ ‬بدايته‭ ‬جذور‭ ‬أشد‭ ‬عمقًا‭ ‬وتنوعًا،‭ ‬بصر‭ ‬بها‭ ‬الكاتب‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬يبصر،‭ ‬فحين‭ ‬نقرأ‭ ‬أي‭ ‬كاتب‭ ‬لا‭ ‬نقرأه‭ ‬إلا‭ ‬ذاتًا‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬تفاعلاتها‭ ‬ومرجعياتها‭ ‬البعيدة،‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬لأن‭ ‬يعانق‭ ‬أي‭ ‬جنس‭ ‬أدبي،‭ ‬قصيدة‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭.‬

الشعر‭ ‬موسوم‭ ‬بذات‭ ‬هذه‭ ‬الشاعرة‭ ‬مذ‭ ‬كانت‭ ‬طفلة،‭ ‬فمنذ‭ ‬بداياتي‭ ‬البعيدة‭ ‬وجدتني‭ ‬أحب‭ ‬الشعر‭ ‬وأنشده‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬رفاقي‭ ‬إنشادًا‭ ‬يشد‭ ‬معلمي‭. ‬وكان‭ ‬للوالدة‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬توجيهي‭ ‬الأدبي‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حفّاظة‭ ‬جيدة‭ ‬للشعر‭ ‬متذوقة‭ ‬له،‭ ‬ولعلها‭ ‬مارست‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الجذب‭ ‬الروحي‭ ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬أحفظ‭ ‬الشعر‭ ‬بتلقائية‭ ‬وأتذوقه‭ ‬بحب‭ ‬وأفهمه‭ ‬بسليقة‭ ‬متناهية‭. ‬إنها‭ ‬الفتنة‭ ‬القصيّة‭ ‬التي‭ ‬ساقتني‭ ‬من‭ ‬محاضني‭ ‬الأولى‭ ‬لأجوس‭ ‬في‭ ‬أفياء‭ ‬الشعر‭. ‬ولولا‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬العميق‭ ‬الطبعي‭ ‬للشعر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬موردي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬رشفته‭ ‬داخل‭ ‬الأسرة‭ ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬خلال‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لما‭ ‬كنت‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬عمره‭ ‬بخيوط‭ ‬القصيدة‭.‬

وأمر‭ ‬عادي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الكاتب‭ ‬خلاصة‭ ‬إرثه‭ ‬الخاص‭ ‬وبيئته‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭. ‬فوعيه‭ ‬الجماعي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يربطه‭ ‬بزمانه‭ ‬ومكانه،‭ ‬اللذين‭ ‬أترعاه‭ ‬سلامة‭ ‬قلب‭ ‬وصفاء‭ ‬نفس‭. ‬أنا‭ ‬ابنة‭ ‬المغرب‭ ‬الأصيل،‭ ‬وابنة‭ ‬فاس‭ ‬مدينة‭ ‬الألف‭ ‬مئذنة،‭ ‬درجت‭ ‬بين‭ ‬حواريها‭ ‬تطالعني‭ ‬قباب‭ ‬المساجد‭ ‬صباح‭ ‬مساء،‭ ‬وبين‭ ‬أهليها‭ ‬الطيبين‭ ‬تنسّمت‭ ‬عبق‭ ‬كل‭ ‬جميل،‭ ‬هناك‭ ‬فتحت‭ ‬كتاب‭ ‬الشعر،‭ ‬إذ‭ ‬قرأت‭ ‬الشعراء‭ ‬قديمهم‭ ‬وحديثهم‭ ‬وحفظت‭ ‬من‭ ‬الأشعار‭ ‬خلاصتها،‭ ‬واطّلعت‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬أدبي‭ ‬حافل،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬مرجعيات‭ ‬فتقت‭ ‬في‭ ‬روحي‭ ‬حبها‭ ‬الأزلي‭ ‬للشعر‭.‬

 

حفظتُ‭ ‬ألف‭ ‬بيت

‭<‬‭ ‬تعرفين‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الأدبي،‭ ‬بكونك‭ ‬قارئة‭ ‬نهمة‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬والعالمي،‭ ‬ولنظريات‭ ‬الشعر‭ ‬قديمها‭ ‬وحديثها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬بشكل‭ ‬ضمني‭ ‬أو‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬أشعارك،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربينا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المؤثرات‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬توجيهك‭ ‬وفي‭ ‬تهذيب‭ ‬ذوقك‭ ‬الشعري،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬استفدت‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬تجربتك‭ ‬الشعرية‭ ‬الثرية،‭ ‬وساعدتك‭ ‬في‭ ‬استيعاب‭ ‬معاني‭ ‬الحياة،‭ ‬وفي‭ ‬تكوين‭ ‬تصور‭ ‬خاص‭ ‬بك‭ ‬عن‭ ‬الكون‭ ‬والإنسان‭ ‬والحب‭ ‬والوطن‭ ‬في‭ ‬أشعارك؟

‭- ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬البدايات‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬لست‭ ‬قارئة‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬حفّاظة‭ ‬لعيونه‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬حفظت‭ ‬ألف‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬القديم،‭ ‬وكنت‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬متعة‭ ‬كبرى‭.‬

ولم‭ ‬تخلُ‭ ‬مسيرتي‭ ‬من‭ ‬توجيهات‭ ‬أساتذتي‭ ‬خلال‭ ‬الدراسة‭ ‬الثانوية‭ ‬والعليا‭. ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أذكر‭ ‬ملاحظات‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬تجاربي‭ ‬الأولى،‭ ‬وهي‭ ‬ملاحظات‭ ‬كانت‭ ‬تضعني‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬محكّ‭ ‬التجربة،‭ ‬وتفتح‭ ‬لي‭ ‬بابًا‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭. ‬ويحضرني‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬هذه‭ ‬أستاذي‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الدناي‭ ‬الذي‭ ‬درسنا‭ ‬العروض‭ ‬بطريقة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬السماع‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬القواعد‭ ‬الجامدة‭. ‬وكان‭ ‬انبهاري‭ ‬بالتقطيع‭ ‬الصوتي‭ ‬بابًا‭ ‬آخر‭ ‬تفتّح‭ ‬أمامي‭ ‬لأنصرف‭ ‬إلى‭ ‬التجريب‭ ‬بنفسي،‭ ‬ولأتذوق‭ ‬موسيقى‭ ‬الشعر‭ ‬وأفهم‭ ‬الفروق‭ ‬بين‭ ‬بحوره‭.‬

لقد‭ ‬أحسست‭ ‬وكأني‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬موسيقي‭ ‬باذخ‭ ‬من‭ ‬الألحان‭ ‬تمتد‭ ‬جذوره‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬التاريخ‭ ‬ومن‭ ‬ترانيم‭ ‬الصحراء‭ ‬وهمسها‭ ‬وصخبها‭ ‬نحو‭ ‬قلبي‭ ‬التواق‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬اللامتناهية،‭ ‬وهكذا‭ ‬شرعت‭ ‬أميّز‭ ‬بين‭ ‬موسيقى‭ ‬البحور،‭ ‬وأتلمس‭ ‬زحافاتها‭ ‬وعللها‭ ‬دون‭ ‬معرفة‭ ‬أسمائها،‭ ‬لأكتب‭ ‬أول‭ ‬نص‭ ‬عمودي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الكامل‭.‬

وتوالى‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬والبيتين‭ ‬حتى‭ ‬قطعت‭ ‬علاقتي‭ ‬بقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬عهدي‭ ‬بالكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬وبعدها،‭ ‬لأجمع‭ ‬قصائدي‭ ‬العمودية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ديواني‭ ‬الأول‭ ‬اورود‭ ‬من‭ ‬زناتةب،‭ ‬الذي‭ ‬أعتبره‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬تمارين‭ ‬شعرية،‭ ‬ويستمر‭ ‬كلفي‭ ‬بالشعر‭ ‬فأقرأ‭ ‬شعراء‭ ‬بعينهم،‭ ‬كصلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬والسياب‭ ‬ونازك‭ ‬الملائكة،‭ ‬وأقرأ‭ ‬ترجمات‭ ‬شعرية‭ ‬لجوته‭ ‬وجلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي‭.‬

وما‭ ‬زلت‭ ‬أيضًا‭ ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬انخرطت‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المصنفات‭ ‬الأدبية‭ ‬الكبرى،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬طبقات‭ ‬الشعراء‭ ‬والبيان‭ ‬والتبيين‭ ‬والشعر‭ ‬والشعراء،‭ ‬وبعض‭ ‬مؤلفات‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين،‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يحتفل‭ ‬به‭ ‬الدارسون‭ ‬في‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

 

مدينة‭ ‬تسكن‭ ‬الذات

‭<‬‭ ‬استوحيت‭ ‬في‭ ‬دواوينك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬والأجنبية،‭ ‬في‭ ‬نوستالجيتها‭ ‬وسخونتها،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬فاس‭ ‬تحديدًا؛‭ ‬مدينة‭ ‬النشأة‭ ‬والعلم‭ ‬والأصالة‭ ‬والمآذن‭ ‬والتراث‭ ‬والطقوس‭ ‬الدينية‭ ‬والجو‭ ‬الروحاني‭ ‬البديع،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربينا‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬تمثّلك‭ ‬الشعري‭ ‬للمدينة‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬وتجلياتها‭ ‬الإبداعية‭ ‬المختلفة؟

‭- ‬لولا‭ ‬الانعكاس‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬عملية‭ ‬المرآة‭ ‬لما‭ ‬حضرت‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬استوطنت‭ ‬خيالي‭ ‬أو‭ ‬كياني‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬الشعرية‭. ‬وأمر‭ ‬طبيعي‭ ‬أن‭ ‬أستمد‭ ‬شعري‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬التي‭ ‬تقبع‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬خيالي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬اللاشعور‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬الروح،‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتبين‭ ‬حضور‭ ‬القدس‭ ‬ومكة‭ ‬المكرمة‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭. ‬أما‭ ‬فاس،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬الذات،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنني‭ ‬أحسست‭ ‬أنها‭ ‬الأم‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬ألهمتني‭ ‬الشعر‭. ‬هكذا‭ ‬أمسكت‭ ‬بي‭ ‬فاس‭ ‬من‭ ‬تلابيبي‭ ‬لتكون‭ ‬حاضرة‭ ‬القلب‭ ‬والروح،‭ ‬والملاك‭ ‬الذي‭ ‬يحفزني‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬الشعري‭.‬

لقد‭ ‬ثوت‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬الأعماق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬طفرت‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬ديواني‭ ‬اخرجت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأرخبيلاتب،‭ ‬ذلك‭ ‬الديوان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ديوان‭ ‬فاس‭ ‬بامتياز،‭ ‬والذي‭ ‬لخّص‭ ‬علاقتي‭ ‬القوية‭ ‬بالمكان‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬ورقة‭ ‬منه‭ ‬االمكان‭ ‬أنا‭...‬ب،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬أعتبر‭ ‬فاس‭ ‬البيت‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬يركز‭ ‬الوجود‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬تمنح‭ ‬الحماية،‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬كاستون‭ ‬باشلر،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬أعتبر‭ ‬فاس‭ ‬النهاية‭ ‬المحيطة‭ ‬لكونها‭ ‬استكمالًا‭ ‬لأجسام‭ ‬متحركة‭ ‬وغاية‭ ‬تحريكها،‭ ‬على‭ ‬تعبير‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭.‬

 

واسطة‭ ‬العقد

هكذا‭ ‬اعتبرت‭ ‬فاس‭ ‬أرخبيلاتي‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬منها،‭ ‬فحضرت‭ ‬قصائد‭ ‬تبدأ‭ ‬بكلمة‭ ‬الخروج،‭ ‬يليها‭ ‬ذكر‭ ‬بعض‭ ‬أبواب‭ ‬فاس‭ ‬وحواريها‭ ‬التاريخية،‭ ‬كباب‭ ‬أبي‭ ‬الفتوح‭ ‬وباب‭ ‬الحمراء‭ ‬وباب‭ ‬السلسلة‭ ‬وزقاق‭ ‬الرمان‭ ‬وباب‭ ‬المحروق‭ ‬والرصيف،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حضور‭ ‬شخوص‭ ‬مؤثرة‭ ‬ظلت‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬وعيي،‭ ‬كشخص‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬والجيران‭ ‬وعسالة‭ ‬المرأة‭ ‬الزاهدة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬المساجد‭ ‬والبيوت‭ ‬التقليدية‭ ‬وساحات‭ ‬اللعب‭ ‬والسطوح‭ ‬ذات‭ ‬الحدائق‭ ‬والأصص‭ ‬الزاهرة‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬فاس‭ ‬في‭ ‬وعيي‭ ‬المدينة‭ ‬المغلقة‭ ‬المعلّقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬شبابيكها‭ ‬الضيقة‭ ‬وكواتها‭ ‬الصغيرة،‭ ‬عالمًا‭ ‬أفسح‭ ‬هو‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬سيجر‭ ‬القلب‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬لأغادر‭ ‬الأرخبيلات،‭ ‬لأصور‭ ‬في‭ ‬قصيدتي‭ ‬االحلاج‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬الجنانب،‭ ‬وهو‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬ولدت‭ ‬فيه،‭ ‬شغب‭ ‬الطفلة‭ ‬التي‭ ‬كُنتها‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬أسوار‭ ‬فاس‭ ‬وأقول‭: ‬يا‭ ‬هذا‭ ‬الدرب‭ ‬الموغل‭ ‬في‭ ‬الفتنة‭ ‬والإشراق‭ /‬يا‭ ‬هذا‭ ‬الواقف‭ ‬فوق‭ ‬دم‭ ‬مهراق‭ /‬كان‭ ‬الدرب‭ ‬سماء‭ ‬خاوية‭ ‬تلهو‭ ‬في‭ ‬حلم‭ ‬الطفل‭ ‬المجنون‭ ‬وتخترق‭ ‬الأعماق‭.‬

ولا‭ ‬غرو‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬المذكور‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬الحلم‭ ‬ومدينة‭ ‬الماضي‭ ‬ومدينة‭ ‬الذكرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬الأوقات‭ ‬واسطة‭ ‬العقد‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬التاريخية‭ ‬العريقة‭.‬

 

تدرّج‭ ‬طبيعي

‭<‬‭ ‬تعرفين‭ ‬بكونك‭ ‬من‭ ‬الشاعرات‭ ‬الأصيلات‭ ‬المبدعات‭ ‬داخل‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬والمنتصرات‭ ‬لها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تهجري‭ ‬بقية‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخرى‭ ‬أو‭ ‬تتنكري‭ ‬لها‭ (‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬وقصيدة‭ ‬النثر‭)‬،‭ ‬وأيضًا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬عنك‭ ‬أنك‭ ‬تتعصبين‭ ‬لهذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬دون‭ ‬غيره،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬تمثّله‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليك‭ ‬في‭ ‬زمننا‭ ‬هذا،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يحارب‭ ‬فيه‭ ‬الشعر‭ ‬العمودي‭ ‬بعضُ‭ ‬من‭ ‬يستعصي‭ ‬عليهم‭ ‬الإبداع‭ ‬فيه،‭ ‬إذ‭ ‬يتم‭ ‬ذلك‭ ‬عندهم‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مقنع‭ ‬وغير‭ ‬مسنود‭ ‬بأي‭ ‬فكر‭ ‬نقدي‭ ‬أو‭ ‬معرفي‭ ‬يبرر‭ ‬هذا‭ ‬التهجم؟

‭- ‬بدأت‭ ‬تجربتي‭ ‬بقصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬التفعيلة،‭ ‬وظللت‭ ‬أزاوج‭ ‬بين‭ ‬الأخيرتين‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬أدوات‭ ‬الشعر‭ ‬تدرّج‭ ‬طبيعي،‭ ‬فلكل‭ ‬فترة‭ ‬أدواتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬بدأوا‭ ‬بالقصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬وأحدثوا‭ ‬فتوحات‭ ‬محمودة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ (‬الشاعر‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬السرغيني‭ ‬مثلًا‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬أحس‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬قوالب‭ ‬معيارية‭ ‬مستوردة،‭ ‬فبدأ‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬الجذور‭.‬

وفي‭ ‬تقديري‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬أدونيس‭ ‬مثلًا،‭ ‬لا‭ ‬يشكّل‭ ‬النثر‭ ‬إلا‭ ‬جزءًا‭ ‬منها،‭ ‬بينما‭ ‬ألقه‭ ‬الشعري‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬موزونة،‭ ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬بالوزن‭ ‬تقليد،‭ ‬وأن‭ ‬كتابة‭ ‬النثر‭ ‬محض‭ ‬تجديد،‭ ‬فالوزن‭ ‬ليس‭ ‬معيارًا‭ ‬مطلقًا‭ ‬لكتابة‭ ‬النص،‭ ‬والنثر‭ ‬لا‭ ‬يحقق‭ ‬شعرية‭ ‬القصيدة‭ ‬إلا‭ ‬بأدوات‭ ‬كالصورة‭ ‬واللغة‭ ‬والرؤية،‭ ‬فالأمر‭ ‬في‭ ‬اعتباري‭ ‬محسوم،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يكتب‭ ‬ذاته‭ ‬ولذاته،‭ ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬ضوضاء‭.‬

 

مزايدة‭ ‬فارغة

‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬الشعر‭ ‬خارج‭ ‬الأشكال،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية‭ ‬نظمًا‭ ‬باردًا‭ ‬فتصبح‭ ‬بذلك‭ ‬نثرًا،‭ ‬وقد‭ ‬يصبح‭ ‬النثر‭ ‬شعرًا‭ ‬بأدوات‭ ‬داخلية‭ ‬أهمها‭ ‬اللغة،‭ ‬فهو‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬هيدجر‭ (‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬موطن‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬اللغة‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬نقادنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فالجاحظ‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ (‬الشعر‭ ‬صياغة‭ ‬وضرب‭ ‬من‭ ‬التصوير‭) ‬والجرجاني‭ ‬الذي‭ ‬وقفت‭ ‬طويلاً‭ ‬عند‭ ‬رأيه،‭ ‬واستلهمت‭ ‬منه‭ ‬بعض‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬قد‭ ‬أفحم‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬النظم،‭ ‬فالشاعر‭ ‬من‭ ‬قدّم‭ ‬وأخّر‭ ‬وعرّف‭ ‬ونكّر‭ ‬وحذف‭ ‬وأضمر‭ ‬وأعاد‭ ‬وكرر،‭ ‬وهو‭ ‬هنا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬بناء‭ ‬الجملة،‭ ‬أي‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬تضمن‭ ‬شعرية‭ ‬النص،‭ ‬والاستعارة‭ ‬عنده‭ ‬مثلاً‭ ‬تكون‭ ‬أتم‭ ‬بيانًا‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تبن،‭ ‬والكناية‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬الإفصاح‭ ‬والتعريض‭ ‬أوضح‭ ‬من‭ ‬التصريح،‭ ‬فإذا‭ ‬خرج‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬لغته‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬موطن‭ ‬الهزة،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬البعض،‭ ‬والمنطقة‭ ‬الجياشة‭ ‬بالفتنة،‭ ‬فالنص‭ ‬مجرد‭ ‬قطع‭ ‬خزف؛‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬عموديًّا‭ ‬أو‭ ‬تفعيليًّا‭ ‬أو‭ ‬نثريًّا‭.‬

إن‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬صدامات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شكل‭ ‬القصيدة‭ ‬هو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬العبث‭ ‬والمزايدة‭ ‬الفارغة،‭ ‬فالأولى‭ ‬أن‭ ‬يعكف‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬أدواته‭ ‬ليصقلها‭ ‬ويغديها،‭ ‬وأن‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬المتطرف‭ ‬والعدائي‭ ‬للأشكال،‭ ‬وهناك‭ ‬شعراء‭ ‬كتبوا‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬عن‭ ‬دراية‭ ‬وفكر‭ ‬نقدي‭ ‬عميق،‭ ‬بينما‭ ‬بعضهم‭ ‬انطلقوا‭ ‬نحوها‭ ‬متحررين‭ ‬من‭ ‬تقاليد‭ ‬اللغة،‭ ‬متمردين‭ ‬على‭ ‬القوالب‭ (‬في‭ ‬زعمهم‭)‬،‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أشبه‭ ‬بضربة‭ ‬سيف‭ ‬طائشة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يعوضوا‭ ‬عما‭ ‬رفضوه‭ ‬بإمكانات‭ ‬فنية‭ ‬جديدة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬يجانب‭ ‬الجوهر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لشعرية‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭.‬

 

اختلاف‭ ‬فنيّ

‭<‬‭ ‬سؤال‭ ‬يرتبط‭ ‬بسابقه،‭ ‬ففي‭ ‬ضوء‭ ‬تجريبك‭ ‬البديع‭ ‬والمبدع‭ ‬بين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تيار‭ ‬شعري،‭ ‬كيف‭ ‬تحددين‭ ‬زمنك‭ ‬الشعري‭ ‬ورؤيتك‭ ‬الشعرية،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬آخر،‭ ‬ما‭ ‬مفهومك‭ ‬للحداثة‭ ‬الشعرية،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تدرّجك‭ ‬في‭ ‬أدوات‭ ‬الشعر‭ ‬المختلفة،‭ ‬وما‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬يستجيب‭ ‬اليوم‭ ‬لأفق‭ ‬انتظارك‭ ‬الشعري؟

‭-  ‬أشرت‭ ‬سابقًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬فترة‭ ‬أدواتها،‭ ‬والشاعر‭ ‬يمر‭ ‬بمحطات‭ ‬شعرية‭ ‬ويتدرج‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬متطلبات‭ ‬عصره‭ ‬ومن‭ ‬قدراته،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬فأنا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬تجربتي‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬اورود‭ ‬من‭ ‬زناتةب‭ ‬وانتهت‭ ‬إلى‭ ‬سبعة‭ ‬دواوين‭ ‬شعرية‭ ‬ينتظمها‭ ‬خيط‭ ‬واحد،‭ ‬وتمر‭ ‬بأرض‭ ‬شعرية‭ ‬تختلف‭ ‬تضاريسها‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬خيط‭ ‬الرؤية‭ ‬الشعرية‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬منسابًا‭ ‬صامتًا‭ ‬صاخبًا‭ ‬منعرجًا‭ ‬مستويًا،‭ ‬وبالضبط‭ ‬الذي‭ ‬يجعلني‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬نصًّا‭ ‬واحدًا،‭ ‬بل‭ ‬لكل‭ ‬ديوان‭ ‬سمته‭ ‬الجديد‭.‬

ولعل‭ ‬الرؤية‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يختزنها‭ ‬الشاعر،‭ ‬والتي‭ ‬تكون‭ ‬كلًّا‭ ‬منسجمًا‭ ‬داخل‭ ‬نصه،‭ ‬ويقدم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬رؤيته‭ ‬للعالم،‭ ‬هي‭ ‬الطبقة‭ ‬المائية‭ ‬التي‭ ‬تختزنها‭ ‬التضاريس‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬منها‭ ‬تجربتي،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بالتأكيد‭ ‬مختلفة‭ ‬بين‭ ‬ديوان‭ ‬وآخر‭.‬

وأشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نظرتي‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬تتلخص‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬فكرة‭ ‬يتبناها‭ ‬فكريًّا‭ ‬وجماليًّا،‭ ‬ثم‭ ‬يحفر‭ ‬بعمق‭ ‬مجرى‭ ‬نهره‭ ‬ليفتح‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬نوافذ‭ ‬رؤياه‭ ‬على‭ ‬كوى‭ ‬جديدة‭ ‬قطعًا،‭ ‬وبذلك‭ ‬يحقق‭ ‬اختلافًا‭ ‬فنيًّا‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الذي‭ ‬باستطاعته‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬للشاعر‭ ‬إمكانات‭ ‬جمالية‭ ‬كبيرة،‭ ‬والنشاز‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬تعلن‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬المرجع‭ ‬والانتماء‭ ‬تتغذى‭ ‬من‭ ‬فتات‭ ‬سيطرة‭ ‬أدبية‭ ‬غريبة‭ ‬واستهلاك‭ ‬بضاعة‭ ‬الشاعر‭ ‬الغربي،‭ ‬مما‭ ‬يوقع‭ ‬في‭ ‬تبعية‭ ‬مقيتة،‭ ‬فلا‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يرفض‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬الماضي‭ ‬ويقاطعه،‭ ‬ويستهلك‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بضاعة‭ ‬غريبة‭ ‬عنه‭.‬

وقد‭ ‬اشترط‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شاعر‭ ‬ينوي‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬تتوافر‭ ‬لديه‭ ‬حاسة‭ ‬تاريخية‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬وفي‭ ‬عظام‭ ‬جيله‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تفرض‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعتبر‭ ‬أدب‭ ‬أوربا‭ ‬كله‭ ‬منذ‭ ‬هوميروس‭ ‬ممتلكًا‭ ‬وجوديًّا‭ ‬معاصرًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬فتراثنا‭ ‬الشعري‭ ‬يسمح‭ ‬بمنجزات‭ ‬عظيمة‭ ‬نخلق‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬لحظة‭ ‬انسجام‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭.‬

 

قصيدة‭ ‬كونية

‭<‬‭ ‬عطفًا‭ ‬على‭ ‬السؤالين‭ ‬السابقين،‭ ‬تعرفين‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬المغربي‭ ‬والعربي‭ ‬بنزعتك‭ ‬الصوفية‭ ‬في‭ ‬أشعارك،‭ ‬وبتفرّدك‭ ‬بهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬مشهدنا‭ ‬الشعري‭ ‬المغربي،‭ ‬فهل‭ ‬انشدادك‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النزعة،‭ ‬في‭ ‬بداياتك‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬راهنك‭ ‬الشعري،‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لانكفائك‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬انزواء‭ ‬عن‭ ‬الدنيا،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬استجابة‭ ‬لحالة‭ ‬لا‭ ‬شعورية‭ ‬عبر‭ ‬الاحتماء‭ ‬بالقصيدة‭ ‬العرفانية‭ ‬أو‭ ‬الوجدانية‭ ‬أو‭ ‬الكونية،‭ ‬كما‭ ‬تسمينها،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬ضد‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬معيشة‭ ‬وهروب‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬كان‭ ‬يطلب‭ ‬دمك‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬سابقة؟

‭- ‬المتتبع‭ ‬لتجربتي‭ ‬منذ‭ ‬بداياتها‭ ‬الأولى‭ ‬سيجد‭ ‬هذا‭ ‬المنزع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬نصوص‭ ‬اورود‭ ‬من‭ ‬زناتةب،‭ ‬ثم‭ ‬برزت‭ ‬بشكل‭ ‬فطري‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬اسآتيك‭ ‬فردًاب،‭ ‬الذي‭ ‬بدأته‭ ‬قبل‭ ‬رحلة‭ ‬العمرة‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ثم‭ ‬أكملته‭ ‬بعدها،‭ ‬وقد‭ ‬تركت‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬سماتها‭ ‬في‭ ‬الديوان‭.‬

فالتجربة‭ ‬إذًا‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الروح،‭ ‬تنتظر‭ ‬أن‭ ‬تطفر‭ ‬تحت‭ ‬أي‭ ‬ظرف،‭ ‬ولها‭ ‬وشائج‭ ‬قوية‭ ‬بما‭ ‬نشأت‭ ‬عليه‭ ‬داخل‭ ‬أسرة‭ ‬محافظة،‭ ‬وفي‭ ‬حي‭ ‬يعج‭ ‬بالمساجد‭ ‬والزوايا،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬جعلني‭ ‬كائنًا‭ ‬صوفيًّا‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬يحلّق‭ ‬متى‭ ‬دُعي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬العرفانية‭ ‬التي‭ ‬أعتبرها‭ ‬قصيدة‭ ‬كونية،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يناسب‭ ‬تصوري‭ ‬للشعر،‭ ‬وإيماني‭ ‬بالهدف‭ ‬من‭ ‬كتابته،‭ ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬شاعر‭ (‬وهذا‭ ‬يرعبني‭ ‬كثيرًا‭):‬

وما‭ ‬من‭ ‬كاتب‭ ‬إلا‭ ‬سيفنى

ويُبقي‭ ‬الدهرُ‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬يداه

فلا‭ ‬تكتب‭ ‬بكفك‭ ‬غير‭ ‬شيء

يسرُّك‭ ‬في‭ ‬القيامة‭ ‬أن‭ ‬تراه

نعم،‭ ‬أغوص‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الذات،‭ ‬وحين‭ ‬تقوى‭ ‬لديّ‭ ‬تتعمق‭ ‬عندي‭ ‬ينابيع‭ ‬التجربة‭ ‬الصوفية،‭ ‬وهكذا‭ ‬عبرت‭ ‬بوعي‭ ‬أو‭ ‬دونه‭ ‬إلى‭ ‬القصيدة‭ ‬الصوفية‭ ‬لأجد‭ ‬فيها‭ ‬الملاذ‭ ‬الروحي‭ ‬وحاجات‭ ‬جمالية‭ ‬شتّى،‭ ‬وإشراقات‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مكابدة‭ ‬وكشف،‭ ‬فالقصيدة‭ ‬الصوفية‭ ‬معبر‭ ‬نحو‭ ‬السعادة،‭ ‬والخيال‭ ‬الخلاق‭ ‬هو‭ ‬الوسيلة‭ ‬إلى‭ ‬السمو‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬الأرضي‭ ‬نحو‭ ‬الجمال‭ ‬الكوني،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬اللانهائي،‭ ‬وربما‭ ‬الاعتبار‭ ‬من‭ ‬الظاهر‭ ‬بالباطن‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬افاعتبروا‭ ‬يا‭ ‬أولي‭ ‬الأبصارب‭ (‬سورة‭ ‬الحشر‭ - ‬من‭ ‬الآية‭ ‬2‭).‬

إن‭ ‬القصيدة‭ ‬الصوفية‭ ‬صعود‭ ‬نحو‭ ‬سماء‭ ‬روحانية‭ ‬وانعتاق‭ ‬من‭ ‬القبح‭ ‬والطين‭ ‬والأسر‭ ‬المادي،‭ ‬وبحث‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬الأعلى‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬المحل‭ ‬الأرفع،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭.‬

 

اشتغال‭ ‬لافت

‭<‬‭ ‬في‭ ‬قصائدك‭ ‬الصوفية،‭ ‬نلمس‭ ‬اشتغالاً‭ ‬لافتًا‭ ‬على‭ ‬اللغة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تسمينه‭ ‬أنت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬ثانية‭ ‬داخل‭ ‬القصيدة‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربينا‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬اشتغالك‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬أشعارك‭ ‬الصوفية،‭ ‬بما‭ ‬أنها‭ ‬تكتسي‭ ‬لديك‭ ‬خصوصية‭ ‬ما،‭ ‬تميّزك‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬آخرين‭ ‬يكتبون‭ ‬القصيدة‭ ‬الصوفية‭ ‬نفسها؟

‭- ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬فردية‭ ‬وعالم‭ ‬ومشروع‭ ‬ورسالة‭ ‬لأي‭ ‬كاتب،‭ ‬وهي‭ ‬خلاصة‭ ‬حياته‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬ودوافع‭ ‬غامضة،‭ ‬ولذلك‭ ‬فأيّ‭ ‬كاتب‭ ‬يخلق‭ ‬لغته‭ ‬وخياله‭ ‬من‭ ‬النبع‭ ‬الذي‭ ‬ينبجس‭ ‬لديه‭.‬

في‭ ‬القصيدة‭ ‬هناك‭ ‬تقنيات‭ ‬كثيرة،‭ ‬المعمار،‭ ‬البداية،‭ ‬النهاية،‭ ‬التفاصيل،‭ ‬اللغة،‭ ‬الرؤية،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الخضم‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬حتى‭ ‬الساعة‭ ‬أن‭ ‬أتبين‭ ‬بوعي‭ ‬كيف‭ ‬يتمازج‭ ‬ويتسق‭ ‬ليصبح‭ ‬نصًّا‭ ‬صوفيًّا‭ ‬له‭ ‬خصائص‭ ‬الاختلاف‭ ‬عن‭ ‬سابقيه،‭ ‬تشتغل‭ ‬فيه‭ ‬جذوة‭ ‬الفتنة‭ ‬والحيوية‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬القصي‭ ‬والعصيّ،‭ ‬والفظ‭ ‬والمشاكس،‭ ‬فقد‭ ‬يسوقني‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقعه،‭ ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬وجود‭ ‬قوي‭ ‬في‭ ‬اللاشعور،‭ ‬وربما‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالبصيرة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬يختزنها‭ ‬الشاعر،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬خلاصة‭ ‬تجربته‭ ‬وتكوينه‭.‬

فهي‭ ‬إذا‭ ‬اللغة‭ ‬والفكرة‭ ‬والصورة‭ ‬ومدى‭ ‬تفاعله‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬حوله،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬الصوفي‭ ‬عندي‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬صدق‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬وصداقة‭ ‬مع‭ ‬الفطرة،‭ ‬وكتابتها‭ ‬تمد‭ ‬بالقوة‭ ‬والنشوة‭ ‬والانتصار‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬وتمسح‭ ‬القبح‭ ‬القائم‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وتمتن‭ ‬العلاقة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬وخير،‭ ‬زمن‭ ‬القذارة‭ ‬والظلم‭ ‬والإحباط،‭ ‬واللغة‭ ‬هي‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشيد‭ ‬هذا‭ ‬المعمار‭.‬

 

لماذا‭ ‬نكتب؟

‭<‬‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬قصائدك‭ ‬تمثّلها‭ ‬لهموم‭ ‬الناس‭ ‬ولسلوكياتهم‭ ‬ونقدها‭ ‬للأخلاق‭ ‬المشينة،‭ ‬وتصويرها‭ ‬لغربة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ولتناقضاته‭ ‬وضياعه‭ ‬وألمه‭ ‬وقهره‭ ‬وظلمه‭ ‬وفقره،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬والقضايا‭ ‬الذاتية‭ ‬والموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تزخر‭ ‬بها‭ ‬قصائدك،‭ ‬في‭ ‬استنادها‭ ‬إلى‭ ‬حس‭ ‬إسلامي‭ ‬قوي‭ ‬متشبع‭ ‬بقيم‭ ‬الإسلام‭ ‬السمحة،‭ ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬وغيره‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬خاص‭ ‬لديك‭ ‬للشعر،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تغيّر‭ ‬فيه‭ ‬العالم،‭ ‬وتبدلت‭ ‬فيه‭ ‬القيم،‭ ‬وسقط‭ ‬فيه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القناعات؟‭ ‬

‭- ‬لربما‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬يرتبط‭ ‬بسؤال‭ ‬آخر‭: ‬لماذا‭ ‬نكتب؟‭ ‬فالكتابة‭ ‬هي‭ ‬خبرة‭ ‬وتصور‭ ‬يدافع‭ ‬عنه‭ ‬الشاعر،‭ ‬وفكرة‭ ‬يؤمن‭ ‬بها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحرر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سلطة‭ ‬مادية‭ ‬سوى‭ ‬سلطة‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يؤثث‭ ‬وجوده‭ ‬بما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يسود‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬آخر‭ ‬للإنسان‭ ‬لا‭ ‬ضياع‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬ألم‭ ‬ولا‭ ‬قهر‭ ‬ولا‭ ‬ظلم‭ ‬ولا‭ ‬قبح،‭ ‬وبذلك‭ ‬تأتي‭ ‬الكتابة‭ ‬أحيانًا‭ ‬للانتصار‭ ‬للإنسان‭ ‬أينما‭ ‬كان‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬قد‭ ‬أعيب‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬بهدف‭ ‬أناني،‭ ‬صحيح،‭ ‬طبيعي‭ ‬أن‭ ‬يخلّد‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه‭ ‬وجيناته‭ ‬الفكرية‭ ‬والنفسية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬ما‭ ‬يكتبه،‭ ‬وهنا‭ ‬تغدو‭ ‬الكتابة‭ ‬بابًا‭ ‬للخلود‭ ‬يتحدى‭ ‬النسيان،‭ ‬لكن‭ ‬الانكفاء‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬واجترار‭ ‬دواخلها‭ ‬في‭ ‬ألم‭ ‬هامس‭ ‬أحيانًا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يفيد‭ ‬شيئًا،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬للشعر‭ ‬وظيفة‭ ‬نفسية‭ ‬بتعبيره‭ ‬عن‭ ‬الشاعر،‭ ‬فإن‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬أكبر‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نغفلها،‭ ‬وتلك‭ ‬اللذة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬سارتر،‭ ‬والتي‭ ‬يمنحها‭ ‬الكاتب‭ ‬لقرائه،‭ ‬قد‭ ‬تتحقق‭ ‬وبشروط‭ ‬جمالية‭ ‬راقية،‭ ‬سواء‭ ‬عبّر‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬غيره‭. ‬والفلاسفة‭ ‬المسلمون‭ ‬أنفسهم‭ ‬قرروا‭ ‬قديمًا‭ ‬أن‭ (‬الشعر‭ ‬لذيذ‭ ‬ونافع‭ ‬يستخدم‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الجد‭ ‬وأمور‭ ‬اللهو‭...).‬

 

بُعد‭ ‬تكويني

‭<‬‭ ‬من‭ ‬يتابع‭ ‬تجربتك‭ ‬الشعرية‭ ‬وحواراتك‭ ‬وشهاداتك‭ ‬حول‭ ‬تجربتك‭ ‬وتجارب‭ ‬الآخرين،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬سيفطن‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬تتسم‭ ‬به‭ ‬ثقافتك‭ ‬من‭ ‬اتساع‭ ‬وكثافة‭ ‬وتنوع‭ ‬وإدراك‭ ‬وتمثّل‭ ‬لقضايا‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬الإنساني،‭ ‬خلافًا‭ ‬لشعراء‭ ‬آخرين‭ ‬تعوزهم‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬الموازية‭ ‬والضرورية‭ ‬لأي‭ ‬إبداع؛‭ ‬أقصد‭ ‬هنا‭ ‬أحاديثك‭ ‬وآراءك‭ ‬وتصوراتك‭ ‬الموازية‭ ‬حول‭ ‬عديد‭ ‬القضايا‭ ‬والمفاهيم‭ ‬المتصلة‭ ‬بتجربتك‭ ‬الشعرية،‭ ‬أو‭ ‬بكتابة‭ ‬الشعر‭ ‬وفهمه‭ ‬وتلقّيه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬أحاديث‭ ‬تتدثر‭ ‬بلغة‭ ‬واصفة‭ ‬عالية،‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬النظري‭ ‬بالمعرفي‭ ‬والنقدي‭ ‬بالإبداعي،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربينا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬التكويني‭ ‬الموازي‭ ‬لتجربتك‭ ‬الشعرية،‭ ‬في‭ ‬خلفياته‭ ‬ومرجعياته‭ ‬ومؤثراته؟

‭- ‬لا‭ ‬أدّعي‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬أكون‭ ‬أكثر‭ ‬تمثّلًا‭ ‬للقضايا‭ ‬والمفاهيم‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬فالإصغاء‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬الناس‭ ‬وإلى‭ ‬تمثّلاتهم‭ ‬للمعرفي‭ ‬والإبداعي‭ ‬وتتبّعهم‭ ‬باهتمام،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬عاملاً‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البعد‭ ‬التكويني،‭ ‬وأعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬متتبعة‭ ‬جيدة‭ ‬لمن‭ ‬يهمني‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬ولما‭ ‬يهمني‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الأدبية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬الشعر‭ ‬لدى‭ ‬أي‭ ‬شاعر‭ ‬مهتم‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يوسع‭ ‬إدراكه‭ ‬للقضايا‭ ‬الإبداعية،‭ ‬إن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬الأدوات‭ ‬تتساوق‭ ‬والشعور‭ ‬بقيمة‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬فيه،‭ ‬فالشعراء‭ ‬الذين‭ ‬حرصوا‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬قيمة‭ ‬شعرية‭ ‬مضافة‭ ‬لابد‭ ‬أنهم‭ ‬حفروا‭ ‬مجرى‭ ‬النهر‭ ‬عميقًا،‭ ‬وقد‭ ‬التفتّ‭ ‬بانتباه‭ ‬إلى‭ ‬بعضهم،‭ ‬كأدونيس‭ ‬ومحمد‭ ‬علي‭ ‬الرباوي‭ ‬ومحمد‭ ‬السرغيني‭ ‬وعبدالكريم‭ ‬الطبال،‭ ‬وهذا‭ ‬الحفر‭ ‬العميق‭ ‬للمجرى‭ ‬بعصامية‭ ‬وحرص‭ ‬مطلوب‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬إنساني‭.‬

 

أمر‭ ‬مجحف

‭<‬‭ ‬استطاعت‭ ‬كتاباتك‭ ‬الشعرية‭ ‬أن‭ ‬تشد‭ ‬إليها‭ ‬أنظار‭ ‬القراء‭ ‬والنقاد‭ ‬والدارسين،‭ ‬داخل‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه،‭ ‬فحظيت‭ ‬بعديد‭ ‬التلقيات‭ ‬والقراءات‭ ‬والتأويلات،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬دراسات‭ ‬وضعتك‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬شاعرات‭ ‬عربيات،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬فدوى‭ ‬طوقان‭ ‬ونازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وسعاد‭ ‬الصباح،‭ ‬وغيرهن،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬أضافته‭ ‬هذه‭ ‬التلقيات‭ ‬لتجربتك‭ ‬الشعرية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬وهل‭ ‬ساهم‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬تجربتك‭ ‬الخاصة،‭ ‬وهل‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬مواز‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬مفهومك‭ ‬للشعر‭ ‬وللكتابة‭ ‬الشعرية؟

‭- ‬ألتفت‭ ‬هنا‭ ‬أولًا‭ ‬إلى‭ ‬أولئك‭ ‬الطلبة‭ ‬الباحثين‭ ‬والأساتذة‭ ‬الدارسين‭ ‬الذين‭ ‬اهتموا‭ ‬بقراءة‭ ‬أعمالي‭ ‬وتدارسها،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الدرس‭ ‬الأكاديمي‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬وأهتبل‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬لأحييهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنبر‭ ‬الثقافي‭ ‬الكبير،‭ ‬فأغلبهم‭ ‬تجمعهم‭ ‬عروة‭ ‬واحدة،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬كونهم‭ ‬درسوا‭ ‬أعمالي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتعرفوا‭ ‬إليّ‭ ‬معرفة‭ ‬شخصية،‭ ‬مما‭ ‬انتفى‭ ‬معه‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمارسه‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬الناقد‭ ‬والمتذوق‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬التأثير‭ ‬والجذب،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يصور‭ ‬الحقيقة‭ ‬الإبداعية‭ ‬كما‭ ‬هي‭.‬

والمعروف‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬النقدية‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬كثيرين‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬محاباة،‭ ‬مما‭ ‬يقطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬المتلقي‭ ‬ليقترب‭ ‬اقترابًا‭ ‬حقيقيًّا‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يتلبس‭ ‬اسم‭ ‬الشاعر‭ ‬بتجربته‭ ‬فتصدر‭ ‬عليه‭ ‬أحكام‭ ‬مجانبة‭ ‬لحقيقة‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الجوائز‭ ‬التي‭ ‬عهدنا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تعطى‭ ‬للاسم‭ ‬لا‭ ‬للعمل،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬مجحف‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬عامة،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬عني‭ ‬وما‭ ‬أصغيت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬نقاشات‭ ‬أدبية‭ ‬كثيرة‭ ‬حول‭ ‬تجربتي،‭ ‬فقد‭ ‬قرّبني‭ ‬بوعي‭ ‬كبير‭ ‬منها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬يغيب‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬الكتابة،‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ ‬عملية‭ ‬فطرية‭ ‬تتعلق‭ ‬بالموهبة،‭ ‬وهي‭ ‬لعبة‭ ‬غامضة‭ ‬محاطة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الأسرار،‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬تفسير‭ ‬كيميائها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حدوثها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يتدخل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يوجه‭ ‬أوامر‭ ‬إلى‭ ‬وعيه‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬تكون‭ ‬أجود‭ ‬الأعمال‭ ‬وأكثرها‭ ‬صدقًا‭ ‬وشفافية‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬سراديب‭ ‬مدهشة‭ ‬ومن‭ ‬عوالم‭ ‬داخلية‭ ‬بأشكال‭ ‬فنية‭ ‬غير‭ ‬مخطط‭ ‬لها‭ ‬مسبقًا،‭ ‬وتبقى‭ ‬للنقد‭ ‬فضيلته‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬يضع‭ ‬الشاعر‭ ‬أمام‭ ‬مرآة‭ ‬ذاته،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬نقد‭ ‬جائر‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬منه‭ ‬الشعراء،‭ ‬ذلك‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬يحمّل‭ ‬التجربة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقصده‭ ‬الشاعر‭. ‬ومن‭ ‬أطرف‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ ‬ناقدًا‭ ‬ادّعى‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬ديواني‭ (‬سآتيك‭ ‬فردًا‭...) - ‬وهو‭ ‬نصوص‭ ‬ثلاثية‭ ‬مركّزة‭ - ‬قد‭ ‬كنت‭ ‬أروّج‭ ‬لفكرة‭ ‬التثليث‭ ‬المسيحية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يخطر‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬بال،‭ ‬ولا‭ ‬يستحق‭ ‬بالطبع‭ ‬الرد‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬الديوان‭.‬

 

الشّعر‭ ‬بخير

‭< ‬حازت‭ ‬بعض‭ ‬أعمالك‭ ‬الشعرية‭ ‬بعض‭ ‬الجوائز‭ ‬المهمة،‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬وبعض‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬تضيفه‭ ‬الجوائز‭ ‬عادة‭ ‬للمبدع،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬قلّت‭ ‬فيه‭ ‬جوائز‭ ‬الشعر،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‭ ‬الأول،‭ ‬وكثرت‭ ‬فيه‭ ‬جوائز‭ ‬الرواية،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬ديوان‭ ‬العرب‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬البعض؟

‭- ‬أصنف‭ ‬الجوائز‭ ‬بحسب‭ ‬الهيئة‭ ‬التي‭ ‬تمنحها،‭ ‬فقيمتها‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬تلك‭ ‬الهيئة،‭ ‬فالجوائز‭ ‬ليست‭ ‬سواء،‭ ‬بعضها‭ ‬أفسد‭ ‬جمهور‭ ‬الشعر‭ ‬وتذوقه‭ ‬ولوّث‭ ‬المشهد‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬وبعضها‭ ‬فقد‭ ‬مصداقيته‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬كثيرون‭ ‬يقيمون‭ ‬لها‭ ‬وزنًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعطى‭ ‬للاسم‭ ‬قبل‭ ‬العمل،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬فيها‭ ‬اللجان‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬ما‭ ‬تريده‭ ‬الهيئة‭ ‬المنظمة،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬تضيف‭ ‬الجائزة‭ ‬شيئًا‭ ‬إلى‭ ‬المبدع،‭ ‬وليس‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتفرج‭ ‬على‭ ‬المهازل‭ ‬كيف‭ ‬تصاغ،‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬عالَم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬عالَم‭ ‬لا‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬الأذى‭.‬

‭< ‬تعج‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬بعديد‭ ‬الأصوات‭ ‬الشعرية،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أضحى‭ ‬معها‭ ‬الأمر‭ ‬مزعجًا‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬وذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬استسهال‭ ‬مجموعة‭ ‬ممن‭ ‬يحسبون‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الصعبة‭ ‬والنبيلة،‭ ‬فما‭ ‬رأيك‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬كثر‭ ‬فيه‭ ‬الشعراء‭ ‬وقلّ‭ ‬فيه‭ ‬الشعر؟

‭- ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الشعر‭ ‬بخير،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬أحد،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الوسائط‭ ‬الإلكترونية‭ ‬قد‭ ‬شجعت‭ ‬ذلك‭ ‬وسهّلته،‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أقرأ‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬ولمختلف‭ ‬الحساسيات‭ ‬الشعرية‭ ‬لشعراء‭ ‬جيدين،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخطئ‭ ‬الأذن‭ ‬شاعرًا‭ ‬مهما‭ ‬علا‭ ‬الصوت‭ ‬النشاز،‭ ‬وسيأتي‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬فيه‭ ‬التاريخ‭ ‬ما‭ ‬خرس‭ ‬عنه‭ ‬الواقع،‭ ‬لأنه‭ ‬هو‭ ‬المنصف‭ ‬الأول‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬منصف‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭.‬

لكن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحذر‭ ‬منه،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬حاصل‭ ‬الآن،‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬دوائر‭ ‬كثيرة‭ ‬تشجع‭ ‬الرداءة‭ ‬بكل‭ ‬الأشكال،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يتوارى‭ ‬فيه‭ ‬شعراء‭ ‬حقيقيون‭ ‬في‭ ‬الظل،‭ ‬فالمسؤولية‭ ‬جسيمة‭ ‬وتاريخية،‭ ‬ومن‭ ‬واجب‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬المحاباة‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬ظرفها،‭ ‬ولا‭ ‬يسدر‭ ‬في‭ ‬إضفاء‭ ‬المصداقية‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬لا‭ ‬مصداقية‭ ‬لهم‭ .

د‭.‬عبدالرحيم‭ ‬العلام‭ ‬محاوراً‭ ‬الشاعرة‭ ‬أمينة‭ ‬المريني