الوعي بالزمن في «كتاب التجليات» للغيطاني

رحل عن عالمنا الكاتب الروائي جمال الغيطاني، أحد أبرز جيل كتَّاب الستينيات يوم 18 أكتــــوبر 2015 عــن عمر يناهز السبعــين عاماً بعد صراع مع المرض، وبعد أن دشن مشروعاً روائياً يتسم بعمق النظرة، واتساع الرؤية، والحوار مع التراث. وقد عبَّر الغيــطــــاني عن فلـــسفة الكتابة لديه في أحد مقالاته التي نشرت في مجلة «عيون المقالات» (العدد الثاني ص 146) بقوله: «لا أقول إنني أخلق شكلاً أدبياً جديداً، وإن ما أحاول من تجديد يتم بالطبع داخل إطار الفن الروائي... وما أقوم به محاولة تأصيل شكل روائي يستمد مقوماته من التـراث بمفهومه الواسع، بدءاً من التراث الشفهي للموروث الشعبي الذي اســتوعبته كثيراً بفضل نشأتي في الصعيد والجمالية، وحتى التراث المكتوب. وهنا يجب الإشارة إلى أن قلقي المستمر من أجل البحث عن شكل روائي جديد ليس من أجل خلق هذا الشكل فحسب، وإنما أحاول إيجاد أشكال فنية تتوافر فيها مساحة أكبر من القدرة على التعبير والحرية».
أصدرت الهيئة المصرية للكتاب دراسة نقدية – عقب رحيل جمال الغيطاني – بعنوان «شعرية النص الروائي... قراءة تناصية في كتاب التجليات» للناقد المغربي بشير القمري.
ويرى القمري أن «كتاب التجليات» يعبر عن إشكالية الفرد داخل عالم يتوزع بين ماض وحاضر، وبين إمكان الحضور في الثاني مع الاحتفاظ بهوية الانتماء إلى الأول، ومن ثم تبدأ رؤية ما للعالم تتشكل تدريجياً وتساهم فيها كل القصص المتراكبة في النص والمتفرعة عن القصة / النواة: القصة الذاتية التي تقترن بالمكون السيري للمؤلف «السارد»، وقصة الأب كبعد اجتماعي، وقصة «الحسين بن علي» كبعد ثقافي/ روحي، ثم قصة «جمال عبدالناصر» كبعد سياسي أيديولوجي.
وتسعى هذه القصة الذاتية إلى تمرير تلك الرؤية التي يظل فيها السارد الشخصية والبطل شاهد إثبات على الوفاء أو عدمه لذلك الماضي، وعلى الحاضر والأمل في مستقبل يتحقق بشكل من الأشكال. ويمكن اعتبار الموقف من «مصر» و«فلسطين» و«إسرائيل» أول مظهر يصوّغ ويصوغ تضاريس هذه الرؤية وتمفصلاتها، ثم يتبع ذلك الموقف من «الناصرية» كمعادل دلالي لانتصار المستقبل على الماضي والحاضر على السواء.
خطاب التجليات
إن السارد داخل كتاب التجلـــيات وهو يؤسس بؤرة الحكي، انطلاقاً من رحلة متخيلة مختلقة إلى الماضي البعيد (القرن الأول الهجري)، وإلى الماضي القريب (العقود الأخيرة من القرن الحالي)، يؤسس في الوقت نفسه أول تمفصل في التعبير عن هذه الرؤية للعالـــــم، وذلك عندما يتماهى صوته انطلاقـــــاً من قصدية الخطاب والملفوظ مع الصوت الروائي للمؤلف بنية إلغاء حـــــدود الفصل بين الماضي والحاضر، وبذلك تكون بداية استدعاء الماضي داخل النص كاملاً ليست مجرد صيغة سردية، وإنما هي وظيفة لتمرير خطاب مكتوم حول هذا الإلغاء. ورغم أن الشعور بالزمن في هذا النص السردي يظل «غائبا» فإنه يساهم في تأطير أحد مظاهر الأطروحة العامة عندما يتخذ الزمن بالفعل صورة ظواهر وأحداث وأفعال تبدو أجزاء مشتتة منفصلة، ولكنها تتصل في ما بينها، وتتداخل وتتبادل التأثير، وبذلك يترجم الغيطاني كما يترجم نص التجليات عناصر الأخذ والرد في تعامل الفرد العربي مع الزمن. كما تنتصب ملامح دلالة تتخذ الزمن وسيلة لتمرير خطاب أيديولوجي يصب في هذه الرؤية، ومن شأن هذا المقام الذي تحتله مقولة الزمن أن يصب في تحريك معادلة الوعي الممكن بالتغير والتحول كمنظومة يؤسسها خطاب التجليات وهو يتجه صوب المراهنة على الآتي. فيظل الزمن أقرب ما يكون في ملامحه من «اليوتوبيا» عندما يبدو «البطل» وبجواره أبطال آخرون يــــقودون الحرب ضــد العدو، كما يبدو الحاضر لحظة تذكر مستمرة إلى الأزل.
ويعكس هذا في العمق رؤية تبدو متأرجحة يتجاذبها الجدل والمثالية اللذان يحتدمان في تضاعيفها؛ فتارة تجنح هذه الرؤية إلى البعد الأول (الجدل)؛ وتارة أخرى تنحاز إلى البعد الثاني (المثالية)؛ ولا تعلن عن نفسها صراحة، بل إنها تتخذ فوق ذلك شكل رؤية ملتبسة بحسب وظيفة كل قصة من القصص المتراكبة.
ومن شــــأن هـــذا الالـــــتباس الرؤيــوي أن يـــؤكد إشكالية البطـــل الذي يظل تبـــعاً للـــــتوزع بين الماضي والحاضر متوزعاً بين الثــبات والتحول. ويستعير الغيطــــاني لتشــخــيص حدة التعارض بين البــطــل والعالم البعد الأول (الثبات) عندما يماثل بين زمن «الحسين» وعصر «جمال عبدالناصر»، ويجعل منهما كونين متطابقـــين يكرر ثانيـــــهما الأول على غرار تكرار مقولة الزمن في أوالية المحكي، والقول – فضلاً عن ذلك – بدائرية هذا الزمن المغلق الذي ينتقل كتلة واحدة ليصب في الحاضر.
استثمار الموروث
ويلجأ الغيطاني إلى البعد الثاني (التحول) عندما يجعل ظهور «عبدالناصر» رجعة هي وليدة الثبات الذي يسبق التغيير، وإن كانت عناصر كبح هذا التغير تظل هي الغالبة من خلال استثمار ما هو مرجعي – الهجوم الإسرائيلي على مصر – واستثمار المتخيل – أي قصة ظهور «رجعة» عبدالناصر في زمن لاحق غير محدد – وذلك لهدم الثبات كما يعبر عن ذلك مناخ مقطع «موقف الشدة».
ورغم الالتباس الذي أشار إليه القمري، يقترن بهذه الرؤية المركبة مسّ الشعــــب في وجدانه ومقدساته، بعد أن صار الزمن الإسرائيلي سبباً من أسباب تحفيز وعي السارد / البطل بزمنه الفعلي الخاص، ودفعه إلى الرحلة والتجلي.
كما يقتـــــرن بهــــذه الرؤية أيضاً جدلية التماثل بين عناصر فشل أحد رموز الدين في التراث الإسلامي وفشل «عبدالناصر» في خوضهما الصراع (الحرب).
ويخلص القمري إلى أن نص كتاب التجليات يستثمر الموروث ويعمل على ترسيخ التجريب، وذلك عن طريق العودة إلى الأصول السردية القديمة والعتيقة، ورغم انحياز المؤلف من حيث الشكل إلى ما وصفته جوليا كريستيفا بتحول الملفوظات لتحقق «العينة الأيديولوجية» من منظور التناص والـــــحوارية، فإن نص كتاب التجليات يحــــاور أيضاً الأشكال الحديثــة كالتضمين (قصة الصحفي الــــذي يــــروي قصة خروج جمال عبدالناصر) وقصدية استحضار التعدد اللغوي، من حــــيث الأسلبــة والمــــزج بيــــن الأجناس الأدبية وتشغيل العتيق منها في تضاريس الخطاب الروائي، ثم الميل إلى الاستمداد من المكون السيري والسير ذاتي، والاغتراف من العجائبي، والاسترفاد من كرامات المتصوفة.
ويحيل كتاب التجليات مــــن هـــــذا المنظــــور على أسئلة نظرية ونقــــدية لا تقف عند حدود المتن الروائي لدى الغيطـــاني وحده، وإنما تتجاوزه إلى المتن الروائــــي العربي الحديـــث عامـــة، خاصة أن نموذجاً من قبـــيل هذا الإنجاز – كتاب التجــليات – من شأنه أن يعيـــــد إلى الواجهـــــة وباستـــمرار مسألة التجريــب كمــسألة معرفية وموقف ثقافي من الذات ومن الآخر.
كما يراهن على تحديث الشكل، ويميل إلى محاورة القديم، وبين هذا الأفق وذاك ينشد إلى واقعية تجعل منه نصاً متميزاً إلى جانب نصوص روائية عربية أخرى، مثل نصوص صنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبـــــيبي، وعبدالله العروي وغيرهم .