الباحث والمفكر اللبناني د. خالد زيادة: أي بناء فكري جديد يبدأ من نقد الإخفاقات وتقييمها

الباحث والمفكر اللبناني د. خالد زيادة: أي بناء فكري جديد يبدأ  من نقد الإخفاقات وتقييمها

سبقهما إلى ذلك الطهطاوي صاحب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وانضم لاحقاً إلى أصدقاء أوربا جمهرة واسعة من المفكرين العرب، كان منهم الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الجامع الأزهر، والشيخ عبدالرزاق صاحب «الإسلام وأصول الحكم»، ود. طه حسين، وشيخ العروبة أحمد زكي، وجرجي زيدان، وفرح أنطون، ومنصور فهمي، وسواهم. وكانت العلاقة مع أوربا محور أعمال أدبية وروائية عربية عديدة، أشهرها «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس, وسواها. 
ولعل أحدث من كتب حول علاقة العرب مع أوربا، الباحث والمفكر د. خالد زيادة، سفير لبنان السابق في القاهرة، إذ أصدر حديثاً كتاباً بعنوان «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب»، نحا فيه منحىً مختلفاً عن منحى المفكرين العرب، يدل عنوانه أفضل دلالة عن مضمونه. في حين يرى آخرون أن العرب لم يستكملوا نهضتهم بعد، وأن أوربا أقرب القارات إليهم وأكثرها اتصالاً بهم، مازال لديها الكثير لتقدمه إليهم، سواء في الأفكار أو في المواقف أو في العلوم والتقنيات.
حول هذا الموضوع تحاور «العربي» د. زيادة، الذي أولى هذا الموضوع في كتبه وأبحاثه، ومنها هذا الكتاب، أهمية لافتة، لإعادة النقاش حوله. 
-عرضت في كتابك «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب» أطروحة مثيرة للجدل، خصوصاً أن هناك من اعتبر أنّ أوربا مازالت قارة منتجة للعلوم، ومازالت تلعب دوراً رئيساً ينبغي أخذه في الاعتبار.
- فكرتي في الكتاب ذهبت في اتجاه آخر، فأنا لم أتطرق إلى الأدوار السياسية للقوى العالمية، ولا إلى الإنتاج الصناعي، وإنما تحدثت عن الأفكار، إضافة إلى كل ما أبرزته وأظهرته خلال القرون الماضية من علم وتنظيم وسياسة واستعمار، فإن ميزة أوربا الكبرى هي الأفكار التي أطلقتها منذ عصر النهضة، تلك الأفكار التي غيرت نظرة الإنسانية إلى الكون والتقدم والعقل.
افتتحت أوربا عصر الحداثة بداية القرن السابع عشر مع الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وبعد الثورة الإنجليزية، افتُتح عصر الحداثة السياسية التي تعني فصل السلطات حسب جون لوك. انتقل التأثير الفكري الإنجليزي إلى القارة، وخصوصاً فرنسا التي عرفت عصر الأنوار ومبادئ الحرية والمساواة التي أصبحت شعارات الثورة الفرنسية.
وعلى امتداد عقود من الزمن كانت أفكار الثورة تنتشر في العالم، التي أضحت أفكاراً كونية ألهمت شعوباً من الصين إلى تركيا إلى مصر إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية. لقد تمثل العرب والمسلمون عامة هذه الأفكار خلال ما عُرف بعصر النهضة خلال القرن التاسع عشر، وجرى استيعاب لمفاهيم الحرية والوطن والمساواة والتقدم والتربية في أعمال الطهطاوي والبستاني وعلي مبارك وخير الدين التونسي، وفي مرحلة لاحقة في نهاية القرن التاسع عشر برزت الإصلاحية على أيدي الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إلا أن التأثير النهضوي والإصلاحي لهذه الأفكار انتهى مع الدخول في حقبة جديدة في وسط القرن العشرين، سمتها الرئيسة سيطرة الأنظمة الأحادية التي ألغت التعددية السياسية وأطاحت التجارب الديمقراطية.

أفكار كبرى
 -أشرت إلى الأفكار الكبرى، ما المقصود بذلك؟
- قبل بداية القرن العشرين كانت ثلاثة مذاهب فكرية قد انتشرت في أوربا، وهي الليبرالية والاشتراكية والقومية، وهذه المذاهب انتشرت في أرجاء المعمورة كافة وتبنتها الشعوب. الشيوعية انتصرت في روسيا والصين، والأفكار القومية تبنتها الشعوب التي كانت تكافح من أجل التحرر من الاستعمار الأوربي. 
الذي أردت قوله إن هذه الأفكار التي عرفناها وتبنتها نخب كونت أحزاباً مستندة إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو القومية والتي حركت الشعوب، قد خبا تأثيرها وتلاشى. ولم تعد أوربا تقدم للعرب، ولا لغيرهم الأفكار التي قدمتها في الماضي.
-كيف تفسّر انحسار هذه الأفكار؟ 
- خلال القرن العشرين شهدنا صعود هذه الأفكار التي تحولت إلى أيديولوجيات سياسية، كما شهدنا سقوطها. تسببت الأفكار القومية المتطرفة في الحرب العالمية الثانية، إلا أن أثر الفكر القومي استمر في بلداننا، وأنتج أنظمة أحادية، كذلك فإن الشيوعية انتشرت أحزابها في كل أنحاء العالم، وأنتجت أنظمة في بلدان كبرى، مثل روسيا والصين. كما انتشر تأثيرها في البلدان التي تبنت النموذج السوفـييتي كمصر والجزائر وغيرهما. 
وقد واجهت الدول والأمم التي تبنت الفكر الاشتراكي صعوبات في الاقتصاد والسياسة، الأمر الذي أدّى بالقيادة الصينية التي ورثت المؤسس ماو تسي تونج إلى تبني اقتصاد السوق، فأصبحت بعد عقد من الزمن من بين أبرز الاقتصادات العالمية. وبعد سنوات في وسط ثمانينيات القرن العشرين، شهدنا البروستريكا في الاتحاد السوفـييتي والتخلي عن الأيديولوجية الشيوعية وانهيار المنظومة الاشتراكية.
أما الأفكار القومية التي تبناها العرب بوجه الخصوص فقد أدّت إلى إخفاقات مدوية في الاقتصاد والسياسة أيضاً.

عوائق
- صحيح أننا أخذنا أفكاراً عن أوربا، منها على سبيل المثال فكر الديمقراطية، فهل كانت ترجمتنا العربية لهذه الأفكار دقيقة أم أننا حاكيناها محاكاة ساخرة؟
- كما ذكرت، فإن التجارب التحديثية في مجال السياسة والفكر لم تعش سوى بضعة عقود من الزمن في هذا البلد أو ذاك، وقد جابهت نوعين من العوائق: الأول يتعلّق باستيعاب التقاليد للتجارب التحديثية، وهذا ما تُفيدنا به الدراسات الأنثروبولوجية، حيث تجري عملية تطويع للهياكل والتنظيمات الحديثة من جانب التقاليد المورثة، خذ على سبيل المثال تأسيس الأحزاب التي هي أطر حديثة تضم أفراداً يؤمنون بأفكار واحدة ويعملون من أجل تحقيق برنامج معيّن, والذي حدث لدينا هو أننا أسسنا أحزاباً تحولت بسرعة إلى تنظيمات وائتلافات عشائرية أو عائلية أو طائفية. 
وتحولت البرلمانات التي أُقيمت من أجل التشريع إلى ساحة لتقاسم النفوذ والمغانم، في هذا المجال لابد من القول إن الديمقراطية لا تختصر بصندوق الاقتراع؛ فأساس الديمقراطية هو تكافؤ الفرص في التعليم والعمل والخدمات، وعندها يمكننا أن نقترب من غايات الديمقراطية، أي تحقيق التمثيل الصحيح. والذي يجري اليوم هو مسخ لعملية الديمقراطية، فضلاً عن التدخلات والتزوير، الأمر الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى امتناع الناخبين عن المشاركة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن بعض البلدان العربية شهدت إيقافاً قسرياً للنمو الديمقراطي من خلال سيطرة أنظمة أحادية ألغت تداول السلطة وألغت الحريات العامة، وفرضت رقابة على الفكر وعلى كل الأنشطة الاجتماعية.

الحداثة كل متكامل
هذه الأنظمة أرادت القول إن الحداثة تكون بشق الطرقات وبناء المصانع وتشييد السدود وبناء المدن. لكن الحقيقة أن الحداثة كل متكامل لا يمكن أن نأخذ بجانبها المادي دون الأفكار التي كانت الأساس في تحديث العقل والمجتمع. فمن دون إقامة نظام حديث يقوم على الشفافية والرقابة وحرية القضاء لا يمكن إجراء أي تحديث، فهذه المشاريع والمؤسسات تصبح أيضاً من نصيب القوى النافذة في المجتمع بغياب الرقابة والعدالة المستقلة.
وفي هذا المجال، لابد من القول إن حرية الفكر هي أساس الحداثة، وبعد ما يزيد على خمسين سنة من مطاردة الأفكار والتضييق على الرأي، فإن الحصيلة هي انتشار التطرف والإرهاب. إن مــــحـــــاصرة الــــــــــتطرف ومكافحة الإرهاب لا تكونان بالحلول الأمنية فقط، ولكن بتأمين حرية الأفكار، ومن هنا التشديد على إصلاح جذري للبرامج التعليمية من المستوى الابتدائي حتى الجامعي، لكي تتكون أجيال قادرة على التفكير الحرّ والنقدي، وقادرة على مجابهة فكر التطرف.
- تحدثت في كتابك عن الجوار العربي - الأوربي، باعتباره جواراً فريداً في الجغرافيا والتاريخ.
- إذا نظرنا إلى خريطة العالم، نجد أن لا جوار يشبه الجوار الإسلامي- العربي لأوربا. وهذا يعود إلى القرن الثامن الميلادي، حين كانت الدولة العباسية في الشرق تجابه البيزنطيين والدولة الأموية في الأندلس تجابه الممالك الكاثوليكية.
مع ذلك، فإن التاريخ يشير إلى وجود تنوّع في البيئة الإسلامية العربية، كما في البيئة الأوربية. لكن منذ أواسط القرن الخامس عشر بدأ هذا التنوع بالنفاذ لمصلحة ثنائية ستعيش مدة أربعة قرون من الزمن، فقد استطاعت الدولة العثمانية أن تقضي على الدولة البيزنطية والدولة المملوكية، واستطاع التحالف الكاثوليكي الإسباني أن يقضي على الوجود الإسلامي في الأندلس. وهكذا نشأت ثنائيات إسلامية - مسيحية، شرقية - غربية، أثرت ومازالت تؤثر على فهمنا لعلاقتنا مع الغرب وفهمنا لعلاقتنا بالعالم.
إذا استعرضنا هذا التاريخ المديد، نجد أن العالمين الإسلامي – العربي من جهة، والغربي - الأوربي - المسيحي، من جهة أخرى قد تبادلا التأثير والحروب والبضائع والأفكار بشكل لا مثيل له في أي جوار عالمي.

الإسلام الأندلسي
لــــقد لـــــــعب الإســلام الأندلسي، كما يخبرنا المستشرق مونتجمري واط، دوراً في بلورة وعي الأمم الأوربية بهويتها المسيحية، بل كان الإسلام سبباً في بروز الوعي المسيحي في أوربا، وصولاً إلى الحروب الصليبية التي سجلت أعلى درجات الصراع الديني في العصور الوسطى، كذلك فإن تقدم الجيوش العثمانية في شرق ووسط أوربا لعب دوراً في بلورة الوعي الأوربي، أي الوعي بالمصير المشترك للأمم التي تسكن غرب أوربا، ولم تظهر كلمة أوربا كانتماء وهوية مشتركة إلا في وسط القرن السادس عشر.
في المقابل، فإن أوربا التي كانت تتقدم فيها العلوم وتنتشر فيها أفكار واحدة برغم تعدد اللغات فرضت على العالم الإسلامي شروط التحديث، كما استطاعت أن تكسر قواعد الصراع التقليدية باكتشافها قارة جديدة وخطوطاً تجارية بحرية التفت فيها على احتكار الدولة العثمانية للبحر المتوسط.
هذا الجوار الطويل والكثيف يحدد وعينا الراهن، فمن معركة بواتيه أو بلاط الشهداء (732م) إلى الحروب الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلى حصار ڤـيينا (1529 و1683) ومعركة لينبت (1571)، التي دُمر خلالها الأسطول العثماني، إلى الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فإن ذاكرتنا مشبعة بتاريخ طويل من الصراع، الأمر الذي يدعونا إلى وضع الوقائع التاريخية في إطارها الزمني، وأن نخرج من فكرة الصراع مع الغرب، ونفك ثنائيات شرق- غرب، إسلام- مسيحية، وأن نحدد علاقتنا بالعالم على أساس الاستقلال والمصالح.
- لكن أوربا تغيرت، ولم تعد لها القوة والتأثير حسب أطروحتك.
- صحيح أن أوربا قد تغيرت، لقد انتهى عصر الاستعمار القديم، ولم تعد فرنسا وبريطانيا دولتين عظميين، ولم تعد أوربا تحتكر الصناعة، فالدول الصناعية الكبرى أصبحت في آسيا، فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، وكما ذكرنا فإن أوربا لم تعد مصدراً للأفكار الكبرى، بل ما نشهده أخيراً يظهر تجاوزها لثنائية اليمين واليسار.
ولكن الأهم من كل ذلك، أن أوربا التي ظهرت، أو قدمت نفسها بأنها مشروع كوني، وأن شعوب العالم لابد أن تحذو حذوها، لم تعد تؤمن بكونيتها وعالميتها، وحسب هانتجون فإن «الغرب متفرد وليس عالمياً». ونلاحظ مظاهر ذلك في انسحاب أوربا، والغرب عامة، عن الانخراط في القضايا والصراعات الإقليمية. ولا شك في أن نهاية الحرب الباردة قد حملت معها تغيراً كبيراً في صورة التجاذبات العالمية. ومازالت تعيش تداعياتها حتى يومنا هذا. 
لم يعد الغرب مؤمناً بأن الأفكار التي أطلقها في عصر التنوير هي أفكار تخص الإنسانية كافة. وحين يصل الغرب إلى القناعة بأن قيمه ليست قيماً كونية، فهذا لا يشير إلى تواضع، بل يحمل في طياته القول بأن الشعوب الأخرى ليست قادرة على استيعاب قيم الحرية والديمقراطية.

أزمة عميقة
- أين نحن من هذه التغيرات التي يشهدها العالم؟
- عرف العالم العربي فترتي نهوض، الأولى في أواسط القرن التاسع عشر، حين برز الاتجاه الداعي إلى الأخذ بعلوم أوربا وتقدمها، والثانية في أواسط القرن العشرين في مرحلة التحرر من الاستعمار.
لا شك في أننا نمر منذ نصف قرن من الزمن بأزمة عميقة، كان عنوانها الهزيمة المدوية في يونيو 1967، فقد كشفت تلك الهزيمة هشاشة وضعف البناء السياسي والاقتصادي الذي أسسته الأنظمة الأحادية، التي كانت قد ألغت الحريات وصادرت الممتلكات باسم العدالة، وفرضت نظاماً عقائدياً مؤسساً على رقابة الأمن والمخابرات. أطلقت تلك الأنظمة شعارات، ولم تستطع أن تحقق أياً من شعاراتها، فباسم التحرير حصدنا الهزائم وقضينا على الرأي، وباسم الاشتراكية تردى الاقتصاد، وباسم الوحدة ازدادت الفرقة والتشرذم. كانت التركة ثقيلة إلى درجة أننا لم نستطع أن ننجز بناء ولا حتى رسم ملامح مشروع ثقافي وسياسي واقتصادي جديد يتناسب مع العصر.
فالعالم حقق إنجازات كبرى خلال العقود الأخيرة، ولسنا نحن سوى مستهلكين لما ينتجه العالم المتقدم صناعياً وتقنياً، والذي لم يعد يقتصر على أوربا والغرب، في المقابل فإننا تأخرنا في المجال العلمي وتراجعت جامعاتنا، وكذلك تأخرت الاقتصادات العربية، في الوقت الذي تقدمت فيه دول مثل كوريا وماليزيا كانت حتى عقود قليلة خلف مصر وسورية في معدلات النمو.
- تحدثت عن مشروع ثقافي وسياسي، ما هي ملامح هذا المشروع في رأيك؟
- بناء المشروع الثقافي والسياسي لابدّ أن يقوم على الأسس التالية:
 - استعادة الأفكار التي كانت تشكل عناصر المشروع النهضوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والقائمة على استيعاب حداثة العصر المؤسسة على مفاهيم الحرية والدستور والتربية والصناعة والزراعة. هذه الأفكار التي عبّر عنها رواد النهضة.
- نقد صارم للتجارب العربية الأحادية في أوجهها المختلفة الاقتصادية والسياسية والفكرية. وهذا الأمر لم يتحقق حتى اليوم، بالرغم من أن أي بناء فكري جديد لابد أن يعبر من خلال نقد وتقييم للإخفاقات التي ممرنا بها.
- استيعاب للقيم المعاصرة وأساسها الحرية والتنوع وقبول الآخر، والأهم هو فصل الدين عن السياسة، وإعادة الاعتبار للدين الفردي، وإعادة النظر في علاقتنا بالعالم .