أمين نخلة... أيقونة الجمال والأناقة في الشعرية اللبنانية

أمين نخلة...  أيقونة الجمال والأناقة في الشعرية اللبنانية

يمثل‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬خلاصة‭ ‬الخلاصة‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬الشعرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬أناقةً‭ ‬وترفاً‭ ‬وإبداع‭ ‬لغة‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مدار‭ ‬الأفق‭ ‬الشعري‭ ‬اللبناني‭ ‬الذي‭ ‬اكتملت‭ ‬فيه‭ ‬الكواكب‭ ‬الكبرى،‭ ‬وانطلقت‭ ‬أشعتها‭ ‬الغامرة‭ ‬واسطة‭ ‬العقد،‭ ‬بين‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ (‬بشارة‭ ‬الخوري‭) ‬وإلياس‭ ‬أبوشبكة‭ ‬وسعيد‭ ‬عقل‭. ‬يظل‭ ‬شعره‭ ‬الأصفى‭ ‬والأنقى،‭ ‬والأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعة‭ ‬الفراشية‭ ‬المحلّقة‭ ‬والبساطة‭ ‬العميقة‭ ‬النافذة،‭ ‬واللغة‭ ‬الزاهية‭ ‬المحكمة،‭ ‬والطرب‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يصحبه‭ ‬مبدعاً،‭ ‬ويصاحب‭ ‬قارئه‭ ‬مترنماً‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬شوقي،‭ ‬شاعر‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬قبل‭ ‬مبايعته‭ ‬بإمارة‭ ‬الشعر‭ ‬بعامين،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬اكتشاف‭ ‬جوهر‭ ‬الشاعرية‭ ‬عند‭ ‬أمين‭ ‬نخلة،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1925‭: ‬

 

هذا‭ ‬وليٌّ‭ ‬لعهدي

وقيّم‭ ‬الشعري‭ ‬بعدي

كأنّ‭ ‬شعر‭ ‬أمينٍ

من‭ ‬نفح‭ ‬بانٍ‭ ‬ورنْدِ

أو‭ ‬من‭ ‬عناقِ‭ ‬التصابي

وقرْع‭ ‬خدٍّ‭ ‬بخدِّ

أو‭ ‬من‭ ‬حديث‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬هاني‮»‬

يُعيد‭ ‬فيه‭ ‬ويُبدي

أو‭ ‬من‭ ‬حنين‭ ‬الهوادي

إلى‭ ‬العرار‭ ‬ونجْدِ

ديوانه‭ ‬زَفُّ‭ ‬طيبٍ

ونشْرهُ‭ ‬نشْرُ‭ ‬وردِ

والعصرُ‭ ‬عصرُ‭ ‬أمينٍ

خيرٌ،‭ ‬ومطلعُ‭ ‬سعدِ

ويقول‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬لديوانه‭ ‬الثالث‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬الرّقمَين‮»‬‭ ‬متحدثاً‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬حياته‭ ‬الشعرية‭ ‬والوجدانية‭: ‬‮«‬ولقد‭ ‬حدث‭ ‬لصاحبي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬أمره‭ ‬بمشاهد‭ ‬الجمال،‭ ‬أن‭ ‬وقعت‭ ‬عيناه‭ ‬على‭ ‬جنّةٍ‭ ‬مرفوعة‭ ‬فوق‭ ‬قدمين،‭ ‬تُلألئُ‭ ‬الضحكات‭ ‬والألفاظ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الفم‭ ‬الزاهي،‭ ‬وتصبُّ‭ ‬صبّ‭ ‬الأنوار‭ ‬حول‭ ‬القامة‭ ‬الفارعة،‭ ‬أولَ‭ ‬العمر،‭ ‬وأولَ‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬هو‭ ‬كيف‭ ‬يدقُّ‭ ‬القلب‭ ‬دقًّا‭ ‬شديداً،‭ ‬فهرع‭ ‬إلى‭ ‬الكتب،‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬أو‭ ‬نثر،‭ ‬صوتاً‭ ‬يرجع‭ ‬إليه‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬من‭ ‬ضجة‭ ‬مدوية‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬الجمال،‭ ‬فيستريح‭ ‬إلى‭ ‬الأُسوة‭.‬

ثم‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬ولقد‭ ‬فتح‭ ‬يومئذٍ‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأجال‭ ‬عينيه‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولكن‭ ‬دواءً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬خلف‭ ‬جوانحه‭ ‬لم‭ ‬يظفر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحروف،‭ ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬السرَّ‭ ‬الذي‭ ‬يصونه‭ ‬في‭ ‬ضميره،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يدلُّ‭ ‬إلى‭ ‬الصواب‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬العقل‭ ‬والقلب،‭ ‬هيهات‭ ‬أن‭ ‬يسوق‭ ‬إلى‭ ‬المراد‭ ‬يوم‭ ‬تتكلّف‭ ‬هذه‭ ‬الأقلام‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مسائل‭ ‬الحياة‭ ‬بلوغ‭ ‬النهايات‭ ‬من‭ ‬التبيين‭. ‬

وها‭ ‬هو‭ ‬اليوم،‭ ‬وقد‭ ‬علتْه‭ ‬الكبْرة‭ ‬أو‭ ‬كابد‭ ‬في‭ ‬مصاير‭ ‬الأيام‭ ‬فحصاً‭ ‬واختباراً،‭ ‬وفتح‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬الكتب،‭ ‬وكتب‭ ‬آلاف‭ ‬الصحائف،‭ ‬عاد‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬أوله‭: ‬عجز‭ ‬حروف،‭ ‬وكلال‭ ‬بصر‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬المدى‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬وطول‭ ‬التحديق‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭. ‬والله‭ ‬ما‭ ‬أصدق‭ ‬قول‭ ‬واحد‭ ‬الآحاد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ (‬يقصد‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭): ‬‮«‬يا‭ ‬ليت‭ ‬شعريَ‭ ‬هل‭ ‬قلتُ‭ ‬الذي‭ ‬أجِدُ؟‮»‬‭. ‬يريد‭ ‬شوقي‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬الدواة‭ ‬والصحيفة‭ ‬طويل‭ ‬صعب،‭ ‬يعيا‭ ‬فوقه‭ ‬القلم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬البياض‭. ‬

فيا‭ ‬صاحبي،‭ ‬وما‭ ‬لي‭ ‬لا‭ ‬أقول‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أنا‭!‬،‭ ‬وإن‭ ‬استغرب‭ ‬هذا‭ ‬الاستعمال‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬النداء‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الكتــاب‭ ‬الشعــــري‭ ‬الذي‭ ‬أخرجـــــه‭ ‬اليوم‭ ‬بعد‭ ‬أخويه‭ ‬‮«‬دفتر‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬و«الديوان‭ ‬الجديد‮»‬‭. ‬لم‭ ‬أغفل‭ ‬في‭ ‬قصائره‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬طِواله،‭ ‬شدة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬سر‮»‬‭ ‬الصّبا،‭ ‬والتمسك‭ ‬ما‭ ‬استطعت‭ ‬بأذيال‭ ‬صوابه،‭ ‬حتى‭ ‬إنني‭ ‬قد‭ ‬عشت‭ ‬أيام‭ ‬عمره‭ ‬وكأني‭ ‬إبرة‭ ‬الشمال،‭ ‬دائم‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المجالس،‭ ‬فماذا‭ ‬أراني‭ ‬صنعت؟‭ ‬وبأي‭ ‬شيءٍ‭ ‬أتيت؟

هذا‭ ‬هو‭ ‬أمين‭ ‬رشيد‭ ‬نخلة،‭ ‬في‭ ‬بوحه،‭ ‬مشدود‭ ‬دوماً‭ ‬إلى‭ ‬صباه،‭ ‬ومُحلّق‭ ‬دوماً‭ ‬في‭ ‬آفاق‭ ‬الطبيعة‭ ‬الريفية‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬منجذب‭ ‬إلى‭ ‬إبداع‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الزجل‭ ‬الذي‭ ‬لُقّب‭ ‬فيه‭ ‬بأمير‭ ‬الزجل،‭ ‬ومنشغل‭ ‬بحياة‭ ‬لبنانية‭ ‬ممتلئة‭ ‬بالصـــراع‭ ‬والحيوية،‭ ‬فهو‭ ‬يعمل‭ ‬بالمحاماة‭ ‬وينتخب‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬اللبناني،‭ ‬ويجد‭ ‬متعته‭ ‬في‭ ‬إصدارات‭ ‬أدبية‭ ‬متنوعة،‭ ‬ليست‭ ‬مقصورة‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬المفكرة‭ ‬الريفية،‭ ‬وأوراق‭ ‬مسافرة،‭ ‬والأساتذة‭ ‬في‭ ‬النثر‭ ‬العربي،‭ ‬وذات‭ ‬العماد،‭ ‬وتحت‭ ‬قناطر‭ ‬أرسطو‭. ‬أما‭ ‬شعره‭ ‬فيتمثل‭ ‬في‭ ‬مجموعاته‭ ‬الثلاث‭: ‬‮«‬دفتر‭ ‬الغزل‮»‬‭ ‬و«الديوان‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬و«ليالي‭ ‬الرقمين‮»‬‭.‬

وأمين‭ ‬نخلة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬المنتبهين‭ ‬لذواتهم،‭ ‬المهمومين‭ ‬لها،‭ ‬العاكفين‭ ‬على‭ ‬تأملها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحلها‭ ‬ومساراتها،‭ ‬شأن‭ ‬من‭ ‬يشغله‭ ‬داخله‭ ‬وقد‭ ‬انسكبت‭ ‬فيه‭ ‬عصارات‭ ‬الحياة‭ ‬وحُميّاها،‭ ‬واشتعلت‭ ‬فيه‭ ‬أشواق‭ ‬الشاعر‭ ‬وغائبه‭ ‬ونزواته،‭ ‬واصطرعت‭ ‬فيه‭ ‬آيات‭ ‬إيمانه‭ ‬وشكه،‭ ‬وقلقه‭ ‬ونزقه،‭ ‬وحكمته‭ ‬وحمقه‭. ‬

 

عالمه‭ ‬الشعري

لنقترب‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الشعري‭ ‬لأمين‭ ‬نخلة‭ (‬1901‭ - ‬1976‭) ‬وهو‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬البحر،‭ ‬وعن‭ ‬حسنائه‭ ‬اللبنانية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬بيتها‭ ‬في‭ ‬الشاطئ‭: ‬

لقد‭ ‬حدّثوا‭ ‬البحر‭ ‬عن‭ ‬درةٍ

حوى‭ ‬الشطُّ‭ ‬منْبتها‭ ‬في‭ ‬خفاء

وقالوا‭ ‬له‭: ‬ليس‭ ‬في‭ ‬دُرِّهِ

كذاك‭ ‬الشعاع،‭ ‬وذاك‭ ‬النّقاء

تكاد،‭ ‬إذا‭ ‬أوصدت‭ ‬بابها

تضيءُ‭ ‬الشقوق‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬وراء

فلم‭ ‬يحضن‭ ‬الصّدفُ‭ ‬المشرقيُّ

مثيلا‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬صخرٍ،‭ ‬وماء

فهام‭ ‬بها‭ ‬البحر،‭ ‬لا‭ ‬ينثني

عن‭ ‬الشطِّ‭ ‬في‭ ‬صُبحه‭ ‬والمساء

فطورا‭ ‬يدانيه‭ ‬حلو‭ ‬الرّضا

لطيف‭ ‬الرَّشاشِ،‭ ‬لطيف‭ ‬الهواء

وطوراً‭ ‬يُيمّمهُ‭ ‬غاضباً

يُجلجلُ‭ ‬كالليث‭ ‬ملءَ‭ ‬الفضاء

ويا‭ ‬طالما‭ ‬راق،‭ ‬أو‭ ‬رقَّ،‭ ‬أو

تعلّى،‭ ‬وكرَّ،‭ ‬وأعيا،‭ ‬وناء

فآنا‭ ‬كما‭ ‬شعفاتُ‭ ‬الجبالِ

وآنا‭ ‬كما‭ ‬صفحاتُ‭ ‬المِراء

وكم‭ ‬عاف،‭ ‬والشمس‭ ‬عند‭ ‬المغيبِ

مفاتن‭ ‬بين‭ ‬السَّنا‭ ‬والسّناءْ

فلم‭ ‬يحتفلْ‭ ‬بعروس‭ ‬النّهارِ

وركب‭ ‬الجلال،‭ ‬وخطْو‭ ‬الضياء

وكم‭ ‬في‭ ‬الغليل‭ ‬غدت‭ ‬رملةٌ

ولم‭ ‬يلتفت‭ ‬للرّمال‭ ‬الظِّماء

وكم‭ ‬في‭ ‬الشواطئ‭ ‬إنسيّةٌ

أتته‭ ‬وقد‭ ‬عريت‭ ‬من‭ ‬غطاء

تُغوّص‭ ‬ساقاً،‭ ‬وتخطف‭ ‬أخرى

فلله‭ ‬من‭ ‬ملعبٍ‭ ‬للرُّواء

ولكنما‭ ‬البحرُ‭ ‬في‭ ‬همِّه

بتلك‭ ‬التي‭ ‬حرمتْهُ‭ ‬الثَّواء

فإن‭ ‬أنتِ‭ ‬شارفْتهِ‭ ‬مرّةً

تُطلّين‭ ‬من‭ ‬كُوّةٍ‭ ‬أو‭ ‬فِناء

وأيْقنَ‭ ‬أنكِ‭ ‬وافيْتهِ

فجاء‭ ‬بزُرقتهِ‭ ‬والصفاء

وغلغل‭ ‬في‭ ‬الشطِّ‭ ‬بعد‭ ‬الهديرِ

وبعد‭ ‬الطواف،‭ ‬وبعد‭ ‬العياء

فلا‭ ‬تسألي‭ ‬الناس‭: ‬ما‭ ‬بالُه

تهلَّل؟،‭ ‬فهو‭ ‬غريبُ‭ ‬الرّضاء

ويطلعنا‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ - ‬في‭ ‬مقطوعة‭ ‬شعرية‭ ‬بديعة‭ - ‬على‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬وموقع‭ ‬الشعر‭ ‬منه،‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬رشيقة‭ ‬حانية،‭ ‬ولغة‭ ‬شفيفة‭ ‬كاشفة،‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬إعنات‭ ‬أو‭ ‬مشقة،‭ ‬فهو‭ ‬يغترف‭ ‬من‭ ‬نبع‭ ‬شاعرية‭ ‬عميق،‭ ‬ووجدان‭ ‬شعري‭ ‬فوّار‭ ‬وممتلئ‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

الشعر‭ ‬زاد‭ ‬القلب،‭ ‬مُتعةُ‭ ‬لهوهِ

والرأي‭ ‬يأخذ‭ ‬منه‭ ‬حسوةَ‭ ‬شاربِ

أنا‭ ‬لو‭ ‬سُئلتُ،‭ ‬لقلتُ‭ ‬في‭ ‬تعريفه

طربٌ‭ ‬يهزُّك،‭ ‬كالغناءِ‭ ‬الصاخبِ

لم‭ ‬تدْرِ‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬الجهات‭ ‬أتاك،‭ ‬هل

من‭ ‬ملْئهِ،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬القالبِ

دعْ‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬فصّلوا‭ ‬في‭ ‬وصفهِ

ما‭ ‬بين‭ ‬مشتطٍّ‭ ‬يقول‭: ‬وناكب

فالروض‭ ‬لم‭ ‬تسأل‭ ‬بطلعة‭ ‬زهْرهِ‭:‬

من‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬بأنجمٍ‭ ‬وكواكبِ

لم‭ ‬نذكر‭ ‬الغيثَ‭ ‬المُلمَّ،‭ ‬وتُربةً

أمّا،‭ ‬وتحنان‭ ‬الشعاعِ‭ ‬السّاكِب

ولعلَّ‭ ‬رأي‭ ‬الذوْق‭ ‬فيه‭ ‬مُقدَّمٌ‭ ‬

فالذوق‭ ‬للشعراء‭ ‬ضربةُ‭ ‬لازبِ

سيانِ‭ ‬منه‭ ‬قديمه‭ ‬وجديدهُ

فالشمسُ‭ ‬أختٌ‭ ‬للزمانِ‭ ‬الشائبِ

لله‭ ‬مولدُها‭ ‬الحبيبُ‭ ‬على‭ ‬الضحى

فبهِ‭ ‬نسيت‭ ‬شروق‭ ‬يومٍ‭ ‬ذاهبِ

من‭ ‬السهل‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬نكتشف‭ ‬ولع‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬بالجمال،‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صوره‭ ‬وتجلياته،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬الصعب،‭ ‬والصعب‭ ‬جدًّا‭ ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬شاعر‭ ‬محاكاة‭ ‬هذا‭ ‬الفتك‭ ‬الذي‭ ‬يمارسه‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬باللغة‭ ‬والصورة‭ ‬والتعبير‭. ‬إنه‭ ‬قناص‭ ‬عظيم‭ ‬الخبرة،‭ ‬سريع‭ ‬الوثوب‭ ‬والحركة،‭ ‬خفيف‭ ‬التنقل‭ ‬والالتفات،‭ ‬رشيق‭ ‬الهجمــــة‭ ‬والافتراس،‭ ‬حين‭ ‬يزمع‭ ‬اختراق‭ ‬المألوف‭ ‬المعاد‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الشعراء،‭ ‬إلى‭ ‬عالمه‭ ‬البكر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجسر‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬اقتحامه،‭ ‬مُنوّعاً‭ - ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ - ‬من‭ ‬وقفاته‭ ‬والتفاتاته،‭ ‬عارفاً‭ ‬ومدركاً‭ ‬لكل‭ ‬موطئ‭ ‬قدم،‭ ‬ورفرفة‭ ‬جناح‭.‬

في‭ ‬قصيدة‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬السوداء‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شُهرتْ‭ ‬بهذا‭ ‬اللقب،‭ ‬فأبقاه‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬ديوانه،‭ ‬يقول‭: ‬

لا‭ ‬تُعجّل،‭ ‬فالليل‭ ‬أندى‭ ‬وأبردْ

يا‭ ‬بياض‭ ‬الصباح،‭ ‬والحسنُ‭ ‬أسوْد‭!‬

ليلتي‭ ‬ليلتانِ‭ ‬في‭ ‬الحَلكِ‭ ‬الرَّطْبِ

فجُنحٌ‭ ‬مضى،‭ ‬وجنحٌ‭ ‬كأن‭ ‬قدْ

وكأني‭ ‬على‭ ‬الغصون‭ ‬من‭ ‬اللّينِ

وهزّ‭ ‬الثمار،‭ ‬ما‭ ‬تتأود‭!‬

في‭ ‬النسيم‭ ‬العبيقِ،‭ ‬في‭ ‬النَّفسِ‭ ‬الحلْوِ

فيا‭ ‬طيب‭ ‬مُسكةٍ‭ ‬تتنهّدْ

ستّ،‭ ‬نحن‭ ‬العبيدُ‭ ‬في‭ ‬مجدكِ‭ ‬الأسو

دِ،‭ ‬أهل‭ ‬البياض،‭ ‬نشقى‭ ‬ونسعد

من‭ ‬حواليْ‭ ‬فرقيْكِ،‭ ‬في‭ ‬مسحة‭ ‬الطرّ

ةِ،‭ ‬شيء‭ ‬كأنه‭ ‬يتوعد‭ ‬

وعلى‭ ‬مسقط‭ ‬القميص‭ ‬إلى‭ ‬الخصْـ

ـر،‭ ‬وعند‭ ‬انفلاته‭ ‬جهدُ‭ ‬مُجْهَدْ

يشهد‭ ‬اللين‭ ‬والملاسةُ‭ ‬والزَّلـ

ـقُ،‭ ‬بأني‭ ‬في‭ ‬غيرِ‭ ‬ما‭ ‬مُتوسَّدْ

ألف‭ ‬غُصنٍ‭ ‬في‭ ‬ألْفِ‭ ‬هزّة‭ ‬غُصْنٍ

وقيامٌ‭ ‬مع‭ ‬الغصون‭ ‬ومَقْعَد

كان‭ ‬أولى‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬آخذُ‭ ‬بالخصْـ

ـرِ،‭ ‬ولكن‭ ‬يكاد‭ ‬بالكفِّ‭ ‬يُعقدْ

سلمَ‭ ‬الخصْرُ،‭ ‬لهو‭ ‬ينحطُّ‭ ‬بالحمـ

ـلِ،‭ ‬وينآد‭ ‬حيثما‭ ‬يتأيّدْ

طوِّلي‭ ‬ليلتي،‭ ‬على‭ ‬المرمرِ‭ ‬الرَّخْـ

ـصِ،‭ ‬وفي‭ ‬اللمح‭ ‬من‭ ‬سواد‭ ‬الزبرجد

وانزلي‭ ‬الآبنوسَ،‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬العو

دِ،‭ ‬على‭ ‬مُترعِ‭ ‬المناعمِ‭ ‬أرغدْ

مهرجانٌ‭ ‬لنا،‭ ‬ونُهزةُ‭ ‬سعدٍ

تحت‭ ‬سِتْرِ‭ ‬الدُّجى،‭ ‬وزادٌ‭ ‬مُزوّدْ‭!‬

‭*  *  *‬

في‭ ‬قصيدة‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬تكريم‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ (‬بشارة‭ ‬الخوري‭) ‬ومبايعته‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬أميراً‭ ‬للشعراء‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬شوقي،‭ ‬يتكشف‭ ‬اعتزاز‭ ‬أمين‭ ‬بعبقرية‭ ‬الشعر‭ ‬اللبناني،‭ ‬وشموخ‭ ‬شعرائه‭ ‬الكبار‭ ‬بين‭ ‬سائر‭ ‬شعراء‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬والوشيجة‭ ‬القوية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تربط‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير،‭ ‬باعتبارهما‭ ‬شاعري‭ ‬لبنان‭ ‬اللّذين‭ ‬يتصدران‭ ‬موكب‭ ‬الأناقة‭ ‬الشعرية،‭ ‬ويخوضان‭ ‬معاً‭ ‬معركة‭ ‬الجمال،‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

أيقولون‭: ‬أخطلٌ،‭ ‬وصغيرُ

أنت‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬القوافي‭ ‬أميرُ

ولك‭ ‬التاج‭ ‬والمطارفُ‭ ‬والبُرْدُ

وركنٌ‭ ‬مُجلّلٌ،‭ ‬وسريرُ

فاسحب‭ ‬الذيل‭ ‬ما‭ ‬تشاءُ،‭ ‬وجَرِّرْ

إنّ‭ ‬مُلْكَ‭ ‬البيان‭ ‬مُلكٌ‭ ‬كبيرُ

وضع‭ ‬العصرُ‭ ‬في‭ ‬يديْكَ‭ ‬أمانا

تِ‭ ‬القوافي،‭ ‬والعبءُ‭ ‬حيث‭ ‬الجديرُ

قد‭ ‬أبى‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الفصاحة‭ ‬أن‭ ‬يغْـ

ـدُو‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬العالمين‭ ‬أخيرُ

يأنف‭ ‬السّفحُ‭ ‬والغمائمُ‭ ‬والدَّوْ

حُ،‭ ‬وظلٌّ‭ ‬مُفيّحٌ،‭ ‬وغديرُ

فارفع‭ ‬الصوت،‭ ‬إنه‭ ‬صوتُ‭ ‬لُبنا

نَ،‭ ‬وردّدْ‭ ‬به،‭ ‬ونِعْمَ‭ ‬الجهيرُ

مُخوِلٌ‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬الفخار،‭ ‬مُعمٌّ

فلنا‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬جاهٌ‭ ‬أثيرُ

لم‭ ‬تُغرّدْ‭ ‬فصاحةُ‭ ‬العُرْبِ‭ ‬إلا‭ ‬

كان‭ ‬منّا‭ ‬المُغرّدُ‭ ‬الشحرورُ‭!‬

إنَّ‭ ‬وادي‭ ‬‮«‬العقيق‮»‬‭ ‬في‭ ‬فرحة‭ ‬الشّعـ

ـرِ،‭ ‬فقد‭ ‬عاد‭ ‬عهدهُ‭ ‬الممطورُ

ماجت‭ ‬البيدُ‭ ‬من‭ ‬إجادات‭ ‬‮«‬قيْسٍ‮»‬

وانثنت‭ ‬أربُعٌ‭ ‬إليه‭ ‬ودورُ

أين‭ ‬‮«‬ليلى‮»‬‭ ‬وقدُّ‭ ‬ليلى،‭ ‬فقد‭ ‬حنَّ

إليه‭ ‬هذا‭ ‬الدّمقسُ‭ ‬الحريرُ؟

غزلٌ‭ ‬رقّ‭ ‬كالرنين‭ ‬على‭ ‬الوجـ

ـد،‭ ‬ولانت‭ ‬له‭ ‬القلوب‭ ‬الصخورُ

تسمعُ‭ ‬الدقَّ‭ ‬فيه‭ ‬للقلب،‭ ‬بل‭ ‬تنـ

ـظرُ‭ ‬دمعاً‭ ‬يجري،‭ ‬ودمعاً‭ ‬يفورُ

مطربٌ‭ ‬مُعجبٌ،‭ ‬فكيف‭ ‬لك‭ ‬الله

ببردِ‭ ‬القلوب‭ ‬جاء‭ ‬السّعيرُ

في‭ ‬قوافٍ،‭ ‬لولا‭ ‬اللآلئ‭ ‬منها

لا‭ ‬يُقالُ‭ ‬الأوزانُ،‭ ‬ثَمَّ،‭ ‬بحورُ

ومبانٍ‭ ‬من‭ ‬دقة‭ ‬النَّسْجِ‭ ‬أثنا

ءُ‭ ‬حبيرٍ،‭ ‬لا‭ ‬أحرفٌ‭ ‬وسطورُ

دقة‭ ‬عندها‭ ‬من‭ ‬الإبر‭ ‬اللُّطْـ

ـفُ،‭ ‬وفي‭ ‬الخزِّ‭ ‬أيُّ‭ ‬غرزٍ‭ ‬يجورُ

ومعانٍ‭ ‬كأنَّ‭ ‬موهنة‭ ‬المِسْـ

ـكِ،‭ ‬وقد‭ ‬حُرّكت،‭ ‬وفاح‭ ‬العبيرُ

وكأن‭ ‬انحدارها‭ ‬في‭ ‬مجاري‭ ‬السَّمْـ

ـع،‭ ‬ماءٌ‭ ‬مهرولٌ،‭ ‬وهديرُ

صدفاتُ‭ ‬الآذانِ‭ ‬أوْلى‭ ‬بضمِّ‭ ‬الدّ

رّ،‭ ‬لكن‭ ‬له‭ ‬هناك‭ ‬مرورُ

ذاك‭ ‬غيرُ‭ ‬الجزيل‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬والحكْـ

ـمة،‭ ‬وهو‭ ‬المرُدَّدُ‭ ‬المأثورُ

لفتاتٌ‭ ‬للذهن‭ ‬والحسِّ،‭ ‬لا‭ ‬تغـ

ـربُ‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬وشْكِ‭ ‬لمحٍ‭ ‬أمورُ

غاية‭ ‬الفَجْءِ،‭ ‬والوثوب،‭ ‬فما‭ ‬سهـ

ـمٌ‭ ‬يرنّى،‭ ‬وما‭ ‬جناحٌ‭ ‬يطيرُ‭!‬

من‭ ‬أعالٍ‭ ‬في‭ ‬اللبِّ‭ ‬تُلحظ‭ ‬بالظنِّ

فتُجلى‭ ‬من‭ ‬الغيوبِ‭ ‬السُّتورُ

ولَنِعمَ‭ ‬الفتونُ‭ ‬بالحسْنِ،‭ ‬ما‭ ‬لوَّ

حَ‭ ‬بادٍ‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬غريرُ

أتُرى‭ ‬الحسنُ‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬تجلَّى

ليراهُ‭ ‬هذا‭ ‬اللسانُ‭ ‬البصيرُ

رُبَّ‭ ‬قولٍ‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الظُّللِ‭ ‬الخضْـ

ـرِ،‭ ‬وقد‭ ‬حفَّها‭ ‬صِباً‭ ‬وبكورُ

تخرجُ‭ ‬العينُ‭ ‬منه‭ ‬بالوهم،‭ ‬لا‭ ‬تد

ري،‭ ‬أروض‭ ‬يهتزُّ‭ ‬أم‭ ‬تصْوير‭!‬

ليس‭ ‬وصفاً،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬نقلٌ

من‭ ‬مكانٍ،‭ ‬وفي‭ ‬مكانٍ‭ ‬يصيرُ

وخيالٍ‭ ‬كأنما‭ ‬غمر‭ ‬الدنـ

ـيا،‭ ‬وما‭ ‬ضاق‭ ‬عنه‭ ‬سطرٌ‭ ‬قصيرُ

عمْرك‭ ‬الله،‭ ‬هل‭ ‬رأيت‭ ‬كبيْت‭ ‬الشّـ

ـعرِ‭ ‬كهفاً،‭ ‬يأوي‭ ‬إليه‭ ‬الضميرُ‭!‬

بين‭ ‬شطريْهِ‭ ‬قد‭ ‬أُتيح‭ ‬بياضٌ

وانفساحٌ،‭ ‬فلينزل‭ ‬المعمورُ

وفي‭ ‬ختام‭ ‬قصيدته‭ ‬البديعة‭ ‬يقول‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬وهو‭ ‬مستمر‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬عبقرية‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬الشعرية،‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬رمز‭ ‬العبقرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة،‭ ‬حين‭ ‬يصنعُها‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العصور،‭ ‬عطاءً،‭ ‬وفيْضاً،‭ ‬وتدفق‭ ‬بلاغة،‭ ‬وروعة‭ ‬تصوير،‭ ‬ولمسة‭ ‬خلود‭:‬

يا‭ ‬مغنّي‭ ‬الصّبا،‭ ‬ومن‭ ‬ذا‭ ‬يُغنّـ

ـيه،‭ ‬إذا‭ ‬أمسك‭ ‬المغنّي‭ ‬القديرُ

جاءك‭ ‬الشيب‭ ‬بالأزاهر‭ ‬بيضاً

فعلى‭ ‬كلّ‭ ‬شعرةٍ‭ ‬منه‭ ‬نورُ‭ ‬

بسط‭ ‬الكفَّ‭ ‬نحو‭ ‬شعرك‭ ‬يرجو

بعض‭ ‬ما‭ ‬ناله‭ ‬أخوك‭ ‬الطريرُ

وعزيز‭ ‬عليه‭ ‬حرمانُ‭ ‬ما‭ ‬سو

فَ‭ ‬تُغنِّي‭ ‬به،‭ ‬وتحدو‭ ‬الدهورُ‭!‬

كان‭ ‬صوت‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬تكريم‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬ومبايعته‭ ‬بالإمارة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1961،‭ ‬وإلقاؤه‭ ‬العميق‭ ‬المؤثر،‭ ‬يهدر‭ ‬بفحولة‭ ‬شعره‭ ‬وشعر‭ ‬المحتفى‭ ‬به‭ ‬وشعر‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭. ‬وقد‭ ‬أتيح‭ ‬لجيلنا‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التسجيل‭ ‬النادر‭ ‬لهذا‭ ‬الحفل،‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬مؤسسة‭ ‬البابطين‭ ‬للإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬بتوزيعه‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬2001،‭ ‬مع‭ ‬ديوان‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬الذي‭ ‬يضمّ‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬الكاملة،‭ ‬وكان‭ ‬الاحتفال‭ ‬بأمين‭ ‬نخلة‭ ‬أيضاً‭ ‬باعتباره‭ ‬الشاعر‭ ‬الرصيف‭ ‬للأخطل‭ ‬الصغير‭. ‬وكانت‭ ‬قصيدته،‭ ‬الفذة،‭ ‬العملاقة،‭ ‬دُرَّة‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬بين‭ ‬قصائد‭ ‬شعراء‭ ‬الأمة‭ ‬من‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬صوت‭ ‬لبنان‭ ‬الرائع‭ ‬المدوّي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحفل‭ ‬المشهود‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬الكاملة‭ ‬لأمين‭ ‬نخلة‭ ‬قصائده‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭ ‬في‭ ‬شوقي‭ - ‬أمير‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ - ‬خلاصة‭ ‬لصحبة‭ ‬طويلة‭ ‬وصداقة‭ ‬نادرة‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين،‭ ‬منذ‭ ‬حفاوة‭ ‬شوقي‭ ‬به‭ ‬وبديوانه‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1925‭ - ‬وهي‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬جئنا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭. ‬وفي‭ ‬حفل‭ ‬التكريم‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬لبنان‭ ‬لشوقي،‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بويع‭ ‬بإمارة‭ ‬الشعر،‭ ‬كان‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬يحمل‭ ‬صوت‭ ‬لبنان‭ ‬كله‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬

سُمّيَ‭ ‬العصرُ‭ ‬عصر‭ ‬‮«‬شوقي‮»‬،‭ ‬وقالوا

عاد‭ ‬ناءٍ‭ ‬لأهله‭ ‬ودياره

لم‭ ‬يك‭ ‬الوحي‭ ‬أعجميّا،‭ ‬ولكن

قد‭ ‬يميل‭ ‬الحمامُ‭ ‬عن‭ ‬أشجاره

واحدُ‭ ‬السَّبق،‭ ‬والغبار‭ ‬المُعلّى

قل‭ ‬لراجٍ‭ ‬مجالهُ،‭ ‬فلْيجارِه

غمرات‭ ‬شوقيةٌ،‭ ‬وجوادٌ

حمحماتُ‭ ‬الجياد‭ ‬خلف‭ ‬غباره

قد‭ ‬تمنّت‭ ‬بغداد‭ ‬لو‭ ‬تفتديه

ببساط‭ ‬الرشيد‭ ‬أو‭ ‬بستاره

وبمغنى‭ ‬مزين‭ ‬‮«‬بابن‭ ‬هاني‮»‬

وليالي‭ ‬مراحه،‭ ‬وعُقاره

يخاطب‭ ‬شوقي‭ ‬بقوله‭: ‬

عاليَ‭ ‬الصوت‭ ‬في‭ ‬البيان‭: ‬أطعنا

ونفضْنا‭ ‬اليدين‭ ‬من‭ ‬أوطاره

ارفع‭ ‬الصوت‭ ‬عالياً،‭ ‬إنه‭ ‬الضادُ

وقد‭ ‬طال‭ ‬عهدُها‭ ‬بانتظاره

ارفع‭ ‬الصوت‭ ‬عاليا‭ ‬إنه‭ ‬الشعـ

ـرُ،‭ ‬ونهج‭ ‬افتنانه‭ ‬وابتكاره

ارفع‭ ‬الصوتَ،‭ ‬إنه‭ ‬الرأيُ‭ ‬والحكـ

ـمةُ،‭ ‬والقول‭ ‬في‭ ‬سنيِّ‭ ‬مداره

ارفع‭ ‬الصوت‭ ‬إنه‭ ‬الغزل‭ ‬الحلـ

ـوُ،‭ ‬يسوق‭ ‬النسيمُ‭ ‬من‭ ‬أخباره

بثُّ‭ ‬‮«‬قيسٍ‮»‬‭ ‬على‭ ‬العقيق‭ ‬وشكوا

هُ‭ ‬على‭ ‬شِيحه،‭ ‬وخلْف‭ ‬عَراره

رقةٌ‭ ‬للهوى‭ ‬ترقرق‭ ‬فيها

وجرى‭ ‬مدمعُ‭ ‬الصِّبا‭ ‬بانهماره

ثم‭ ‬يلمس‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ ‬في‭ ‬تحيتــه‭ ‬لشوقــــي‭ ‬قضية‭ ‬الشعر‭ ‬الحساسة‭ ‬الــمثارة‭ ‬دوماً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬ثقة‭ ‬واعتزاز‭: ‬

أيقولون‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬قديمٌ

وجديدٌ،‭ ‬ونغتدي‭ ‬في‭ ‬حوارِهْ

إنّ‭ ‬ذاك‭ ‬القديم‭ ‬قيثارهُ‭ ‬العذْ

بُ،‭ ‬وهذا‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬آثاره‭!‬

وكأنما‭ ‬كان‭ ‬أمين‭ ‬نخلة‭ - ‬وقد‭ ‬تقمص‭ ‬روح‭ ‬شوقي‭ ‬وكيمياء‭ ‬شعره‭ - ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬المستور‭ ‬من‭ ‬وعيه‭ ‬بشعره‭ ‬هو،‭ ‬ومناط‭ ‬التكريم‭ ‬الذي‭ ‬يستحقه‭ ‬هو،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري‭ ‬أن‭ ‬لبنان‭ ‬والعرب‭ ‬جميعاً‭ ‬قد‭ ‬كرّموه،‭ ‬وجعلوا‭ ‬منه‭ ‬أيقونة‭ ‬لشعر‭ ‬الأناقة‭ ‬والجمال‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭.