أمين نخلة... أيقونة الجمال والأناقة في الشعرية اللبنانية
يمثل أمين نخلة خلاصة الخلاصة في جمال الشعرية اللبنانية أناقةً وترفاً وإبداع لغة. وهو في مدار الأفق الشعري اللبناني الذي اكتملت فيه الكواكب الكبرى، وانطلقت أشعتها الغامرة واسطة العقد، بين الأخطل الصغير (بشارة الخوري) وإلياس أبوشبكة وسعيد عقل. يظل شعره الأصفى والأنقى، والأقرب إلى الطبيعة الفراشية المحلّقة والبساطة العميقة النافذة، واللغة الزاهية المحكمة، والطرب الشعري الذي يصحبه مبدعاً، ويصاحب قارئه مترنماً.
ولم يكن شوقي، شاعر العربية في العصر الحديث، قبل مبايعته بإمارة الشعر بعامين، بعيداً عن اكتشاف جوهر الشاعرية عند أمين نخلة، وهو يقول عنه في تقديم الطبعة الأولى من ديوانه «دفتر الغزل» عام 1925:
هذا وليٌّ لعهدي
وقيّم الشعري بعدي
كأنّ شعر أمينٍ
من نفح بانٍ ورنْدِ
أو من عناقِ التصابي
وقرْع خدٍّ بخدِّ
أو من حديث «ابن هاني»
يُعيد فيه ويُبدي
أو من حنين الهوادي
إلى العرار ونجْدِ
ديوانه زَفُّ طيبٍ
ونشْرهُ نشْرُ وردِ
والعصرُ عصرُ أمينٍ
خيرٌ، ومطلعُ سعدِ
ويقول أمين نخلة في تقديمه لديوانه الثالث «ليالي الرّقمَين» متحدثاً عن نفسه في مطالع حياته الشعرية والوجدانية: «ولقد حدث لصاحبي بعد ذلك وهو في أول أمره بمشاهد الجمال، أن وقعت عيناه على جنّةٍ مرفوعة فوق قدمين، تُلألئُ الضحكات والألفاظ في ذلك الفم الزاهي، وتصبُّ صبّ الأنوار حول القامة الفارعة، أولَ العمر، وأولَ ما عرف هو كيف يدقُّ القلب دقًّا شديداً، فهرع إلى الكتب، عسى أن يجد في موضع من شعر أو نثر، صوتاً يرجع إليه بمثل ما في صدره من ضجة مدوية في مهرجان الجمال، فيستريح إلى الأُسوة.
ثم يقول: «ولقد فتح يومئذٍ على كتب كثيرة، وأجال عينيه في كتابات كثيرة، ولكن دواءً ما كان خلف جوانحه لم يظفر به في عالم الحروف، ورأى أن ذلك السرَّ الذي يصونه في ضميره، على ما يدلُّ إلى الصواب في فنون العقل والقلب، هيهات أن يسوق إلى المراد يوم تتكلّف هذه الأقلام في بعض مسائل الحياة بلوغ النهايات من التبيين.
وها هو اليوم، وقد علتْه الكبْرة أو كابد في مصاير الأيام فحصاً واختباراً، وفتح على آلاف الكتب، وكتب آلاف الصحائف، عاد في آخر مرة إلى ما كان منه في أوله: عجز حروف، وكلال بصر من طول المدى في المسائل وطول التحديق إلى الأشياء. والله ما أصدق قول واحد الآحاد في الشعر العربي في زماننا (يقصد أحمد شوقي): «يا ليت شعريَ هل قلتُ الذي أجِدُ؟». يريد شوقي أن الطريق بين الدواة والصحيفة طويل صعب، يعيا فوقه القلم، قبل أن يبلغ البياض.
فيا صاحبي، وما لي لا أقول: «يا أنا!، وإن استغرب هذا الاستعمال في باب النداء».
هذا هو الكتــاب الشعــــري الذي أخرجـــــه اليوم بعد أخويه «دفتر الغزل» و«الديوان الجديد». لم أغفل في قصائره ولا في طِواله، شدة النظر إلى «سر» الصّبا، والتمسك ما استطعت بأذيال صوابه، حتى إنني قد عشت أيام عمره وكأني إبرة الشمال، دائم الالتفات إلى تلك المجالس، فماذا أراني صنعت؟ وبأي شيءٍ أتيت؟
هذا هو أمين رشيد نخلة، في بوحه، مشدود دوماً إلى صباه، ومُحلّق دوماً في آفاق الطبيعة الريفية من حوله، منجذب إلى إبداع والده في فن الزجل الذي لُقّب فيه بأمير الزجل، ومنشغل بحياة لبنانية ممتلئة بالصـــراع والحيوية، فهو يعمل بالمحاماة وينتخب عضواً في البرلمان اللبناني، ويجد متعته في إصدارات أدبية متنوعة، ليست مقصورة على الإبداع الشعري، من بينها المفكرة الريفية، وأوراق مسافرة، والأساتذة في النثر العربي، وذات العماد، وتحت قناطر أرسطو. أما شعره فيتمثل في مجموعاته الثلاث: «دفتر الغزل» و«الديوان الجديد» و«ليالي الرقمين».
وأمين نخلة من بين الشعراء المنتبهين لذواتهم، المهمومين لها، العاكفين على تأملها في كل مراحلها ومساراتها، شأن من يشغله داخله وقد انسكبت فيه عصارات الحياة وحُميّاها، واشتعلت فيه أشواق الشاعر وغائبه ونزواته، واصطرعت فيه آيات إيمانه وشكه، وقلقه ونزقه، وحكمته وحمقه.
عالمه الشعري
لنقترب الآن من العالم الشعري لأمين نخلة (1901 - 1976) وهو يحدثنا عن قصة البحر، وعن حسنائه اللبنانية التي جعلت بيتها في الشاطئ:
لقد حدّثوا البحر عن درةٍ
حوى الشطُّ منْبتها في خفاء
وقالوا له: ليس في دُرِّهِ
كذاك الشعاع، وذاك النّقاء
تكاد، إذا أوصدت بابها
تضيءُ الشقوق بما في وراء
فلم يحضن الصّدفُ المشرقيُّ
مثيلا له بين صخرٍ، وماء
فهام بها البحر، لا ينثني
عن الشطِّ في صُبحه والمساء
فطورا يدانيه حلو الرّضا
لطيف الرَّشاشِ، لطيف الهواء
وطوراً يُيمّمهُ غاضباً
يُجلجلُ كالليث ملءَ الفضاء
ويا طالما راق، أو رقَّ، أو
تعلّى، وكرَّ، وأعيا، وناء
فآنا كما شعفاتُ الجبالِ
وآنا كما صفحاتُ المِراء
وكم عاف، والشمس عند المغيبِ
مفاتن بين السَّنا والسّناءْ
فلم يحتفلْ بعروس النّهارِ
وركب الجلال، وخطْو الضياء
وكم في الغليل غدت رملةٌ
ولم يلتفت للرّمال الظِّماء
وكم في الشواطئ إنسيّةٌ
أتته وقد عريت من غطاء
تُغوّص ساقاً، وتخطف أخرى
فلله من ملعبٍ للرُّواء
ولكنما البحرُ في همِّه
بتلك التي حرمتْهُ الثَّواء
فإن أنتِ شارفْتهِ مرّةً
تُطلّين من كُوّةٍ أو فِناء
وأيْقنَ أنكِ وافيْتهِ
فجاء بزُرقتهِ والصفاء
وغلغل في الشطِّ بعد الهديرِ
وبعد الطواف، وبعد العياء
فلا تسألي الناس: ما بالُه
تهلَّل؟، فهو غريبُ الرّضاء
ويطلعنا أمين نخلة - في مقطوعة شعرية بديعة - على موقفه من الشعر، وموقع الشعر منه، في صياغة رشيقة حانية، ولغة شفيفة كاشفة، في غير إعنات أو مشقة، فهو يغترف من نبع شاعرية عميق، ووجدان شعري فوّار وممتلئ حين يقول:
الشعر زاد القلب، مُتعةُ لهوهِ
والرأي يأخذ منه حسوةَ شاربِ
أنا لو سُئلتُ، لقلتُ في تعريفه
طربٌ يهزُّك، كالغناءِ الصاخبِ
لم تدْرِ من أيّ الجهات أتاك، هل
من ملْئهِ، أم من جمال القالبِ
دعْ كلَّ ما قد فصّلوا في وصفهِ
ما بين مشتطٍّ يقول: وناكب
فالروض لم تسأل بطلعة زهْرهِ:
من أين جاء بأنجمٍ وكواكبِ
لم نذكر الغيثَ المُلمَّ، وتُربةً
أمّا، وتحنان الشعاعِ السّاكِب
ولعلَّ رأي الذوْق فيه مُقدَّمٌ
فالذوق للشعراء ضربةُ لازبِ
سيانِ منه قديمه وجديدهُ
فالشمسُ أختٌ للزمانِ الشائبِ
لله مولدُها الحبيبُ على الضحى
فبهِ نسيت شروق يومٍ ذاهبِ
من السهل إذن أن نكتشف ولع أمين نخلة بالجمال، الجمال في كل صوره وتجلياته، لكن من الصعب، والصعب جدًّا أن يحاول شاعر محاكاة هذا الفتك الذي يمارسه أمين نخلة باللغة والصورة والتعبير. إنه قناص عظيم الخبرة، سريع الوثوب والحركة، خفيف التنقل والالتفات، رشيق الهجمــــة والافتراس، حين يزمع اختراق المألوف المعاد من كلام الشعراء، إلى عالمه البكر الذي لم يجسر أحد على اقتحامه، مُنوّعاً - في كل مرة - من وقفاته والتفاتاته، عارفاً ومدركاً لكل موطئ قدم، ورفرفة جناح.
في قصيدة أطلق عليها «القصيدة السوداء» بعد أن شُهرتْ بهذا اللقب، فأبقاه لها في ديوانه، يقول:
لا تُعجّل، فالليل أندى وأبردْ
يا بياض الصباح، والحسنُ أسوْد!
ليلتي ليلتانِ في الحَلكِ الرَّطْبِ
فجُنحٌ مضى، وجنحٌ كأن قدْ
وكأني على الغصون من اللّينِ
وهزّ الثمار، ما تتأود!
في النسيم العبيقِ، في النَّفسِ الحلْوِ
فيا طيب مُسكةٍ تتنهّدْ
ستّ، نحن العبيدُ في مجدكِ الأسو
دِ، أهل البياض، نشقى ونسعد
من حواليْ فرقيْكِ، في مسحة الطرّ
ةِ، شيء كأنه يتوعد
وعلى مسقط القميص إلى الخصْـ
ـر، وعند انفلاته جهدُ مُجْهَدْ
يشهد اللين والملاسةُ والزَّلـ
ـقُ، بأني في غيرِ ما مُتوسَّدْ
ألف غُصنٍ في ألْفِ هزّة غُصْنٍ
وقيامٌ مع الغصون ومَقْعَد
كان أولى لو كنتُ آخذُ بالخصْـ
ـرِ، ولكن يكاد بالكفِّ يُعقدْ
سلمَ الخصْرُ، لهو ينحطُّ بالحمـ
ـلِ، وينآد حيثما يتأيّدْ
طوِّلي ليلتي، على المرمرِ الرَّخْـ
ـصِ، وفي اللمح من سواد الزبرجد
وانزلي الآبنوسَ، في موسم العو
دِ، على مُترعِ المناعمِ أرغدْ
مهرجانٌ لنا، ونُهزةُ سعدٍ
تحت سِتْرِ الدُّجى، وزادٌ مُزوّدْ!
* * *
في قصيدة أمين نخلة التي ألقاها في حفل تكريم الأخطل الصغير (بشارة الخوري) ومبايعته عام 1961 أميراً للشعراء من بعد شوقي، يتكشف اعتزاز أمين بعبقرية الشعر اللبناني، وشموخ شعرائه الكبار بين سائر شعراء العربية في بقاع الوطن العربي، والوشيجة القوية التي كانت تربط بينه وبين الأخطل الصغير، باعتبارهما شاعري لبنان اللّذين يتصدران موكب الأناقة الشعرية، ويخوضان معاً معركة الجمال، حين يقول:
أيقولون: أخطلٌ، وصغيرُ
أنت في دولة القوافي أميرُ
ولك التاج والمطارفُ والبُرْدُ
وركنٌ مُجلّلٌ، وسريرُ
فاسحب الذيل ما تشاءُ، وجَرِّرْ
إنّ مُلْكَ البيان مُلكٌ كبيرُ
وضع العصرُ في يديْكَ أمانا
تِ القوافي، والعبءُ حيث الجديرُ
قد أبى الله في الفصاحة أن يغْـ
ـدُو منا في العالمين أخيرُ
يأنف السّفحُ والغمائمُ والدَّوْ
حُ، وظلٌّ مُفيّحٌ، وغديرُ
فارفع الصوت، إنه صوتُ لُبنا
نَ، وردّدْ به، ونِعْمَ الجهيرُ
مُخوِلٌ أنت في الفخار، مُعمٌّ
فلنا في العصور جاهٌ أثيرُ
لم تُغرّدْ فصاحةُ العُرْبِ إلا
كان منّا المُغرّدُ الشحرورُ!
إنَّ وادي «العقيق» في فرحة الشّعـ
ـرِ، فقد عاد عهدهُ الممطورُ
ماجت البيدُ من إجادات «قيْسٍ»
وانثنت أربُعٌ إليه ودورُ
أين «ليلى» وقدُّ ليلى، فقد حنَّ
إليه هذا الدّمقسُ الحريرُ؟
غزلٌ رقّ كالرنين على الوجـ
ـد، ولانت له القلوب الصخورُ
تسمعُ الدقَّ فيه للقلب، بل تنـ
ـظرُ دمعاً يجري، ودمعاً يفورُ
مطربٌ مُعجبٌ، فكيف لك الله
ببردِ القلوب جاء السّعيرُ
في قوافٍ، لولا اللآلئ منها
لا يُقالُ الأوزانُ، ثَمَّ، بحورُ
ومبانٍ من دقة النَّسْجِ أثنا
ءُ حبيرٍ، لا أحرفٌ وسطورُ
دقة عندها من الإبر اللُّطْـ
ـفُ، وفي الخزِّ أيُّ غرزٍ يجورُ
ومعانٍ كأنَّ موهنة المِسْـ
ـكِ، وقد حُرّكت، وفاح العبيرُ
وكأن انحدارها في مجاري السَّمْـ
ـع، ماءٌ مهرولٌ، وهديرُ
صدفاتُ الآذانِ أوْلى بضمِّ الدّ
رّ، لكن له هناك مرورُ
ذاك غيرُ الجزيل في الرأي والحكْـ
ـمة، وهو المرُدَّدُ المأثورُ
لفتاتٌ للذهن والحسِّ، لا تغـ
ـربُ عنها في وشْكِ لمحٍ أمورُ
غاية الفَجْءِ، والوثوب، فما سهـ
ـمٌ يرنّى، وما جناحٌ يطيرُ!
من أعالٍ في اللبِّ تُلحظ بالظنِّ
فتُجلى من الغيوبِ السُّتورُ
ولَنِعمَ الفتونُ بالحسْنِ، ما لوَّ
حَ بادٍ من الحياة غريرُ
أتُرى الحسنُ في الوجود تجلَّى
ليراهُ هذا اللسانُ البصيرُ
رُبَّ قولٍ له على الظُّللِ الخضْـ
ـرِ، وقد حفَّها صِباً وبكورُ
تخرجُ العينُ منه بالوهم، لا تد
ري، أروض يهتزُّ أم تصْوير!
ليس وصفاً، وإنما هو نقلٌ
من مكانٍ، وفي مكانٍ يصيرُ
وخيالٍ كأنما غمر الدنـ
ـيا، وما ضاق عنه سطرٌ قصيرُ
عمْرك الله، هل رأيت كبيْت الشّـ
ـعرِ كهفاً، يأوي إليه الضميرُ!
بين شطريْهِ قد أُتيح بياضٌ
وانفساحٌ، فلينزل المعمورُ
وفي ختام قصيدته البديعة يقول أمين نخلة وهو مستمر في الكشف عن عبقرية الأخطل الصغير الشعرية، التي يرى فيها رمز العبقرية اللبنانية في القصيدة الحديثة، حين يصنعُها في موازاة القصيدة العربية على مدار العصور، عطاءً، وفيْضاً، وتدفق بلاغة، وروعة تصوير، ولمسة خلود:
يا مغنّي الصّبا، ومن ذا يُغنّـ
ـيه، إذا أمسك المغنّي القديرُ
جاءك الشيب بالأزاهر بيضاً
فعلى كلّ شعرةٍ منه نورُ
بسط الكفَّ نحو شعرك يرجو
بعض ما ناله أخوك الطريرُ
وعزيز عليه حرمانُ ما سو
فَ تُغنِّي به، وتحدو الدهورُ!
كان صوت أمين نخلة في حفل تكريم الأخطل الصغير ومبايعته بالإمارة في عام 1961، وإلقاؤه العميق المؤثر، يهدر بفحولة شعره وشعر المحتفى به وشعر الكبار في مسيرة الشعر العربي. وقد أتيح لجيلنا الاستماع إلى هذا الصوت من خلال التسجيل النادر لهذا الحفل، الذي قامت مؤسسة البابطين للإبداع الشعري بتوزيعه على عدد من المشاركين في دورة الأخطل الصغير التي أقيمت في بيروت عام 2001، مع ديوان أمين نخلة الذي يضمّ أعماله الشعرية الكاملة، وكان الاحتفال بأمين نخلة أيضاً باعتباره الشاعر الرصيف للأخطل الصغير. وكانت قصيدته، الفذة، العملاقة، دُرَّة هذا الاحتفال بين قصائد شعراء الأمة من المشرق العربي والمغرب العربي، كما كانت صوت لبنان الرائع المدوّي في هذا الحفل المشهود.
وفي هذه الأعمال الشعرية الكاملة لأمين نخلة قصائده التي أبدعها في شوقي - أمير شعراء العصر الحديث - خلاصة لصحبة طويلة وصداقة نادرة بين الشاعرين، منذ حفاوة شوقي به وبديوانه الأول في عام 1925 - وهي الأبيات التي جئنا بها في مستهل هذا المقال. وفي حفل التكريم الذي أقامه لبنان لشوقي، في بيروت، بعد أن بويع بإمارة الشعر، كان أمين نخلة يحمل صوت لبنان كله وهو يقول:
سُمّيَ العصرُ عصر «شوقي»، وقالوا
عاد ناءٍ لأهله ودياره
لم يك الوحي أعجميّا، ولكن
قد يميل الحمامُ عن أشجاره
واحدُ السَّبق، والغبار المُعلّى
قل لراجٍ مجالهُ، فلْيجارِه
غمرات شوقيةٌ، وجوادٌ
حمحماتُ الجياد خلف غباره
قد تمنّت بغداد لو تفتديه
ببساط الرشيد أو بستاره
وبمغنى مزين «بابن هاني»
وليالي مراحه، وعُقاره
يخاطب شوقي بقوله:
عاليَ الصوت في البيان: أطعنا
ونفضْنا اليدين من أوطاره
ارفع الصوت عالياً، إنه الضادُ
وقد طال عهدُها بانتظاره
ارفع الصوت عاليا إنه الشعـ
ـرُ، ونهج افتنانه وابتكاره
ارفع الصوتَ، إنه الرأيُ والحكـ
ـمةُ، والقول في سنيِّ مداره
ارفع الصوت إنه الغزل الحلـ
ـوُ، يسوق النسيمُ من أخباره
بثُّ «قيسٍ» على العقيق وشكوا
هُ على شِيحه، وخلْف عَراره
رقةٌ للهوى ترقرق فيها
وجرى مدمعُ الصِّبا بانهماره
ثم يلمس أمين نخلة في تحيتــه لشوقــــي قضية الشعر الحساسة الــمثارة دوماً في كل عصر بين القديم والجديد، قائلاً في ثقة واعتزاز:
أيقولون في البيان قديمٌ
وجديدٌ، ونغتدي في حوارِهْ
إنّ ذاك القديم قيثارهُ العذْ
بُ، وهذا الجديد من آثاره!
وكأنما كان أمين نخلة - وقد تقمص روح شوقي وكيمياء شعره - يكشف عن المستور من وعيه بشعره هو، ومناط التكريم الذي يستحقه هو، دون أن يدري أن لبنان والعرب جميعاً قد كرّموه، وجعلوا منه أيقونة لشعر الأناقة والجمال في ديوان الشعر العربي الحديث.