الغزل في شعر المتنبي

الغزل في شعر المتنبي

لن‭ ‬أعرِّف‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬بسيرته،‭ ‬ولا‭ ‬بزمانه،‭ ‬وأحداث‭ ‬عصره،‭ ‬بل‭ ‬أكتفي‭ ‬بما‭ ‬قيل‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬أيامه‭: ‬‮«‬مالئ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشاغل‭ ‬الناس‮»‬،‭ ‬وإنّ‭ ‬ما‭ ‬نطق‭ ‬به‭ ‬ودوَّنته‭ ‬الأقلام‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نتاج‭ ‬خاطره‭ ‬ووجدانه‭ ‬وحده‭... ‬بل‭ ‬كان‭ ‬نتاج‭ ‬أجيال‭ ‬وحقبٍ‭ ‬تخضَّبتْ‭ ‬بدموع‭ ‬آمالها،‭ ‬وتسربلت‭ ‬بألق‭ ‬المصير‭ ‬المضطرب‭... ‬وصوت‭ ‬أمّة‭ ‬تصدّعت‭ ‬شرايينها‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الجوى‭ ‬المتهدج‭ ‬على‭ ‬مذبح‭ ‬الذات‭ ‬ودوّامة‭ ‬الوجود‭.‬

فلا‭ ‬نستكثرنّ‭ ‬الرقم‭ ‬الذي‭ ‬بلغتْه‭ ‬الدراسات‭ ‬والمقالات‭ ‬والبحوث‭ ‬التي‭ ‬تناولته‭ ‬وهي‭: ‬ألْفان،‭ ‬أحصاهما‭ ‬الأستاذان‭ ‬كوركيس‭ ‬عواد‭ ‬وميخائيل‭ ‬عواد‭ ‬في‭ ‬كتابهما‭ ‬المعجمي‭ ‬الإحصائي‭ ‬النفيس‭: ‬‮«‬رائد‭ ‬الدراسة‭ ‬عن‭ ‬المتنبي‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬عام‭ ‬1979‭... ‬فكم‭ ‬سيكون‭ ‬الرقم‭ ‬اليوم‭ ‬لو‭ ‬أعيد‭ ‬طبع‭ ‬الكتاب؟

تناول‭ ‬أبوالطيب‭ ‬معظم‭ ‬الأغراض‭ ‬الشعرية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬وفي‭ ‬العصور‭ ‬السابقة،‭ ‬بين‭ ‬مديح‭ ‬وفخار‭ ‬وهجاء‭ ‬ورثاء‭ ‬وأوصاف‭ ‬شتى‭ ‬وحكمة‭ ‬وغزل‭... ‬احتلَّ‭ ‬المدح‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثلثي‭ ‬ديوانه‭.‬

أما‭ ‬الغزل‭ ‬فلم‭ ‬يُفرَد‭ ‬له‭ ‬باب‭ ‬خاص،‭ ‬لم‭ ‬يُقَل‭: ‬قال‭ ‬يتغزل،‭ ‬أو‭: ‬في‭ ‬امرأة‭ ‬بعينها،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬معظم‭ ‬أشعار‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬السابقة‭.‬كانت‭ ‬أشعار‭ ‬الغزل‭ ‬ترِد‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مقدمات‭ ‬قصائد‭ ‬المدح‭ ‬التي‭ ‬نظمها‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أعيان‭ ‬عصره‭ ‬ممن‭ ‬التقاهم‭ ‬أو‭ ‬قصدهم‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬الطويلة،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتجاوز‭ ‬ربع‭ ‬القصيدة‭ ‬المدحية،‭ ‬اتّباعاً‭ ‬لتقليد‭ ‬قديم‭ ‬سنّه‭ ‬كعب‭ ‬بن‭ ‬زهير‭ ‬في‭ ‬مدحه‭ ‬الأول‭ ‬للنبي‭ ‬محمد‭ ‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬بانت‭ ‬سعاد‮»‬‭.‬

فما‭ ‬الذي‭ ‬قاله‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬أغزاله،‭ ‬وما‭ ‬نصيب‭ ‬الصدق‭ ‬أو‭ ‬التكلف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬القيمة‭ ‬الفنية‭ ‬والتاريخية‭ ‬التي‭ ‬أفرزَتْها؟

 

تعريف‭ ‬بالغزل‭ ‬وبمضامينه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬

الغزل‭ ‬هو‭ ‬شريان‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬لم‭ ‬ينقطع‭ ‬مداده‭ ‬ولا‭ ‬خفَّ‭ ‬نبْضه‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬الأيام‭ ‬والعصور؛‭ ‬فهو‭ ‬دائم‭ ‬الخفق،‭ ‬وئيد‭ ‬الخطو،‭ ‬حاضر‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬الشعراء،‭ ‬شاخصٌ‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ ‬يسْتجليه‭: ‬حُسْناً‭ ‬حسّياً،‭ ‬ونضرةً‭ ‬متألقة،‭ ‬أو‭ ‬خُلُقاً‭ ‬سمْحاً‭ ‬ووصالاً‭ ‬داخلياً‭ ‬يهدر‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬وخفقاناً‭ ‬مدوِّياً‭ ‬تُترجمه‭ ‬الألسنة‭ ‬أشعاراً‭ ‬جمْرية‭ ‬تحترق‭ ‬منها‭ ‬الشفاه‭ ‬وتضطربُ‭ ‬بها‭ ‬الأفئدة‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬شعر‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العصور،‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تتغيّر‭ ‬مسيرته‭ ‬ولا‭ ‬أغراضه‭ ‬ومعانيه‭... ‬جلُّ‭ ‬ما‭ ‬هنالك‭ ‬شبوبٌ‭ ‬وتوهّج‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر،‭ ‬وهذه‭ ‬البيئة،‭ ‬وخفوتٌ‭ ‬وسجوٌّ‭ ‬لدى‭ ‬ذاك‭ ‬الشاعر،‭ ‬وتلك‭ ‬الحقبة‭.‬

أما‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬تضمّنها‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬فيدور‭ ‬معظمها،‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الشوق‭ ‬والصبابة،‭ ‬والحنين‭ ‬واللوعة‭ ‬والاحتراق،‭ ‬والأمل‭ ‬الشاحب‭ ‬أو‭ ‬الثابت،‭ ‬والاستذكار‭ ‬والاستعبار،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬المصير‭ ‬المجهول‭ ‬يترقبه‭ ‬الحبيب،‭ ‬والأطلال‭ ‬الباقية‭ ‬أو‭ ‬الدراسة،‭ ‬وما‭ ‬يستلزم‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أوصاف‭ ‬السفر‭ ‬وأدواته‭ ‬ومراحله،‭ ‬وقبْل‭ ‬ذلك،‭ ‬وأثناءه،‭ ‬ملامح‭ ‬الحبيب‭ ‬وقسماته‭ ‬الجسدية،‭ ‬والرموز‭ ‬والآثار‭ ‬التي‭ ‬خلَّفها‭ ‬الحب‭ ‬بدرجاته‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتفاوتة‭.‬

إنّ‭ ‬الغزل،‭ ‬بمفهومه‭ ‬العام‭, ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬والانفعال‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭. ‬مع‭ ‬توضيح‭ ‬مهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬معظمه‭ ‬–‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كله‭ ‬–‭ ‬لغة‭ ‬الخطاب‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬المرأة،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬قلبها،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بالتمهيد‭ ‬والمكابدة،‭ ‬فقد‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬القلب‭ ‬ونجده‭ ‬مغلقاً،‭ ‬فيصدُّك،‭ ‬وما‭ ‬أشقى‭ ‬الإنسان‭ ‬المصدود؟

أما‭ ‬لماذا‭ ‬الغزل،‭ ‬فلأن‭ ‬الشوق‭ ‬إلى‭ ‬الشيء،‭ ‬وإلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الرغبة‭ ‬أو‭ ‬الأمنية،‭ ‬ألذُّ‭ ‬وأجمل‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬واحتوائه‭.‬

وقد‭ ‬أثبتَت‭ ‬التجارب‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬العشق‭ ‬حينما‭ ‬يتلاقون‭ ‬ينتهي‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريباً،‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬العذاب‭ ‬والتفكير،‭ ‬وربما‭ ‬التلذذ‭ ‬الغيبي‭. ‬

 

أين‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬غزل‭ ‬المتنبي؟

لقد‭ ‬قلَّبتُ‭ ‬ديوان‭ ‬المتنبي‭ ‬الذي‭ ‬عُنيتُ‭ ‬به‭ ‬ضبطاً‭ ‬وشرحاً‭ ‬وتعليقاً،‭ ‬وتخريجَ‭ ‬شواهد،‭ ‬مع‭ ‬مقدمة‭ ‬ضافية،‭ ‬لِما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬أبوالحسن‭ ‬الواحدي‭ (‬ت‭ ‬468‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬خمسة‭ ‬مجلدات‭... ‬وقمتُ‭ ‬بجردة‭ ‬دقيقة،‭ ‬فتحصَّل‭ ‬لدي‭ ‬قرابة‭ ‬450‭ ‬بيتاً‭ ‬غزلياً،‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬مجموع‭ ‬أبيات‭ ‬ديوانه‭ ‬البالغة‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬وأربعمائة‭ ‬وتسعين‭ ‬بيتاً‭, ‬أي‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬في‭ ‬المائة‭, ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أنّ‭ ‬المرأة‭ ‬لم‭ ‬تملك‭ ‬عليه‭ ‬شغاف‭ ‬أمره،‭ ‬ولا‭ ‬محرور‭ ‬أشواقه‭ ‬إليها،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الحال‭ ‬لدى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬زمانه‭ ‬والأزمنة‭ ‬السابقة،‭ ‬وأن‭ ‬غاية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يصبو‭ ‬إليه،‭ ‬ويَحْشُد‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬طاقات‭ ‬فكره‭ ‬ولسانه،‭ ‬مجْدٌ‭ ‬لا‭ ‬يُؤتاه‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬جلدته،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭:‬

يقولون‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬أنتَ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلدةٍ

وما‭ ‬تبتغي؟‭ ‬ما‭ ‬أبتغي‭ ‬جلَّ‭ ‬أن‭ ‬يُسْمى

ومثله،‭ ‬وهو‭ ‬غاية‭ ‬الغايات‭:‬

أُريد‭ ‬من‭ ‬زمني‭ ‬ذا‭ ‬أن‭ ‬يُبلِّغني

ما‭ ‬ليس‭ ‬يبلغُه‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬الزمنُ

مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬إنْ‭ ‬لم‭ ‬يبعث‭ ‬فينا‭ ‬تساؤلاً‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬ضآلة‭ ‬شعر‭ ‬الغزل‭ ‬الأنثوي‭ ‬لديه،‭ ‬فقد‭ ‬نتساءل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬العجب‭: ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬لقلبه‭ ‬وقريحته‭ ‬الشعرية،‭ ‬سبيلاً‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬وجمالها‭ ‬وفتونها‭ ‬وشجون‭ ‬العلاقة‭ ‬الأزلية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الرجل؟‭!‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬أشعاره‭ ‬الغزلية‭ ‬قد‭ ‬أكدت‭ ‬حضور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬فكره‭ ‬ووجدانه،‭ ‬فسلك‭ ‬إليها‭ ‬غير‭ ‬مسْلكٍ،‭ ‬وحاك‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬أفانين‭ ‬الإحساس‭ ‬المرهف،‭ ‬وبديع‭ ‬السبك‭ ‬والتصوير،‭ ‬والنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬عالم‭ ‬العشق،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬صدق‭ ‬معاناته‭ ‬واحتراق‭ ‬قوافيه‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬سكنى‭ ‬ذاتية‭ ‬تَقيه‭ ‬حرَّ‭ ‬نزواته،‭ ‬ومُرَّ‭ ‬حرمانه‭ ‬المزمن‭ ‬مما‭ ‬يلهث‭ ‬إليه‭ ‬القلب‭ ‬والفكر،‭ ‬ودأبه‭ ‬الدهري‭ ‬لبلوغ‭ ‬آرابه‭ ‬ومشاهيه‭.‬

 

وجوه‭ ‬المعاناة‭ ‬الصادقة

قال‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬الأول،‭ ‬ولعلها‭ ‬من‭ ‬تجاربه‭ ‬العاطفية‭ ‬الأولى‭ ‬ذاكراً‭ ‬مرارة‭ ‬الهجر‭ ‬والفراق‭:‬

أبْلى‭ ‬الهوى‭ ‬أسفاً‭ ‬يوم‭ ‬النوى‭ ‬بدَني

وفرَّقَ‭ ‬الهجْرُ‭ ‬بين‭ ‬الجَفْنِ‭ ‬والوَسَنِ

روحٌ‭ ‬ترَدَّدُ‭ ‬في‭ ‬مثْل‭ ‬الخيالِ‭ ‬إذا

أطارت‭ ‬الريحُ‭ ‬عنه‭ ‬الثوبَ،‭ ‬لم‭ ‬يَبنِ

كفى‭ ‬بجسمي‭ ‬نحُولاً‭ ‬أنني‭ ‬رجلٌ

لولا‭ ‬مخاطبتي‭ ‬إياكَ،‭ ‬لم‭ ‬ترَني

يكفي‭ ‬المتنبي‭ ‬من‭ ‬المباهاة‭ ‬والتمايز،‭ ‬سبْقهُ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬توكّأ‭ ‬عليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬بغيره‭ ‬ممن‭ ‬سبقوه‭ ‬إليه،‭ ‬عنيتُ‭ ‬النُّحول‭ ‬الكلي‭ ‬لدرجة‭ ‬الرقّة‭ ‬الشبيهة‭ ‬بالهواء،‭ ‬لولا‭ ‬الكلام‭ ‬والنطق‭ ‬لما‭ ‬وقَع‭ ‬عليه‭ ‬البصر‭.‬

لعله‭ ‬أرقّ‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬رقّة‭ ‬الأرق‭ ‬العشقي‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬العاشق‭ ‬المحزون‭ ‬الذي‭ ‬تغمره‭ ‬العبرات‭ ‬ونشيج‭ ‬البكاء‭.‬

جُهْدُ‭ ‬الصبابةِ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬كما‭ ‬أُرى

عيْنٌ‭ ‬مسهَّدةٌ‭ ‬وقلبٌ‭ ‬يخْفِقُ

لم‭ ‬يكتف‭ ‬بوصف‭ ‬حاله‭ ‬بل‭ ‬رسم‭ ‬أبعاد‭ ‬العشق‭ ‬وهيئة‭ ‬العاشق‭ ‬الولهان،‭ ‬وذلك‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬صادقة‭ ‬وتجربة‭ ‬عميقة‭ ‬الأثر‭.‬

وعذَلْتُ‭ ‬أهلَ‭ ‬العشق‭ ‬حتى‭ ‬ذقْتُه

فعجِبْتُ‭ ‬كيف‭ ‬يموتُ‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعشقُ؟

كأنما‭ ‬الموت‭ ‬وقْفٌ‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬العشق‭ ‬والهوى‭... ‬أو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬موتٍ‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬موت‭ ‬الجسد‭ ‬ونهاية‭ ‬العمر‭ ‬قضاءً‭ ‬وقدراً،‭ ‬بينما‭ ‬الحب‭ ‬العظيم‭ ‬يُحرِقُ‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬الجوارح‭ ‬ويَسحقُ‭ ‬كل‭ ‬لَبِنات‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يصبو‭ ‬إليها‭ ‬المرءُ‭ ‬في‭ ‬محبوبه‭.‬

يقول‭: ‬لما‭ ‬ذقتُ‭ ‬العشق‭ ‬وعرفتُ‭ ‬شدّته،‭ ‬عجبتُ‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬موتٌ‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬عشق‭, ‬أي‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يعشق،‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يموت‭. ‬وقال،‭ ‬في‭ ‬صباه،‭ ‬يمدح‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الخراساني‭:‬

حُشاشةُ‭ ‬نفسٍ‭ ‬ودَّعَت‭ ‬يومَ‭ ‬ودّعوا

فلم‭ ‬أدْر‭ ‬أيّ‭ ‬الظاعنينِ‭ ‬أُودِّعُ؟

يقول‭: ‬لي‭ ‬بقيةُ‭ ‬نفسٍ‭ ‬ودّعتني‭ ‬يوم‭ ‬ودّعني‭ ‬الأحباب،‭ ‬فذهبتُ‭ ‬في‭ ‬آثارهم،‭ ‬فلم‭ ‬أدْر‭ ‬أيّ‭ ‬المرتحِلَيْن‭ ‬أُشيِّع‭ ‬منهما؟

ولو‭ ‬حُمِّلتْ‭ ‬صمُّ‭ ‬الجبالِ‭ ‬الذي‭ ‬بنا

غداةَ‭ ‬افترقنا‭ ‬أوشكتْ‭ ‬تتصدَّعُ

وقد‭ ‬تأثر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بقول‭ ‬البحتري،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسُغْه‭ ‬الشرَّاح‭ ‬والمفسِّرون‭:‬

فلو‭ ‬أنّ‭ ‬الجبالَ‭ ‬فقَدْنَ‭ ‬إلفاً

لأوشك‭ ‬جامدٌ‭ ‬منها‭ ‬يذوبُ

والكلُّ‭ ‬متأثر‭ ‬بقوله‭ ‬تعالى‭: {‬لو‭ ‬أنزَلْنا‭ ‬هذا‭ ‬القرآنَ‭ ‬على‭ ‬جبلٍ‭ ‬لرأيْتَه‭ ‬خاشِعاً‭ ‬مُتصدِّعاً‭ ‬من‭ ‬خَشْيةِ‭ ‬الله‭} (‬سورة‭ ‬الحشر‭: ‬21‭).‬

 

وجوه‭ ‬المعاناة‭ ‬في‭ ‬الصنعة‭ ‬الشعرية

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬القدر‭ ‬العالي‭ ‬من‭ ‬الطلاوة‭ ‬والرقة‭ ‬وعذوبة‭ ‬الأداء‭ ‬التي‭ ‬اكتنفت‭ ‬فضاء‭ ‬الشواهد‭ ‬الغزلية‭ ‬السابقة‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬متوافرة،‭ ‬ذكية‭ ‬الرائحة‭ ‬في‭ ‬شعره–‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬عدّ‭ ‬المتنبي‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬الغزل‭ ‬والهوى،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬نقارنه‭ ‬بأيّ‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العصور،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يؤْثَر‭ ‬عنه‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬امرأة‭ ‬معيّنة‭, ‬وما‭ ‬قيل‭ ‬من‭ ‬أصداء‭ ‬متناثرة‭ ‬عن‭ ‬هيامه‭ ‬بأخت‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬بلغه‭ ‬خبر‭ ‬وفاتها‭ ‬وهو‭ ‬بعيد،‭ ‬لا‭ ‬يُشكل‭ ‬دليلاً‭ ‬كافياً‭ ‬لتجربة‭ ‬حب‭ ‬صهرتْ‭ ‬فيه‭ ‬شاعريته‭ ‬وذوّبت‭ ‬عبقريته‭ ‬الشعرية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حاله‭ ‬مع‭ ‬مدائحه‭ ‬الشهيرة‭ ‬لغير‭ ‬أمير‭ ‬وقائد‭ ‬ممن‭ ‬قصدهم‭ ‬ومدحهم،‭ ‬فحُفظت‭ ‬مطالع‭ ‬شتّى‭ ‬وأبيات‭ ‬كثيرة‭ ‬ردّدتها‭ ‬الألسن‭ ‬وحفظتها‭ ‬الذاكرة‭ ‬العربية،‭ ‬وما‭ ‬أكثرها‭ ‬وأجودها‭ ‬وألصقها‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأجيال،‭ ‬بينما‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬التداول‭ ‬والتناقل‭ ‬أشعاره‭ ‬الغزلية‭.‬

وما‭ ‬سنراه‭ ‬في‭ ‬الشواهد‭ ‬الآتية‭ ‬قد‭ ‬يُنصف‭ ‬رأينا‭ ‬وربما‭ ‬رأي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬غيرنا،‭ ‬لأننا‭ ‬سنقع‭ ‬على‭ ‬مجاهدات‭ ‬بيّنة‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬أوصاف‭ ‬الجمال‭ ‬والشوق‭ ‬والحنين،‭ ‬ومعاناة‭ ‬الهجر‭ ‬والفراق،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬تكلفاً‭ ‬مكشوفاً‭ ‬أو‭ ‬صنعة‭ ‬لفظية‭ ‬احترافية‭.‬

قال‭ ‬أبوالطيب،‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬قصيدة‭ ‬يمدح‭ ‬فيها‭ ‬عبيدالله‭ ‬بن‭ ‬خراسان‭ ‬الطرابلسي‭:‬

أظَبْيةَ‭ ‬الوحشِ‭ ‬لولا‭ ‬ظبيةُ‭ ‬الأَنَسِ

كما‭ ‬غدوتُ‭ ‬بجَدًّ‭ ‬في‭ ‬الهوى‭ ‬تعِسِ

ولا‭ ‬سقيتُ‭ ‬الثرى‭ ‬والمُزْنُ‭ ‬مُخْلِفُهُ

دمعاً‭ ‬يُنشّفهُ‭ ‬من‭ ‬لوعة‭ ‬نفَسي

ولا‭ ‬وقفتُ‭ ‬بجسمٍ‭ ‬مُسْيَ‭ ‬ثالثةٍ

ذي‭ ‬أرْسُمٍ‭ ‬دُرُسٍ‭ ‬في‭ ‬الأرسُم‭ ‬الدُّرُسِ

أفرد‭ ‬الواحدي‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬صفحتين‭ ‬لشرح‭ ‬الأبيات‭ ‬الثلاثة،‭ ‬أتممتُها‭ ‬بمثل‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬ثماني‭ ‬حواشٍ‭ ‬مكثّفة‭ ‬الكلام‭:‬

يخاطب‭ ‬الظبية‭ ‬الوحشية‭ ‬لأنها‭ ‬ألِفَتْه‭ ‬لكثرة‭ ‬ملازمته‭ ‬الفيافي‭.‬

لولا‭ ‬الحبيبة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ظبية‭ ‬الأنَس،‭ ‬أي‭ ‬الإنس،‭ ‬في‭ ‬الحُسْن،‭ ‬لما‭ ‬صرت‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬ذا‭ ‬جدٍّ‭ ‬منحوس‭.‬

وفي‭ ‬شرح‭ ‬البيت‭ ‬الثاني،‭ ‬قال‭ ‬الواحدي‭: ‬الإخلاف‭ ‬يكون‭ ‬بمعنى‭ ‬الاستقاء،‭ ‬والمُخلف‭: ‬المُسْتقي‭. ‬يقول‭: ‬ولا‭ ‬سقيتُ‭ ‬الثرى‭ ‬دمعي،‭ ‬والذي‭ ‬يستقي‭ ‬الماء‭ ‬هو‭ ‬المُزْن‭.‬

يريد‭ ‬دمعاً‭ ‬يُذهب‭ ‬رطوبته‭ ‬حرارةُ‭ ‬نفسه‭.‬

وقال‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الثالث‭: ‬المُسْي‭: ‬المساء،‭ ‬مثلُ‭ ‬الصبح‭ ‬والصباح‭. ‬والدُّرُس‭: ‬جمع‭ ‬دارس،‭ ‬يعني‭ ‬بجسم‭ ‬بالٍ‭ ‬قد‭ ‬أبلاه‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬رسوم‭ ‬بالية‭ ‬دارسة‭.‬

وقوله‭ ‬‮«‬مُسْي‭ ‬ثالثة‮»‬‭ ‬يعني‭ ‬وقوفه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬بلياليها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الرحيل‭.‬

وهكذا‭ ‬بقية‭ ‬أبيات‭ ‬الغزل‭ ‬الاستهلالي‭ ‬لقصيدة‭ ‬المدح،‭ ‬التي‭ ‬ناهزت‭ ‬السبعة،‭ ‬دبّجها‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬الصنعَة،‭ ‬والتصوير‭ ‬البياني‭ ‬الموفي‭ ‬إلى‭ ‬شروح‭ ‬وتفاسير‭ ‬مختلفة‭ ‬لهذا‭ ‬الجانب‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الكلام‭ ‬والتعبير‭.‬

وقال،‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬قصيدة‭ ‬يمدح‭ ‬فيها‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬زُريق‭ ‬الطرسوسي‭:‬

هذي‭ ‬برزْتِ‭ ‬لنا‭ ‬فهجْتِ‭ ‬رسيساً

ثم‭ ‬انصرفتِ‭ ‬وما‭ ‬شفَيْتِ‭ ‬نسيسا

وجعلتِ‭ ‬حظّي‭ ‬منكِ‭ ‬حظّي‭ ‬في‭ ‬الكرى

وتركتِني‭ ‬للفَرقدَيْن‭ ‬حليسا

قال‭ ‬ابن‭ ‬جني‭: ‬أي‭ ‬يا‭ ‬هذه‭! ‬وقال‭ ‬أبوالعلاء‭ ‬المعري‭: ‬‮«‬هذه‮»‬‭ ‬موضوعة‭ ‬موضع‭ ‬المصدر،‭ ‬إشارةً‭ ‬إلى‭ ‬البَرْزة‭ ‬الواحدة‭. ‬والرسيس،‭ ‬والرسُّ‭ = ‬مسُّ‭ ‬الحمّى‭ ‬وأوّلها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتولد‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬الضعف،‭ ‬يقول‭: ‬برزْتِ‭ ‬لنا‭ ‬فحرَّكْتِ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬قلبنا‭ ‬من‭ ‬هواكِ،‭ ‬ثم‭ ‬انصرفتِ‭ ‬عنا‭ ‬ولم‭ ‬تشْفي‭ ‬بقايا‭ ‬نفوسنا‭ ‬التي‭ ‬أبقَيْتِ‭ ‬لنا‭ ‬بالوصال‭...‬

ولنلاحظ‭ ‬هذا‭ ‬التعقيد‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬لغة‭ ‬الشرح،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشرح‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬التشابك،‭ ‬فكيف‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬الشعر‭ ‬إذاً؟

وجاء‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬البيت‭ ‬الثاني‭: ‬حُلْتِ‭ ‬بيني‭ ‬وبينكِ،‭ ‬كما‭ ‬حُلْتِ‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الكرى،‭ ‬فحظِّي‭ ‬منك‭ ‬ومن‭ ‬وصالكِ‭ ‬كحظي‭ ‬من‭ ‬الكرى‭.‬

وقال،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬يمدح‭ ‬عليّاً‭ ‬بن‭ ‬منصور‭ ‬الحاجب‭:‬

بأبي‭ ‬الشموسُ‭ ‬الجانِحاتُ‭ ‬غواربا

اللابساتُ‭ ‬من‭ ‬الحرير‭ ‬جَلابيا

المُنْهِباتُ‭ ‬قلوبَنا‭ ‬وعقولَنا

وَجَناتِهنَّ‭ ‬الناهباتِ‭ ‬الناهِبا

كنى‭ ‬بالشموس‭ ‬عن‭ ‬النساء،‭ ‬والجانحات‭: ‬المائلات،‭ ‬وكنى‭ ‬بالغروب‭ ‬عن‭ ‬بُعدهنّ‭. ‬والجلباب‭: ‬الخمار‭.‬

وأنهَبتُهُ‭ ‬الشيء‭ ‬إذا‭ ‬جعَلْته‭ ‬نَهْباً‭ ‬له،‭ ‬يقول‭: ‬أنْهَبْن‭ ‬وجوهَهنَّ‭ ‬قلوبنا‭ ‬وعقولَنا‭ ‬حتى‭ ‬نهبَتْها‭ ‬بحُسنهنَّ،‭ ‬ثم‭ ‬وصف‭ ‬تلك‭ ‬الوجنات‭ ‬بأنها‭ ‬تَنْهَبُ‭ ‬الناهبَ‭ ‬أي‭ ‬الرجل‭ ‬الشجاعَ‭ ‬المغوار‭.‬

كذلك‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬الأبيات‭ ‬التسعة‭ ‬التاليات،‭ ‬ترشح‭ ‬بالضباب‭ ‬البلاغي‭ ‬وإشكالية‭ ‬الأداء‭ ‬الشعري‭ ‬المختلف‭ ‬النظرة‭ ‬والإشارة‭ ‬واستخراج‭ ‬مقاصد‭ ‬الشاعر‭. ‬

وأسوق‭ ‬شاهدين‭ ‬غزليَّين،‭ ‬درجةُ‭ ‬المعاناة‭ ‬والصنعة‭ ‬الشعرية‭ ‬فيهما‭ ‬متزايدةٌ‭...‬

الشاهد‭ ‬الأول‭ ‬مطلع‭ ‬مديح‭ ‬لأبي‭ ‬علي‭ ‬هارون‭ ‬الأوراجي‭:‬

أَمِنَ‭ ‬ازديارَكِ‭ ‬في‭ ‬الدجى‭ ‬الرقباءُ

إذْ‭ ‬حيثُ‭ ‬أنتِ‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬ضياءُ

قلَقُ‭ ‬المليحة‭ ‬وهي‭ ‬مِسْكٌ‭ ‬هَتْكُها

ومَسيرها‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬وهي‭ ‬ذكاءُ

أسَفي‭ ‬على‭ ‬أسَفي‭ ‬الذي‭ ‬دلَّهْتِني

عن‭ ‬عِلْمه‭ ‬فبِهِ‭ ‬عليَّ‭ ‬خفاءُ

لن‭ ‬أشرح‭ ‬الشعر،‭ ‬بل‭ ‬أوضح‭ ‬أن‭ ‬الواحدي،‭ ‬وهو‭ ‬يُعْرب‭ ‬البيت‭ ‬الأول‭ ‬ويشرحه،‭ ‬قد‭ ‬باهى‭ ‬بما‭ ‬توصَّل‭ ‬إليه،‭ ‬لأنه‭ ‬اهتدى‭ ‬إلى‭ ‬مفاتيح‭ ‬اللغة‭ ‬والمقاصد‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭.‬

الشاهد‭ ‬الثاني‭: ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬يمدح‭ ‬فيها‭ ‬بدْر‭ ‬بن‭ ‬عمّار‭:‬

أبْعَدُ‭ ‬نَأْيِ‭ ‬المليحةِ‭ ‬البخَلُ

في‭ ‬البُعْد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تُكلَّف‭ ‬الإبلُ

مَلُولَةٌ‭ ‬ما‭ ‬يدومُ‭ ‬ليس‭ ‬لها

من‭ ‬مَلَلٍ‭ ‬دائمٍ‭ ‬بها‭ ‬مَلَلُ

‭(..) ‬ومَهْمهٍ‭ ‬جُبْتُهُ‭ ‬على‭ ‬قدَمي

تعْجزُ‭ ‬عنه‭ ‬العرامِسُ‭ ‬الذُّلُلُ

علّة‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬وكثير‭ ‬غيره‭ ‬أنه‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬لا‭ ‬تقعُّر‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬وحشيّة،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬التراكيب‭ ‬والتداخل‭ ‬بين‭ ‬الألفاظ‭ ‬والصيغ‭ ‬التي‭ ‬تُخرج‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬وضوح‭ ‬الألفاظ،‭ ‬إلى‭ ‬غرابة‭ ‬التعبير‭ ‬والتصور‭ ‬الشعريين‭.‬

وعلّة‭ ‬هذه‭ ‬العلّة‭ ‬أن‭ ‬شاعرنا‭ ‬العظيم،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أغزاله،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬عاطفية‭ ‬ينعصر‭ ‬لها‭ ‬القلب‭ ‬وتلظى‭ ‬الكبد،‭ ‬فيخرجُ‭ ‬الشعر‭ ‬مكوَّر‭ ‬القافية‭ ‬مضمَّخ‭ ‬الأردان‭ ‬والأغصان‭. ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يعوِّض‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬بمكابدة‭ ‬الخيال‭ ‬ولَيِّ‭ ‬هام‭ ‬البلاغة‭ ‬لتدُلَّ‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬باع‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الغزل‭ ‬واستحضار‭ ‬لواعج‭ ‬الشوق‭ ‬والالتياع،‭ ‬من‭ ‬خزائن‭ ‬اللغة‭ ‬وأساليبها‭ ‬البيانية‭ ‬والبديعية‭ ‬المغرقة‭ ‬في‭ ‬تجرُّدها‭ ‬وتصلّب‭ ‬دلالاتها‭ ‬ورموزها‭!‬

وجملة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬غزل‭ ‬المتنبي‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬عنايته‭ ‬الإبداعية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬الفخر‭ ‬والمديح‭ ‬والرثاء‭ ‬والهجاء‭... ‬لأن‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬ألمحتُ‭ ‬إليه،‭ ‬كان‭ ‬مدخلاً‭ ‬أو‭ ‬مطيَّة‭ ‬لغرض‭ ‬المدح‭ ‬الرئيس،‭ ‬ونادراً‭ ‬ما‭ ‬قرأنا‭ ‬له‭ ‬شعراً‭ ‬غزلياً‭ ‬خالصاً‭ ‬لذاته‭... ‬لكأن‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬شغلت‭ ‬شعراء‭ ‬العربية‭ ‬وكتّابها‭ ‬وفنّاني‭ ‬العالم،‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬موقعها‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬وجدانه‭ ‬الذي‭ ‬اكتنفه‭ ‬همٌّ‭ ‬وجوديٌّ‭ ‬بحجم‭ ‬الكون‭ ‬والتاريخ،‭ ‬عبَّر‭ ‬عنه‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬صفاء‭ ‬اللغة‭ ‬ونصاعة‭ ‬التركيب‭ ‬وعذوبة‭ ‬العسل‭ ‬المصفى،‭ ‬كقوله‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬يمدح‭ ‬فيها‭ ‬عليّ‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الأنطاكي‭:‬

ولا‭ ‬تحسَبَنَّ‭ ‬المجْدَ‭ ‬زِقّاً‭ ‬وقَيْنةً

فما‭ ‬المجد‭ ‬إلا‭ ‬السّيفُ‭ ‬والفتْكةُ‭ ‬البكرُ‭ ‬

وتضريبُ‭ ‬أعناقِ‭ ‬الرجال‭ ‬وأن‭ ‬تُرى

لك‭ ‬الهبواتُ‭ ‬السُّودُ‭ ‬والعَسْكر‭ ‬المجْرُ

وترْكُكَ‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬دويّاً‭ ‬كأنّما

تداول‭ ‬سمْعَ‭ ‬المرءِ‭ ‬أنْمُلُه‭ ‬العَشْرُ

ولنتأمل‭ ‬بوضوح‭ ‬هذا‭ ‬الدويّ‭ ‬الذي‭ ‬تُسَدُّ‭ ‬من‭ ‬هوله‭ ‬وشدّته‭ ‬مسامع‭ ‬المرء‭ ‬بكل‭ ‬أصابعه‭ ‬العشرة‭... ‬ولنتأمل‭ ‬هذه‭ ‬الصياغة‭ ‬التي‭ ‬سالت‭ ‬فيها‭ ‬القريحة‭ ‬وتأجّجت‭ ‬معها‭ ‬جمار‭ ‬النفس‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬عليه‭ ‬مداركه‭ ‬وآماله،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عسيراً‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬قرأنا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬الغزل‭ .