العاني وسرديات «الممثلة»

من النادر أن تجد فناناً يقتفي وصية «هاملت» في «مطابقة القول للفعل». ولكن هذا ما أنجزه يوسف العاني على مستوى الفن والحياة، وهو يتحمل مسؤولية خياراته الاجتماعية، والسياسية، والفنية.
فقد ولد ليعاني اليُتم مبكراً، وتعهدته أخته الكبيرة، فصارت له «أماً ثانية» من بعد انتقاله من مدينة الفلوجة إلى بغداد، وإلى الكرخ منها.
ربما لعبت هذه التحفيزات النسوية المبكرة دوراً كبيراً في خياراته على مستوى أسرته الصغيرة، واقترانه بزوجته الفاضلة، وتربيته لابنته الوحيدة. فالمرأة التي جعلها «أماً للشعب» كله قد كرّمتها الديانات الكبرى: التوحيدية والوضعية، وأضفت عليها ألقاً وبهاءً، كالذي فعلته الفلسفة وهي تناقش قضايا «الجندر» و«الإناسة» معرفياً... وكذلك الدراسات التربوية والاجتماعية والنفسية في خوضها إشكاليات بحثية متداخلة عن المرأة.
على صعيد المسرح، وجد العاني أن المرأة اشتركت في صوغ البعدين الثقافي والفني لتثبيت جدارة تتناسب وقدراتها الإبداعية، فلكل ممثلة تفرّدها الخاص، ونماذجها الإبداعية العامة بانفتاحها على علاقات إنسانية حرّة، وعلى أبعاد أخلاقية رفيعة، في حياة مهنية شاقة، لتتصالح مع ذاتها، بعيداً عن عوائق العادات السائدة.
تعرّف العاني إلى شبكة من الممثلات العربيات المرموقات، من الخليج إلى المحيط، من اللواتي تجمعهن المبادئ الوطنية والإنسانية، وهن يدافعن عن حقوقهن المدنية في نضال صعب يقترن بهموم السياسة في الغالب وبصراعات المضامين التاريخية السالفة، مع مواقف عصرية راهنة، من أبرزها علاقة الرجل بالمرأة، بعيداً عن النظرات المتشددة، وتأكيد حقها في العمل، وعدم حرمانها من المساهمة في بناء المجتمع، بتهميشها واضطهادها.
يتذكر العاني في «شجونه» المؤجلة عديداً من الممثلات العراقيات، ويرى أن كل ممثلة منهن قدمت أدواراً جديدة، وبطرائق مختلفة، ومتنوعة، وتميزت في محاولتها التعرف إلى «كينونتها» الذاتية من خلال إدراك طبيعة العلاقة التي تربطها بالعالم من حولها وهي تبحث عن علاقة متزنة، غير أحادية، مع الرجل، لإنضاج النظرة إلى قضية «النسوية» مسرحياً، بوصفها قضية حاسمة في الخطاب المسرحي الرصين، مقتفيات مناهج أدائية متنوعة للتعبير عن ذواتهن بأدوار مسرحية جادة.
شاهد العاني عروضاً مسرحية في خارج الوطن، منها التقليدي، ومنها التجريبي، واستهوته العروض التي يجتمع فيها الرقص، والموسيقى، والتمثيل، وفنون الأداء، بمثل ما أعجبته العروض الخاصة بالممثل الواحد، وكل عرض منها يُلهب خيال المتفرجين ويستهويهم بمختلف الأشكال والأساليب الفنية، بعيداً عن قوالب الوعظ المباشر والتقريرية، من أجل التركيز على فعالية الجمهور النقدية، واتخاذ موقف حاسم يطالب بحقوق المرأة في مسار من «الصراع» بين منظور العرض المسرحي، والقيم السائدة.
استهوت العاني العروض التي ترفع من مكانة المرأة الاجتماعية، والثقافية، والأخلاقية، والسياسية، والدينية، في معالجات فنية ومسرحية محترفة، وأعجب بها لكونها تنفتح على فضاءات معرفية، مغايرة للسلوك النمطي العادي من حيث القدرة على «الاختيار»، والوعي بالإرادة الحرة للمبدعات، وهذا ما وجده في الممثلة «زينب» وأدوارها في عمله المسرحي «آني أمّكْ يا شاكر»، من بعد أن أرسلت رسالة إلى العاني تبدي فيها رغبتها في العمل في المسرح، وكان ذلك في «ظروف قاسية تكبل الفتاة العراقية بالقيود»، فهي تعتقد أن «المسرح مدرسة الشعب»، وتُخبره بأنها لا تعرفه شخصياً، ولكنها سمعت من «إخوانها» ما يليق بمكانته في نفوس المثقفين.
«زينب» تقدم نفسها في «الرسالة» بأنها في السادسة والعشرين من عمرها، متوسطة «الجمال»، وليست في درجة جمال صوفيا لورين أو مارلين مونرو، كما تذكر مازحة! وكانت «زينب» مفصولة من الخدمة التعليمية. ويذكر العاني أن مخرج فيلم «سعيد أفندي»، كاميران حسني، والفنانين إبراهيم جلال، وجعفر السعدي اندهشوا من قدراتها، ووعيها، وإصرارها وهي تقول:
«شعرتُ أن العمل معكم، في المسرح والسينما، مسؤولية وطنية».
في المسرح مثّلتْ زينب في: «فوانيس»، و«بيت ألبا»، و«النخلة والجيران»، و«الخان»، و«الخرابة». وفي السينما مثلتْ في «أبوهيلة». يصفها العاني بأنها فنانة شامخة، ومناضلة وهي تفارق الحياة في السويد.
اسم لامع آخر يذكره العاني: ناهدة الرمّاح، التي وجدها «أمينة على إحساسها الإنساني المعبّر عن المعاناة بفيض إنساني صادق ومقنع»، وهي تمثّل في «النخلة والجيران» و«الرجل الذي تزوّج خرساء» لأناتول فرانس (1957)، و«الخال فانيا»، و«بيت برناردا ألبا» (1979)، من دون أن ينسى دورها في مسرحية «المفتاح» وهي تقوم بمناداة «حيران»، و«تصرخ ببسالة» فترسم لنا «صورة الفنانة العراقية المضيئة».
ويذكر «وداد سالم» التي مثلت في «الخال فانيا» (1961) في فرقته التي كان هو مؤسسها ومن يكتب معظم نصوصها، فقد وجدها منطلقة في المسرح، كما في الإذاعة والتلفزيون، من دون منازع، بإسناد من زوجها المثالي «أديب القليجي» الذي أخرج عديداً من المسرحيات للمركز الثقافي السوفييتي في بغداد.
ويُعرّج على أنوار عبدالوهاب، المغتربة مثلها مثل الأخريات. التقاها العاني في «لايبزغ» في ألمانيا، فمثلت دور «تماضر» في «النخلة والجيران» (1969).
ثمة «سهام السبتي» المحافظة على قدسية المسرح، و«أحلام عرب» التي مثلت باللغة الإنجليزية مونودراما بعنوان «الاستيقاظ» للمؤلف «داريو فو»، كما مثلت في «زيارة السيدة العجوز» لدورينمات.
ثم يلهج العاني بأسماء من أبرزها: مي شوقي التي يصفها بأنها «زهرة يانعة مبدعة»، وزكية خليفة، وكذلك «أزادوهي»، وفوزية عارف، وسواهنّ من ممثلات مبدعات في ما قدمنَ من «سرديات» مسرحية من على خشبات مسارحنا العربية الملتزمة ■