تبلور الهوية الوطنية المصرية من محمد علي إلى سعد زغلول
تطوّر مفهوم الدولة العصرية في مصر انطلاقًا من إصلاحات محمد علي باشا بصفته باني ركائز أول حركة تحديث في العالم العربي، التي سبقت حركة التحديث في اليابان بعقود عدة. فقد أسس جيشًا مصريًّا عصريًّا قويًّا، وحاول مرارًا تلافي الصدام مع السلطنة العثمانية، عبر تقديم مساعدات عسكرية ساعدت على استمرار سيطرتها في مناطق عربية وفي البلقان، إلا أن تخوُّف السلطنة من النفوذ المتزايد لوالي مصر بعد احتلاله بلاد الشام وتوجهه لاحتلال الأستانة، دفعها إلى التحالف مع دول أوربية لإلحاق هزيمة عسكرية بجيش محمد علي وحصر نفوذه داخل مصر.
استندتُ في ذلك - بشكل أساسي - إلى وثائق ومصادر غنية اعتمدت عليها في دراساتي الكثيرة عن المجتمع والدولة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. وقد عالجــتُ المسيرة التاريخية لتطور الفكر السياسي المصري من خلال تطور مفهوم الوطنية المصرية، عبر تحليل مقولات التحديث التي تبنّاها محمد علي، والتي تبدلت لاحقًا وسارت باتجاه معاكس في عهد خلفائه الذين عجزوا عن وقف التدخلات الاستعمارية الأوربية فــــي مصـــــر، فسهّلوا ضرب الجيش المصري الوطني حين تصدى بقيادة أحمد عرابي للجيـــــش البريطاني، وسقطت مصر تحت الاحـــتلال البريـــــطاني دون مقاومة تُذكر من جانب الأسرة الخديوية والسلطنة العثمانية.
في المقابل، شكّلت ثورة 1919 قفزة نوعية في الفكر السياسي المصري المعاصر، حين رفع المتنورون المصريون شعار الاستقلال التام ورفض كل أشكال الحماية والوصاية.
وتطور الوعي الثقافي داخل المجتمع المصري ولدى الحركة السياسية المصرية التي أنتجت شعارات وطنية شكّلت ركيزة صلبة لنجاح ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول ورفاقه.
يعدّ محمد علي باشا مؤسس أول دولة عربية عصرية تحدت السلطنة العثمانية، وأحدثت إصلاحاته تبدلات اقتصادية وتربوية واجتماعية كبيرة، وشكلت نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ مصر وبلاد الشام الحديث بشكل خاص، وتاريخ المنطقة العربية والإفريقية بشكل عام، وبنت ركائز صلبة لجيش مصري عصري ومدرب على أحدث العلوم العسكرية الأوربية. وأقام المصانع العسكرية على أرض مصر، مستفيدًا من الخبرات العسكرية الأوربية، وأصبح الجيش المصري في عهده مدرّبًا أفضل تدريب، ومزودًا بأحدث الأسلحة بالتعاون مع مؤسسات عسكرية أوربية. فتحدى العثمانيين، واحتل ولايات بلاد الشام وهدد السلطنة في عقر دارها.
نهضة غير مسبوقة
أرسل محمد علي الكثير من البعثات العلمية إلى الخارج بأعداد كبيرة، فتطورت النهضة الثقافية والعلمية والإعلامية خلال عهده بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، وشهدت تبدلات بنيوية في المجتمع المصري، وأوجدت فرصًا كثيرة للعمل والاستثمار.
في بداية حركة التحديث لم يكن المجتمع المصري يمتلك العدد الكافي من المستثمرين والمقاولين المحليين الذين لديهم القدرة على إنجاز تبدلات اقتصادية، وتربوية، وثقافية، ومالية على النمط الأوربي. فاستقطبت مشاريعه التنموية كثيرًا من المقاولين وأصحاب الخبرة والرساميل من الأجانب الذين وفدوا إلى مصر بدافع التوظيف المالي وجني الأرباح الكبيرة.
وقد وصفت إصلاحاته بأنها أول تجربة تحديث حقيقية في المنطقة العربية، لكثرة ما حقق من إنجازات اقتصادية واجتماعية كثيفة، نظرًا إلى طول الفترة الزمنية التي مارس فيها السلطة، فتطور الاقتصاد المصري عن طريق توسيع مساحة الأراضي الزراعية، وتطوير الصناعة على نطاق واسع.
وأرسى محمد علي ركائز حركة تحديث مهمة في مجال نشر العلوم العصرية والتكنولوجيا الحديثة داخل المجتمع المصري، وبنى اقتصادًا مصريًّا مزدهرًا تشرف عليه أو تحتكره الدولة، عبر أجهزة إدارية تقليدية، وأسهم في بناء نهضة ثقافية واجتماعية جعلت مصر الدولة الأكثر حضورًا في تاريخ العرب الحديث. وقد استقطبت الدولة أعدادًا كبيرة من أبناء الجاليات العربية، إضافة إلى جاليات أوربية متنوعة، وأثارت انتصاراته العسكرية قلق السلطنة العثمانية والدول الاستعمارية الأوربية معًا، إلى أن تم إخضاعها عبر تحالف
فرنسي - بريطاني - عثماني مشترك في مؤتمر لندن عام 1840.
قاطرة تحرير
لكن التحالف أبقى مصر تحت الحماية العثمانية، مع الاعتراف بنظام وراثـــي فيها للأسرة الخديوية، وتـــــخوّفـــت دوله مــن دور طليعي لمصر يشكّل قاطرة لتحرير الولايات العربية من السلطنة العثمـــانية، ويهدد المخططات الأوربية لتفكيك السلطنة العثمانية واقتسام ولاياتها.
باتت مصر تصنّف في طليعة الدول التي أطلقت حداثة لم تكتمل بسبب الأخطاء الداخلية من جهة، والتحالفات الأوربية والعثمانية لإجهاضها من جهة أخرى.
وكانت النتيجة تغريب المجتمع المصري في عهد خلفائه والخضوع لضغوط الرقابة الأوربية وفرض المحاكم المختلطة على مصر، وبيع أسهمها في قناة السويس، والإمعان في سياسة القروض المجحفة بفوائد عالية، رغبة في جعل مصر قطعة من أوربا، فانحرفت حركة تحديث الدولة المركزية المصرية التي بنى ركائزها محمد علي عن مسارها الوطني، وفقدت سيادتها في عهد الخديوي توفيق الذي تواطأ مع الإنجليز ضد الجيش الوطني المصري ومهّد الطريق لاحتلال بريطانيا لمصر.
واستخلص المتنورون المصريون الدروس المستفادة من ذلك الفشل لإطلاق شعارات وطنية واضحة في ثورة 1919. وقد تمحورت سياسيًّا حول الاستقلال التام، وبناء الحكم الوطني المستند إلى دستور مكتوب بأيدٍ مصرية، ورفض الاحتلال وكل أشكال الحماية العثمانية والبريطانية.
وركزت انتقادات النُّخب المصرية الوطنية على السلبيات الكثيرة التي رافقت انفتاح الطبقة السياسية الحاكمة في مصر على الغرب الاستعماري الأوربي. ونشرت النخب التنويرية المصرية مقولات الحداثة السليمة التي تدعو إلى حرية الرأي، والنشر، والمعتقد، والمساواة بين المصريين في الحقوق والواجبات، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وقيام الدولة المصرية الحديثة على أسس دستورية، وتحرير المرأة، وتعليم الفتيات، والحد من تعدد الزوجات، حرصا على تماسُك العائلة وغيرها. ونشطت النهضة النسائية في مصر بصورة ملحوظة، وبدأت المرأة تشارك الرجل في التعلم، والعمل الاجتماعي، وفي النهضة الأدبية والثقافية.
حركة وطنية استقلالية
أقيمت النوادي الشبابية، والصالونات الأدبية والاجتماعية لنشر الفكر العقلاني، وانتعشت حركة الترجمة، والحركة المسرحية، ومقولات التحرر التي شكّلت طليعة التواصل الإيجابي بين أوربا ومصر، وساهمت النخب التنويرية في نشر الاتجاهات الفكرية الحديثة بالاســـــتناد إلى الوجه الإنساني والحضاري في الثقافات الغربية، مما ساعد على تعزيز دور مصر الثقافي، إلى جانب التفاعل الإيجابي بين طبقات وشرائح المجتمع المصري مع الجاليات الوافدة.
أسست الثورة العرابيّة لحركة وطنية استقلالية جامعة تجلت عبر الالتفاف الشعبي حول سعد زغلول ورفاقه عند القيام بثورة 1919 واحتضان شعاراتها الوطنية الجامعة، فقد استغلت بريطانيا دخول السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، فأنهت الحماية العثمانية على مصر، وأعلنت حمايتها عليها، وعملت على فصل السودان عن مصر، وأطلقت الأحكام العرفية القاسية، وعطلت الجمعية التشريعية المصرية، وفرضت رقابة صارمة على الإعلام والنشر والثقافة، وأرهقت الشعب المصري بالمصادرة، والسخرة، والتدابير التعسفية التي أثارت غضب المصريين على اختلاف طوائفهم، وطبقاتهم، وفئاتهم الاجتماعية، لكن النخب التنويرية المصرية التي ساندت الثورة العرابية، ومنهم سعد زغلول ورفاقه، بلورت شعاراتها الوطنية الجامعة بكفاءة عالية. فتعززت الدعوات المطالبة بتحقيق شعار امصر للمصريينب، ورفض الحماية العثمانية والاحتلال البريطاني.
وتشكلت حركة وطنية صلبة تطالب بالاستقلال التام، وبدستور عصري يدير بموجبه المصريون شؤون وطنهم بأنفسهم.
مبادئ ويلسون
تبنى بعض المتنورين مبادئ الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها دون احتلال أو وصاية أو حماية، وتصاعدت ردود الفعل المصرية ضد التدابير التعسفية البريطانية، واتخذت طابعًا وطنيًّا جامعًا. فباتت الجماهير الشعبية تهتف للاستقلال والدستور، وتطالب بسقوط الحماية البريطانية على مصر.
وشارك سعد زغلول بمؤتمر الصلح في باريس عام 1919، وطالب باستقلال مصر، وفضح التدابير التعسفية التي اتخذتها بريطانيا في أثناء الحرب العالمية الأولى، فألغت الحماية العثمانية وفرضت الحماية البريطانية على مصر، واستغلت جماهير الشعب المصري بصورة بشعة، وأرسلت آلاف المصريين للمشاركة في حروبها خارج مصر، وفرضت على الفلاحين مزروعات محددة لمصلحة الاحتكارات البريطانية.
وفي أثناء رئاسة سعد زغلول للحكومة المصرية أو لرئاسة مجلس النواب، دعا باستمرار إلى استقلال مصر، وكان له دور بارز في تأسيس حزب الوفد الذي ضم شخصيات مصرية ذات حضور شعبي كبير. وقاد المفاوضات لإلغاء الحماية البريطانية على مصر بالطرق الدبلوماسية، وخاض صراعًا مفتوحًا ضد انحياز الخديوي والقوى المناصرة له، إلى جانب الإنجليز في معركة الدستور واستقلال الإرادة المصرية.
ويعتبر سعد من أشد المناصرين لتطبيق السياسات الليبرالية في مصر على مختلف الصّعُد، وبقي متمسكًا طول حياته السياسية بالعمل الديمقراطي السلمي، وقاد بكفاءة عالية الجماهير الشعبية المصرية في معركة استقلال مصر وإعلان الدستور المصري، وانتشرت عل نطاق واسع المقولات التي نادت بها الثورات الأوربية وفي طليعتها الحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة، وحقوق الإنسان.
تكامل رائع
دعا المتنورون المصريون الدول الأوربية إلى تطبيق المقولات التحررية التي نشرتها مدارسها وجامعاتها بمصر وفي مختلف دول العالم، وبرز تكامل رائع بين صلابة موقف سعد زغلول ورفاقه مع صلابة التأييد الشعبي الكاسح في معركة استقلال مصر.
وشهدت الساحة المصرية تضامنًا كبيرًا بين مختلف طوائف الشعب المصري، ولم تشهد تلك المرحلة صدامات طائفية تحرف الثورة عن مسارها الوطني، بل تكاتفت جميع القوى الوطنية لخوض معركة الاستقلال الذي شكّل غاية نبيلة لدى جميع المصريين.
وأدركت النخب المصرية بقيادة سعد زغلول ورفاقه أن النضال الديمقراطي السلمي هو الأفضل لنيل الاستقلال دون إراقة الدماء، فاستمر سعد ورفاقه يرفعون شعار استقلال مصر، ويؤكدون أن حماية الاستقلال تتطلب بناء جيش مصري عصـــري وقــوي، وتعــــزيز دور القوى الوطنية المصرية في مختلف مجالات العلم، والعمل، والإنتاج، والتصنيع، والإصلاح الزراعي، وطالبوا بحـــل مشكلة البـــطالة، ومحاربة الفقر، وتعزيز دور الطبقة الوسطى، لأنها تشكّل صمام الأمن لحماية الاستقرار الداخلي وضمان التنمية البشرية والاقتصادية، وحماية التحركات الشعبية المطالبة بالحرية والاستقلال.
استنتاجات ختامية
أعادت النخب المصرية في ثورة 1919 بعث الحياة السياسية في مصر لكي تلعب دورها الطليعي في محيطيها العربي والإفريقي، ودلالة ذلك أن ولادة تلك الثورة كانت نتيجة مخاض سياسي وثقافي وشعبي امتد قرابة المئة عام، وتوّج بوعي سياسي عميق لدى القيادة السياسية والنخب الثقافية التي استفادت كثيرًا من دروس الثورة العرابية وتفكيك الجيش المصري. فتكثّفت التحركات السياسية والشعبية المطالبة بالاستقلال وبناء الدولة المدنية العصرية في مصر بالطرق السلمية. وذلك يقود إلى استنتاجات مهمة أبرزها:
أولاً: قدمت ثورة 1919 نوعًا جديدًا من النضالات الناجحة في تاريخ مصر المعاصر، فلم يعتمد قادتها أسلوب الكفاح المسلح ضد الإنجليز الذين ألغوا الحماية العثمانية على مصر في بداية الحرب العالمية الأولى وأعلنوا الحماية البريطانية عليها، فردّ قادة الثورة بشعار الاستقلال التام ورفض كل أشكال الاحتلال والحماية، مما اضطر بريطانيا إلى الاعتراف باستقلال مصر في 15 مارس 1922، وفتحت سفارات لدولة مصر المستقلة في لندن وباريس وموسكو وواشنطن.
وفي عام 1923 أعلن الدستور المصري الذي أسس لنظام سياسي جمع بين الحكم الملكي والدستوري، وبصفته زعيمًا لحزب الوفد الذي كان يتمتع بنـــــفوذ قوي في البرلمان ولدى الجماهير الشعبية، شكّل سعد زغلول أول حكومة دستورية في تاريخ مصر المعاصر.
ثانيًا: وصفت الثورة بأنها حركة جماهرية واسعة كان هدفها الأساسي تحقيق استقلال مصر وقيام الدولة العصرية فيها على أسس حديثة على غرار الدول الديمقراطية في العالم، وشاركت فيها مختلف الطبقات والفئات الشعبية، وخاصة الفلاحين، والطلاب، والموظفين، والحرفيين والعمال، والمنظمات الشبابية والنسائية.
واستفاد قادة الثورة من سلبيات تجربة التحديث المصرية في عهد محمد علي وخلفائه، والتي جعلت مصر دولة مركزية قوية أقامت نهضة اقتصادية وثقافية غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث، لكن الممارسة السياسية للأسرة الخديوية كانت موضع انتقاد شديد في الجانب السياسي، بسبب توجيه ثمرات الحداثة لمصلحة الاحتكارات داخل مصر، واستخدام فائض القوة العسكرية في حروب غير مبررة خارج أراضيها وعلى حساب تنمية شعبها.
مدرسة التحرر المدني
ثالثًا: تمحورت أهداف ثورة 1919 حول إقامة دولة مدنية مصرية مستقلة ومتطورة تزود الشعب المصري، على اختلاف طوائفه وطبقاته ومناطقه، بالعلوم العصرية والثقافة الليبرالية والديمقراطية الحديثة.
وما يقال عن غياب الفكر القومي العربي عن شعارات الثورة غير دقيق، لأن دراسات كثيرة عن العروبة والقومية العربية كانت منتشرة في مصر على نطاق واسع، وخاصة نشر مؤلفات عبدالرحمن الكواكبي.
رابعًا: أسست الثورة لمدرسة في التحرر المدني أكدت على شخصية مصر وهويتها الوطنية المتميزة، وحاولت الجمع بين موجبات الحفاظ على أصالة الشعب المصري والتمسك بتقاليده الإيجابية الموروثة وبتراث مصر القديم والمتنوع الثقافات الفرعونية، والعربية، والإفريقية، إلى جانب انفتاحها عــلى الثقافات العالمية العصرية.
خامسًا: أسست الثورة لمسار تاريخي جديد على قاعدة الهوية الوطنية المصرية الجامعة وتطبيق مقولات الحداثة السياسية السليمة في مصر، فهي ثورة سياسية بعيدة عن التعصب الديني أو العرقي، وعن التقسيم الطبقي لفئات الشعب المصري. وتميّزت بسمات جديدة في تاريخ مصر المعاصر من حيث الدور الطليعي للفلاحين والشباب والموظفين والنساء في النضال الجماهيري السلمي لبناء دولة مستقلة ودستور عصري.
وعلى خلفية إصلاحات محمد علي وخلفائه في مجال التعليم ازداد عدد البعثات العلمية المصرية إلى الخارج، وتطورت النهضة الأدبية والعلمية والإعلامـــية بصورة واضـــــحة إبان فترة ما بين الحربين العالميتين، وتبلورت فـــــيها تــــيارات سياسية عصرية تحث على التفاعل الإيجابي بين النخب الثقافية المصرية مع التيارات الليبرالية والتقدمية والديمقراطية واليسارية والنسوية في الغرب بجناحيه؛ الأوربي والأمريكي.
دور طليعي
سادسًا: نظرًا لدور مصر الطليعي في العالم العربي، أدى تغريب حركة التحديث في مصر إلى كارثة شملت لاحقًا جميع الدول العربية بلا استثناء، فباتت علاقة العرب بالغرب الاستعماري علاقة استغلال بشع لا علاقة تفاعل وتطوير. ويعاني عرب اليوم عجزًا فاضحًا في الحفاظ على السيادة الوطنية، والاستقلال السياسي، وتحرر الإرادة الوطنية، كما تعاني بعض دولهم نقصًا حادًا في الوحدة الداخلية، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي.
ختامًا، أحدثت ثورة 1919 تطورًا ملحوظًا في مفهوم الهوية الوطنية المصــــرية الذي حاولت السلطنة العثمانية وبريطانيا طمسها لعقود طويلة، ورفعت الاحتجاجات الشعبية شعارات إصلاحية مهمة ردًا على النظم المالية والاقتصادية التي مارستها الإدارة البريطانــية إبان احتلالها لمصر، وبصورة أكثر تعسفًا بعد إعلان الحماية عليها، فطغـــت المصالح البريطانية على المصالح الأساســــية للشعب المصري الذي رد بالتضامن الجماهيري الثابت لنيل الاستقلال.
وتميزت التحركات المطلبية بسمات جديدة من حيث الدور الطليعي للقوى الشعبية في النضال لإقامة دولة عصرية مستقلة، وهوية مصرية جامعة، وعمل قادة الـــثورة على إقامة نظام سياسي عصري وأسسوا لمرحلة سياسية جديدة تميزت بالنضج الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي جعل مصر في طليعة الدول العربية التي بنت مجتمع المعرفة على أساس التعليم العصري والتكنولوجيا المتطورة، وساهمت الثورة في إطلاق نهضـــة ثقافية واسعة داخل مصر وفي محيطيها العربي والإفريقي.
وهي تعتبر بحق طليعة الثورات التحررية العربية التي خاضت معارك وطنية ناجحة ضد الاستعمار الأجنبي، وأعطت لمصر موقعًا متقدمًا في دعم كثير من حركات التحرر الوطني العربية والإفريقية .
سعد زغلول باشا
شهدت ثورة 1919 أول تظاهرة نسائية في تاريخ مصر الحديث