يوسف العاني ... الإنسان والفنان والمجتمع

يوسف العاني ... الإنسان  والفنان والمجتمع

قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬كُثر‭ ‬بين‭ ‬الفنانين‭ ‬المسرحيين،‭ ‬كتّاباً‭ ‬وممثلين،‭ ‬مَنْ‭ ‬عبّروا‭ ‬عما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬من‭ ‬ثنائية‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬واقعية‭ ‬أخذت‭ ‬برموزها‭ ‬ذات‭ ‬الدلالة‭ ‬والموقف‭.‬

وقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بيننا،‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬فنان‭ ‬واقعي‭ ‬الاتجاه‭ ‬والتوجّه‭ ‬رفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الواقعية،‭ ‬اتجاهاً‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬للفنان‭ ‬العاني‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الواقعية،‭ ‬إذ‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬مدارات‭ ‬رؤية‭ ‬إنسانية‭ ‬رفعت‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الإنسان‭ ‬مجتمعياً‭.‬

كانت‭ ‬مملكة‭ ‬يوسف‭ ‬العاني،‭ ‬الفنان‭ ‬والإنسان،‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وكان‭ ‬أن‭ ‬علّق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فتح،‭ ‬أو‭ ‬انفتح‭ ‬له،‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭: ‬مشكلات‭ ‬الإنسان،‭ ‬وطموحاته،‭ ‬وآماله‭,‬‭ ‬فجاءت‭ ‬رؤاه‭ ‬وأفكاره،‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجمع،‭ ‬محرّكاً‭ ‬فعلياً‭ ‬لاستطراداته‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬مثّلَ‭ ‬فيها‭ ‬طموحات‭ ‬الفنان‭ ‬وأحلام‭ ‬المناضل‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬دخوله‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭,‬‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬للسياسة‭ ‬استجابة‭ ‬‮«‬السياسيين‭ ‬المحترفين‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬‮«‬توازن‭ ‬النظر‮»‬‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬وهو‭ ‬يأخذ‭ ‬فيه‭ ‬الواقع‭ ‬وإنسانه،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬رؤيته‭ ‬المسرحية‭ ‬تأتي‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬محمولات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬إن‭ ‬تضمنت‭ ‬مطلب‭ ‬التغيير‭ ‬نحو‭ ‬وضع‭ ‬أفضل‭ ‬للإنسان‭ ‬والواقع،‭ ‬فإنها‭ ‬أخذت‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬بأبعاد‭ ‬الانتماء‭ ‬إليه‭. ‬فيوم‭ ‬أطلّ‭ ‬على‭ ‬بغداد،‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬غرباته‭ ‬القسرية،‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬أفقاً‭ ‬أخضر‮»‬‭.‬

لو‭ ‬جمعنا‭ ‬أعماله‭ ‬المسرحية‭ ‬وعرضناها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لكتابتها‭ ‬من‭ ‬تعاقب‭ ‬زمني،‭ ‬لرأينا‭ ‬صورة‭ ‬متكاملة‭ ‬لمجتمع‭ ‬بتكامل‭ ‬ما‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬وقضايا،‭ ‬أو‭ ‬يداخل‭ ‬إنسانه‭ ‬من‭ ‬هواجس،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬معاناة،‭ ‬وما‭ ‬يرتسم‭ ‬أمامه‭ ‬من‭ ‬تطلعات‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬‮«‬أيدي‭ ‬القهر‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تكبتها،‭ ‬فظل‭ ‬فيها‭ ‬صحبة‭ ‬الحياة‭ ‬والإنسان‭... ‬لذلك‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬زملاؤه،‭ ‬محبّوه‭ ‬وحساده،‭ ‬يرون‭ ‬صورته،‭ ‬بما‭ ‬تجمع‭ ‬من‭ ‬هموم‭ ‬وتطلعات،‭ ‬متجسدة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬شخصياته‭ ‬المسرحية‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬غدوا‭ ‬ينادونه‭ ‬بأسماء‭ ‬مقتبسة‭ ‬منها،‭ ‬وكأن‭ ‬شهرته‭ ‬ارتبطت‭ ‬بها‭. ‬أما‭ ‬هو،‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬فناناً،‭ ‬يشدد‭ ‬على‭ ‬كونه‭ ‬‮«‬ممثلاً‮»‬،‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عرف‭ ‬وقدَّم،‭ ‬ليكتشف‭ ‬أن‭: ‬‮«‬الممثّل‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‮»‬،‭ ‬يحمل‭ ‬فلسفته،‭ ‬وفهمه‭ ‬التمثيل،‭ ‬مع‭ ‬إدراك‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بتمثيله‭. ‬فالتمثيل‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬تُعيد‭ ‬صوغ‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬المسرح‮»‬‭.‬

أما‭ ‬الحياة‭ ‬فلسفة،‭ ‬فيؤكد‭ ‬أنه‭ ‬تعلمها‭ ‬‮«‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬ومرجع‭: ‬فلسفة‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬تربيت‭ ‬معهم،‭ ‬والذين‭ ‬علموني‭ ‬كيف‭ ‬أشق‭ ‬طريقي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭. ‬احترام‭ ‬الآخرين‭. ‬عدم‭ ‬الخضوع‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬إخضاعك‭ ‬قسراً‭. ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬الخطأ‭ ‬فضيلة‭. ‬التوسل‭ ‬بالمناقشة‭ ‬والبحث‭ ‬والمنطق‭. ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تريد‭. ‬عدم‭ ‬الاستهانة‭ ‬بأي‭ ‬رأي‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬بسيطاً‮»‬‭... ‬ليخلص‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬‮«‬كل‭ ‬ما‭ ‬تعلمته‭ ‬صار‭ ‬فلسفة‭ ‬في‭ ‬مسرحي‮»‬‭.‬

لم‭ ‬يترك‭ ‬للواقع‭ ‬الذي‭ ‬عليه‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مجتمعه‭ ‬أن‭ ‬يتغلب‭ ‬على‭ ‬إرادته‭ ‬فيكسرها،‭ ‬أو‭ ‬ينحرف‭ ‬برؤيته،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬المتطلّع‭ ‬بهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬إرادة‭ ‬الحياة‭ ‬كي‭ ‬تليق‭ ‬بالإنسان‭.‬

كان‭ ‬فناناً‭ ‬يحمل‭ ‬تجربة،‭ ‬ومن‭ ‬طريق‭ ‬المسرح‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يُضيف‮»‬‭ ‬تجربته‭ ‬إلى‭ ‬سياقات‭ ‬الحياة‭ ‬وإن‭ ‬بموقف‭ ‬هو‭ ‬‮«‬موقفه‭ ‬فناناً‮»‬،‭ ‬منتزعاً‭ ‬‮«‬صور‮»‬‭ ‬أعماله‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬أناس‭ ‬مجتمعه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحسب‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬سبقه‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬موقناً‭ ‬أن‭ ‬لما‭ ‬سبق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬إنسان‭ ‬الماضي‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬التجربة،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬أخرى‮»‬‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لما‭ ‬نتقدم‭ ‬به‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬إنسانه‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬‮«‬موشح‭ ‬بالغربة‮»‬،‭ ‬الغربة‭ ‬التي‭ ‬انتظرته‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬وتعززت‭ ‬بموته‭ ‬في‭ ‬الغربة‭.‬‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬يردد،‭ ‬كما‭ ‬رددنا‭ ‬ونردّد‭: ‬ما‭ ‬أقساكَ‭ ‬أيها‭ ‬الوطن‭... ‬ما‭ ‬أطيبك‭ ‬أيها‭ ‬الوطن؟‭! ‬