شعراء عرب في بيوت سودانية

في القرن الفائت وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً برزت في السودان ظاهرة التغني بقصائد الفصحى لشعراء عرب من مختلف البلدان على اختلاف عصورهم، واستقبلها السودانيون برحابة ومودة، وشقت مجرى في نهر الغناء السوداني حتى غدت رافداً مهماً في مسراه الممتد، ومكوناً تراثياً وثقافياً ووجدانياً لأهله، مافتئوا يذكرونها ويرددونها لما فيها من قيم جمالية وروح إبداعية عالية.
بينما كان الرجل يقود سيارته المتواضعة انطلق من خلال المذياع صوت المطرب عبدالعزيز محمد داؤود (أبو داؤود) يغني:
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامه
سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامه
واحملي شوق محب ذي جراح وهيامه
* * *
سافري من قبل يشتد الهجير بالنزوح
واسبحي ما بين أمواج الأثير مثل روحي
فإذا لاح لك الروض النضير فاستريحي
يبدو أن الأغنية لما فيها من حيوية وطلاوة وسحر أصابت الرجل في مقتل، وحفرت أخاديد من الحنين في جوفه، إذ سرح هائماً حتى كاد يتخطى إشارة المرور الحمراء. ولما نبهته لذلك داس بقوة على الفرامل (الكوابح) حتى انبعثت رائحة الإطارات، وهو يقول: «إنه بريق الغناء.. لك أن تتخيل أن هذه القصيدة لشاعر لبناني اسمه إلياس فرحات وُلد بلبنان عام 1893، وهاجر إلى البرازيل قبل بداية الحرب العالمية الأولى، وبقي فيها حتى وفاته عام 1976». وبعد اخضرار الإشارة واصل الرجل قيادته سارحاً ومردداً مع المغني حتى نهاية الأغنية، ثم مضى يتحدث ثانية عن فرحات، ومعاناته، وشعره كمن كان مرافقاً له. ثم عرج يقول: «أما عروس الروض فهي قصيدة تمتاز بالبساطة والرقة، غير عصية على الفهم، تنضح بالقيم الجمالية، حامت منذ أكثر من سبعين عاماً - ومازالت- عبر حناجر المطربين في مدن وقرى السودان، وظلت باقية في أفئدة العشاق والمحبين إلى الآن». ثم تساءل الرجل السبعيني فيمَ تكمن العبقرية؟.. أفي القصيدة التي عبرت البحار وجالت بين الأقطار؟.. أم في شاعرها الذي منحها ذياك البريق والقدرة على التنقل والصمود من دون أن يمسها تحريف أو اختزال؟.. أم في المطرب السوداني فضل المولى زنقار الذي كان أول من التقطها وابتدع لها لحناً وتغنى بها في ثلاثينيات القرن الماضي؟.. علماً بأنه رجل أمي كان يردد أغاني البنات لطبيعة صوته النسائي الحاد، ثم عمد إلى تطوير موهبته بتقديم نماذج غنائية هادفة على طريقة الغناء السائد عصرذاك في السودان بمصاحبة آلة الكمان، والإيقاع، والكورس - جوقة المرددين خلف المطرب-، وفي لمحة خاطفة تذكرت ما جاء في مقال للأديب جمال محمد إبراهيم 6 مارس 2013.. «تغنّى بالقصيدة مطرب حجازي من جدة اسمه حسن جاوا، ولأنّ الحاج محمد أحمد سرور كان من أوائل الذين هاجروا للعمل بالسعودية في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد رجّحتُ أن يكون قد استمع إلى تلك القصيدة بصوتِ حسن جاوا في الحجاز، فطوّعها بأسلوبه وَ«سودن» لحنها الذي سمعناه على الأسطوانة الحجرية»... وواصل الرجل يقول: «وبعد وفاة زنقار في مطلع الخمسينيات تغنى بالقصيدة عدد من المطربين السودانيين من دون أن يغيروا في اللحن، وكلٌّ يؤديها بمزاجه وما يتوافق مع إمكاناته الصوتية والأدائية بمصاحبة الآلات الموسيقية الحديثة، أشهرهم عبدالعزيز داؤود، وصلاح محمد عيسى، كما ظل يرددها في الراهن المطرب كمال سليمان الشهير بـ «ترباس» في كثير من المناسبات وبيوت الأفراح كما لو كتبت له». ثم تحدث بحب عن غيرها من الأغنيات الرصينة وشعرائها.
لم يدهشني حديث الرجل بقدر اندهاشي لذاكرته التي لم يصبها قرح أو وهن، وحنينه الذي لم يجرفه الزمن، لأن كثيراً من أهل السودان يمتلكون ثقافة جيدة بالشعر، قديمه وحديثه، وبالشعراء على المستويين الداخلي والخارجي، كما لديهم إلمام واسع بتناول وتداول الغناء. إلا أن الحديث هوّم بي، وفتح كوىً في الذاكرة لتنسال من خلالها أغنيات من طراز فريد، دفعتني للخوض في شأن فن الغناء في السودان، رغم أني لست من المختصين، وقديماً قيل «الشيء بالشيء يُذكر».
الغناء بالفصحى
في الواقع لم تكن «عروس الروض» هي أول قصيدة بالفصحى تلحن لتطرق مسامع السودانيين كأغنية لشاعر غير سوداني، فقد سبقتها قصيدة الشاعر الأموي عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة (644 – 711م):
أعبدةُ ما ينسى مودتكِ القلبُ
ولا هو يسليهِ رخاءٌ ولا كربُ
وَلاَ قَوْلُ وَاشٍ كَاشِحٍ ذي عَدَاوَةٍ
وَلا بُعدُ دارٍ، إن نأيتِ ولا قرب
وكان قد لحنها وتغنى بها في نهاية العشرينيات المطرب خليل فرح (1894-1932) كأول سوداني يغني بالفصحى لشاعر عربي من خارج السودان- كما جاء في الدوريات- وهو من القبائل الراطنة في شمال السودان (حلفا)، ولأنه كان شاعراً وملحناً ومطرباً مثقفاً يدرك أهمية الغناء، قام في أخريات أيامه بتسجيلها في أسطوانات بالقاهرة مع قصيدته «عزة في هواك» التي صاغ كلماتها وألحانها وتغنى بها محدثاً بكليهما نقلة نوعية في ذلك المجال، لتنتشر تلك الأسطوانات وتتنقل بالقطارات من وإلى مدن السودان لتُذاع الأغنيتان بواسطة الفونوغراف في مقاهي المحطات الكبيرة.
وفي عقدي الأربعينيات والخمسينيات وجدت تجربة الغناء بالفصحى للشعراء السودانيين والعرب بجانب العامية السودانية رواجاً فعلياً، خاصة بعد إنشاء الإذاعة السودانية عام 1940 بظهور بعض المطربين الجدد الذين هدفوا إلى تغيير نمط الغناء (شعراً وموسيقى وغناء) الذي أشاعه من سبقهم، ومن ثمّ بدأت معالم الأغنية السودانية الحديثة تتضح وتتجدد في ملامحها ومكوناتها في منحى يمزج ما بين النص الشعري وموسيقى السلم الخماسي وإيقاعاته الإفريقية المتباينة، وما بين ثقافة المغني واجتهاده وإبداعه واحترام الذائقة السودانية، وكل ما يهيئ أسباب انتشار الأغنية الدالة ورسوخها في الوجدان الجمعي. وكان لابد أن يواكب هذا بحث المطرب الواعي لاختيار قصائده للتعاطي معها من أجل التجديد في المعاني والمضامين وابتداع الأفكار اللحنية والموسيقية الموازية لها، وتسابق عديد من المطربين من أجل ذلك، فانتقوا من قصائد الفصحى ما يتوافق مع قدراتهم الإبداعية من ناحية، وما يتواءم مع المزاج السوداني من ناحية أخرى، وغمسوها في بحر الأنغام السودانية وقدَّموها لمجتمعاتهم، وكان كلما تقدم مطرب خطوة رائعة تقدَّم آخر بأخرى أكثر روعة في خدمة الأغنية، ومحاولة الخروج بها من حظيرة الشعر القومي أو الشعبي، منهم المطرب أحمد المصطفى، المعروف بعميد الفن (-1922 1999) والذي تغنى بالفصحى لعدد من شعراء السودان،
وقصيدة «حبيب لست أنساه» للشاعر المصري أحمد رامي، و«وطن النجوم» للشاعر اللبناني إيليا أبوماضي:
وطن النجـــوم... أنا هــــنا
حدّق... أتذكر من أنا؟
ألمحت في الماضي البعيد
فـــتى غـــريراً أرعنا؟
ثم جاء المطرب حسن سليمان المعروف بـ«الهاوي» بصوته المؤثر وألحانه الشجية وثقافته في انتقاء القصائد التي تبرز ملكاته الإبداعية، إذ لحن وغنى للشاعر التونسى أبو القاسم الشابي «اسكني يا جراح»، أو «الصباح الجديد»، وقصيدة «صلوات في هيكل الحب» ليأتي بعده المطرب سيف الدين محمد الحاج الشهير بـ«سيف الجامعة» ليؤديها بذات اللحن أداء مختلفاً لتصبح واحدة من الأغنيات التي لم يمل الناس ترديدها.
ولم يقصر «الهاوي» موهبته على غناء القصائد العاطفية، بل امتدت وشملت القصائد الدينية، ويعد الرائد في ذلك المجال بتلحينه وتغنيه لعدد من الأصوات الشعرية المختلفة من داخل السودان وخارجه، مثل «ولد الهدى» للشاعر المصري أحمد شوقي (-1868 1932)، كما اجتزأ بعض الأبيات الشعرية من الملحمة المطولة «مجد الإسلام» للشاعر المصري أحمد محرم (-1877 1945) وقام بتلحينها وأدائها كأروع ما يكون الغناء. بالمناسبة، مازلت أذكر وأشعر بالدفء والدفق الروحي الذي يغمرني في صباحات عقد السبعينيات وأنا طفل ذاهب إلى المدرسة كلما أتى من خلال المذياع صوت الكورال مردداً خلف «الهاوي»:
امـلأ الأرض يا محمـــــد نورا
واغمر الناس حكمة والدهورا
حجبــتك الغــــيوب سراً تجلى
بكشف الحجب كلها والستورا
أنت معنى الوجود بل أنت سر
جهــل الناس قبلـه الإكســـيرا
وجاء أيضاً في تلك الفترة المطرب عثمان حسين (1927-2008) بلونيته المختلفة في التلحين والموسيقى والأداء، وكان لتلحينه وتغنـيه بقصيدة «غـرّد الفجـر» للشاعر السعودي حسن عبدالله القرشي (1934-2004) وغيرها من الأغنيات الفصيحة لبعض شعراء السودان أثر بالغ في النهوض بفن الغناء:
غـرد الفجــر فهـيا يا حبيــبي
واستهام النور في الروض الرطيب
وبغاث الزهــر فــوح مستطير
ونسـيم الروض عطــر وعبــير
والدُّنا حـب تناهى وشهـــور
أما المطرب عبدالدافع عثمان الذي عرفه السودانيون بأغنيات بعينها، فقد كانت أغنيته الشهيرة «يوم البحيرة» للشاعر اليماني علي أحمد باكثير (1910-1969) التي لحنها عربي الصلحي واحدة من أفخم الأغنيات التي عمرت المكتبة الغنائية وذاكرة المستمع:
يـوم أقبلـتِ وفــي يمـنـاكِ زهــرة
قد حكت في وجهـك الوضاح ثغـره
ونسيم الصبح يهــدي لـكِ سحـره
والندى يكسو وجوه الزهـر نضـره
فاذكـريني.. واذكـري يوم البحيـرة
وإلى جانب أولئك المطربين نهض التاج مصطفى (1931-2004) بموهبته المتفردة في التلحين والأداء، مقدماً عطاء مشرقاً في عالم الغناء في السودان بتنوع ينابيعه الشعرية لشعراء سودانيين وآخرين عرب قدامى ومعاصرين، وبدقة وصعوبة اختياره لقصائدهم وقدراته الفذة في تطويعها وتنغيمها بالقدر الذي يجعلها مؤثرة تلامس ذوق الناس ومشاعرهم، حيث قام بتلحين موشح «أيها الساقي إليك المشتكى» للشاعرأبوبكر بن زهر الإشبيلي، وقصيدة «لا تخف ما فعلت بك الأشواق» للشاعر المصري المولد الدمشقي النشأة محمد بن سليمان التلمساني الملقب بـ «الشاب الظريف»، كما لحن وغنى «رب.. قل للجوع» أو «مـي» للشاعر اللبناني بشارة الخوري المعروف بـ «الأخطل الصغير»:
المها أهدت إلــيها المقلــــتين
والظبا أهـــدت إليها العنقا
فهما في الحسن أسنى حليتين
للعذارى، جل من قد خلقا
ثم واصل التاج في نهجه بتلحين وغناء «يا ملاكي الصغير هل عرفت الألم/ والبكاء المرير والهوى والندم»، للشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي إلى جانب تلحينه وأدائه لقصيدة «أطياف» للشاعرة المصرية محاسن رضا:
ربّ ليل يا حبيبي ضمَّنا فيه السمر
وحديث الحب نجـوى بين أضواء القمر
وسَمَونا في هوانا عن بقيات البشر
قُدِّر الحب علينا فاستجبنا للقدر
وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بدأ فن الغناء في السودان يعلن عن سطوته في الإمتاع والإشباع الروحي، وإثراء الوجدان، بانهماك المطربين في تنويع قصائدهم وتلحينها وإخضاعها لأداء راقٍ يتوافق مع أرواحهم وروح العصر، ويتفاعلون معها كأنما كتبت ليتغنوا بها وحدهم، ولا غرو أن كان كل مطرب مزدهياً ومنتشياً بأسلوبه في الغناء، وعلى رأسهم عبدالعزيز (أبو داؤود) الذي تسيد الساحة بعطائه الوافر الغني بالإبداع، وبقدراته المدهشة على التطريب حتى لو لم تصحبه آلة موسيقية أو إيقاعية، وكما تغنى بـ «عروس الروض»، غنى أيضاً «هل أنت معي؟» للشاعر المصري محمد علي أحمد وألحان الموسيقار برعي دفع الله:
همسات من ضمير الغيب تشجي مسمعي
وخيالات الأماني رفرفت في مضجعي
وأنا... بين ضلوعي... لا أعي
عربدت بي هاجسات الشوق إذ طال النوى
وتوالت ذكرياتي.. عطرات... بالهوى
كان لي في عالم الغيب غرام ... وانطوى
وإلى جانب تغنيه للعاطفة فقد كُلِّف أبو داؤود بغناء كثير من القصائد الدينية، منها «البــردة» للشاعر المصري الإمام محمد البوصيري، و«لك الحمد يا مستجاب الحمد دائماً»، و«تطاول لَيـلي بعد لَيـلى» للشاعر اليماني عبدالرحيم بن أحمد البرعي، وقصيدة الشاعر الأندلسي لسان الدين
بن الخطيب:
سل ما لسلمى بنار الهجر تكويني
وحبها في الحشا من قبل تكويني
وفي مُناها تمنيت المُنى فــــــغدا
قلـــــبي كئيـــباً ببلـــواه يناجيـني
وكان لولوج «أبو داؤود» عالم الإنشاد والغناء الديني أثر بالغ في ذيوع هذا الضرب بين الناس، وتعرفهم على شعرائه، وفي إسهامات غيره من المبدعين السودانيين وتعدد اتجاهاتهم الغنائية، مؤكداً أن فن الغناء ليس مقصوراً على التغني للعاطفة والحب والجمال والطبيعة، ولم يكن بمستغرب أن يغني في حفل عام قصيدة مثل «أنتمْ فروضي ونفلي/أنتمْ حديثي وشغلي» للشاعر المصري المتصوف عمر بن الفارض (1181 - 1235م) ويخلب بها الألباب أكثر مما تفعله غيرها من الأغنيات.
ومع هذا لم تكن تجربة المطرب سيد خليفة الغنائية الطاغية داخل السودان وخارجه بمعزل عن غيرها باقتفائه أثر من سبقوه، إذ لحن وغنى «ملتقى النيلين» للشاعر المصري صلاح عبدالصبور
(1931-1981) و«خاصمتني» لأحمد رامي:
خاصمتني وأنا حيران من أمر الخصام
وجفتــني فإذا النوم على جفني حرام
لست أدري أدلالاً كان منها أم مـلالاً
أم قـلــوب الـغــيد حـال بعد حـال؟
وعلى تلك الخطى سار المطرب العاقب محمد الحسن في نهاية الخمسينيات بطرائقه المتفردة في الألحان والغناء، وقدم أغنيات لها وقعها عند الناس، منها «هذه الصخرة» للشاعر المصري مصطفى عبدالرحمن، وقصيدتا «نجـوى» و«حبيب العمر» للشاعر السعودي الأمير عبدالله الفيصل
بن عبدالعزيز آل سعود (1923 - 2007):
ﻳﺎﺣﺒــﻴﺐ ﺍﻟـــﻌﻤﺮِ ﻣـــﺎ ﻋــــﻮﺩتني
ﺣُﺮﻣﺔ ﺍﻟﻬﺠﺮِ ﻭﻗـــﺪ ﻛـــــﻨﺖَ ﺍﻟــﻮﻓﻴﺎ..
ﻛُﻨﺖ لي ﻓُﺮﺻـــﺔ ﺣـــﺐٍ ﻏــﺎﻣﺮٍ
ﺗﻨـــﺜُﺮ ﺍﻟﺴـــﺤﺮَ ﻭﺗُﻠــﻘﻴﻪ ﻋﻠﻴﺎ..
ﻛُﻨــﺖ لي ﻣﻨﺘـــﺠﻊ ﺍﻟـــﺮﻳﺎ ﺇﺫﺍ
هدني ســقمي ﻭﻣﺎ ﺻﺎﺩﻓﺖُ ﺭﻳﺎ..
ﻛُــﻨﺖ همي ﻭﺍﻧـــﺸﻐﺎلي أﺑﺪﺍً
ﻛُﻨﺖ ﻓﺠـــﺮﺍً ﺑﺎﺳﻤﺎً في ﻣﻘﻠﺘﻴﺎ..
تنافس المطربين
مثلما ظهرت هذه القصائد في عصور وأزمان مختلفة، كذلك تغنى بها كبار مطربي السودان وتناثرت درراً غنائية في أزمنة متفاوتة، مشيعة أجواء تنافسية بين أجيال المطربين المبدعين، غطاها بريق المجد والسؤدد بالدور الصارم الذي كانت تضطلع به لجان الشعر والألحان والموسيقى والأصوات، مشدِّدة على ضرورة سلامة الأغنية أياً كانت من كل نقيصة تمسخها أو تضعضع قيمتها الجمالية، ولتخرج للناس بما هو جديد مراعية أذواقهم، ولا تتعارض مع الأخلاق والقيم والدين. وغدا التغني بقصائد الشعراء العرب ظاهرة (phenomenon)، غذاها وأكسبها بريقاً بروز جيل جديد من المطربين في الستينيات، حاولوا بإصرارهم وتطلعاتهم وثقافاتهم أن يكونوا عتبة من عتبات تطور وترقية فن الغناء، وكان مسعاهم في ذلك قائماً على الاستعداد الفطري، والإلمام بأهمية الغناء، ومعنى أن تكون مغنياً، وكان اختيار المغني لقصائد أغنياته وتلحينه لها ينبئان عن ماهية ينابيعه الإبداعية وثقافته وعلاقته بالرصيد الهائل من الشعر السوداني والعربي على السواء، وبالتالي مدى قدرته على التأثير في الشعور العام، والسير في درب الغناء الشائك، تجلى ذلك في نتاج الشاعر والملحن والمطرب عبدالكريم الكابلي الذي تغنى بكثير من قصائد الفصحى لشعراء سودانيين وآخرين عرب، على رأسهم الشاعر العربي المعروف أبوفراس الحمداني «أراك عصي الدمع» كما تغنى بأخريات «مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ»، و«أرى ذلك القرب صار ازورارا» للشاعر الضخم أبي الطيب المتنبي إلى جانب ترنمه ببعض أبيات قصيدته «كمْ قَتيلٍ كمَا قُتِلْتُ شَهيدِ» مقدمة لبعض أغنياته، ثم غنى موشح «كللي يا سحب تيجان الربى» للشاعر المصري أبوالقاسم بن سناء الملك (550 - 608هـ)، وقصيدة «وأمطرت لؤلؤاً» للشاعر الأموي يزيد بن معاوية (647 - 683)، و«الجندول» التي ألحقها بـ«كليوباترا» للشاعر المصري علي محمود طه المهندس (1902-1949)، و«أغلى من لؤلؤة بضة» للشاعر البحراني علي شريحة، و«شذى زهر» للشاعر المصري عباس محمود العقاد
(1889 - 1964)، وغنائية أمير الشعراء أحمد
شوقي :
صـــداح يا ملك الكنار
ويـــــــــــا أمــــــــــــــــــــــــــــــير الــــبـــــــــلــــــــبل
قد فـــزت منك بمعــبد
ورزقت قرب الموصل
وأتيـــح لي داود مــز
ماراً وحســـــن ترتــــل
وبقراءة متمعنة لتلك الظاهرة يلحظ المتتبع لحركة الغناء في السودان والعالم العربي عامة أن معظم هذه القصائد الفصيحة تغنى بها بألحان عربية خالصة على موسيقى السلم السباعي كبار المطربين العرب، أمثال: أم كلثوم، فيروز، طلال مداح، محمد عبده، صباح فخري، وغيرهم، مما جعل تناولها من جانب مطربي السودان- بغض النظر عمن سبق- باستخدام موسيقى السلم الخماسي فيه مغامرة وفخ معرفي وإبداعي دقيق، لما في ذلك من ميكانيزمات حوارية بين النص والمبدع والمتلقي في بلد يختص بتنوع الهوية وتعدد الاتجاهات الثقافية (أفروعربية)، واستخدام مثل هذه الموسيقى في تلك القصائد كأيديولوجيا تعبِّر عن الروح، وما يعتريها من أحلام، وأشواق وشجون، وأوجاع وحنين إلى المطلق الجمالي والمعرفي، يكشف عن وعي المبدع وروحه الشفافة، وهذا ما خلق للأغنية خصوصيتها وشخصيتها المتميزة ومذاقها الخاص، وحدا بكثير من الأطراف المتمردة أو المصطرعة، وذات الأمزجة الحادة، والتركيبات الثقافية والاجتماعية والسياسية المختلفة، أن تستأنس بها وتتنادى لتداعياتها وتلتف حولها وتنفعل بها لكونها رسالة من روح المبدع إلى الوجدان. وعلى صعيد آخر لقد أفلح مطربو ذاك العصر في توظيفها لتقول خطاباً متفقاً عليه، اجتذب كثيراً من الغلاة وأنصار التشويه والإحباط، ومن ثمّ تطور مفهوم الغناء عند الناس، ولم يعد ذلك الضرب من الفنون محض طرب ولهو ورقص، وما عاد المطربون هم زمرة الصعاليك الذين يملأون الدنيا صياحاً بلا طائل كما كانوا يوصفون من قبل، ودعا كل المهتمين إلى أن يصفوا تلك الفترة بأنها أخصب فترات الغناء السوداني، والعصر بأنه عصر الأغنية الذهبية.
لذا، لم يكن غريباً أن تتنقل مثل هذه القصائد أو الأغنيات وتجوب فلوات السودان وتنتشر بين الناس في أرجائه المختلفة رغم جغرافيته الفظة ومساربه الوعرة وإثنياته المتعددة والمتباينة، تتنقل غير منحازة لأرض أو عنصر، أو جنس، أو ديانة، أو عصر على صعيدي المبدع والمتلقي، ساعد على انتشارها ظهور الراديو الترانزستور السهل الحمل، وبروز التلفزيون السوداني للوجود عام 1963م، إلى جانب قيام المطربين برحلات دورية وفي المناسبات للأقاليم والمدن للتبشير بإبداعاتهم والترفيه عن الناس. وكان أمراً طبيعياً أن يتنقل بعض شعراء العرب بمختلف جنسياتهم وانتماءاتهم عبر العصور في قرى وبوادي السودان، وأن يلج أي منهم بإبداعه بيوت أهله دون أن يطرق الباب. علماً بأن بعض هؤلاء وغيرهم من شعراء العرب تنقلوا بين مدنه وجابوا أطرافه من خلال قصائدهم المقررة في المراحل الدراسية المختلفة، إلا أن حظوظ الانتشار عبر القصائد الغنائية كانت واسعة وأعظم أثراً.
ومع تنامي تلك الظاهرة خرج حمد الريح يعلن عن نفسه مطرباً قادراً على العطاء والتجديد، فعمد إلى تلحين عديد من قصائد الفصحى وغنائها، إذ لحن وغنى على طريقته «الصباح الجديد» للشابي، و«حبيبتي إن يسألوك عني» للشاعر السوري المعاصر نزار قباني (1923 - 1998 م)، كما غنى بالعود من ألحان الموسيقار اليماني ناجي القدسي «حينما كنت صبياً» للشاعر اليماني لطفي جعفر أمان
(1928-1971):
حينما كنت صبياً
كنت أسبح في
لهو البراءة النقية
الحب كان معنى
عندي قبلة من والديا
كان همي كل همي
واجباتي المدرسية
وفي تلك الفترة التي اتسمت بغزارة الإنتاج الغنائي الجيد جاء في بداية الستينيات المطرب صلاح بن البادية إلى الساحة فلحن وغنى كثيراً من قصائد الفصحى، أبرزها «ليلة السبت» للشاعر الفلسطيني محمد غازي حسيب القاضي
(-1935 2010):
وجمعت باقات الزهور هنا
ولكم ... بأزهاري تزينتِ
ألقيتها بجوار مقعدنا الخالي
حزيناً إذ تخلفت
وبكى المساء الوردي
وارتعشت كل النجوم... عشية السبت
أما المطرب زيدان إبراهيم الذي لمع نجمه في السبعينيات واحتل مكانة رفيعة في عالم الغناء، فقد كان لتغنيه بقصيدة «الميت الحي» للشاعر المصري إبراهيم ناجي (-1898 1953م)، و«بعد عام» للعقاد أثر كبير في تقدم مسيرته الغنائية:
كاد يمضي العام يا حلو التثني أو تولى
ما اقتربنا منك إلا بالتمني ليس إلا
مذ عرفناك عرفنا كل حسن وعذاب
لهب في القلب فردوس لعيني في اقتراب
وإمعاناً في التجديد، فقد نشط نفر من مطربي ذاك الزمان في انتقاء بعض الأبيات الشعرية من التراث العربي وقدموها كمواويل أو افتتاحيات لبعض أغنياتهم، مثل المطرب التاج مكي الذي قدم «قل للمليحة» للشاعر الأموي ربيعة بن عامر التميمي المشهور بـ «مسكين الدارمي» مقدمة لأغنيته «كسلا»:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بـناسكٍ متعبِّد
قد كان شمَّر للصلاة ثيابَهُ
حتى قعدتِ له بـبابِ المسجدِ
ردِّي عليه ثـيابَهُ وصلاته...
لا تقـتليه بحق دين محمد...
واختار المطرب خليل إسماعيل مطلع قصيدة الشاعر علي بن الجهم (803 - 863 م) كافتتاحية لأغنيته «الأماني العذبة»:
هي النفس ما حملتها تتحمل
وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة
وأفضل أخلاق الرجال التفضل
أما المطرب الطيب عبدالله، فكان يغني أحياناً رائعته «يا فتاتي» بمقدمة أبيات للشاعر الأندلسي أبوالوليد أحمد بن زيدون (1003 - 1071 م):
أيُوحِشُـني الزّمانُ، وَأنْتَ أُنْسِي
وَيُظْلِمُ لي النّهـــارُ وَأنتَ شَمْسي؟
وَأغــرِسُ في مَحَبّتـــِكَ الأماني
فأجْني الموتَ منْ ثمرَاتِ غرسِي
لَقَدْ جَـــازَيْتَ غَــدْراً عن وَفَائي
وَبِعْــتَ مَوَدّتي، ظُلْماً، ببَخـْسِ
ولوْ أنّ الزّمانَ أطـــاعَ حكْمــِي
فديْتُــــكَ، مِنْ مكارهِـهِ، بنَفســي
أو يغنيها بأبيات للشاعر قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى (645 - 688م):
ولـمّــا تـلاقـيـنـا عــلـى سـفـح رامة
وجــدت بـنــان الـعــامــريّــة أحــمــــرا
فقـلـت خضـبـت الـكـفّ بعـد فراقـنـا؟
قالـت: معـاذ الله ذلـك مــا جــرى!
ولـكـننـي لــمّــا رأيـتـــــك راحـــــــــلا
بـكـيـت دمـاً حتّـى بـللـت بـــه الــثّــرى
مـسحـت بـأطـراف البـنــان مـدامـعــي
فصار خضاباً في اليدين كمـــــــا ترى!
خفوت الظاهرة
لكن كما قال أبوالبقاء الرندي «لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ»، وهذا ما آل إليه حال الغناء في السودان، ففي عقد الثمانينيات كادت تتلاشى ظاهرة التغني بقصائد الفصحى للشعراء السودانيين والعرب بوفاة بعض المطربين الأفذاذ، وبانزواء البعض الآخر، وللحالة التي أصابت المجتمع السوداني ككل جراء لهاث الحياة لولا ظهور فرقة عقد الجلاد الغنائية، حيث كانت بداياتهم في ممارسة الغناء بالقصيدة الثورية «أحتاج دوزنة» للشاعر الأريتري محمد مدني بمقدمة ثورية من قصيدة «سبارتكوس الأخيرة» للشاعر المصري أمل دنقل (1940-1983م) جاء فيها:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..
ودمعة سدى!
لتجيء الأغنية:
أحتاجُ دوزنة
وتراً جديداً
لا يضيف إلى النشيدِ
سوى النشـــــاز
ثم واصلت الفرقة مشوارها بـقصيدة «الناس في بلدي يصنعون الحب» للشاعر صلاح عبدالصبور التي غنتها بإيقاع الجالوه المحبب في أدغال إفريقيا، بجانب تغنيها بأخرى للشاعر المصري فاروق جويدة:
عذراً حبيبي
في كل عام كنت أحمل زهرة
مشتاقة تهفو إليك..
في كل عام كنت أقطف بعض أيامي
وأنثرها عبيراً في يديك
وهنا لابد أن أشير إلى أن تجربة فرقة عقد الجلاد قد سبقتها تجارب عديدة في الغناء الجماعي إحداها للثنائي الوطني مع الكورال الذين ظهروا في السبعينيات، واشتهروا بتقديم الأغنيات الوطنية، خاصة «أمة الأمجاد» للشاعر المصري مصطفى عبدالرحمن التي أصبحت نشيداً وطنياً يردد على مدى السنوات:
أمتي يا أمــــة الأمجاد والماضي العـريق
يا نشيداً في دمي يحيا ويجري في عروقي
أذن الفجر الذي شـق الدياجـي بالشروق
وطريق النصر قد لاح فسـيري في الطريق
وفي ما بدت الظاهرة آخذة في التلاشي قام المطرب الكردفاني عبدالقادر سالم بتلحين وغناء «مـالَ واحتجـبْ وادَّعَـى الغضـب/ليـت هـاجري يـشرحُ السببْ» للشاعر أحمد شوقي مستخدماً فيها إيقاع «المردوم» الذي تشتهر به قبائل البقارة في غرب السودان. وأطل في نهاية الثمانينيات المطرب الراحل مصطفى سيد أحمد يتغنى بقصيدة «القـدس» لنزار قباني:
بكيت.. حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ولم يفت الأمر على فنان إفريقيا الأول محمد وردي الذي آثر ألا يرحل دون أن يسكب إبداعه في مجرى ذلك النهر الخالد، إذ تغنى قبل وفاته في فبراير 2102 بإحدى القصائد العاطفية للشاعر أمل دنقل «يا وجهــها»:
شاء الهوى أن نلتقى... سهوا
كم كنت أفتقدك
يا وجهها الحلوا
كل الذي سميته: شدوا
من قبل ما أجدك
أضحى على شفة الصبا ... لغوا
وبالنظر إلى المشهد الغنائي الماثل حالياً يجد المتتبع أن ظاهرة التغني بالفصحى للشعراء السودانيين والعرب خاصة تلاشت تماماً بكل ما فيها من وهج وألق، وطُمِر ذاك الرافد المهم والمغذي لنهر الغناء في السودان بركام الأغنيات الخديج والرديء، على الرغم من اكتظاظ ساحته بأعداد هائلة من المغنين إلا أن أحسنهم – وهم قلة- لم يوفقوا في الوقوف على حافته، أما الغالبية فلا يجيدون إلا الزعيق والرقص والتهريج، وحينئذٍ لا يملك محب الغناء الراقي إلا أن يضرب كفاً بكف، ويضع عازلاً فوق أذنيه .