شعراء عرب في بيوت سودانية

شعراء عرب في بيوت سودانية

في‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً‭ ‬برزت‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ظاهرة‭ ‬التغني‭ ‬بقصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬لشعراء‭ ‬عرب‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬عصورهم،‭ ‬واستقبلها‭ ‬السودانيون‭ ‬برحابة‭ ‬ومودة،‭ ‬وشقت‭ ‬مجرى‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني‭ ‬حتى‭ ‬غدت‭ ‬رافداً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬مسراه‭ ‬الممتد،‭ ‬ومكوناً‭ ‬تراثياً‭ ‬وثقافياً‭ ‬ووجدانياً‭ ‬لأهله،‭ ‬مافتئوا‭ ‬يذكرونها‭ ‬ويرددونها‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬وروح‭ ‬إبداعية‭ ‬عالية‭.

بينما‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يقود‭ ‬سيارته‭ ‬المتواضعة‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المذياع‭ ‬صوت‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬محمد‭ ‬داؤود‭ (‬أبو‭ ‬داؤود‭) ‬يغني‭:‬

يا‭ ‬عروس‭ ‬الروض‭ ‬يا‭ ‬ذات‭ ‬الجناح‭ ‬يا‭ ‬حمامه‮ ‬

سافري‭ ‬مصحوبة‭ ‬عند‭ ‬الصباح‭ ‬بالسلامه‮ ‬

واحملي‭ ‬شوق‭ ‬محب‭ ‬ذي‭ ‬جراح‭ ‬وهيامه‮ ‬

‭* * *‬

سافري‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬يشتد‭ ‬الهجير‭ ‬بالنزوح‭ ‬

واسبحي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أمواج‭ ‬الأثير‭ ‬مثل‭ ‬روحي‮ ‬

فإذا‭ ‬لاح‭ ‬لك‭ ‬الروض‭ ‬النضير‭ ‬فاستريحي

يبدو‭ ‬أن‭ ‬الأغنية‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬حيوية‭ ‬وطلاوة‭ ‬وسحر‭ ‬أصابت‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬مقتل،‭ ‬وحفرت‭ ‬أخاديد‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬في‭ ‬جوفه،‭ ‬إذ‭ ‬سرح‭ ‬هائماً‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يتخطى‭ ‬إشارة‭ ‬المرور‭ ‬الحمراء‭. ‬ولما‭ ‬نبهته‭ ‬لذلك‭ ‬داس‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬الفرامل‭ (‬الكوابح‭) ‬حتى‭ ‬انبعثت‭ ‬رائحة‭ ‬الإطارات،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬بريق‭ ‬الغناء‭.. ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لشاعر‭ ‬لبناني‭ ‬اسمه‭ ‬إلياس‭ ‬فرحات‭ ‬وُلد‭ ‬بلبنان‭ ‬عام‭ ‬1893،‭ ‬وهاجر‭ ‬إلى‭ ‬البرازيل‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وبقي‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬1976‮»‬‭. ‬وبعد‭ ‬اخضرار‭ ‬الإشارة‭ ‬واصل‭ ‬الرجل‭ ‬قيادته‭ ‬سارحاً‭ ‬ومردداً‭ ‬مع‭ ‬المغني‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الأغنية،‭ ‬ثم‭ ‬مضى‭ ‬يتحدث‭ ‬ثانية‭ ‬عن‭ ‬فرحات،‭ ‬ومعاناته،‭ ‬وشعره‭ ‬كمن‭ ‬كان‭ ‬مرافقاً‭ ‬له‭. ‬ثم‭ ‬عرج‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬أما‭ ‬عروس‭ ‬الروض‭ ‬فهي‭ ‬قصيدة‭ ‬تمتاز‭ ‬بالبساطة‭ ‬والرقة،‭ ‬غير‭ ‬عصية‭ ‬على‭ ‬الفهم،‭ ‬تنضح‭ ‬بالقيم‭ ‬الجمالية،‭ ‬حامت‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً‭ - ‬ومازالت‭- ‬عبر‭ ‬حناجر‭ ‬المطربين‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬وقرى‭ ‬السودان،‭ ‬وظلت‭ ‬باقية‭ ‬في‭ ‬أفئدة‭ ‬العشاق‭ ‬والمحبين‭ ‬إلى‭ ‬الآن‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬تساءل‭ ‬الرجل‭ ‬السبعيني‭ ‬فيمَ‭ ‬تكمن‭ ‬العبقرية؟‭.. ‬أفي‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬البحار‭ ‬وجالت‭ ‬بين‭ ‬الأقطار؟‭.. ‬أم‭ ‬في‭ ‬شاعرها‭ ‬الذي‭ ‬منحها‭ ‬ذياك‭ ‬البريق‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التنقل‭ ‬والصمود‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمسها‭ ‬تحريف‭ ‬أو‭ ‬اختزال؟‭.. ‬أم‭ ‬في‭ ‬المطرب‭ ‬السوداني‭ ‬فضل‭ ‬المولى‭ ‬زنقار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬التقطها‭ ‬وابتدع‭ ‬لها‭ ‬لحناً‭ ‬وتغنى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي؟‭.. ‬علماً‭ ‬بأنه‭ ‬رجل‭ ‬أمي‭ ‬كان‭ ‬يردد‭ ‬أغاني‭ ‬البنات‭ ‬لطبيعة‭ ‬صوته‭ ‬النسائي‭ ‬الحاد،‭ ‬ثم‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬موهبته‭ ‬بتقديم‭ ‬نماذج‭ ‬غنائية‭ ‬هادفة‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الغناء‭ ‬السائد‭ ‬عصرذاك‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬بمصاحبة‭ ‬آلة‭ ‬الكمان،‭ ‬والإيقاع،‭ ‬والكورس‭ - ‬جوقة‭ ‬المرددين‭ ‬خلف‭ ‬المطرب‭-‬،‭ ‬وفي‭ ‬لمحة‭ ‬خاطفة‭ ‬تذكرت‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬للأديب‭ ‬جمال‭ ‬محمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬6‭ ‬مارس‭ ‬2013‭.. ‬‮«‬تغنّى‭ ‬بالقصيدة‭ ‬مطرب‭ ‬حجازي‭ ‬من‭ ‬جدة‭ ‬اسمه‭ ‬حسن‭ ‬جاوا،‭ ‬ولأنّ‭ ‬الحاج‭ ‬محمد‭ ‬أحمد‭ ‬سرور‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬للعمل‭ ‬بالسعودية‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فقد‭ ‬رجّحتُ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬استمع‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬بصوتِ‭ ‬حسن‭ ‬جاوا‭ ‬في‭ ‬الحجاز،‭ ‬فطوّعها‭ ‬بأسلوبه‭ ‬وَ‮«‬سودن‮»‬‭ ‬لحنها‭ ‬الذي‭ ‬سمعناه‭ ‬على‭ ‬الأسطوانة‭ ‬الحجرية‮»‬‭... ‬وواصل‭ ‬الرجل‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬زنقار‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الخمسينيات‭ ‬تغنى‭ ‬بالقصيدة‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬السودانيين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغيروا‭ ‬في‭ ‬اللحن،‭ ‬وكلٌّ‭ ‬يؤديها‭ ‬بمزاجه‭ ‬وما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬إمكاناته‭ ‬الصوتية‭ ‬والأدائية‭ ‬بمصاحبة‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬الحديثة،‭ ‬أشهرهم‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬داؤود،‭ ‬وصلاح‭ ‬محمد‭ ‬عيسى،‭ ‬كما‭ ‬ظل‭ ‬يرددها‭ ‬في‭ ‬الراهن‭ ‬المطرب‭ ‬كمال‭ ‬سليمان‭ ‬الشهير‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ترباس‮»‬‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناسبات‭ ‬وبيوت‭ ‬الأفراح‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كتبت‭ ‬له‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬تحدث‭ ‬بحب‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬الرصينة‭ ‬وشعرائها‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يدهشني‭ ‬حديث‭ ‬الرجل‭ ‬بقدر‭ ‬اندهاشي‭ ‬لذاكرته‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يصبها‭ ‬قرح‭ ‬أو‭ ‬وهن،‭ ‬وحنينه‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجرفه‭ ‬الزمن،‭ ‬لأن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬السودان‭ ‬يمتلكون‭ ‬ثقافة‭ ‬جيدة‭ ‬بالشعر،‭ ‬قديمه‭ ‬وحديثه،‭ ‬وبالشعراء‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي،‭ ‬كما‭ ‬لديهم‭ ‬إلمام‭ ‬واسع‭ ‬بتناول‭ ‬وتداول‭ ‬الغناء‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬هوّم‭ ‬بي،‭ ‬وفتح‭ ‬كوىً‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬لتنسال‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أغنيات‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد،‭ ‬دفعتني‭ ‬للخوض‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬المختصين،‭ ‬وقديماً‭ ‬قيل‭ ‬‮«‬الشيء‭ ‬بالشيء‭ ‬يُذكر‮»‬‭.‬

 

الغناء‭ ‬بالفصحى

‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬‮«‬عروس‭ ‬الروض‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬بالفصحى‭ ‬تلحن‭ ‬لتطرق‭ ‬مسامع‭ ‬السودانيين‭ ‬كأغنية‭ ‬لشاعر‭ ‬غير‭ ‬سوداني،‭ ‬فقد‭ ‬سبقتها‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬الأموي‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ (‬644‭ ‬–‭ ‬711م‭):‬

أعبدةُ‭ ‬ما‭ ‬ينسى‭ ‬مودتكِ‭ ‬القلبُ

ولا‭ ‬هو‭ ‬يسليهِ‭ ‬رخاءٌ‭ ‬ولا‭ ‬كربُ

وَلاَ‭ ‬قَوْلُ‭ ‬وَاشٍ‭ ‬كَاشِحٍ‭ ‬ذي‭ ‬عَدَاوَةٍ‭ ‬

وَلا‭ ‬بُعدُ‭ ‬دارٍ،‭ ‬إن‭ ‬نأيتِ‭ ‬ولا‭ ‬قرب

‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬لحنها‭ ‬وتغنى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العشرينيات‭ ‬المطرب‭ ‬خليل‭ ‬فرح‭ (‬1894‭-‬1932‭) ‬كأول‭ ‬سوداني‭ ‬يغني‭ ‬بالفصحى‭ ‬لشاعر‭ ‬عربي‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬السودان‭- ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الدوريات‭- ‬وهو‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬الراطنة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ (‬حلفا‭)‬،‭ ‬ولأنه‭ ‬كان‭ ‬شاعراً‭ ‬وملحناً‭ ‬ومطرباً‭ ‬مثقفاً‭ ‬يدرك‭ ‬أهمية‭ ‬الغناء،‭ ‬قام‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬أيامه‭ ‬بتسجيلها‭ ‬في‭ ‬أسطوانات‭ ‬بالقاهرة‭ ‬مع‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬عزة‭ ‬في‭ ‬هواك‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صاغ‭ ‬كلماتها‭ ‬وألحانها‭ ‬وتغنى‭ ‬بها‭ ‬محدثاً‭ ‬بكليهما‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المجال،‭ ‬لتنتشر‭ ‬تلك‭ ‬الأسطوانات‭ ‬وتتنقل‭ ‬بالقطارات‭ ‬من‭ ‬وإلى‭ ‬مدن‭ ‬السودان‭ ‬لتُذاع‭ ‬الأغنيتان‭ ‬بواسطة‭ ‬الفونوغراف‭ ‬في‭ ‬مقاهي‭ ‬المحطات‭ ‬الكبيرة‭.‬

وفي‭ ‬عقدي‭ ‬الأربعينيات‭ ‬والخمسينيات‭ ‬وجدت‭ ‬تجربة‭ ‬الغناء‭ ‬بالفصحى‭ ‬للشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬والعرب‭ ‬بجانب‭ ‬العامية‭ ‬السودانية‭ ‬رواجاً‭ ‬فعلياً،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬إنشاء‭ ‬الإذاعة‭ ‬السودانية‭ ‬عام‭ ‬1940‭ ‬بظهور‭ ‬بعض‭ ‬المطربين‭ ‬الجدد‭ ‬الذين‭ ‬هدفوا‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬نمط‭ ‬الغناء‭ (‬شعراً‭ ‬وموسيقى‭ ‬وغناء‭) ‬الذي‭ ‬أشاعه‭ ‬من‭ ‬سبقهم،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬بدأت‭ ‬معالم‭ ‬الأغنية‭ ‬السودانية‭ ‬الحديثة‭ ‬تتضح‭ ‬وتتجدد‭ ‬في‭ ‬ملامحها‭ ‬ومكوناتها‭ ‬في‭ ‬منحى‭ ‬يمزج‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬وموسيقى‭ ‬السلم‭ ‬الخماسي‭ ‬وإيقاعاته‭ ‬الإفريقية‭ ‬المتباينة،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬المغني‭ ‬واجتهاده‭ ‬وإبداعه‭ ‬واحترام‭ ‬الذائقة‭ ‬السودانية،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يهيئ‭ ‬أسباب‭ ‬انتشار‭ ‬الأغنية‭ ‬الدالة‭ ‬ورسوخها‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الجمعي‭. ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يواكب‭ ‬هذا‭ ‬بحث‭ ‬المطرب‭ ‬الواعي‭ ‬لاختيار‭ ‬قصائده‭ ‬للتعاطي‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬المعاني‭ ‬والمضامين‭ ‬وابتداع‭ ‬الأفكار‭ ‬اللحنية‭ ‬والموسيقية‭ ‬الموازية‭ ‬لها،‭ ‬وتسابق‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك،‭ ‬فانتقوا‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬ما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬قدراتهم‭ ‬الإبداعية‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وما‭ ‬يتواءم‭ ‬مع‭ ‬المزاج‭ ‬السوداني‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وغمسوها‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الأنغام‭ ‬السودانية‭ ‬وقدَّموها‭ ‬لمجتمعاتهم،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬مطرب‭ ‬خطوة‭ ‬رائعة‭ ‬تقدَّم‭ ‬آخر‭ ‬بأخرى‭ ‬أكثر‭ ‬روعة‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الأغنية،‭ ‬ومحاولة‭ ‬الخروج‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬حظيرة‭ ‬الشعر‭ ‬القومي‭ ‬أو‭ ‬الشعبي،‭ ‬منهم‭ ‬المطرب‭ ‬أحمد‭ ‬المصطفى،‭ ‬المعروف‭ ‬بعميد‭ ‬الفن‭ (-‬1922‭ ‬1999‭) ‬والذي‭ ‬تغنى‭ ‬بالفصحى‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬السودان،‭ ‬
وقصيدة‭ ‬‮«‬حبيب‭ ‬لست‭ ‬أنساه‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬رامي،‭ ‬و«وطن‭ ‬النجوم‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬إيليا‭ ‬أبوماضي‭:‬

وطن‭ ‬النجـــوم‭... ‬أنا‭ ‬هــــنا

حدّق‭... ‬أتذكر‭ ‬من‭ ‬أنا؟

ألمحت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد‭ ‬

فـــتى‭ ‬غـــريراً‭ ‬أرعنا؟

‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬المطرب‭ ‬حسن‭ ‬سليمان‭ ‬المعروف‭ ‬بـ«الهاوي‮»‬‭ ‬بصوته‭ ‬المؤثر‭ ‬وألحانه‭ ‬الشجية‭ ‬وثقافته‭ ‬في‭ ‬انتقاء‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تبرز‭ ‬ملكاته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬إذ‭ ‬لحن‭ ‬وغنى‭ ‬للشاعر‭ ‬التونسى‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭ ‬‮«‬اسكني‭ ‬يا‭ ‬جراح‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الصباح‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬صلوات‭ ‬في‭ ‬هيكل‭ ‬الحب‮»‬‭ ‬ليأتي‭ ‬بعده‭ ‬المطرب‭ ‬سيف‭ ‬الدين‭ ‬محمد‭ ‬الحاج‭ ‬الشهير‭ ‬بـ«سيف‭ ‬الجامعة‮»‬‭ ‬ليؤديها‭ ‬بذات‭ ‬اللحن‭ ‬أداء‭ ‬مختلفاً‭ ‬لتصبح‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يمل‭ ‬الناس‭ ‬ترديدها‭.‬

ولم‭ ‬يقصر‭ ‬‮«‬الهاوي‮»‬‭ ‬موهبته‭ ‬على‭ ‬غناء‭ ‬القصائد‭ ‬العاطفية،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬وشملت‭ ‬القصائد‭ ‬الدينية،‭ ‬ويعد‭ ‬الرائد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المجال‭ ‬بتلحينه‭ ‬وتغنيه‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬الشعرية‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬السودان‭ ‬وخارجه،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ولد‭ ‬الهدى‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ (-‬1868‭ ‬1932‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬اجتزأ‭ ‬بعض‭ ‬الأبيات‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬الملحمة‭ ‬المطولة‭ ‬‮«‬مجد‭ ‬الإسلام‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬محرم‭ (-‬1877‭ ‬1945‭) ‬وقام‭ ‬بتلحينها‭ ‬وأدائها‭ ‬كأروع‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الغناء‭. ‬بالمناسبة،‭ ‬مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬وأشعر‭ ‬بالدفء‭ ‬والدفق‭ ‬الروحي‭ ‬الذي‭ ‬يغمرني‭ ‬في‭ ‬صباحات‭ ‬عقد‭ ‬السبعينيات‭ ‬وأنا‭ ‬طفل‭ ‬ذاهب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬كلما‭ ‬أتى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المذياع‭ ‬صوت‭ ‬الكورال‭ ‬مردداً‭ ‬خلف‭ ‬‮«‬الهاوي‮»‬‭:‬

امـلأ‭ ‬الأرض‭ ‬يا‭ ‬محمـــــد‭ ‬نورا

واغمر‭ ‬الناس‭ ‬حكمة‭ ‬والدهورا

حجبــتك‭ ‬الغــــيوب‭ ‬سراً‭ ‬تجلى

بكشف‭ ‬الحجب‭ ‬كلها‭ ‬والستورا

أنت‭ ‬معنى‭ ‬الوجود‭ ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬سر

جهــل‭ ‬الناس‭ ‬قبلـه‭ ‬الإكســـيرا

وجاء‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬المطرب‭ ‬عثمان‭ ‬حسين‭ (‬1927‭-‬2008‭) ‬بلونيته‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬التلحين‭ ‬والموسيقى‭ ‬والأداء،‭ ‬وكان‭ ‬لتلحينه‭ ‬وتغنـيه‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬غـرّد‭ ‬الفجـر‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السعودي‭ ‬حسن‭ ‬عبدالله‭ ‬القرشي‭ (‬1934‭-‬2004‭) ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬الفصيحة‭ ‬لبعض‭ ‬شعراء‭ ‬السودان‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬النهوض‭ ‬بفن‭ ‬الغناء‭:‬

غـرد‭ ‬الفجــر‭ ‬فهـيا‭ ‬يا‭ ‬حبيــبي‭ ‬

واستهام‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬الروض‭ ‬الرطيب‭ ‬

وبغاث‭ ‬الزهــر‭ ‬فــوح‭ ‬مستطير

ونسـيم‭ ‬الروض‭ ‬عطــر‭ ‬وعبــير

والدُّنا‭ ‬حـب‭ ‬تناهى‭ ‬وشهـــور

‭ ‬أما‭ ‬المطرب‭ ‬عبدالدافع‭ ‬عثمان‭ ‬الذي‭ ‬عرفه‭ ‬السودانيون‭ ‬بأغنيات‭ ‬بعينها،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أغنيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬البحيرة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬اليماني‭ ‬علي‭ ‬أحمد‭ ‬باكثير‭  (‬1910‭-‬1969‭) ‬التي‭ ‬لحنها‭ ‬عربي‭ ‬الصلحي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أفخم‭ ‬الأغنيات‭ ‬التي‭ ‬عمرت‭ ‬المكتبة‭ ‬الغنائية‭ ‬وذاكرة‭ ‬المستمع‭:‬

يـوم‭ ‬أقبلـتِ‭ ‬وفــي‭ ‬يمـنـاكِ‭ ‬زهــرة

قد‭ ‬حكت‭ ‬في‭ ‬وجهـك‭ ‬الوضاح‭ ‬ثغـره

ونسيم‭ ‬الصبح‭ ‬يهــدي‭ ‬لـكِ‭ ‬سحـره

والندى‭ ‬يكسو‭ ‬وجوه‭ ‬الزهـر‭ ‬نضـره

فاذكـريني‭.. ‬واذكـري‭ ‬يوم‭ ‬البحيـرة‭ ‬

‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬أولئك‭ ‬المطربين‭ ‬نهض‭ ‬التاج‭ ‬مصطفى‭ (‬1931‭-‬2004‭) ‬بموهبته‭ ‬المتفردة‭ ‬في‭ ‬التلحين‭ ‬والأداء،‭ ‬مقدماً‭ ‬عطاء‭ ‬مشرقاً‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬بتنوع‭ ‬ينابيعه‭ ‬الشعرية‭ ‬لشعراء‭ ‬سودانيين‭ ‬وآخرين‭ ‬عرب‭ ‬قدامى‭ ‬ومعاصرين،‭ ‬وبدقة‭ ‬وصعوبة‭ ‬اختياره‭ ‬لقصائدهم‭ ‬وقدراته‭ ‬الفذة‭ ‬في‭ ‬تطويعها‭ ‬وتنغيمها‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يجعلها‭ ‬مؤثرة‭ ‬تلامس‭ ‬ذوق‭ ‬الناس‭ ‬ومشاعرهم،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬بتلحين‭ ‬موشح‭ ‬‮«‬أيها‭ ‬الساقي‭ ‬إليك‭ ‬المشتكى‏‮»‬‭ ‬للشاعرأبوبكر‭ ‬بن‭ ‬زهر‭ ‬الإشبيلي‏،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تخف‭ ‬ما‭ ‬فعلت‭ ‬بك‭ ‬الأشواق‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬المولد‭ ‬الدمشقي‭ ‬النشأة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سليمان‭ ‬التلمساني‭ ‬الملقب‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشاب‭ ‬الظريف‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬لحن‭ ‬وغنى‭ ‬‮«‬رب‭.. ‬قل‭ ‬للجوع‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مـي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬بشارة‭ ‬الخوري‭ ‬المعروف‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الأخطل‭ ‬الصغير‮»‬‭:‬

المها‭ ‬أهدت‭ ‬إلــيها‭ ‬المقلــــتين‭ ‬

والظبا‭ ‬أهـــدت‭ ‬إليها‭ ‬العنقا

فهما‭ ‬في‭ ‬الحسن‭ ‬أسنى‭ ‬حليتين

‭ ‬للعذارى،‭ ‬جل‭ ‬من‭ ‬قد‭ ‬خلقا

 

‭ ‬ثم‭ ‬واصل‭ ‬التاج‭ ‬في‭ ‬نهجه‭ ‬بتلحين‭ ‬وغناء‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ملاكي‭ ‬الصغير‭ ‬هل‭ ‬عرفت‭ ‬الألم‭/ ‬والبكاء‭ ‬المرير‭ ‬والهوى‭ ‬والندم‮»‬،‭ ‬للشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬البياتي‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تلحينه‭ ‬وأدائه‭ ‬لقصيدة‭ ‬‮«‬أطياف‮»‬‭ ‬للشاعرة‭ ‬المصرية‭ ‬محاسن‭ ‬رضا‭:‬

ربّ‭ ‬ليل‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‭ ‬ضمَّنا‭ ‬فيه‭ ‬السمر

وحديث‭ ‬الحب‭ ‬نجـوى‭ ‬بين‭ ‬أضواء‭ ‬القمر

وسَمَونا‭ ‬في‭ ‬هوانا‭ ‬عن‭ ‬بقيات‭ ‬البشر

قُدِّر‭ ‬الحب‭ ‬علينا‭ ‬فاستجبنا‭ ‬للقدر

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الخمسينيات‭ ‬وبداية‭ ‬الستينيات‭ ‬بدأ‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬سطوته‭ ‬في‭ ‬الإمتاع‭ ‬والإشباع‭ ‬الروحي،‭ ‬وإثراء‭ ‬الوجدان،‭ ‬بانهماك‭ ‬المطربين‭ ‬في‭ ‬تنويع‭ ‬قصائدهم‭ ‬وتلحينها‭ ‬وإخضاعها‭ ‬لأداء‭ ‬راقٍ‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬أرواحهم‭ ‬وروح‭ ‬العصر،‭ ‬ويتفاعلون‭ ‬معها‭ ‬كأنما‭ ‬كتبت‭ ‬ليتغنوا‭ ‬بها‭ ‬وحدهم،‭ ‬ولا‭ ‬غرو‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬مطرب‭ ‬مزدهياً‭ ‬ومنتشياً‭ ‬بأسلوبه‭ ‬في‭ ‬الغناء،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬عبدالعزيز‭ (‬أبو‭ ‬داؤود‭) ‬الذي‭ ‬تسيد‭ ‬الساحة‭ ‬بعطائه‭ ‬الوافر‭ ‬الغني‭ ‬بالإبداع،‭ ‬وبقدراته‭ ‬المدهشة‭ ‬على‭ ‬التطريب‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تصحبه‭ ‬آلة‭ ‬موسيقية‭ ‬أو‭ ‬إيقاعية،‭ ‬وكما‭ ‬تغنى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬عروس‭ ‬الروض‮»‬،‭ ‬غنى‭ ‬أيضاً‭ ‬‮«‬هل‭ ‬أنت‭ ‬معي؟‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬أحمد‭ ‬وألحان‭ ‬الموسيقار‭ ‬برعي‭ ‬دفع‭ ‬الله‭:‬

همسات‭ ‬من‭ ‬ضمير‭ ‬الغيب‭ ‬تشجي‭ ‬مسمعي

وخيالات‭ ‬الأماني‭ ‬رفرفت‭ ‬في‭ ‬مضجعي

وأنا‭... ‬بين‭ ‬ضلوعي‭... ‬لا‭ ‬أعي

عربدت‭ ‬بي‭ ‬هاجسات‭ ‬الشوق‭ ‬إذ‭ ‬طال‭ ‬النوى

وتوالت‭ ‬ذكرياتي‭.. ‬عطرات‭... ‬بالهوى

كان‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغيب‭ ‬غرام‭ ... ‬وانطوى

  ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬تغنيه‭ ‬للعاطفة‭ ‬فقد‭ ‬كُلِّف‭ ‬أبو‭ ‬داؤود‭ ‬بغناء‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬الدينية،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬البــردة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬البوصيري،‭ ‬و«لك‭ ‬الحمد‭ ‬يا‭ ‬مستجاب‭ ‬الحمد‭ ‬دائماً‮»‬،‭ ‬و«تطاول‭ ‬لَيـلي‭ ‬بعد‭ ‬لَيـلى‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬اليماني‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬البرعي،‭ ‬وقصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬الأندلسي‭ ‬لسان‭ ‬الدين‭ ‬
بن‭ ‬الخطيب‭:‬

سل‭ ‬ما‭ ‬لسلمى‭ ‬بنار‭ ‬الهجر‭ ‬تكويني

وحبها‭ ‬في‭ ‬الحشا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬تكويني

وفي‭ ‬مُناها‭ ‬تمنيت‭ ‬المُنى‭ ‬فــــــغدا‭ ‬

قلـــــبي‭ ‬كئيـــباً‭ ‬ببلـــواه‭ ‬يناجيـني

وكان‭ ‬لولوج‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬داؤود‮»‬‭ ‬عالم‭ ‬الإنشاد‭ ‬والغناء‭ ‬الديني‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬ذيوع‭ ‬هذا‭ ‬الضرب‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وتعرفهم‭ ‬على‭ ‬شعرائه،‭ ‬وفي‭ ‬إسهامات‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬السودانيين‭ ‬وتعدد‭ ‬اتجاهاتهم‭ ‬الغنائية،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬فن‭ ‬الغناء‭ ‬ليس‭ ‬مقصوراً‭ ‬على‭ ‬التغني‭ ‬للعاطفة‭ ‬والحب‭ ‬والجمال‭ ‬والطبيعة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بمستغرب‭ ‬أن‭ ‬يغني‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬عام‭ ‬قصيدة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أنتمْ‭ ‬فروضي‭ ‬ونفلي‭/‬أنتمْ‭ ‬حديثي‭ ‬وشغلي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬المتصوف‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الفارض‭ (‬1181‭ - ‬1235م‭) ‬ويخلب‭ ‬بها‭ ‬الألباب‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تفعله‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تجربة‭ ‬المطرب‭ ‬سيد‭ ‬خليفة‭ ‬الغنائية‭ ‬الطاغية‭ ‬داخل‭ ‬السودان‭ ‬وخارجه‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬باقتفائه‭ ‬أثر‭ ‬من‭ ‬سبقوه،‭ ‬إذ‭ ‬لحن‭ ‬وغنى‭ ‬‮«‬ملتقى‭ ‬النيلين‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬
‭(‬1931‭-‬1981‭) ‬و«خاصمتني‮»‬‭ ‬لأحمد‭ ‬رامي‭:‬

خاصمتني‭ ‬وأنا‭ ‬حيران‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬الخصام

وجفتــني‭ ‬فإذا‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬جفني‭ ‬حرام

لست‭ ‬أدري‭ ‬أدلالاً‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬أم‭ ‬مـلالاً

أم‭ ‬قـلــوب‭ ‬الـغــيد‭ ‬حـال‭ ‬بعد‭ ‬حـال؟‮ ‬

‭ ‬وعلى‭ ‬تلك‭ ‬الخطى‭ ‬سار‭ ‬المطرب‭ ‬العاقب‭ ‬محمد‭ ‬الحسن‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الخمسينيات‭ ‬بطرائقه‭ ‬المتفردة‭ ‬في‭ ‬الألحان‭ ‬والغناء،‭ ‬وقدم‭ ‬أغنيات‭ ‬لها‭ ‬وقعها‭ ‬عند‭ ‬الناس،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬الصخرة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالرحمن،‭ ‬وقصيدتا‭ ‬‮«‬نجـوى‮»‬‭ ‬و«حبيب‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السعودي‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالله‭ ‬الفيصل
‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬آل‭ ‬سعود‭ (‬1923‭ - ‬2007‭):‬

ﻳﺎﺣﺒــﻴﺐ‭ ‬ﻟـــﻌﻤﺮِ‭ ‬ﻣـــﺎ‭ ‬ﻋــــﻮتني

ﺣُﺮﻣﺔ‭ ‬ﻟﻬﺠﺮِ‭ ‬ﻗـــﺪ‭ ‬ﻛـــــﻨﺖَ‭ ‬ﻟــﻮﻓﻴﺎ‭..‬

ﻛُﻨﺖ‭ ‬لي‭ ‬ﻓُﺮﺻـــﺔ‭ ‬ﺣـــﺐٍ‭ ‬ﻏــﺎﻣﺮٍ

ﺗﻨـــﺜُﺮ‭ ‬ﻟﺴـــﺤﺮَ‭ ‬ﺗُﻠــﻘﻴﻪ‭ ‬ﻋﻠﻴﺎ‭..‬

ﻛُﻨــﺖ‭ ‬لي‭ ‬ﻣﻨﺘـــﺠﻊ‭ ‬ﻟـــﺮﻳﺎ‭ ‬ﺇﺫﺍ

هدني‭ ‬ســقمي‭ ‬ﻣﺎ‭ ‬ﺻﺎﻓﺖُ‭ ‬ﻳﺎ‭..‬

ﻛُــﻨﺖ‭ ‬همي‭ ‬ﻭﺍﻧـــﺸﻐﺎلي‭ ‬أﺑﺪً

ﻛُﻨﺖ‭ ‬ﻓﺠـــﺮً‭ ‬ﺑﺎﺳﻤﺎً‭ ‬في‭ ‬ﻣﻘﻠﺘﻴﺎ‭..‬

 

تنافس‭ ‬المطربين

‭ ‬مثلما‭ ‬ظهرت‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬وأزمان‭ ‬مختلفة،‭ ‬كذلك‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬كبار‭ ‬مطربي‭ ‬السودان‭ ‬وتناثرت‭ ‬درراً‭ ‬غنائية‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬متفاوتة،‭ ‬مشيعة‭ ‬أجواء‭ ‬تنافسية‭ ‬بين‭ ‬أجيال‭ ‬المطربين‭ ‬المبدعين،‭ ‬غطاها‭ ‬بريق‭ ‬المجد‭ ‬والسؤدد‭ ‬بالدور‭ ‬الصارم‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تضطلع‭ ‬به‭ ‬لجان‭ ‬الشعر‭ ‬والألحان‭ ‬والموسيقى‭ ‬والأصوات،‭ ‬مشدِّدة‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬سلامة‭ ‬الأغنية‭ ‬أياً‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬نقيصة‭ ‬تمسخها‭ ‬أو‭ ‬تضعضع‭ ‬قيمتها‭ ‬الجمالية،‭ ‬ولتخرج‭ ‬للناس‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬مراعية‭ ‬أذواقهم،‭ ‬ولا‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬الأخلاق‭ ‬والقيم‭ ‬والدين‭. ‬وغدا‭ ‬التغني‭ ‬بقصائد‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬ظاهرة‭ (‬phenomenon‭)‬،‭ ‬غذاها‭ ‬وأكسبها‭ ‬بريقاً‭ ‬بروز‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬المطربين‭ ‬في‭ ‬الستينيات،‭ ‬حاولوا‭ ‬بإصرارهم‭ ‬وتطلعاتهم‭ ‬وثقافاتهم‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬عتبة‭ ‬من‭ ‬عتبات‭ ‬تطور‭ ‬وترقية‭ ‬فن‭ ‬الغناء،‭ ‬وكان‭ ‬مسعاهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قائماً‭ ‬على‭ ‬الاستعداد‭ ‬الفطري،‭ ‬والإلمام‭ ‬بأهمية‭ ‬الغناء،‭ ‬ومعنى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مغنياً،‭ ‬وكان‭ ‬اختيار‭ ‬المغني‭ ‬لقصائد‭ ‬أغنياته‭ ‬وتلحينه‭ ‬لها‭ ‬ينبئان‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬ينابيعه‭ ‬الإبداعية‭ ‬وثقافته‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالرصيد‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬السوداني‭ ‬والعربي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وبالتالي‭ ‬مدى‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬الشعور‭ ‬العام،‭ ‬والسير‭ ‬في‭ ‬درب‭ ‬الغناء‭ ‬الشائك،‭ ‬تجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نتاج‭ ‬الشاعر‭ ‬والملحن‭ ‬والمطرب‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الكابلي‭ ‬الذي‭ ‬تغنى‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬لشعراء‭ ‬سودانيين‭ ‬وآخرين‭ ‬عرب،‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬المعروف‭ ‬أبوفراس‭ ‬الحمداني‭ ‬‮«‬أراك‭ ‬عصي‭ ‬الدمع‮»‬‭ ‬كما‭ ‬تغنى‭ ‬بأخريات‭ ‬‮«‬مالَنا‭ ‬كُلُّنا‭ ‬جَوٍ‭ ‬يا‭ ‬رَسولُ‮»‬،‭ ‬و«أرى‭ ‬ذلك‭ ‬القرب‭ ‬صار‭ ‬ازورارا‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الضخم‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ترنمه‭ ‬ببعض‭ ‬أبيات‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬كمْ‭ ‬قَتيلٍ‭ ‬كمَا‭ ‬قُتِلْتُ‭ ‬شَهيدِ‮»‬‭ ‬مقدمة‭ ‬لبعض‭ ‬أغنياته،‭ ‬ثم‭ ‬غنى‭ ‬موشح‭ ‬‮«‬كللي‭ ‬يا‭ ‬سحب‭ ‬تيجان‭ ‬الربى‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أبوالقاسم‭ ‬بن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ (‬550‭ - ‬608هـ‭)‬،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬وأمطرت‭ ‬لؤلؤاً‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الأموي‭ ‬يزيد‭ ‬بن‭ ‬معاوية‭ (‬647‭ - ‬683‭)‬،‭ ‬و«الجندول‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ألحقها‭ ‬بـ«كليوباترا‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭ ‬المهندس‭ (‬1902‭-‬1949‭)‬،‭ ‬و«أغلى‭ ‬من‭ ‬لؤلؤة‭ ‬بضة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬البحراني‭ ‬علي‭ ‬شريحة،‭ ‬و«شذى‭ ‬زهر‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬
‭(‬1889‭ - ‬1964‭)‬،‭ ‬وغنائية‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬
شوقي‭ :‬

صـــداح‭ ‬يا‭ ‬ملك‭ ‬الكنار‭ ‬

ويـــــــــــا‭ ‬أمــــــــــــــــــــــــــــــير‭ ‬الــــبـــــــــلــــــــبل

قد‭ ‬فـــزت‭ ‬منك‭ ‬بمعــبد‭ ‬

ورزقت‭ ‬قرب‭ ‬الموصل

وأتيـــح‭ ‬لي‭ ‬داود‭ ‬مــز‭ ‬

ماراً‭ ‬وحســـــن‭ ‬ترتــــل

‭ ‬وبقراءة‭ ‬متمعنة‭ ‬لتلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬يلحظ‭ ‬المتتبع‭ ‬لحركة‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬عامة‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬الفصيحة‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬بألحان‭ ‬عربية‭ ‬خالصة‭ ‬على‭ ‬موسيقى‭ ‬السلم‭ ‬السباعي‭ ‬كبار‭ ‬المطربين‭ ‬العرب،‭ ‬أمثال‭: ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬فيروز،‭ ‬طلال‭ ‬مداح،‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬صباح‭ ‬فخري،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬تناولها‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬مطربي‭ ‬السودان‭- ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عمن‭ ‬سبق‭- ‬باستخدام‭ ‬موسيقى‭ ‬السلم‭ ‬الخماسي‭ ‬فيه‭ ‬مغامرة‭ ‬وفخ‭ ‬معرفي‭ ‬وإبداعي‭ ‬دقيق،‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ميكانيزمات‭ ‬حوارية‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬والمبدع‭ ‬والمتلقي‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يختص‭ ‬بتنوع‭ ‬الهوية‭ ‬وتعدد‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الثقافية‭ (‬أفروعربية‭)‬،‭ ‬واستخدام‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬كأيديولوجيا‭ ‬تعبِّر‭ ‬عن‭ ‬الروح،‭ ‬وما‭ ‬يعتريها‭ ‬من‭ ‬أحلام،‭ ‬وأشواق‭ ‬وشجون،‭ ‬وأوجاع‭ ‬وحنين‭ ‬إلى‭ ‬المطلق‭ ‬الجمالي‭ ‬والمعرفي،‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬المبدع‭ ‬وروحه‭ ‬الشفافة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬للأغنية‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وشخصيتها‭ ‬المتميزة‭ ‬ومذاقها‭ ‬الخاص،‭ ‬وحدا‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬المتمردة‭ ‬أو‭ ‬المصطرعة،‭ ‬وذات‭ ‬الأمزجة‭ ‬الحادة،‭ ‬والتركيبات‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬المختلفة،‭ ‬أن‭ ‬تستأنس‭ ‬بها‭ ‬وتتنادى‭ ‬لتداعياتها‭ ‬وتلتف‭ ‬حولها‭ ‬وتنفعل‭ ‬بها‭ ‬لكونها‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬الوجدان‭. ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬آخر‭ ‬لقد‭ ‬أفلح‭ ‬مطربو‭ ‬ذاك‭ ‬العصر‭ ‬في‭ ‬توظيفها‭ ‬لتقول‭ ‬خطاباً‭ ‬متفقاً‭ ‬عليه،‭ ‬اجتذب‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الغلاة‭ ‬وأنصار‭ ‬التشويه‭ ‬والإحباط،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬تطور‭ ‬مفهوم‭ ‬الغناء‭ ‬عند‭ ‬الناس،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬ذلك‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬محض‭ ‬طرب‭ ‬ولهو‭ ‬ورقص،‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬المطربون‭ ‬هم‭ ‬زمرة‭ ‬الصعاليك‭ ‬الذين‭ ‬يملأون‭ ‬الدنيا‭ ‬صياحاً‭ ‬بلا‭ ‬طائل‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬يوصفون‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ودعا‭ ‬كل‭ ‬المهتمين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصفوا‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بأنها‭ ‬أخصب‭ ‬فترات‭ ‬الغناء‭ ‬السوداني،‭ ‬والعصر‭ ‬بأنه‭ ‬عصر‭ ‬الأغنية‭ ‬الذهبية‭.‬

‭ ‬لذا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تتنقل‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬أو‭ ‬الأغنيات‭ ‬وتجوب‭ ‬فلوات‭ ‬السودان‭ ‬وتنتشر‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أرجائه‭ ‬المختلفة‭ ‬رغم‭ ‬جغرافيته‭ ‬الفظة‭ ‬ومساربه‭ ‬الوعرة‭ ‬وإثنياته‭ ‬المتعددة‭ ‬والمتباينة،‭ ‬تتنقل‭ ‬غير‭ ‬منحازة‭ ‬لأرض‭ ‬أو‭ ‬عنصر،‭ ‬أو‭ ‬جنس،‭ ‬أو‭ ‬ديانة،‭ ‬أو‭ ‬عصر‭ ‬على‭ ‬صعيدي‭ ‬المبدع‭ ‬والمتلقي،‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬انتشارها‭ ‬ظهور‭ ‬الراديو‭ ‬الترانزستور‭ ‬السهل‭ ‬الحمل،‭ ‬وبروز‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬للوجود‭ ‬عام‭ ‬1963م،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬قيام‭ ‬المطربين‭ ‬برحلات‭ ‬دورية‭ ‬وفي‭ ‬المناسبات‭ ‬للأقاليم‭ ‬والمدن‭ ‬للتبشير‭ ‬بإبداعاتهم‭ ‬والترفيه‭ ‬عن‭ ‬الناس‭. ‬وكان‭ ‬أمراً‭ ‬طبيعياً‭ ‬أن‭ ‬يتنقل‭ ‬بعض‭ ‬شعراء‭ ‬العرب‭ ‬بمختلف‭ ‬جنسياتهم‭ ‬وانتماءاتهم‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬وبوادي‭ ‬السودان،‭ ‬وأن‭ ‬يلج‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬بإبداعه‭ ‬بيوت‭ ‬أهله‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطرق‭ ‬الباب‭. ‬علماً‭ ‬بأن‭ ‬بعض‭ ‬هؤلاء‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العرب‭ ‬تنقلوا‭ ‬بين‭ ‬مدنه‭ ‬وجابوا‭ ‬أطرافه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصائدهم‭ ‬المقررة‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الدراسية‭ ‬المختلفة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حظوظ‭ ‬الانتشار‭ ‬عبر‭ ‬القصائد‭ ‬الغنائية‭ ‬كانت‭ ‬واسعة‭ ‬وأعظم‭ ‬أثراً‭. ‬

ومع‭ ‬تنامي‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬خرج‭ ‬حمد‭ ‬الريح‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬مطرباً‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬العطاء‭ ‬والتجديد،‭ ‬فعمد‭ ‬إلى‭ ‬تلحين‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬وغنائها،‭ ‬إذ‭ ‬لحن‭ ‬وغنى‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬‮«‬الصباح‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬للشابي،‭ ‬و«حبيبتي‭ ‬إن‭ ‬يسألوك‭ ‬عني‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬السوري‭ ‬المعاصر‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ (‬1923‭ - ‬1998‭ ‬م‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬غنى‭ ‬بالعود‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬الموسيقار‭ ‬اليماني‭ ‬ناجي‭ ‬القدسي‭ ‬‮«‬حينما‭ ‬كنت‭ ‬صبياً‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬اليماني‭ ‬لطفي‭ ‬جعفر‭ ‬أمان
‭(‬1928‭-‬1971‭):‬

حينما‭ ‬كنت‭ ‬صبياً‮ ‬

كنت‭ ‬أسبح‭ ‬في‮ ‬‭ ‬

لهو‭ ‬البراءة‭ ‬النقية‮ ‬

الحب‭ ‬كان‭ ‬معنى‭ ‬

عندي‭ ‬قبلة‭ ‬من‭ ‬والديا

كان‭ ‬همي‭ ‬كل‭ ‬همي‭ ‬

واجباتي‭ ‬المدرسية‮ ‬

‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بغزارة‭ ‬الإنتاج‭ ‬الغنائي‭ ‬الجيد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الستينيات‭ ‬المطرب‭ ‬صلاح‭ ‬بن‭ ‬البادية‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬فلحن‭ ‬وغنى‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الفصحى،‭ ‬أبرزها‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬السبت‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمد‭ ‬غازي‭ ‬حسيب‭ ‬القاضي‭ ‬
‭(‬‭-‬1935‭ ‬2010‭):‬

وجمعت‭ ‬باقات‭ ‬الزهور‭ ‬هنا‭ ‬

ولكم‭ ... ‬بأزهاري‭ ‬تزينتِ‭ ‬

ألقيتها‭ ‬بجوار‭ ‬مقعدنا‭ ‬الخالي‭ ‬

حزيناً‭ ‬إذ‭ ‬تخلفت

وبكى‭ ‬المساء‭ ‬الوردي‭ ‬

وارتعشت‭ ‬كل‭ ‬النجوم‭... ‬عشية‭ ‬السبت‭ ‬

‭ ‬أما‭ ‬المطرب‭ ‬زيدان‭ ‬إبراهيم‭ ‬الذي‭ ‬لمع‭ ‬نجمه‭ ‬في‭ ‬السبعينيات‭ ‬واحتل‭ ‬مكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغناء،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لتغنيه‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬الميت‭ ‬الحي‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجي‭ (‬‭-‬1898‭ ‬1953م‭)‬،‭ ‬و«بعد‭ ‬عام‮»‬‭ ‬للعقاد‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تقدم‭ ‬مسيرته‭ ‬الغنائية‭:‬

كاد‭ ‬يمضي‭ ‬العام‭ ‬يا‭ ‬حلو‭ ‬التثني‭ ‬أو‭ ‬تولى

ما‭ ‬اقتربنا‭ ‬منك‭ ‬إلا‭ ‬بالتمني‭ ‬ليس‭ ‬إلا

مذ‭ ‬عرفناك‭ ‬عرفنا‭ ‬كل‭ ‬حسن‭ ‬وعذاب

لهب‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬فردوس‭ ‬لعيني‭ ‬في‭ ‬اقتراب

وإمعاناً‭ ‬في‭ ‬التجديد،‭ ‬فقد‭ ‬نشط‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬مطربي‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان‭ ‬في‭ ‬انتقاء‭ ‬بعض‭ ‬الأبيات‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬وقدموها‭ ‬كمواويل‭ ‬أو‭ ‬افتتاحيات‭ ‬لبعض‭ ‬أغنياتهم،‭ ‬مثل‭ ‬المطرب‭ ‬التاج‭ ‬مكي‭ ‬الذي‭ ‬قدم‭ ‬‮«‬قل‭ ‬للمليحة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الأموي‭ ‬ربيعة‭ ‬بن‭ ‬عامر‭ ‬التميمي‭ ‬المشهور‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬مسكين‭ ‬الدارمي‮»‬‭ ‬مقدمة‭ ‬لأغنيته‭ ‬‮«‬كسلا‮»‬‭:‬

‭ ‬قل‭ ‬للمليحة‭ ‬في‭ ‬الخمار‭ ‬الأسود‭ ‬

ماذا‭ ‬فعلت‭ ‬بـناسكٍ‭ ‬متعبِّد‭ ‬

قد‭ ‬كان‭ ‬شمَّر‭ ‬للصلاة‭ ‬ثيابَهُ‭ ‬

حتى‭ ‬قعدتِ‭ ‬له‭ ‬بـبابِ‭ ‬المسجدِ‭ ‬

ردِّي‭ ‬عليه‭ ‬ثـيابَهُ‭ ‬وصلاته‭...‬

‭ ‬لا‭ ‬تقـتليه‭ ‬بحق‭ ‬دين‭ ‬محمد‭...‬

‭ ‬واختار‭ ‬المطرب‭ ‬خليل‭ ‬إسماعيل‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬الجهم‭ (‬803‭ - ‬863‭ ‬م‭) ‬كافتتاحية‭ ‬لأغنيته‭ ‬‮«‬الأماني‭ ‬العذبة‮»‬‭:‬

هي‭ ‬النفس‭ ‬ما‭ ‬حملتها‭ ‬تتحمل‭ ‬

وللدهر‭ ‬أيام‭ ‬تجور‭ ‬وتعدل

وعاقبة‭ ‬الصبر‭ ‬الجميل‭ ‬جميلة‭ ‬

وأفضل‭ ‬أخلاق‭ ‬الرجال‭ ‬التفضل

أما‭ ‬المطرب‭ ‬الطيب‭ ‬عبدالله،‭ ‬فكان‭ ‬يغني‭ ‬أحياناً‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬يا‭ ‬فتاتي‮»‬‭ ‬بمقدمة‭ ‬أبيات‭ ‬للشاعر‭ ‬الأندلسي‭ ‬أبوالوليد‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬زيدون‭ (‬1003‭ - ‬1071‭ ‬م‭):‬

أيُوحِشُـني‭ ‬الزّمانُ،‭ ‬وَأنْتَ‭ ‬أُنْسِي‭ ‬

وَيُظْلِمُ‭ ‬لي‭ ‬النّهـــارُ‭ ‬وَأنتَ‭ ‬شَمْسي؟

وَأغــرِسُ‭ ‬في‭ ‬مَحَبّتـــِكَ‭ ‬الأماني

فأجْني‭ ‬الموتَ‭ ‬منْ‭ ‬ثمرَاتِ‭ ‬غرسِي

لَقَدْ‭ ‬جَـــازَيْتَ‭ ‬غَــدْراً‭ ‬عن‭ ‬وَفَائي

‭ ‬وَبِعْــتَ‭ ‬مَوَدّتي،‭ ‬ظُلْماً،‭ ‬ببَخـْسِ

ولوْ‭ ‬أنّ‭ ‬الزّمانَ‭ ‬أطـــاعَ‭ ‬حكْمــِي

‭ ‬فديْتُــــكَ،‭ ‬مِنْ‭ ‬مكارهِـهِ،‭ ‬بنَفســي

‭ ‬أو‭ ‬يغنيها‭ ‬بأبيات‭ ‬للشاعر‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوح‭ ‬الملقب‭ ‬بمجنون‭ ‬ليلى‭ (‬645‭ - ‬688م‭): ‬

ولـمّــا‭ ‬تـلاقـيـنـا‭ ‬عــلـى‭ ‬سـفـح‭ ‬رامة‭ ‬

وجــدت‭ ‬بـنــان‭ ‬الـعــامــريّــة‭ ‬أحــمــــرا

فقـلـت‭ ‬خضـبـت‭ ‬الـكـفّ‭ ‬بعـد‭ ‬فراقـنـا؟‭ ‬

قالـت‭: ‬معـاذ‭ ‬الله‭ ‬ذلـك‭ ‬مــا‭ ‬جــرى‭!‬

ولـكـننـي‭ ‬لــمّــا‭ ‬رأيـتـــــك‭ ‬راحـــــــــلا‭ ‬

بـكـيـت‭ ‬دمـاً‭ ‬حتّـى‭ ‬بـللـت‭ ‬بـــه‭ ‬الــثّــرى

مـسحـت‭ ‬بـأطـراف‭ ‬البـنــان‭ ‬مـدامـعــي

فصار‭ ‬خضاباً‭ ‬في‭ ‬اليدين‭ ‬كمـــــــا‭ ‬ترى‭!‬

 

خفوت‭ ‬الظاهرة

‭ ‬لكن‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬أبوالبقاء‭ ‬الرندي‭ ‬‮«‬لكل‭ ‬شيءٍ‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬نقصانُ‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬آل‭ ‬إليه‭ ‬حال‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬ففي‭ ‬عقد‭ ‬الثمانينيات‭ ‬كادت‭ ‬تتلاشى‭ ‬ظاهرة‭ ‬التغني‭ ‬بقصائد‭ ‬الفصحى‭ ‬للشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬والعرب‭ ‬بوفاة‭ ‬بعض‭ ‬المطربين‭ ‬الأفذاذ،‭ ‬وبانزواء‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬وللحالة‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭ ‬ككل‭ ‬جراء‭ ‬لهاث‭ ‬الحياة‭ ‬لولا‭ ‬ظهور‭ ‬فرقة‭ ‬عقد‭ ‬الجلاد‭ ‬الغنائية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬بداياتهم‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الغناء‭ ‬بالقصيدة‭ ‬الثورية‭ ‬‮«‬أحتاج‭ ‬دوزنة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الأريتري‭ ‬محمد‭ ‬مدني‭ ‬بمقدمة‭ ‬ثورية‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سبارتكوس‭ ‬الأخيرة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ (‬1940‭-‬1983م‭) ‬جاء‭ ‬فيها‭:‬

لا‭ ‬تحلموا‭ ‬بعالم‭ ‬سعيد

فخلف‭ ‬كلّ‭ ‬قيصر‭ ‬يموت‭ : ‬قيصر‭ ‬جديد‭!‬

وخلف‭ ‬كلّ‭ ‬ثائر‭ ‬يموت‭: ‬أحزان‭ ‬بلا‭ ‬جدوى‭..‬

ودمعة‭ ‬سدى‭!‬

لتجيء‭ ‬الأغنية‭:‬

‭ ‬أحتاجُ‭ ‬دوزنة

وتراً‭ ‬جديداً

لا‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬النشيدِ

سوى‭ ‬النشـــــاز

‮  ‬‭ ‬ثم‭ ‬واصلت‭ ‬الفرقة‭ ‬مشوارها‭ ‬بـقصيدة‭ ‬‮«‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلدي‭ ‬يصنعون‭ ‬الحب‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬بإيقاع‭ ‬الجالوه‭ ‬المحبب‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬بجانب‭ ‬تغنيها‭ ‬بأخرى‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬فاروق‭ ‬جويدة‭: ‬

عذراً‭ ‬حبيبي

في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬كنت‭ ‬أحمل‭ ‬زهرة

مشتاقة‭ ‬تهفو‭ ‬إليك‭..‬

في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬كنت‭ ‬أقطف‭ ‬بعض‭ ‬أيامي

وأنثرها‭ ‬عبيراً‭ ‬في‭ ‬يديك

‭ ‬وهنا‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬فرقة‭ ‬عقد‭ ‬الجلاد‭ ‬قد‭ ‬سبقتها‭ ‬تجارب‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬الجماعي‭ ‬إحداها‭ ‬للثنائي‭ ‬الوطني‭ ‬مع‭ ‬الكورال‭ ‬الذين‭ ‬ظهروا‭ ‬في‭ ‬السبعينيات،‭ ‬واشتهروا‭ ‬بتقديم‭ ‬الأغنيات‭ ‬الوطنية،‭ ‬خاصة‭ ‬‮«‬أمة‭ ‬الأمجاد‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المصري‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬نشيداً‭ ‬وطنياً‭ ‬يردد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭:‬

أمتي‭ ‬يا‭ ‬أمــــة‭ ‬الأمجاد‭ ‬والماضي‭ ‬العـريق‭ ‬

يا‭ ‬نشيداً‭ ‬في‭ ‬دمي‭ ‬يحيا‭ ‬ويجري‭ ‬في‭ ‬عروقي

أذن‭ ‬الفجر‭ ‬الذي‭ ‬شـق‭ ‬الدياجـي‭ ‬بالشروق‭ ‬

وطريق‭ ‬النصر‭ ‬قد‭ ‬لاح‭ ‬فسـيري‭ ‬في‭ ‬الطريق

وفي‭ ‬ما‭ ‬بدت‭ ‬الظاهرة‭ ‬آخذة‭ ‬في‭ ‬التلاشي‭ ‬قام‭ ‬المطرب‭ ‬الكردفاني‭ ‬عبدالقادر‭ ‬سالم‭ ‬بتلحين‭ ‬وغناء‭ ‬‮«‬مـالَ‭ ‬واحتجـبْ‭ ‬وادَّعَـى‭ ‬الغضـب‭/‬ليـت‭ ‬هـاجري‭ ‬يـشرحُ‭ ‬السببْ‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬مستخدماً‭ ‬فيها‭ ‬إيقاع‭ ‬‮«‬المردوم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تشتهر‭ ‬به‭ ‬قبائل‭ ‬البقارة‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬السودان‭.  ‬وأطل‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الثمانينيات‭ ‬المطرب‭ ‬الراحل‭ ‬مصطفى‭ ‬سيد‭ ‬أحمد‭ ‬يتغنى‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬القـدس‮»‬‭ ‬لنزار‭ ‬قباني‭:‬

بكيت‭.. ‬حتى‭ ‬انتهت‭ ‬الدموع

صليت‭.. ‬حتى‭ ‬ذابت‭ ‬الشموع

ولم‭ ‬يفت‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬فنان‭ ‬إفريقيا‭ ‬الأول‭ ‬محمد‭ ‬وردي‭ ‬الذي‭ ‬آثر‭ ‬ألا‭ ‬يرحل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسكب‭ ‬إبداعه‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬ذلك‭ ‬النهر‭ ‬الخالد،‭ ‬إذ‭ ‬تغنى‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬2102‭ ‬بإحدى‭ ‬القصائد‭ ‬العاطفية‭ ‬للشاعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬‮«‬يا‭ ‬وجهــها‮»‬‭:‬

‏‭ ‬شاء‭ ‬الهوى‭ ‬أن‭ ‬نلتقى‭... ‬سهوا

كم‭ ‬كنت‭ ‬أفتقدك‮ ‬

يا‭ ‬وجهها‭ ‬الحلوا‮ ‬

كل‭ ‬الذي‭ ‬سميته‭: ‬شدوا‮ ‬

من‭ ‬قبل‭ ‬ما‭ ‬أجدك‮ ‬

أضحى‭ ‬على‭ ‬شفة‭ ‬الصبا‭ ... ‬لغوا

وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬الغنائي‭ ‬الماثل‭ ‬حالياً‭ ‬يجد‭ ‬المتتبع‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬التغني‭ ‬بالفصحى‭ ‬للشعراء‭ ‬السودانيين‭ ‬والعرب‭ ‬خاصة‭ ‬تلاشت‭ ‬تماماً‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬وهج‭ ‬وألق،‭ ‬وطُمِر‭ ‬ذاك‭ ‬الرافد‭ ‬المهم‭ ‬والمغذي‭ ‬لنهر‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬بركام‭ ‬الأغنيات‭ ‬الخديج‭ ‬والرديء،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اكتظاظ‭ ‬ساحته‭ ‬بأعداد‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬المغنين‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أحسنهم‭ ‬–‭ ‬وهم‭ ‬قلة‭- ‬لم‭ ‬يوفقوا‭ ‬في‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬حافته،‭ ‬أما‭ ‬الغالبية‭ ‬فلا‭ ‬يجيدون‭ ‬إلا‭ ‬الزعيق‭ ‬والرقص‭ ‬والتهريج،‭ ‬وحينئذٍ‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬محب‭ ‬الغناء‭ ‬الراقي‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يضرب‭ ‬كفاً‭ ‬بكف،‭ ‬ويضع‭ ‬عازلاً‭ ‬فوق‭ ‬أذنيه‭ .