جماعة «الرابطة القلمية» في نيويورك

جماعة «الرابطة القلمية» في نيويورك

‮«‬الرابطة‭ ‬القلمية‮»‬‭ ‬جماعة‭ ‬أدبية‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬عشرة‭ ‬كتّاب‭ ‬لمدة‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭ ‬ثم‭ ‬اندثرت،‭ ‬ولعل‭ ‬اسم‭ ‬الرابطة‭ ‬لم‭ ‬ينتشر‭ ‬كثيراً‭ ‬لأسباب‭ ‬عدة،‭ ‬بينها‭ ‬أنهم‭ ‬عُرفوا‭ ‬بـ‭: ‬‮«‬أدباء‭ ‬المهجر‮»‬،‭ ‬وهم‭: ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬وميخائيل‭ ‬نعيمة،‭ ‬وإيليا‭ ‬أبوماضي،‭ ‬ونسيب‭ ‬عريضة،‭ ‬ورشيد‭ ‬أيوب،‭ ‬وندرة‭ ‬حداد،‭ ‬وأخوه‭ ‬عبدالمسيح‭ ‬حداد،‭ ‬وثلاثة‭ ‬آخرون‭ ‬ظلوا‭ ‬أعضاء‭ ‬في‭ ‬الظل،‭ ‬وجميعهم‭ ‬من‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان‭.‬

لقد‭ ‬اتفق‭ ‬كبار‭ ‬النقّاد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأديب‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬مواقفه‭ ‬السياسية‭ - ‬الاجتماعية،‭ ‬ويعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بإنتاجه‭ ‬الأدبي،‭ ‬فيكون‭ ‬مرآة‭ ‬تعكس‭ ‬عصره‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭:‬

ما‭ ‬علاقة‭ ‬فكر‭ ‬أعضاء‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬السياسي‭ - ‬الاجتماعي‭ ‬ونهجهم‭ ‬الأدبي،‭ ‬بالفكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬الشيوعي‭ ‬المنتشر‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬عند‭ ‬تأسيس‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة؟

نسأل‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬تأسيس‭ ‬الرابطة‭ ‬شهدت‭ ‬ذروة‭ ‬احتدام‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والحكومة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الفيدرالية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهي‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬السنين‭ (‬1890-1930‭) ‬وُصفت‭ ‬بحقبة‭: ‬الفزع‭ ‬الأحمر‭ ‬الكبير‭ ‬The Great Red Scare‭.‬

تعود‭ ‬بداية‭ ‬حكاية‭ ‬الرابطة‭ ‬إلى‭ ‬أواسط‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ (‬1914-1918‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬حقبة‭ ‬الفزع‭ ‬الأحمر‭ ‬الكبير،‭ ‬وفي‭ ‬نيويورك‭ ‬بالذات،‭ ‬حول‭ ‬مجلة‭ ‬تصدر‭ ‬بـ«العربية‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬أوضاعها‭ ‬المالية‭ ‬متعثرة‭ ‬اسمها‭: ‬‮«‬الفنون‮»‬،‭ ‬صاحبها‭ ‬ورئيس‭ ‬تحريرها‭ ‬الشاعر‭ ‬السوري‭ ‬نسيب‭ ‬عريضة‭. ‬أما‭ ‬إشارة‭ ‬انطلاق‭ ‬أحداث‭ ‬الحكاية‭ ‬فكانت‭ ‬لقاء‭ ‬الفنان‭ ‬والأديب‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ ‬المنتقل‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬بوسطن‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬صديقه‭ ‬الحميم‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني،‭ ‬ليعمل‭ ‬رساماً‭ ‬في‭ ‬محترف‭ ‬خاص‭ ‬به،‭ ‬أقول‭: ‬إن‭ ‬شرارة‭ ‬الانطلاق‭ ‬كانت‭ ‬لقاء‭ ‬الفنان‭ ‬جبران‭ ‬بالمحامي‭ ‬الكاتب‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬المنتقل‭ ‬من‭ ‬بلدة‭ ‬ولاولا‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬واشنطن‭ ‬غرب‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك،‭ ‬ليعمل‭ ‬مترجماً‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬التجاري‭ ‬العسكري‭ ‬الروسي‭ ‬القيصري‭. ‬هذه‭ ‬المعلومة‭ ‬الأخيرة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬مذكرات‭ ‬نعيمة‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬عمر‮»‬‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬1959‭. ‬يكتب‭ ‬نعيمة‭ ‬أن‭ ‬المكتب‭ ‬الروسي‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يتعاقد‭ ‬مع‭ ‬مصانع‭ ‬الأسلحة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لتوريد‭ ‬السلاح‭ ‬للجيش‭ ‬الروسي‭ ‬القيصري‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭. ‬وسبب‭ ‬اشتغال‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكتب‭ ‬له‭ ‬خلفيّتان‭: ‬الأولى‭ ‬معرفة‭ ‬نعيمة‭ ‬المعمّقة‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية،‭ ‬لأنه‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1908‭ ‬و1911،‭ ‬ليصبح‭ ‬كاهناً‭ ‬أرثوذكسياً،‭ ‬وهي‭ ‬فترة‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬النضال‭ ‬الماركسي‭/‬اللينيني‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬ضد‭ ‬الملكية‭ ‬القيصرية‭ ‬ملتهباً‭. ‬والخلفية‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬دراسته‭ ‬القانون‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ولاولا‭ (‬1912-1915‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬أخوه‭ ‬الأكبر‭ ‬مهاجراً‭ ‬يعيش‭ ‬هناك‭.‬

لنرجع‭ ‬بالزمن‭ ‬قليلاً‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭. ‬فقد‭ ‬قدِم‭ ‬المهاجرون‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بأعداد‭ ‬غفيرة،‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬الجمهورية‭ ‬الأمريكية‭ ‬نقلتها‭ ‬النوعية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬جمهورية‭ ‬الوفر‭ ‬الغذائي‭ ‬إلى‭ ‬جمهورية‭ ‬التصنيع‭ ‬الثقيل‭ ‬مع‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬مكاسب‭ ‬نجاحات‭ ‬الأولى‭. ‬فكانت‭ ‬الحاجة‭ ‬ماسّة‭ ‬إلى‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬الرخيصة‭. ‬هنا،‭ ‬فتحت‭ ‬الدولة‭ ‬أبواب‭ ‬الهجرة‭ ‬على‭ ‬مصاريعها‭ ‬وبلا‭ ‬تحفظ،‭ ‬متجاوزة‭ ‬تشريعات‭ ‬الحدّ‭ ‬من‭ ‬هجرة‭ ‬الصينيين‭ ‬والكاثوليك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قائمة‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬1890‭. ‬وتدفّقت‭ ‬جموع‭ ‬المهاجرين‭ ‬وبلا‭ ‬تحفّظ‭ ‬حتى‭ ‬فاقت‭ ‬أعدادهم‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ (‬12.5‭ ‬مليوناً‭ ‬للمهاجرين‭ ‬الجدد‭ ‬بمقابل‭ ‬11.5‭ ‬مليوناً‭ ‬للمواطنين‭ ‬الأمريكيين‭)‬،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يثير‭ ‬الفزع‭ ‬حقاً‭! ‬تشير‭ ‬كتب‭ ‬تأريخ‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬غير‭ ‬بلاد‭ ‬المواطنين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬أغلبيتهم‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬البروتستانت‭ ‬الأنجلو‭ ‬سكسونيين،‭ ‬وهم‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليهم‭ ‬لقب‭ ‬يعاسيب‭ (‬مفردها‭ ‬يعسوب‭ ‬wasp‭ ‬وهي‭ ‬ملكة‭ ‬النحل‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬المفردة‭ ‬المكوّنة‭ ‬من‭ ‬الأحرف‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬White Anglo Saxon Protestant‭.‬

 

آثار‭ ‬الزحف‭ ‬الهجين

وخشيت‭ ‬الإدارة‭ ‬الحاكمة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الخطر،‭ ‬فشكلت‭ ‬لجنة‭ ‬عُليا‭ ‬لدراسة‭ ‬آثار‭ ‬الزحف‭ ‬الهجين‭ ‬المُفزع،‭ ‬وتوصّلت‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬دمج‭ ‬هذه‭ ‬الملايين‭ ‬الغريبة‭ ‬بالمجتمع‭  (‬لجنة‭ ‬درنجهام‭/‬1907‭)‬،‭ ‬فضيّقت‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬المهاجرين،‭ ‬مما‭ ‬اضطرهم‭ ‬إلى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬أحقر‭ ‬شوارع‭ ‬‮«‬بلاد‭ ‬الوفر‭ ‬الغذائي‭ ‬والتصنيع‭ ‬الثقيل‮»‬،‭ ‬وتحت‭ ‬ظروف‭ ‬مذلة‭ ‬من‭ ‬العوز‭ ‬والاضطهاد‭. ‬ولكن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬خوف‭ ‬المواطنين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬من‭ ‬قطعان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الدهماء،‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬مشبعاً‭ ‬بالتعبئة‭ ‬السياسية‭ ‬الحاقدة‭ ‬على‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬المتنعّمة‭. ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ضخّ‭ ‬فلسفة‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد،‭ ‬وشحن‭ ‬صدورهم‭ ‬بالضغينة،‭ ‬قياديو‭ ‬الحركات‭ ‬اليسارية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬والشيوعية‭ ‬في‭ ‬بلدانهم‭ ‬الأوربية‭ ‬والروسية‭ ‬والشرق‭ ‬أوسطية‭.‬

وتتفاقم‭ ‬أوضاع‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد‭ ‬بين‭ ‬المشكلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بشكل‭ ‬عنيف‭ ‬جداً‭. ‬وسادت‭ ‬أجواء‭ ‬خانقة‭ ‬من‭ ‬القمع‭. ‬فقد‭ ‬وُوجه‭ ‬المهاجرون‭ ‬باتهامات‭ ‬واسعة‭ ‬الانتشار‭ ‬أن‭ ‬تأثيراتهم‭ ‬السلبية‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬إفساد‭ ‬دائم‭ ‬للمجتمع‭ ‬الأمريكي‭. ‬وأصبح‭ ‬الأمريكيون‭ ‬مقتنعين‭ ‬بأنهم‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسّة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬تقيهم‭ ‬شرّ‭ ‬طوقان‭ ‬الكاثوليك‭ ‬واليهود‭ ‬وأشباههم‭ ‬من‭ ‬الغرباء‭. ‬ووُجهّت‭ ‬إلى‭ ‬المهاجرين‭ ‬الجدد‭ ‬تهمة‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تهديم‭ ‬الجمهورية‭ ‬بإغراق‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬باليد‭ ‬الرخيصة‭ ‬والتسبب‭ ‬في‭ ‬انخفاض‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭.‬

وتحصّن‭ ‬مجتمع‭ ‬اليعاسيب‭ ‬WASP‭ ‬ضد‭ ‬العقائد‭ ‬الشيوعية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القوانين،‭ ‬وبالذات‭ ‬عندما‭ ‬نشبت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬أولاً‭ ‬عام‭ ‬1914‭. ‬كان‭ ‬أهم‭ ‬تشريعين‭ ‬للوقوف‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المدّ‭ ‬الشيوعي‭ ‬المنظّم،‭ ‬هما‭: ‬قانون‭ ‬مكافحة‭ ‬التجسّس‭ ‬Espionage Act،‭ ‬وقانون‭ ‬مكافحة‭ ‬‮«‬التحريض‭ ‬على‭ ‬الفتنة‮»‬‭  Section Act‭.‬

وتعالت‭ ‬صرخات‭ ‬اليعاسيب‭ ‬مطالبة‭ ‬بتنظيم‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة‭ ‬لتكسح‭ ‬هذا‭ ‬المد‭ ‬الشيوعي‭. ‬ونشأت‭ ‬جمعيات‭ ‬وروابط‭ ‬وتكتلات‭ ‬سرية‭ ‬وعلنية‭ ‬أسماؤها‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬مضامينها‭: ‬حماية‭ ‬الديار‭ ‬Vigilante،‭ ‬الوطنيون‭ ‬Patriots،‭ ‬كشّافة‭  ‬الجواسيس‭ ‬الأمريكية‭ ‬والجامعة‭ ‬الوطنية‭ ‬للأمن،‭ ‬جمعية‭ ‬الدفاع‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير‭. ‬وانضوت‭ ‬تحت‭ ‬ألويتها‭ ‬جماعات‭ ‬وعصابات‭ ‬وزُمَر‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬اليعاسيب‭ ‬مكوّنة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬أعمال،‭ ‬وأطباء،‭ ‬ومهندسين،‭ ‬وفنّيين،‭ ‬وقساوسة،‭ ‬وطلبة‭ ‬جامعات،‭ ‬وكبار‭ ‬رجال‭ ‬شرطة‭ ‬بثياب‭ ‬مدنية‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الشيوعيون‭ ‬وحلفاؤهم‭ ‬الاشتراكيون‭ ‬راكدين،‭ ‬بل‭ ‬نظموا‭ ‬الإضرابات‭ ‬العارمة‭ ‬عبر‭ ‬نقابات‭ ‬العمال‭ ‬التي‭ ‬سيطروا‭ ‬عليها‭ ‬واتخذوا‭ ‬لها‭ ‬مسرحاً‭ ‬في‭ ‬مناجم‭ ‬الفحم‭ ‬ومصانع‭ ‬الحديد‭ ‬والصلب‭ ‬وخطوط‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭. ‬وشاركوا‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬البلدية‭ ‬وسيطروا‭ ‬عام‭ ‬1917‭ ‬على‭ ‬200‭ ‬مجلس‭ ‬بلدي‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ووسطها‭. ‬

 

الوجه‭ ‬الشرس

وزاد‭ ‬الطين‭ ‬بِلّة‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬1917‭ ‬انتصار‭ ‬الثورة‭ ‬البلشفية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬زعمائها‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬شيوعيان‭ ‬أمريكيان‭ ‬كانا‭ ‬صديقين‭ ‬شخصيين‭ ‬حميمين‭ ‬للزعيم‭ ‬لينين،‭ ‬هما‭: ‬جون‭ ‬ريد‭ ‬وليون‭ ‬تروتسكي،‭ ‬فازداد‭ ‬الفزع‭ ‬الأمريكي‭ ‬الرسمي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬السياسي‭ ‬الأحمر‭. ‬هنا،‭ ‬سفرت‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬وجهها‭ ‬الشرس‭ ‬بزعامة‭ ‬جورج‭ ‬كريل‭ ‬‭ ‬George Creel،‭ ‬وأسند‭ ‬مجلس‭ ‬الشيوخ‭ ‬إليه‭ ‬مهمة‭ ‬قيادة‭ ‬‮«‬لجنة‭ ‬التوجيه‭ ‬المعنوي‭ ‬العام‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬مهماته‭ ‬المكلف‭ ‬بها‭:‬

تحري‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬وتوجيهه‭ ‬لدعم‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬وتنسيق‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬الوطني‭ ‬ومكافحة‭ ‬الشيوعية،‭ ‬وتعقّب‭ ‬الخارجين‭ ‬عن‭ ‬خطوط‭ ‬العُرف‭ ‬العام،‭ ‬ومعاقبتهم‭.‬

بكلمة‭ ‬أخرى‭: ‬قامت‭ ‬لجنة‭ ‬كريل‭ ‬هذه‭ ‬بمصادرة‭ ‬الحريات‭ ‬الشخصية‭ ‬جميعاً‭ ‬التي‭ ‬نصّت‭ ‬عليها‭ ‬مواثيق‭ ‬1776‭ ‬ووعود‭ ‬الآباء‭ ‬المؤسسين‭ ‬وضمنتها‭ ‬وثيقة‭ ‬الاستقلال‭ ‬وكرّر‭ ‬الدستور‭ ‬ضمانها‭. ‬وأعلنت‭ ‬لجنة‭ ‬كريل‭ ‬برنامجها‭ ‬من‭ ‬الممنوعات‭ ‬وأهمها‭ ‬معاقبة‭ ‬كل‭ ‬من‭:‬

يقول‭ ‬أو‭ ‬يَنْبسُ،‭ ‬ويلمح،‭ ‬ويكتب‭ ‬أو‭ ‬ينشر،‭ ‬أي‭ ‬كلام‭ ‬يُشتمُّ‭ ‬منه‭ ‬عدم‭ ‬الولاء،‭ ‬والتدنيس،‭ ‬والسفه‭ ‬أو‭ ‬البذاءة،‭ ‬والشتم‭ ‬أو‭ ‬القذف،‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬صيغة‭ ‬كانت،‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬هيئة‭ ‬أو‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬حكومة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬أو‭ ‬الزي‭ ‬العسكري‭ ‬للجيش‭ ‬والبحرية‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الجو‭ ‬المسموم‭ ‬بثورة‭ ‬الرأسماليين‭ ‬المضادة‭ ‬للحركات‭ ‬الشيوعية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬شُرّعت‭ ‬عقوبات‭ ‬صارمة‭ ‬للممنوعات‭ ‬السابقة‭ ‬الذكر‭ ‬كان‭ ‬متوسطها‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬غرامة‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬مع‭ ‬السجن‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬ثم‭ ‬الترحيل‭ ‬إلى‭ ‬وطن‭ ‬المحكوم‭ ‬الأصلي‭. ‬بلغت‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬المضادة‭ ‬ذروتها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1918‭.‬

 

خلاف‭ ‬التسميات

وسط‭ ‬هذا‭ ‬الهيجان‭ ‬السياسي،‭ ‬تمخّضت‭ ‬لقاءات‭ ‬أدباء‭ ‬المهجر‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تجمّع‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الجالية‭ ‬‮«‬السورية‮»‬،‭ ‬أي‭: ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭. ‬وتقسّم‭ ‬الرأي‭ ‬بينهم‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬هذا‭ ‬التجمع‭ ‬بين‭: ‬الأدبي،‭ ‬السياسي،‭ ‬الإصلاحي،‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وحتى‭ ‬العسكري‭. ‬يظهر‭ ‬الخلاف‭ ‬من‭ ‬تسميات‭ ‬التجمّع‭ ‬المزمع‭ ‬تأسيسه‭. ‬فتارة‭ ‬هو‭ ‬‮«‬جمعية‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نادٍ‭ ‬للكتاب‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أكاديمية‮»‬‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬طلب‭ ‬جبران‭. ‬وطرح‭ ‬آخرون‭: ‬‮«‬العُصبة‮»‬‭ ‬و«الجماعة‮»‬‭. ‬أخيراً،‭ ‬رسا‭ ‬الرأي‭ ‬على‭ ‬تسمية‭ ‬المولود‭ ‬بـ‭: ‬‮«‬الرابطة‭ ‬القلمية‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬نعيمة‭ ‬قد‭ ‬رغب‭ ‬في‭ ‬تسميتها‭ ‬‮«‬النقابة‮»‬،‭ ‬وكتب‭ ‬لها‭ ‬دستوراً‭ ‬واختار‭ ‬جريدة‭ ‬السائح‭ ‬النيويوركية‭ ‬لصاحبها‭ ‬عضو‭ ‬الرابطة‭ ‬عبدالمسيح‭ ‬حداد،‭ ‬مطالباً‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الجريدة‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬‮«‬النقابة‮»‬،‭ ‬باعتبار‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬لابد‭ ‬لكل‭ ‬ثورة‭ ‬من‭ ‬بوق‭ ‬يذيع‭ ‬أهدافها‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬عمر‮»‬‭.‬

ولكن،‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬الصورة‭ ‬النهائية‭ ‬لمكوّنات‭ ‬فكر‭ ‬أعضاء‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬عام‭ ‬1920،‭ ‬وهو‭ ‬عام‭ ‬التأسيس،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يلتحق‭ ‬الأديب‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬بعضوية‭ ‬الهيئة‭ ‬التأسيسية،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬حضر‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الاجتماعات‭ ‬التمهيدية‭ ‬قبل‭ ‬إعلان‭ ‬الرابطة‭ ‬بتشكيلة‭ ‬أعضائها‭ ‬العشرة‭. ‬نقول‭:‬

كان‭ ‬الريحاني‭ ‬يعمل‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الستار‭ ‬عميلاً‭ ‬لحساب‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رحّالة‭ ‬يتجوّل‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الغربية‭ ‬والشرقية‭ ‬متصلاً‭ ‬بالجاليات‭ ‬العربية‭ ‬وبخاصة‭ ‬جالية‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭. ‬وكان‭ ‬كثير‭ ‬الأسفار‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬النفط،‭ ‬كالمكسيك‭ ‬وأمريكا‭ ‬الوسطى‭ (‬وفيهما‭ ‬جاليات‭ ‬عربية‭)‬،‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭. ‬وكان‭ ‬تمويل‭ ‬رحلاته‭ ‬الكثيرة‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬ومن‭ ‬لوبي‭ ‬النفط‭. ‬هذا‭ ‬اقتضى‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يصرف‭ ‬فكره‭ ‬كلية‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬طيف‭ ‬سياسي‭ ‬اشتراكي‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬يساري‭. ‬لا،‭ ‬بل‭ ‬ألف‭ ‬الريحاني‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬كتيباً‭ ‬هاجم‭ ‬فيه‭ ‬الفكر‭ ‬الماركسي‭ ‬اللينيني‭ ‬ونعته‭ ‬بأبشع‭ ‬النعوت،‭ ‬وحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالانهيار‭ ‬القريب‭. ‬حمل‭ ‬الكتيب‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭:‬
The Descent of Bolsghevism،‭ (‬انحطاط‭/‬انحدار‭/‬تدهور‭ ‬البلشفية‭). ‬بالطبع،‭ ‬كان‭ ‬مضمون‭ ‬الكتاب‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬حملة‭ ‬الحكومة‭ ‬الفيدرالية‭ ‬على‭ ‬البلاشفة‭ ‬وعلى‭ ‬الشيوعية‭ ‬والشيوعيين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬وصفناه‭ ‬قبل‭ ‬فقرات‭. ‬ولم‭ ‬يقصد‭ ‬الريحاني‭ ‬بنشر‭ ‬الكتاب‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬أبناء‭ ‬الجالية‭ ‬العرب‭ ‬كي‭ ‬يقرأوه،‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬استرضاء‭ ‬لوزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬وخدمة‭ ‬للوبي‭ ‬النفط‭. ‬هذا‭ ‬أكبر‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬اختبائه‭ ‬خلف‭ ‬ستار‭: ‬معاداة‭ ‬البلشفية‭. ‬وما‭ ‬صدور‭ ‬كتابه‭ ‬بالذات‭ ‬عام‭ ‬1920،‭ ‬وهو‭ ‬عام‭ ‬إشهار‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية،‭ ‬إلا‭ ‬إعلان‭ ‬إنكاره‭ ‬لأي‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالفكر‭ ‬البلشفي‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬أعضاء‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬كانوا‭ ‬يحملونه‭. ‬وبعكس‭ ‬ذلك‭ ‬تماماً،‭ ‬كان‭ ‬الريحاني‭ ‬متحمساً‭ ‬أشد‭ ‬الحماس‭ ‬لإعلان‭ ‬هذا‭ ‬التجمّع‭ (‬أي‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭) ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬الفيلق‭ ‬السوري‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬أن‭ ‬يتشكّل‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬السوريين‭ ‬ويعمل‭ ‬تحت‭ ‬إمرة‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬ليحرر‭ ‬سورية‭ (‬أي‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭) ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬العثماني‭! ‬ويوثّق‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬عمر‮»‬‭ ‬عنف‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬اجتماع‭ ‬الريحاني‭ ‬الأخير‭ ‬بأعضاء‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية،‭ ‬حين‭ ‬انقضّ‭ ‬جبران‭ (‬رئيس‭ ‬الرابطة‭) ‬على‭ ‬الريحاني‭ ‬يبغي‭ ‬تهشيم‭ ‬جمجمته‭ ‬بعصاه‭ ‬الغليظة،‭ ‬فاكتفى‭ ‬الريحاني‭ ‬المنبوذ‭ ‬بالانفصال‭ ‬عنهم‭ ‬ولم‭ ‬يشِ‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬السلطات،‭ ‬لعل‭ ‬ذلك‭ ‬كرمى‭ ‬للصداقات‭ ‬القديمة‭.‬

 

‮«‬أنطولوجيا‮»‬‭ ‬جامعة

وبعد‭ ‬انتظام‭ ‬الكتابة‭ ‬والنشر‭ ‬وإلقاء‭ ‬الكلمات‭ ‬والقصائد‭ ‬في‭ ‬محافل‭ ‬الجالية‭ ‬ومنتدياتها،‭ ‬وجد‭ ‬الرابطيون‭ ‬أن‭ ‬لديهم‭ ‬نتاجاً‭ ‬وافراً‭ ‬فارتأوا‭ ‬أن‭ ‬يصدروا‭ ‬‮«‬أنطولوجيا‮»‬‭ ‬احتفالية‭ ‬بمرور‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬إشهار‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية،‭ ‬وأملاً‭ ‬في‭ ‬جني‭ ‬بعض‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬بيعه‭ ‬لدعم‭ ‬نشاطات‭ ‬الرابطة‭.‬

جمعوا‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬أنتجوه‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬سابقة‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬كتبوه‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬التأسيس‭. ‬وعمدوا‭ ‬إلى‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬مجلد‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬مجموعة‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬لسنة‭ ‬1921‮»‬‭. ‬احتوت‭ ‬المجموعة‭ ‬نصاً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬والمقالة‭. ‬وقد‭ ‬طفحت‭ ‬نصوصها‭ ‬بألوان‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭. ‬ونستعرض‭ ‬في‭ ‬السطور‭ ‬التالية‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القطع‭ ‬للتمثيل‭ ‬وليس‭ ‬الحصر‭.‬

يصف‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬‮«‬ليل‭ ‬وصباح‮»‬‭ ‬عيش‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬الكوابيس‭ ‬وظلم‭ ‬الأشباح،‭ ‬ليأتي‭ ‬بعده‭ ‬‮«‬صباح‮»‬‭. ‬لاحظ‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬‮«‬نهار‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬النهار‭ ‬عكس‭ ‬ليل‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬بصباح‭ ‬رمز‭ ‬الانطلاق‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬الجديد‭. ‬وأقصوصة‭ ‬جبران‭: ‬‮«‬البنفسجة‭ ‬الطموح‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الزهرة‭ ‬المتشامخة‭ ‬تبغي‭ ‬تقليد‭ ‬الورد،‭ ‬ملوك‭ ‬الأعالي،‭ ‬فتترك‭ ‬الالتصاق‭ ‬بأخواتها‭ ‬في‭ ‬التراب،‭ ‬ولكن‭ ‬تأتي‭ ‬العاصفة‭ ‬وتحطّمها‭. ‬والرمز‭ ‬هنا‭ ‬واضح‭: ‬احتقار‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬والعطف‭ ‬على‭ ‬الفقراء‭ ‬والطبقات‭ ‬الدنيا‭/‬البنفسجات‭: ‬‮«‬فهي‭ ‬جميلة‭ ‬طيبة‭ ‬العُرف‭ ‬دائمة‭ ‬الفرح‭ ‬بين‭ ‬قامات‭ ‬الأعشاب‮»‬‭. ‬ونصّ‭: ‬‮«‬العاصفة‮»‬‭ ‬لجبران،‭ ‬قصة‭ ‬سردية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬رواية‭ ‬يحكي‭ ‬معاناة‭ ‬يوسف‭ ‬الفخري‭ ‬في‭ ‬صومعته‭ ‬حيث‭ ‬اعتزل‭ ‬العالم‭. ‬وخلال‭ ‬عاصفة‭ ‬التجأ‭ ‬الراوية‭ (‬أي‭: ‬جبران‭) ‬ضيفاً‭ ‬على‭ ‬الصومعة‭. ‬وتمثّل‭ ‬القصة‭ ‬رحلة‭ ‬الكاتب‭ ‬الثوري‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬نفسه‭ ‬ليصل‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة‭ ‬المتقدة‭ ‬بجمرة‭ ‬معرفة‭ ‬الصراع،‭ ‬فيصبح‭ ‬الراوي‭ ‬ثورة‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭. ‬وفيها‭ ‬يُدخل‭ ‬جبران‭ ‬عنصر‭ ‬الطيور‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬العاصفة‭ ‬بغضب‭ ‬وجرأة‭ ‬فترميها‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬الصخور،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬ساكن‭ ‬الصومعة‭ ‬الناسك‭ ‬الذي‭ ‬يلتقط‭ ‬المصابين‭ ‬ويضمّد‭ ‬جراحهم‭. ‬ورموز‭ ‬الصومعة‭ ‬والناسك‭ ‬والعاصفة‭ ‬والطيور‭ ‬لا‭ ‬تخفى‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬قارئ‭ ‬بأنها‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬الأدب‭ ‬الواقعي‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الحاضّ‭ ‬على‭ ‬الثورة‭.‬

وتضمّ‭ ‬المجموعة‭ ‬قصة‭: ‬‮«‬من‭ ‬مذكرات‭ ‬الأرقش‮»‬‭ ‬لميخائيل‭ ‬نعيمة،‭ ‬وكأنها‭ ‬بيان‭ ‬شيوعي‭ ‬يفضح‭ ‬مساوئ‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي‭. ‬زعم‭ ‬نعيمة‭ ‬أنه‭ ‬كتبها‭ ‬حقيقة‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬مذكرت‭ ‬نادل‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬يعمل‭ ‬بلا‭ ‬أجر‭ ‬عند‭ ‬القهوجي‭ ‬المستغلّ‭. ‬سجّل‭ ‬الأرقش‭ ‬فيها‭ ‬قساوة‭ ‬ظلم‭ ‬الغني‭ ‬على‭ ‬الفقير،‭ ‬وانتقد‭ ‬عبادة‭ ‬المال‭ ‬وجشع‭ ‬التاجر‭ ‬وسرقته‭ ‬مال‭ ‬المشتري‭ ‬الفقير‭ ‬المسكين‭ ‬برفع‭ ‬الأسعار‭ ‬واحتكار‭ ‬المواد‭ ‬التموينية‭. ‬ومن‭ ‬مشاهدها‭ ‬المفجعة‭ ‬المخيفة‭ ‬موقف‭ ‬تصوير‭ ‬القط‭ ‬الضخم‭ ‬الشرس‭ ‬يلقم‭ ‬الجرذ‭ ‬الأعزل‭ ‬ولا‭ ‬يبتلعه،‭ ‬بينما‭ ‬الأرقش‭ ‬يجلس‭ ‬متفرجاً‭ ‬ولا‭ ‬يتحرك‭ ‬لينقذ‭ ‬الضحية‭. ‬أحداث‭ ‬مذكرات‭ ‬الأرقش‭ ‬تكاد‭ ‬تطابق‭ ‬مشاهد‭ ‬قصص‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركي‭ ‬المسماة‭ ‬المنبوذون‭: ‬The Hoboes،‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬جزأين‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

أكثر‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬صراحة‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬مفاهيم‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬والمادية‭ ‬الديالكتيكية‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬وديع‭ ‬باحوط‭: ‬‮«‬البرغشة‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬سردية‭ ‬تنقل‭ ‬حواراً‭ ‬لا‭ ‬ينقطع‭ ‬عن‭ ‬العقائد‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬البرغشة‭ ‬والإنسان‭ ‬الذي‭ ‬حوّله‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬برغشة‭ ‬رأسمالية‭. ‬ويتنقّل‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المستنقعات‭ ‬موطن‭ ‬البرغش‭ ‬ومستنقعات‭ ‬الظلم‭ ‬والبطش‭ ‬بالفقراء،‭ ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬البشر‭. ‬وتشرح‭ ‬البرغشة‭ ‬الماركسية‭ ‬لـ«البرغشة‭ ‬الإنسان‮»‬‭ ‬مفاهيم‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬والمادية‭ ‬الديالكتيكية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬الفكر‭ ‬الشيوعي‭.‬

ونجد‭ ‬المباشرة‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬تفهيم‭ ‬القارئ‭ ‬بمبادئ‭ ‬الشيوعية‭ (‬ولكن‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حجاب‭) ‬في‭ ‬قصة‭ ‬خيالية‭: ‬‮«‬البترون‭ ‬عام‭ ‬2520‮»‬،‭ ‬لوليم‭ ‬كاتسفليس‭ ‬عضو‭ ‬الرابطة‭. ‬وخلاصتها‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬أوجد‭ ‬‮«‬مذهب‭ ‬البلشفية‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الإخاء‭ ‬العمومي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الشيوعي،‭ ‬قبل‭ ‬ستمائة‭ ‬سنة،‭ ‬‮«‬فصارت‭ ‬العقول‭ ‬تتمخض‭ ‬به‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬حتى‭ ‬ولدته‭ ‬كاملاً‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2520‭ ‬أي‭ ‬بدأ‭ ‬عام‭ ‬1920‭ ‬واكتمل‭ ‬في‭ ‬2520‭!‬

 

أفكار‭ ‬تحت‭ ‬مساحيق‭ ‬التجميل

ويتجلى‭ ‬أسلوب‭ ‬الرابطيين‭ ‬في‭ ‬بثّ‭ ‬أفكارهم‭ ‬السياسية‭ ‬تحت‭ ‬‮«‬مساحيق‭ ‬التجميل‮»‬‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬إيليا‭ ‬أبوماضي‭: ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬ومطلعها‭: ‬‮«‬أيهذا‭ ‬الشاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داء‭...‬‮»‬،‭ ‬يخاطب‭ ‬فيها‭ ‬قارئه‭ ‬المستهدف‭ ‬بنشر‭ ‬فكره‭ ‬السياسي‭ ‬فيصوّره‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الطيور‭ ‬اللاهية‭ ‬عمّا‭ ‬يدور‭ ‬حولها،‭ ‬ويعطي‭ ‬الشاعر‭ ‬جبابرة‭ ‬الحكم‭ ‬الرأسمالي‭ ‬صفة‭ ‬الصقر‭ ‬ورجال‭ ‬المال،‭ ‬والتجّار‭ ‬هم‭ ‬الصيادون‭ ‬فيقول‭ ‬عن‭ ‬العصافير‭:‬

تتغنّى،‭ ‬والصقر‭ ‬قد‭ ‬مَلَكَ‭ ‬الجو

وَعليها‭ ‬والصائدون‭ ‬السبيلا

تتغنى،‭ ‬وقد‭ ‬رأت‭ ‬بعضَها‭ ‬يؤْ

خَذُ‭ ‬حيّاً‭ ‬وبعضها‭ ‬يقضي‭ ‬قتيلا

ويختم‭ ‬نقاشه‭ ‬السياسي‭ ‬بدعوة‭ ‬الطيور‭ ‬أن‭ ‬تسلك‭ ‬طريق‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬البسيطة‭ ‬غير‭ ‬المعقدة،‭ ‬وهي‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬أجواء‭ ‬الصقر‭ ‬والصيادين‭ ‬إلى‭ ‬الروابي،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬طيور‭ ‬الروابي‮»‬‭ ‬أدركت‭ ‬مفهوم‭ ‬فلسفة‭ ‬الشاعر‭:‬

أدركت‭ ‬كُنهها‭ ‬طيور‭ ‬الروابي

فمِن‭ ‬العار‭ ‬أن‭ ‬تظلّ‭ ‬جهولا

ولا‭ ‬يحسب‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الحيوي‭ ‬الاشتراكي‭ ‬مرّ‭ ‬بسلام‭. ‬فما‭ ‬عتم‭ ‬الجو‭ ‬النضالي‭ ‬بين‭ ‬الطرفَين‭ ‬حتى‭ ‬جنح‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الرسمية‭.‬‭ ‬وزادت‭ ‬تشريعات‭ ‬تحريم‭ ‬أي‭ ‬تجمع‭ ‬شيوعي‭ ‬في‭ ‬نار‭ ‬قبضة‭ ‬الدولة‭ ‬الحديدية‭. ‬وضاقت‭ ‬مساحات‭ ‬الحرية‭ ‬حتى‭ ‬غدت‭ ‬الأرض‭ ‬سجناً‭ ‬مخيفاً‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬اليسار‭ ‬الاشتراكي‭. ‬وبإتمام‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬عامها‭ ‬الثاني،‭ ‬تقلّصت‭ ‬نشاطاتها‭ ‬وانكمشت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬مأمولها‭ ‬بتثوير‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬بين‭ ‬قُرّائها‭ ‬ممكناً‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬أقلامهم‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬سابقه،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬جبران‭ ‬نفسه‭ ‬اكتفى‭ ‬من‭ ‬التأليف‭ ‬باستخدام‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ (‬نشر‭ ‬كتابه‭ ‬النبي‭ ‬عام‭ ‬1925‭)‬،‭ ‬وانفضّ‭ ‬السامر،‭ ‬وتفرق‭ ‬القوم‭ ‬أياديَ‭ ‬سبأ،‭ ‬وشحّ‭ ‬الموسم‭ ‬السياسي‭ ‬الاشتراكي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الثوريين‭ ‬عرباً‭ ‬وغير‭ ‬عرب‭. ‬وهكذا‭ ‬طُويت‭ ‬صفحة‭ ‬الفزع‭ ‬الأحمر‭ ‬الكبير،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬التالية‭ ‬لهذا‭ ‬الانعطاف‭ ‬كانت‭ ‬سنوات‭ ‬انهيار‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأمريكي‭ (‬1923‭-‬1932‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬أخصب‭ ‬مرتع‭ ‬للشيوعية،‭ ‬لكن‭ ‬كانت‭ ‬الحكومة‭ ‬الفيدرالية‭ ‬واليعاسيب‭ ‬يقفون‭ ‬بالمرصاد‭ ‬للحمر‭ ‬الشيوعيين‭. ‬ولعل‭ ‬آخر‭ ‬نفَس‭ ‬‮«‬اشتراكي‭/‬شيوعي‮»‬‭ ‬نفثه‭ ‬كُتّاب‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭: ‬‮«‬ساعة‭ ‬الكوكو‮»‬‭ ‬المؤرخة‭ ‬عام‭ ‬1925‭ ‬والمنشورة‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭: ‬كان‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬ففيها‭ ‬نقد‭ ‬حادّ‭ ‬للمجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬وما‭ ‬آل‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬انتصار‭ ‬خطة‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الشيوعية‭.‬‭ ‬لخّص‭ ‬نعيمة‭ ‬في‭ ‬عبارة‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬وهو‭ ‬مجتمع‭ ‬السعي‭ ‬وراء‭ ‬الريال‭/‬الدولار‭: ‬‮«‬فمن‭ ‬لا‭ ‬يقاتل‭ ‬تدوسه‭ ‬الأرجل،‭ ‬ومن‭ ‬يقاتل‭ ‬يصبح‭ ‬لا‭ ‬همّ‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬جمع‭ ‬الثروة‭ ‬وتكديسها،‭ ‬فالمال‭ ‬يجذب‭ ‬المال‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬العقود‭ ‬التالية،‭ ‬حرصت‭ ‬آلات‭ ‬الدعاية‭ ‬الرسمية‭ ‬والشعبية‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬تغير‭ ‬المفهوم‭ ‬السائد‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬العشرينيات،‭ ‬سنوات‭ ‬مصادرة‭ ‬الحريات‭ ‬الشخصية‭ ‬والقمع‭ ‬وانتصار‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬فأضحت‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬الدولة‭ ‬واليعاسيب‭ ‬سنوات‭ ‬الصخب‭ ‬والموسيقى‭ ‬واللهو‭ ‬والانشراح،‭ ‬وسمّوها‭ ‬بعبارة‭: ‬The roaring twenties‭. ‬وفي‭ ‬المقلب‭ ‬الآخر،‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬علت‭ ‬أصوات‭ ‬عربية‭ ‬لكُتّاب‭ ‬ودارسين‭ ‬وباحثين‭ (‬أمثال‭ ‬وديع‭ ‬ديب‭: ‬1945،‭ ‬إحسان‭ ‬عباس‭: ‬1957‭)‬،‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬أدب‭ ‬المهجريين‭ ‬تأثر‭ ‬بآداب‭ ‬الأمريكيين،‭ ‬وبالذات‭ ‬أدب‭ ‬الرومنطيقيين،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬ويتمان‭ ‬وإمرسون‭. ‬والهدف‭ - ‬بالطبع‭ - ‬نفي‭ ‬‮«‬تهمة‮»‬‭ ‬البلشفية‭ ‬عنهم‭. ‬وكثر‭ ‬القائلون‭ ‬بتأثّر‭ ‬الأدب‭ ‬المهجري‭ ‬بالرومنطيقية‭ ‬الأمريكية‭ ‬المثالية‭ ‬Transcendentalism‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬أن‭ ‬تمحو‭ ‬صبغة‭ ‬أدبهم‭ ‬الثورية‭ ‬الأولى‭.‬

أما‭ ‬الشاعر‭ ‬المهجري،‭ ‬جورج‭ ‬صيدح،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬مرارة‭ ‬آلام‭ ‬حقبة‭ ‬الفزع‭ ‬الأحمر‭ ‬الكبير‭ ‬وسنوات‭ ‬قمعها‭ ‬التي‭ ‬تلت،‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭: ‬‮«‬أدبنا‭ ‬وأدباؤنا‭ ‬في‭ ‬المهاجر‭ ‬الأمريكية‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬وذلك‭ ‬تعقيباً‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬ادّعى‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬أن‭ ‬أدباء‭ ‬المهجر‭ ‬كانوا‭ ‬يتّبعون‭ ‬أدب‭ ‬الحركة‭ ‬الرومنطيقية‭ ‬الأمريكية‭:‬

‮«‬أدب‭ ‬المهجريين‭ ‬ليس‭ ‬ثمرة‭ ‬انتقالهم‭ ‬إلى‭ ‬المحيط‭ ‬الأمريكي،‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬المُيسّرات‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬المعسّرات،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬وليد‭ ‬أدب‭ ‬الغرب‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يقرأوه‭...‬‮»‬‭ ‬