جماعة «الرابطة القلمية» في نيويورك
«الرابطة القلمية» جماعة أدبية اقتصرت على عشرة كتّاب لمدة اثني عشر عاماً ثم اندثرت، ولعل اسم الرابطة لم ينتشر كثيراً لأسباب عدة، بينها أنهم عُرفوا بـ: «أدباء المهجر»، وهم: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبوماضي، ونسيب عريضة، ورشيد أيوب، وندرة حداد، وأخوه عبدالمسيح حداد، وثلاثة آخرون ظلوا أعضاء في الظل، وجميعهم من سورية ولبنان.
لقد اتفق كبار النقّاد على أن الأديب ينطلق من مواقفه السياسية - الاجتماعية، ويعبّر عن ذلك بإنتاجه الأدبي، فيكون مرآة تعكس عصره. ومن هنا يحق لنا أن نسأل:
ما علاقة فكر أعضاء الرابطة القلمية السياسي - الاجتماعي ونهجهم الأدبي، بالفكر الاشتراكي، الشيوعي المنتشر في الولايات المتحدة الأمريكية عند تأسيس هذه الجماعة؟
نسأل ذلك لأن الفترة التي شهدت تأسيس الرابطة شهدت ذروة احتدام الصراع بين قوى الاشتراكيين الأمريكيين من جهة، والحكومة الرأسمالية الفيدرالية من جهة أخرى، وهي عقود من السنين (1890-1930) وُصفت بحقبة: الفزع الأحمر الكبير The Great Red Scare.
تعود بداية حكاية الرابطة إلى أواسط الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، أي في قمة حقبة الفزع الأحمر الكبير، وفي نيويورك بالذات، حول مجلة تصدر بـ«العربية»، كانت أوضاعها المالية متعثرة اسمها: «الفنون»، صاحبها ورئيس تحريرها الشاعر السوري نسيب عريضة. أما إشارة انطلاق أحداث الحكاية فكانت لقاء الفنان والأديب جبران خليل جبران المنتقل من مدينة بوسطن إلى نيويورك بطلب من صديقه الحميم أمين الريحاني، ليعمل رساماً في محترف خاص به، أقول: إن شرارة الانطلاق كانت لقاء الفنان جبران بالمحامي الكاتب ميخائيل نعيمة المنتقل من بلدة ولاولا في ولاية واشنطن غرب الولايات المتحدة إلى نيويورك، ليعمل مترجماً في المكتب التجاري العسكري الروسي القيصري. هذه المعلومة الأخيرة وردت في مذكرات نعيمة «حكاية عمر» المنشورة في بيروت عام 1959. يكتب نعيمة أن المكتب الروسي هذا كان يتعاقد مع مصانع الأسلحة الأمريكية لتوريد السلاح للجيش الروسي القيصري خلال الحرب العالمية الأولى. وسبب اشتغال نعيمة في هذا المكتب له خلفيّتان: الأولى معرفة نعيمة المعمّقة باللغة الروسية، لأنه درس في روسيا بين عامي 1908 و1911، ليصبح كاهناً أرثوذكسياً، وهي فترة كان فيها النضال الماركسي/اللينيني في روسيا ضد الملكية القيصرية ملتهباً. والخلفية الثانية هي دراسته القانون باللغة الإنجليزية في جامعة ولاولا (1912-1915)، حيث كان أخوه الأكبر مهاجراً يعيش هناك.
لنرجع بالزمن قليلاً إلى الوراء. فقد قدِم المهاجرون إلى الولايات المتحدة بأعداد غفيرة، عندما بدأت الجمهورية الأمريكية نقلتها النوعية الثانية من جمهورية الوفر الغذائي إلى جمهورية التصنيع الثقيل مع المحافظة على مكاسب نجاحات الأولى. فكانت الحاجة ماسّة إلى اليد العاملة الرخيصة. هنا، فتحت الدولة أبواب الهجرة على مصاريعها وبلا تحفظ، متجاوزة تشريعات الحدّ من هجرة الصينيين والكاثوليك التي كانت قائمة قبل عام 1890. وتدفّقت جموع المهاجرين وبلا تحفّظ حتى فاقت أعدادهم ما كان في الولايات المتحدة الأمريكية من المواطنين (12.5 مليوناً للمهاجرين الجدد بمقابل 11.5 مليوناً للمواطنين الأمريكيين)، الأمر الذي يثير الفزع حقاً! تشير كتب تأريخ هذه الحقبة إلى أن المهاجرين الجدد كانوا من بلاد غير بلاد المواطنين الأمريكيين الذين كانت أغلبيتهم الساحقة من البروتستانت الأنجلو سكسونيين، وهم ما أطلق عليهم لقب يعاسيب (مفردها يعسوب wasp وهي ملكة النحل)، وهي المفردة المكوّنة من الأحرف الأولى في العبارة الإنجليزية White Anglo Saxon Protestant.
آثار الزحف الهجين
وخشيت الإدارة الحاكمة من هذا الخطر، فشكلت لجنة عُليا لدراسة آثار الزحف الهجين المُفزع، وتوصّلت إلى أنه لا يمكن دمج هذه الملايين الغريبة بالمجتمع (لجنة درنجهام/1907)، فضيّقت الدولة على المهاجرين، مما اضطرهم إلى العيش في أحقر شوارع «بلاد الوفر الغذائي والتصنيع الثقيل»، وتحت ظروف مذلة من العوز والاضطهاد. ولكن أكثر ما أثار خوف المواطنين الأمريكيين من قطعان هؤلاء الدهماء، أن كثيراً منهم كان مشبعاً بالتعبئة السياسية الحاقدة على طبقات المجتمع المتنعّمة. فقد سبق أن ضخّ فلسفة الصراع الطبقي في عقول المهاجرين الجدد، وشحن صدورهم بالضغينة، قياديو الحركات اليسارية والاشتراكية والشيوعية في بلدانهم الأوربية والروسية والشرق أوسطية.
وتتفاقم أوضاع المهاجرين الجدد بين المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بشكل عنيف جداً. وسادت أجواء خانقة من القمع. فقد وُوجه المهاجرون باتهامات واسعة الانتشار أن تأثيراتهم السلبية هي مصدر إفساد دائم للمجتمع الأمريكي. وأصبح الأمريكيون مقتنعين بأنهم في حاجة ماسّة إلى حماية تقيهم شرّ طوقان الكاثوليك واليهود وأشباههم من الغرباء. ووُجهّت إلى المهاجرين الجدد تهمة العمل على تهديم الجمهورية بإغراق سوق العمل باليد الرخيصة والتسبب في انخفاض مستوى المعيشة.
وتحصّن مجتمع اليعاسيب WASP ضد العقائد الشيوعية، من خلال القوانين، وبالذات عندما نشبت الحرب العالمية الأولى في أوربا أولاً عام 1914. كان أهم تشريعين للوقوف في وجه المدّ الشيوعي المنظّم، هما: قانون مكافحة التجسّس Espionage Act، وقانون مكافحة «التحريض على الفتنة» Section Act.
وتعالت صرخات اليعاسيب مطالبة بتنظيم ثورة مضادة لتكسح هذا المد الشيوعي. ونشأت جمعيات وروابط وتكتلات سرية وعلنية أسماؤها تدل على مضامينها: حماية الديار Vigilante، الوطنيون Patriots، كشّافة الجواسيس الأمريكية والجامعة الوطنية للأمن، جمعية الدفاع الأمريكية، وغيرها كثير. وانضوت تحت ألويتها جماعات وعصابات وزُمَر من المواطنين اليعاسيب مكوّنة من رجال أعمال، وأطباء، ومهندسين، وفنّيين، وقساوسة، وطلبة جامعات، وكبار رجال شرطة بثياب مدنية. ولم يكن الشيوعيون وحلفاؤهم الاشتراكيون راكدين، بل نظموا الإضرابات العارمة عبر نقابات العمال التي سيطروا عليها واتخذوا لها مسرحاً في مناجم الفحم ومصانع الحديد والصلب وخطوط السكك الحديدية. وشاركوا في الانتخابات البلدية وسيطروا عام 1917 على 200 مجلس بلدي في شرق الولايات المتحدة ووسطها.
الوجه الشرس
وزاد الطين بِلّة في أكتوبر 1917 انتصار الثورة البلشفية في روسيا. وكان من بين زعمائها في روسيا شيوعيان أمريكيان كانا صديقين شخصيين حميمين للزعيم لينين، هما: جون ريد وليون تروتسكي، فازداد الفزع الأمريكي الرسمي من هذا التقدم السياسي الأحمر. هنا، سفرت الدولة عن وجهها الشرس بزعامة جورج كريل George Creel، وأسند مجلس الشيوخ إليه مهمة قيادة «لجنة التوجيه المعنوي العام»، وكانت مهماته المكلف بها:
تحري الرأي العام وتوجيهه لدعم الحرب العالمية في أوربا، وتنسيق المجهود الحربي الوطني ومكافحة الشيوعية، وتعقّب الخارجين عن خطوط العُرف العام، ومعاقبتهم.
بكلمة أخرى: قامت لجنة كريل هذه بمصادرة الحريات الشخصية جميعاً التي نصّت عليها مواثيق 1776 ووعود الآباء المؤسسين وضمنتها وثيقة الاستقلال وكرّر الدستور ضمانها. وأعلنت لجنة كريل برنامجها من الممنوعات وأهمها معاقبة كل من:
يقول أو يَنْبسُ، ويلمح، ويكتب أو ينشر، أي كلام يُشتمُّ منه عدم الولاء، والتدنيس، والسفه أو البذاءة، والشتم أو القذف، وفي أي صيغة كانت، عن أي هيئة أو شكل من أشكال حكومة الولايات المتحدة، أو الزي العسكري للجيش والبحرية.
في هذا الجو المسموم بثورة الرأسماليين المضادة للحركات الشيوعية والاشتراكية في الولايات المتحدة، شُرّعت عقوبات صارمة للممنوعات السابقة الذكر كان متوسطها يصل إلى غرامة عشرة آلاف دولار مع السجن عشرين عاماً ثم الترحيل إلى وطن المحكوم الأصلي. بلغت هذه الثورة المضادة ذروتها في عام 1918.
خلاف التسميات
وسط هذا الهيجان السياسي، تمخّضت لقاءات أدباء المهجر عن الحاجة إلى تجمّع نخبة من أبناء الجالية «السورية»، أي: من المهاجرين من بلاد الشام. وتقسّم الرأي بينهم حول ماهية هذا التجمع بين: الأدبي، السياسي، الإصلاحي، الاجتماعي، وحتى العسكري. يظهر الخلاف من تسميات التجمّع المزمع تأسيسه. فتارة هو «جمعية»، أو «نادٍ للكتاب»، أو «أكاديمية» وفق ما طلب جبران. وطرح آخرون: «العُصبة» و«الجماعة». أخيراً، رسا الرأي على تسمية المولود بـ: «الرابطة القلمية». وكان نعيمة قد رغب في تسميتها «النقابة»، وكتب لها دستوراً واختار جريدة السائح النيويوركية لصاحبها عضو الرابطة عبدالمسيح حداد، مطالباً بأن تكون هذه الجريدة لسان حال «النقابة»، باعتبار أنه «لابد لكل ثورة من بوق يذيع أهدافها»، كما كتب نعيمة في مذكراته «حكاية عمر».
ولكن، لا تكتمل الصورة النهائية لمكوّنات فكر أعضاء الرابطة القلمية الاجتماعي والسياسي عام 1920، وهو عام التأسيس، قبل أن نعرف لماذا لم يلتحق الأديب أمين الريحاني بعضوية الهيئة التأسيسية، مع أنه حضر عديداً من الاجتماعات التمهيدية قبل إعلان الرابطة بتشكيلة أعضائها العشرة. نقول:
كان الريحاني يعمل من وراء الستار عميلاً لحساب وزارة الخارجية الأمريكية على شكل رحّالة يتجوّل في البلدان الغربية والشرقية متصلاً بالجاليات العربية وبخاصة جالية بلاد الشام. وكان كثير الأسفار إلى المناطق التي كان يظهر فيها النفط، كالمكسيك وأمريكا الوسطى (وفيهما جاليات عربية)، والخليج العربي. وكان تمويل رحلاته الكثيرة من مصادر وزارة الخارجية ومن لوبي النفط. هذا اقتضى منه أن يصرف فكره كلية عن أي طيف سياسي اشتراكي أو حتى يساري. لا، بل ألف الريحاني بالإنجليزية كتيباً هاجم فيه الفكر الماركسي اللينيني ونعته بأبشع النعوت، وحكم عليه بالانهيار القريب. حمل الكتيب هذا العنوان:
The Descent of Bolsghevism، (انحطاط/انحدار/تدهور البلشفية). بالطبع، كان مضمون الكتاب يتماهى مع حملة الحكومة الفيدرالية على البلاشفة وعلى الشيوعية والشيوعيين، وهو ما وصفناه قبل فقرات. ولم يقصد الريحاني بنشر الكتاب بالإنجليزية أبناء الجالية العرب كي يقرأوه، ولكن كان استرضاء لوزارة الخارجية الأمريكية وخدمة للوبي النفط. هذا أكبر دليل على اختبائه خلف ستار: معاداة البلشفية. وما صدور كتابه بالذات عام 1920، وهو عام إشهار الرابطة القلمية، إلا إعلان إنكاره لأي علاقة له بالفكر البلشفي وهو يعرف أن أعضاء الرابطة القلمية كانوا يحملونه. وبعكس ذلك تماماً، كان الريحاني متحمساً أشد الحماس لإعلان هذا التجمّع (أي الرابطة القلمية) على أنه «الفيلق السوري» الذي أراده أن يتشكّل من المهاجرين السوريين ويعمل تحت إمرة الجيش الأمريكي ليحرر سورية (أي بلاد الشام) من الحكم العثماني! ويوثّق ميخائيل نعيمة في كتابه «حكاية عمر» عنف المشهد في اجتماع الريحاني الأخير بأعضاء الرابطة القلمية، حين انقضّ جبران (رئيس الرابطة) على الريحاني يبغي تهشيم جمجمته بعصاه الغليظة، فاكتفى الريحاني المنبوذ بالانفصال عنهم ولم يشِ بهم إلى السلطات، لعل ذلك كرمى للصداقات القديمة.
«أنطولوجيا» جامعة
وبعد انتظام الكتابة والنشر وإلقاء الكلمات والقصائد في محافل الجالية ومنتدياتها، وجد الرابطيون أن لديهم نتاجاً وافراً فارتأوا أن يصدروا «أنطولوجيا» احتفالية بمرور عام على إشهار الرابطة القلمية، وأملاً في جني بعض المال من بيعه لدعم نشاطات الرابطة.
جمعوا أفضل ما أنتجوه في سنوات سابقة مع ما كتبوه في أول عام من التأسيس. وعمدوا إلى نشره في مجلد بعنوان: «مجموعة الرابطة القلمية لسنة 1921». احتوت المجموعة نصاً من الشعر والقصة والمقالة. وقد طفحت نصوصها بألوان الواقعية الاشتراكية. ونستعرض في السطور التالية بعضاً من تلك القطع للتمثيل وليس الحصر.
يصف جبران في «ليل وصباح» عيش الفقراء في ليل الكوابيس وظلم الأشباح، ليأتي بعده «صباح». لاحظ أنه لم يقل «نهار»، لأن النهار عكس ليل بل جاء بصباح رمز الانطلاق في العيش الجديد. وأقصوصة جبران: «البنفسجة الطموح» هي الزهرة المتشامخة تبغي تقليد الورد، ملوك الأعالي، فتترك الالتصاق بأخواتها في التراب، ولكن تأتي العاصفة وتحطّمها. والرمز هنا واضح: احتقار الطبقات العليا والعطف على الفقراء والطبقات الدنيا/البنفسجات: «فهي جميلة طيبة العُرف دائمة الفرح بين قامات الأعشاب». ونصّ: «العاصفة» لجبران، قصة سردية على لسان رواية يحكي معاناة يوسف الفخري في صومعته حيث اعتزل العالم. وخلال عاصفة التجأ الراوية (أي: جبران) ضيفاً على الصومعة. وتمثّل القصة رحلة الكاتب الثوري إلى داخل نفسه ليصل فيها إلى الحياة الجديدة المتقدة بجمرة معرفة الصراع، فيصبح الراوي ثورة بحد ذاته. وفيها يُدخل جبران عنصر الطيور التي تواجه العاصفة بغضب وجرأة فترميها بشدة على الصخور، وهنا يأتي دور ساكن الصومعة الناسك الذي يلتقط المصابين ويضمّد جراحهم. ورموز الصومعة والناسك والعاصفة والطيور لا تخفى على أي قارئ بأنها من صنف الأدب الواقعي الاشتراكي الحاضّ على الثورة.
وتضمّ المجموعة قصة: «من مذكرات الأرقش» لميخائيل نعيمة، وكأنها بيان شيوعي يفضح مساوئ المجتمع الرأسمالي. زعم نعيمة أنه كتبها حقيقة من أوراق مذكرت نادل في مقهى يعمل بلا أجر عند القهوجي المستغلّ. سجّل الأرقش فيها قساوة ظلم الغني على الفقير، وانتقد عبادة المال وجشع التاجر وسرقته مال المشتري الفقير المسكين برفع الأسعار واحتكار المواد التموينية. ومن مشاهدها المفجعة المخيفة موقف تصوير القط الضخم الشرس يلقم الجرذ الأعزل ولا يبتلعه، بينما الأرقش يجلس متفرجاً ولا يتحرك لينقذ الضحية. أحداث مذكرات الأرقش تكاد تطابق مشاهد قصص مكسيم غوركي المسماة المنبوذون: The Hoboes، التي نشرت في جزأين أوائل القرن العشرين.
أكثر نصوص المجموعة صراحة في نقل مفاهيم الاشتراكية والصراع الطبقي والمادية الديالكتيكية جاءت في قصة وديع باحوط: «البرغشة». وهي عبارة عن سردية تنقل حواراً لا ينقطع عن العقائد السياسية بين البرغشة والإنسان الذي حوّله الكاتب في الحلم إلى برغشة رأسمالية. ويتنقّل الحوار في عالم المستنقعات موطن البرغش ومستنقعات الظلم والبطش بالفقراء، أي عالم البشر. وتشرح البرغشة الماركسية لـ«البرغشة الإنسان» مفاهيم الصراع الطبقي والمادية الديالكتيكية وغير ذلك من أسس الفكر الشيوعي.
ونجد المباشرة ذاتها في تفهيم القارئ بمبادئ الشيوعية (ولكن من وراء حجاب) في قصة خيالية: «البترون عام 2520»، لوليم كاتسفليس عضو الرابطة. وخلاصتها أن الإنسان أوجد «مذهب البلشفية الذي هو أقرب إلى الإخاء العمومي»، أي الفكر الاشتراكي الشيوعي، قبل ستمائة سنة، «فصارت العقول تتمخض به جيلاً بعد جيل حتى ولدته كاملاً» عام 2520 أي بدأ عام 1920 واكتمل في 2520!
أفكار تحت مساحيق التجميل
ويتجلى أسلوب الرابطيين في بثّ أفكارهم السياسية تحت «مساحيق التجميل» في قصيدة إيليا أبوماضي: «فلسفة الحياة» ومطلعها: «أيهذا الشاكي وما بك داء...»، يخاطب فيها قارئه المستهدف بنشر فكره السياسي فيصوّره واحداً من الطيور اللاهية عمّا يدور حولها، ويعطي الشاعر جبابرة الحكم الرأسمالي صفة الصقر ورجال المال، والتجّار هم الصيادون فيقول عن العصافير:
تتغنّى، والصقر قد مَلَكَ الجو
وَعليها والصائدون السبيلا
تتغنى، وقد رأت بعضَها يؤْ
خَذُ حيّاً وبعضها يقضي قتيلا
ويختم نقاشه السياسي بدعوة الطيور أن تسلك طريق الشاعر في «فلسفة الحياة» البسيطة غير المعقدة، وهي الخروج من أجواء الصقر والصيادين إلى الروابي، لأن «طيور الروابي» أدركت مفهوم فلسفة الشاعر:
أدركت كُنهها طيور الروابي
فمِن العار أن تظلّ جهولا
ولا يحسب القارئ أن هذا المجال الحيوي الاشتراكي مرّ بسلام. فما عتم الجو النضالي بين الطرفَين حتى جنح إلى جانب الرأسمالية الرسمية. وزادت تشريعات تحريم أي تجمع شيوعي في نار قبضة الدولة الحديدية. وضاقت مساحات الحرية حتى غدت الأرض سجناً مخيفاً على أصحاب اليسار الاشتراكي. وبإتمام الرابطة القلمية عامها الثاني، تقلّصت نشاطاتها وانكمشت على نفسها ولم يعد مأمولها بتثوير المشهد السياسي بين قُرّائها ممكناً. ولم يعد يخرج من أقلامهم ما يشبه سابقه، حتى إن جبران نفسه اكتفى من التأليف باستخدام اللغة الإنجليزية (نشر كتابه النبي عام 1925)، وانفضّ السامر، وتفرق القوم أياديَ سبأ، وشحّ الموسم السياسي الاشتراكي على جميع الثوريين عرباً وغير عرب. وهكذا طُويت صفحة الفزع الأحمر الكبير، مع أن السنوات العشر التالية لهذا الانعطاف كانت سنوات انهيار الاقتصاد الأمريكي (1923-1932)، وهي أخصب مرتع للشيوعية، لكن كانت الحكومة الفيدرالية واليعاسيب يقفون بالمرصاد للحمر الشيوعيين. ولعل آخر نفَس «اشتراكي/شيوعي» نفثه كُتّاب الرابطة القلمية كان في قصة ميخائيل نعيمة: «ساعة الكوكو» المؤرخة عام 1925 والمنشورة في مجموعته القصصية: كان ما كان، ففيها نقد حادّ للمجتمع الأمريكي وما آل إليه بعد انتصار خطة الدولة في محاربة الشيوعية. لخّص نعيمة في عبارة ما يراه في المجتمع الأمريكي وهو مجتمع السعي وراء الريال/الدولار: «فمن لا يقاتل تدوسه الأرجل، ومن يقاتل يصبح لا همّ له إلا جمع الثروة وتكديسها، فالمال يجذب المال».
وفي العقود التالية، حرصت آلات الدعاية الرسمية والشعبية الأمريكية على تغير المفهوم السائد عن سنوات العشرينيات، سنوات مصادرة الحريات الشخصية والقمع وانتصار الرأسمالية، فأضحت في أدبيات الدولة واليعاسيب سنوات الصخب والموسيقى واللهو والانشراح، وسمّوها بعبارة: The roaring twenties. وفي المقلب الآخر، بعد الحرب العالمية الثانية، علت أصوات عربية لكُتّاب ودارسين وباحثين (أمثال وديع ديب: 1945، إحسان عباس: 1957)، تقول إن أدب المهجريين تأثر بآداب الأمريكيين، وبالذات أدب الرومنطيقيين، من أمثال ويتمان وإمرسون. والهدف - بالطبع - نفي «تهمة» البلشفية عنهم. وكثر القائلون بتأثّر الأدب المهجري بالرومنطيقية الأمريكية المثالية Transcendentalism وذلك في محاولة أن تمحو صبغة أدبهم الثورية الأولى.
أما الشاعر المهجري، جورج صيدح، الذي عرف عن قرب مرارة آلام حقبة الفزع الأحمر الكبير وسنوات قمعها التي تلت، فيقول في كتابه: «أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية» الصادر في بيروت عام 1965، وذلك تعقيباً على من ادّعى بعد انهيار الرابطة القلمية أن أدباء المهجر كانوا يتّبعون أدب الحركة الرومنطيقية الأمريكية:
«أدب المهجريين ليس ثمرة انتقالهم إلى المحيط الأمريكي، لأنهم لم يجدوا فيه إلا القليل من المُيسّرات والكثير من المعسّرات، ولا هو وليد أدب الغرب لأنهم لم يقرأوه...»