بنية الحوار الدرامي في القصيدة العربية

بنية الحوار الدرامي في القصيدة العربية

ارتكزتْ‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬شعراء‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وحتى‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة،‭ ‬وأصبح‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬التفت‭ ‬إليها‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثون‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنَّ‭ ‬الحوار‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬كما‭ ‬حدده‭ ‬بنفينست‭ ‬BENVENISTE‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الحوارَ‭ ‬هو‭ ‬قولٌ‭ ‬يفترض‭ ‬متكلماً‭ ‬ومخاطباً،‭ ‬ويتضمن‭ ‬رغبة‭ ‬الأول‭ ‬بالتأثير‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال،‭ ‬وهذا‭ ‬يشمل‭ ‬الخطاب‭ ‬الشفهي‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه‭ ‬ومستوياته‭ ‬ومدوناته‭ ‬الخطية،‭ ‬ويشمل‭ ‬الخطاب‭ ‬الخطي‭ ‬الذي‭ ‬يستعير‭ ‬وسائل‭ ‬الخطاب‭ ‬الشفهي‭ ‬وغاياته‭ ‬كالرسائل‭ ‬والمذكرات‭ ‬والمسرحيات‭ ‬والمؤلفات‭ ‬التعليمية،‭ ‬أي‭ ‬كل‭ ‬خطاب‭ ‬يتوجه‭ ‬به‭ ‬شخص‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬معبراً‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بضمير‭ ‬المتكلم‮»‬‭.‬

يشير‭ ‬ميخائيل‭ ‬باختين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬التفاعل‭ ‬اللفظي‭ ‬خاصية‭ ‬واقعية‭ ‬أساسية‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬اللغة،‭ ‬والحوار،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الضيق‭ ‬للكلمة،‭ ‬هو‭ ‬فقط‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬اللفظي،‭ ‬وإن‭ ‬يكن‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬الحوار‭ ‬فهما‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعا،‭ ‬عانين‭ ‬به‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬ذلك‭ ‬التواصل‭ ‬اللفظي‭ ‬المباشر‭ ‬الشفاهي‭ ‬بين‭ ‬شخصين،‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬تواصل‭ ‬لفظي‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬شكله‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬تواصل‭ ‬لفظي،‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬تبادل‭ ‬بين‭ ‬التلفظات،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حوار‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يصبح‭ ‬التلفظ‭ ‬قائماً‭ ‬بدور‭ ‬الدراما‭ ‬الصغيرة‭ / ‬البنية‭ ‬الدرامية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭ / ‬الشعري،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬أبسط‭ ‬تلفظ‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬باختين‭ ‬يقوم‭ ‬بدور‭ ‬دراما‭ ‬صغيرة‭ ‬ويضطلع‭ ‬بأدوارها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭: ‬المتكلم،‭ ‬والموضوع،‭ ‬والمستمع،‭ ‬والعنصر‭ ‬اللفظي‭ ‬هو‭ ‬فقط‭ ‬الشبكة‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬الدراما‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يعبر‭ ‬عنه،‭ ‬هو‭ ‬السيناريو‮»‬‭. ‬لأن‭ ‬الأداة‭ ‬اللفظية‭ ‬في‭ ‬الدراما‭ ‬تمثل‭ ‬السيناريو‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬تبنى‭ ‬عليه‭ ‬المسرحية،‭ ‬وهذا‭ ‬اللفظ‭ ‬يحدد‭ ‬طبيعة‭ ‬الحدث‭ ‬الدرامي‭ / ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬المخاطِبة‭ ‬إلى‭ ‬المخاطَبة،‭ ‬ويرى‭ ‬باختين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الخطاب‭ ‬هو‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬‮«‬سيناريو‮»‬‭ ‬حدث‭ ‬محدد،‭ ‬وينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬الفهم‭ ‬الحي‭ ‬للمعنى‭ ‬التام‭ ‬للخطاب‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬المؤلف‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬المتكلمين؛‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬الدور‭ ‬ثانية،‭ ‬ومن‭ ‬يقم‭ ‬بالفهم‭ ‬يضطلع‭ ‬هنا‭ ‬بدور‭ ‬المستمع،‭ ‬لكن‭ ‬لكي‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بدوره‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬أيضاً،‭ ‬بوضوح،‭ ‬مواقع‭ ‬المشاركين‭ ‬الآخرين‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬الحوارية‭ ‬لدى‭ ‬باختين‭ ‬تتطور‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬حول‭ ‬حوارية‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬وغيرها‭ ‬بعضها‭ ‬بعضاً،‭ ‬التي‭ ‬تطورت‭ ‬لدى‭ ‬جوليا‭ ‬كريسطيفا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬التناص،‭ ‬أو‭ ‬تفاعل‭ ‬النصوص‭ ‬القديمة‭ ‬بالجديدة،‭ ‬أو‭ ‬تعايش‭ ‬النصوص‭ ‬معاً،‭ ‬لينتج‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعايشها‭ ‬والتحامها‭ ‬نص‭ ‬إبداعي‭ ‬جديد‭ ‬يمتلك‭ ‬دلالات‭ ‬نصية‭ ‬أخرى‭. ‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬الحوارات‭ ‬التي‭ ‬تولد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللغة‭ ‬بمستوياتها‭ ‬المتنوعة،‭ ‬لأن‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ ‬فني‭ / ‬شعري‭ ‬‮«‬ينتمي‭ ‬بكليته‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الفن،‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬الحكم‭ ‬عليه‭ ‬بمقاييس‭ ‬الحديث‭ ‬العادي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‮»‬‭. ‬والحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تبني‭ ‬الأفكار‭ ‬المتصارعة‭ ‬‮«‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكسب‭ ‬صفة‭ ‬الدرامية‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الهدف‭ ‬أو‭ ‬الأثر‭ ‬الكلي،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬وحدة‭ ‬عاطفية‭ ‬أو‭ ‬فكرية‭ ‬تحكم‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬يصوره‭ ‬ذلك‭ ‬الحوار،‭ ‬لا‭ ‬لأنه‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الجدية‭ ‬أو‭ ‬الصراع،‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬بين‭ ‬صديقين‭ ‬من‭ ‬حوار‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬أو‭ ‬قطار‭ ‬أو‭ ‬طائرة‭ ‬يتجاذبان‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬مواضيع‭ ‬شتى،‭ ‬فهما‭ ‬ينتقلان‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رابط‭ ‬وكيفما‭ ‬اتفقا‭ ‬فهو‭ ‬مجرد‭ ‬تمضية‭ ‬وقت‭ ‬ليس‭ ‬إلا‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الحداثة‭ ‬العربية‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬تقنيات‭ ‬بعينها‭ ‬داخل‭ ‬النص،‭ ‬وهذه‭ ‬التقنيات‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬المخاطَب‭ ‬والمخاطِب،‭ ‬والرسالة‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬السياق،‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬والأفكار‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتواصل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬الدرامية‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭.‬

 

أنواع‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي

‭ ‬ينقسم‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقسام‭ ‬رئيسة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الحداثي،‭ ‬أولها‭: ‬الحوار‭ ‬المباشر‭ (‬الخارجي‭)‬،‭ ‬وثانيها‭: ‬الحوار‭ ‬غير‭ ‬المباشر‭ (‬الداخلي‭)‬،‭ ‬وثالثها‭: ‬الحوار‭ ‬المتعدد‭ (‬تعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الواحد‭). ‬

أما‭ ‬عن‭ ‬الحوار‭ ‬الخارجي‭ (‬الديالوج‭  DIALOGUE)‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬حوار‭ ‬صوتين‭ ‬متناقضين‭ ‬أو‭ ‬متصارعين‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬حوارهما‭ ‬بمفارقة‭ ‬فنية‭ ‬تفتق‭ ‬عنها‭ ‬الحوار‭ ‬القائم‭ ‬بينهما،‭ ‬ويأتي‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬وواقعية،‭ ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يتقنع‭ ‬الشاعر‭ (‬يرتدي‭ ‬قناع‭ ‬شخصية‭ ‬أسطورية‭ ‬قديمة‭ ‬خيالية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬واقعية‭).‬

وتجلى‭ ‬الحوار‭ ‬الخارجي‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬مع‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‭ ‬التي‭ ‬تخاطب‭ ‬شخصية‭ ‬أسطورية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬فيقول‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭: ‬

‮«‬أيتها‭ ‬العرافة‭ ‬المقدسة

جئت‭ ‬إليك‭ ‬مثخناً‭ ‬بالطعنات‭ ‬والدماء

أزحف‭ ‬في‭ ‬معاطف‭ ‬القتلى‭ ‬وفوق‭ ‬الجثث‭ ‬المكدسة

منكسر‭ ‬السيف،‭ ‬مغبر‭ ‬الجبين‭ ‬والأعضاء‭.‬

أسأل‭ ‬يا‭ ‬زرقاء‭...‬

عن‭ ‬فمك‭ ‬الياقوت،‭ ‬عن‭ ‬نبوءة‭ ‬العذراء

عـن‭ ‬ساعدي‭ ‬المقطوع‭.. ‬وهو‭ ‬مايزال‭ ‬ممسكا‭ ‬بالراية‭ ‬المنكسة‮»‬‭.‬

يبدو‭ ‬الشاعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الفائت‭ ‬مرتكزاً‭ ‬على‭ ‬الحوار‭ ‬الخارجي‭ ‬الذي‭ ‬يستدعي‭ ‬صوت‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‭ ‬من‭ ‬موتها،‭ ‬كي‭ ‬يستنطقها‭ ‬حتى‭ ‬يجد‭ ‬جواباً‭ ‬لأسئلته‭ ‬الاستنكارية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬التي‭ ‬حفلت‭ ‬بها‭ ‬القصيدة،‭ ‬ومن‭ ‬الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلته‭ ‬بنفسه،‭ ‬مستنطقاً‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬رمزاً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬واعتمد‭ ‬عليها‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نصوصهم،‭ ‬ولكن‭ ‬أمل‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬الحوار‭ ‬المباشر‭ ‬الموجه‭ ‬إلى‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامة‭ ‬التي‭ ‬فقأ‭ ‬الأعداء‭ ‬عينيها،‭ ‬ونلاحظ‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬لفظة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬تحمل‭ ‬مشهداً‭ ‬قائماً‭ ‬بنفسه،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعززه‭ ‬قول‭ ‬س‭.‬و‭. ‬داوسن‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الدراما‭ ‬والدرامية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬في‭ ‬خير‭ ‬مظاهره‭ ‬أنْ‭ ‬تبدو‭ ‬كل‭ ‬لفظة‭ ‬وكأنها‭ ‬مدفوعة‭ ‬إلى‭ ‬الانطلاق‭ ‬بما‭ ‬سبقها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تبدو‭ ‬مرة‭ ‬كأنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ (‬توتر‭ ‬بين‭ ‬الشخوص‭) ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬كأنها‭ ‬تعاون‭ (‬يفسر‭ ‬طبيعة‭ ‬الموقف‭)‬‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬المشهدية‭ ‬الحوارية‭ ‬التي‭ ‬انطلق‭ ‬منها‭ ‬الشاعر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬في‭ ‬ندائه‭ ‬لزرقاء‭ ‬اليمامة،‭ ‬هي‭ ‬العرافة‭ ‬المقدسة‭ ‬التي‭ ‬تساعد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الغيب‭ ‬والمستقبل،‭ ‬فيبدأ‭ ‬بأسلوب‭ ‬النداء‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬منه‭ ‬ويرتكز‭ ‬عليه‭ ‬المتحاوران،‭ ‬فيقول‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭: ‬‮«‬أيتها‭ ‬العرافة‭ ‬المقدسة‭ / ‬جئت‭ ‬إليك‭ ‬مثخناً‭ ‬بالطعنات‭ ‬والدماء‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسلوب‭ ‬النداء‭ ‬يجذب‭ ‬انتباه‭ ‬المتلقي‭ ‬ويشد‭ ‬أذنيه‭ ‬وعينيه‭ ‬إلى‭ ‬الولوج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬المباشر‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الحبكة‭ ‬والصراع‭ ‬والحركة‭ ‬الدرامية‭ ‬التي‭ ‬تعمد‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يشد‭ ‬عقولنا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حركة‭ ‬الضمائر،‭ ‬والأفعال‭ ‬التي‭ ‬تنوعت‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والمضارع‭ ‬والأمر،‭ ‬مستدعياً‭ ‬شخصية‭ ‬عنترة‭ ‬بن‭ ‬شداد‭ ‬العبسي،‭ ‬البطل‭ ‬الأسطوري‭ ‬الأشد‭ ‬في‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬متقنعاً‭ ‬بقناع‭ ‬درامي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حبكة‭ ‬الحوار‭ ‬ونسجه‭ ‬وانغماس‭ ‬القارئ‭ ‬والمشاهد‭ ‬في‭ ‬أحواله‭ ‬وأفكاره،‭ ‬ليصبح‭ ‬المتلقي‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬وليس‭ ‬مستهلكاً‭ ‬فقط‭.‬

 

الحوار‭ ‬الداخلي‭ (‬المونولوج‭ ‬الداخلي‭)‬

تجلى‭ ‬الحوار‭ ‬الداخلي‭ (‬المونولوج‭ ‬Monologue‭) ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الحداثة‭ ‬العربية‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬الخمسينيات‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬نلاحظ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬لدى‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬عندما‭ ‬ينادي‭ ‬على‭ ‬صاحبه‭ ‬الذي‭ ‬يـطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يشاركه‭ ‬أحزانه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬لها‭ ‬سبب‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬شاعر‭ ‬موجوع‭ ‬وحزين،‭ ‬يحمل‭ ‬آلام‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬عاتقه،‭ ‬يطوف‭ ‬بها‭ ‬بين‭ ‬الحارات‭ ‬والأزقة‭ ‬المسكونة‭ ‬بالأساطير‭ ‬والحواديت‭ ‬القديمة‭ ‬والفلسفات‭ ‬العتيدة،‭ ‬وكيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الصاخبة‭ ‬المسكونة‭ ‬بالمتناقضات‭ ‬والأوجاع‭ ‬والمفارقات‭ ‬والغضب‭ ‬المستمر،‭ ‬فيقول‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭: ‬

‮«‬يا‭ ‬صاحبي،‭ ‬إني‭ ‬حزين
طلع‭ ‬الصباح،‭ ‬فما‭ ‬ابتسمت،‭ ‬ولم‭ ‬ينر‭ ‬وجهي‭ ‬الصباح
وخرجت‭ ‬من‭ ‬جوف‭ ‬المدينة‭ ‬أطلب‭ ‬الرزق‭ ‬المتاح
وغمست‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬القناعة‭ ‬خبز‭ ‬أيامي‭ ‬الكفاف
ورجعتُ‭ ‬بعد‭ ‬الظهر‭ ‬في‭ ‬جيبي‭ ‬قروشْ
فشربتُ‭ ‬شاياً‭ ‬في‭ ‬الطريق
ورتقتُ‭ ‬نعلي
ولعبتُ‭ ‬بالنرد‭ ‬الموزع‭ ‬بين‭ ‬كفي‭ ‬والصديق
قل‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬ساعتين
قل‭ ‬عشرة‭ ‬أو‭ ‬عشرتين‮»‬‭.‬

‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬السابق‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬عبدالصبور‭ ‬أنه‭ ‬اعتمد‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬البناء‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬لأنه‭ ‬يحكم‭ ‬المشهد،‭ ‬ويحدد‭ ‬غاية‭ ‬الحزن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬سبب‭ ‬لها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬عبدالصبور‭ ‬ينادي‭ ‬على‭ ‬الصاحب‭ ‬المفقود‭ / ‬أم‭ ‬إنه‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬وعن‭ ‬أحزانها‭ ‬وآلامها‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬كان‭ ‬طويلاً‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬وصاحبها‭/ ‬نفسها‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬اشتملت‭ ‬في‭ ‬حوارها‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المرتكزات‭ ‬الفنية،‭ ‬وهي‭ ‬الانتقال‭ ‬بالجمل‭ ‬الفعلية‭ (‬الحركية‭) ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬لآخر‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬شعرية‭ ‬صاخبة‭ ‬سريعة‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬الطبيعي،‭ ‬ممارساً‭ ‬أعماله‭ ‬اليومية‭ (‬شربتُ‭ ‬شايا،‭ ‬رتقت‭ ‬نعلي،‭ ‬ولعبتُ‭ ‬بالنرد‭... ‬إلى‭ ‬آخره‭)‬،‭ ‬يشي‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تفتق‭ ‬عنها‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بالأساس‭ ‬حوار‭ ‬نفسي،‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬وعالمها‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه،‭ ‬كما‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الحواري‭ ‬نبرة‭ ‬الإحساس‭ ‬بالظلم‭ ‬والشعور‭ ‬باليأس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الرتيب‭ ‬المكرور،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬جديد‭ ‬فيه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُغير‭ ‬حياتنا‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬العميقة‭ ‬والمتداخلة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬تقنيات‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬الغنائية‭ ‬والدرامية،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬انتشاراً‭ ‬واتساعاً‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الحداثة‭ ‬العربية‭ (‬الدرامية‭ ‬العربية‭)‬،‭ ‬لأنها‭ ‬تجنح‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الحزن‭ ‬والسعادة‭ ‬والفرح،‭ ‬ومشحونة‭ ‬أيضاً‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المتناقضات‭ ‬الفنية‭ ‬والفكرية‭ ‬والاستعارية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬اخترقت‭ ‬حواجز‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬فقد‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والقصة‭ ‬والدراما‭ ‬والسينما‭ ‬والمقالة‭ ‬والمسرح‭... ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الفنون‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬ارتكزوا‭ ‬على‭ ‬المونولوج‭ ‬الداخلي‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬نصوصهم‭ ‬الشعرية‭ ‬الشاعر‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعجبني‮»‬‭: ‬

‮«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعجبني
يقول‭ ‬مــسافرٌ‭ ‬في‭ ‬الباصِ‭ ‬
‭ ‬لا‭  ‬الراديو
ولا‭ ‬صُحُفُ‭ ‬الصباح
‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬القلاعُ‭ ‬على‭ ‬التلال‭.‬
أُريد‭ ‬أن‭ ‬أبكي
يقول‭ ‬السائقُ‭: ‬انتظرِ‭ ‬الوصولَ‭ ‬إلى‭ ‬المحطَّةِ
‭,‬
وابْكِ‭ ‬وحدك‭ ‬ما‭ ‬استطعتَ
ويقول‭ ‬جنديٌّ‭: ‬أَنا‭ ‬أَيضاً‭. ‬أَنا‭ ‬لا
شيءَ‭ ‬يُعْجبُني‭. ‬أُحاصِرُ‭ ‬دائماً‭ ‬شَـبـَحاً
يُحاصِرُني
يقولُ‭ ‬السائقُ‭ ‬العصبيُّ‭: ‬ها‭ ‬نحن
اقتربنا‭ ‬من‭ ‬محطتنا‭ ‬الأخيرة‭ ‬فاستعدوا
للنزول‭...‬
فيصرخون‭: ‬نريدُ‭ ‬ما‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المحطَّةِ‭ ‬فانطلق‭!‬
أمَّا‭ ‬أنا‭ ‬فأقولُ‭: ‬أنْزِلْني‭ ‬هنا‭. ‬أنا
مثلهم‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعجبــني،‭ ‬ولكني‭ ‬تعبتُ
من‭ ‬السِّفَرْ‮»‬‭.‬

‭ ‬يتبدى‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬النص‭ ‬الفائت‭ ‬‮«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعجبني‮»‬‭ ‬صوت‭ ‬شعري‭ ‬واحد،‭ ‬وهذا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الافتراض،‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يخاطب‭ ‬ذاته‭ ‬المتمردة‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬هجوم‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية،‭ ‬وهذا‭ ‬العنوان‭ ‬يمثل‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬جميعاً‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬تمام‭ ‬الإيمان‭ ‬بحق‭ ‬العرب‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬أرضهم‭ ‬والقدس‭ ‬عاصمة‭ ‬لفلسطين‭ ‬العربية،‭ ‬وتبرز‭ ‬النبرة‭ ‬السياسية‭ ‬الواضحة‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬النص‭ ‬ومتنه‭ ‬وهوامشه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يذكرها‭ ‬الشاعر،‭ ‬بل‭ ‬حذفها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬طرحناه‭ ‬طرحاً‭ ‬يسيراً‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحذف‭ ‬الدرامي‭ (‬المونتاج‭) ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الخاص‭ ‬باللغة‭ ‬الدرامية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬الحداثة‭ ‬العربية‭. ‬إن‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬عقول‭ ‬جمعية‭ ‬كثيرة‭ ‬تعتقد‭ ‬الاعتقاد‭ ‬نفسه،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نلاحظ‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الصوت‭ ‬الأول‭ ‬للذات‭ ‬التي‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬واقعها‭ ‬الأسود‭ ‬بقولها‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أبكي،‭ ‬ثم‭ ‬نلاحظ‭ ‬صوت‭ ‬المسافر،‭ ‬وصوت‭ ‬السائق،‭ ‬وصوت‭ ‬السيدة‭ (‬المرأة‭)‬،‭ ‬وصوت‭ ‬الطالب‭ ‬الجامعي،‭ ‬وصوت‭ ‬الجندي‭ ‬الذي‭ ‬يطارد‭ ‬الأشباح،‭ ‬وتطارده‭ ‬وتعتقله‭ ‬في‭ ‬سجونها‭. ‬يحمل‭ ‬النص‭ ‬الدرامي‭ ‬لدى‭ ‬درويش‭ ‬فلسفة‭ ‬خاصة،‭ ‬محتفياً‭ ‬بالأصوات‭ ‬الحزينة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬رسائل‭ ‬حب‭ ‬للوطن،‭ ‬وفقدان‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬اليأس‭ ‬والحزن،‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬الحزينة‭ ‬التي‭ ‬يشاهدها‭ ‬المتلقي‭/ ‬المشاهد‭ ‬الدرامي‭ ‬للنص‭ ‬تجعله‭ ‬ركناً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬بناء‭ ‬النص‭ ‬الدرامي‭ ‬القائم‭ ‬أصلاً‭ ‬على‭ ‬الحوار‭ ‬الدرويشي‭ ‬الذي‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭. ‬يأتي‭ ‬صوته‭ ‬مفعماً‭ ‬بالنظرة‭ ‬السوداوية‭ ‬والحزن‭ ‬الكريه‭ ‬والتعب‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬والترحال‭ ‬بين‭ ‬البلاد‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬وطن‭ ‬بديل‭ ‬فلم‭ ‬يجد،‭ ‬فيقول‭: ‬أمَّا‭ ‬أنا‭ ‬فأقولُ‭: ‬أنْزِلْني‭ ‬هنا‭. ‬أنا‭/ ‬مثلهم‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يعجبني‭/ ‬ولكني‭ ‬تعبتُ‭/ ‬من‭ ‬السَّفَرْ‮»‬‭. ‬يتكئ‭ ‬درويشُ‭ ‬على‭ ‬أصوات‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬حواره‭ ‬الدرامي،‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬ترتكن‭ ‬عليه‭ ‬القصيدة‭ ‬الشعرية،‭ ‬مما‭ ‬يمنحها‭ ‬أبعاداً‭ ‬فنية‭ ‬متعددة‭ ‬ويمكن‭ ‬الولوج‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مناطق‭ ‬دلالية‭ ‬متنوعة‭. ‬ولم‭ ‬يستسلم‭ ‬للبكاء‭ ‬والحزن،‭ ‬متحدياً‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش‭ ‬بكل‭ ‬جبروته‭ ‬وغطرسته‭ ‬وظلمه‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬يوسف‭ ‬يا‭ ‬أبي‮»‬‭ ‬فيقول‭ ‬درويش‭:‬

‮«‬أَنَا‭ ‬يُوسُفُ‭ ‬يَا‭ ‬أَبِي‭.‬
يَا‭ ‬أبِي،
إخْوَتِي‭ ‬لا‭ ‬يُحِبُونَنِي،
لا‭ ‬يُرِيدُونَنِي‭ ‬بَيْنَهُم‭ ‬يَا‭ ‬أبِي‭.‬
يَعْتَدُونَ‭ ‬عَلَيّ‭ ‬وَيَرْمُونَنِي‭ ‬بِالحَصَى‭ ‬وَالكَلامِ‭.‬

يُرِيدُونَنِي‭ ‬أَنْ‭ ‬أَمُوتَ‭ ‬كَى‭ ‬يَمْدَحُونِي‭.‬
وَهُم‭ ‬أَوْصَدُوا‭ ‬بَابَ‭ ‬بَيتِكَ‭ ‬دُونِي‭.‬
وَهُم‭ ‬طَرَدُونِي‭ ‬مِنَ‭ ‬الحَقْلِ‭.‬
هُمْ‭ ‬سَمَّمُوا‭ ‬عَنَبِي‭ ‬يَا‭ ‬أَبِي‭.‬
وَهُمْ‭ ‬حَطَّمُوا‭ ‬لُعَبِي‭ ‬يَا‭ ‬أَبِي‭...‬‮»‬‭.‬

‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬الفائت‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬يتكئ‭ ‬في‭ ‬حواره‭ ‬الدرامي‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬النبي‭ ‬يوسف‭ ‬وأبيه‭ ‬النبي‭ ‬يعقوب‭ ‬عليهما‭ ‬السلام،‭ ‬وما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬دلالات،‭ ‬ومشاهد‭ ‬درامية‭ ‬متعددة‭ ‬وصراع‭ ‬الأبناء‭ ‬على‭ ‬محبة‭ ‬أبيهم،‭ ‬وأبوهم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬إلا‭ ‬يوسف‭ ‬حباً‭ ‬كثيراً،‭ ‬والإخوة‭ ‬لا‭ ‬يحبون‭ ‬يوسف‭ ‬أبداً‭ ‬ويكيدون‭ ‬له،‭ ‬مما‭ ‬جعلهم‭ ‬يفكرون‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭ ‬منه‭ ‬وألقوه‭ ‬في‭ ‬البئر‭. ‬لكن‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ (‬المونولوج‭) ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجملة‭ ‬الأولى‭ (‬أنا‭ ‬يوسف‭ ‬يا‭ ‬أبي‭) ‬وتحمل‭ ‬فلسفة‭ ‬درامية‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬‮«‬المخاتلة‭ ‬الخطابية‮»‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬يخاطب‭ ‬الأب‭ ‬فعلا‭ ‬ولكنه‭ ‬يرجع‭ ‬الصوت‭ ‬الأنوي‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬منكسراً‭ ‬وحزيناً‭ ‬باكياً،‭ ‬وتبلغ‭ ‬المفارقة‭ ‬الدرامية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحوار‭ ‬الأحادي‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬يُرِيدُونَنِي‭ ‬أَنْ‭ ‬أَمُوتَ‭ ‬كَي‭ ‬يَمْدَحُونِي‭ ‬وَهُم‭ ‬أَوْصَدُوا‭ ‬بَابَ‭ ‬بَيتِكَ‭ ‬دُونِي‭/ ‬وَهُم‭ ‬طَرَدُونِي‭ ‬مِنَ‭ ‬الحَقْل‭/ ‬هُمْ‭ ‬سَمَّمُوا‭ ‬عَنَبِى‭ ‬يَا‭ ‬أَبِي‭/‬هُمْ‭ ‬حَطَّمُوا‭ ‬لُعَبِي‭ ‬يَا‭ ‬أَبِي‮»‬‭.‬‭ ‬تتوالى‭ ‬المشاهد‭ ‬الدرامية‭ ‬في‭ ‬جمل‭ ‬حوارية‭ ‬قصيرة‭ ‬مرتكزة‭ ‬على‭ ‬الحزن‭ ‬الدرامي‭ ‬والمناجاة‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬صمتها‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الصمت‭ ‬الأكبر‭ ‬والمناجاة‭ ‬النفسية‭. ‬وتنتصر‭ ‬المناجاة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬النص،‭ ‬عندما‭ ‬توجه‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬حديثها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬للأب،‭ ‬متسائلة‭:‬‭ ‬‮«‬هل‭ ‬جنيت‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬عندما‭ ‬قلت‭ ‬رأيت‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬كوكباً؟،‭ ‬وهنا‭ ‬ينتقل‭ ‬الحوار‭ ‬الدرامي‭ ‬من‭ ‬المناجاة‭ ‬إلى‭ ‬الحوار‭ ‬التناصي‭ ‬أو‭ ‬تداخل‭ ‬النصوص‭ ‬لتحاور‭ ‬بعضها‭ ‬بعضاً،‭ ‬وقد‭ ‬تميز‭ ‬درويش‭ ‬بفتنة‭ ‬التداخل‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬النصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬والنصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬ينسجها،‭ ‬ليقف‭ ‬هو‭ ‬الأنا‭ ‬بين‭ ‬نصين‭ ‬متجاذبين،‭ ‬متحاورين،‭ ‬ليخرج‭ ‬الشاعر‭ ‬بنصه‭ ‬المائز‭ ‬مجابها‭ ‬به‭ ‬فتنة‭ ‬العالم‭ ‬الأرضي‭.