النافذة والجدار في «طيور التاجي» لإسماعيل فهد إسماعيل

النافذة والجدار في «طيور التاجي» لإسماعيل فهد إسماعيل

لا‭ ‬يمكن‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬استمرار‭ ‬بنية‭ ‬ما‭  ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬عناصرها‭ ‬الذاتية‭ ‬ومكوناتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬فسيرورة‭ ‬التاريخ‭ ‬ستعمل‭ ‬على‭ ‬تفكيكها‭ ‬وتغيير‭ ‬سماتها‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬فإما‭ ‬أن‭ ‬تتطور‭ ‬تلقائياً‭ ‬استجابة‭ ‬للمتغيرات‭ ‬البيئية‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬إلى‭ ‬فنائها‭.‬

والاستبداد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كونه‭ ‬بنية‭ ‬مغلقة‭ ‬خاضع‭ ‬لهذا‭ ‬الشرط‭ ‬التاريخي،‭ ‬وإن‭ ‬تصور‭ ‬المستبد‭ ‬نفسه‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬وسلطة،‭ ‬يجعله‭ ‬يتوهم‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تسيير‭ ‬الجموع‭ ‬وفق‭ ‬مشيئته،‭ ‬وهذا‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬الغباء‭ ‬الذي‭ ‬يَسِمُ‭ ‬الطغاة‭ ‬جميعاً‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬التاريخ‭.‬

أما العوامل الفاعلة على تفتيت هذه البنية وتفكيكها فهي كثيرة جداً، منها ما هو خارجي - عدواني - ومنها ما هو داخلي، وهي أشبه بمجموع هائل من التفاعلات تعمل في آن معاً، قد يتفق فيها العامل الخارجي العدواني مع العامل الداخلي الباحث عن حياة أفضل، وهذا الاتفاق لن يكون في مصلحة «الداخلي» على الإطلاق.

في «طيور التاجي ‭*‬» لإسماعيل فهد إسماعيل لسنا معنيين برصد هذه التفاعلات جميعاً وإنما سنتوقف عند واحدة منها حاول الكاتب تناولها بموضوعية تامة، إنها تلك اللحظة التي يتجرأ فيها الابن البار للاستبداد على التفكير، يتجرأ على فتح نافذة في هذا الجدار الذي يخيل لصاحبه أنه أصم، إنها تلك اللحظة التي يتفتح فيها الوعي.

يرصد إسماعيل فهد في هذه الرواية هذا التفاعل قبيل انهيار بنية الاستبداد الصدّامي بعد حرب تحرير الكويت، وذلك من خلال شخصية ضابط المخابرات «أيمن» وهو ابن أحد كبار الضباط الذين يشكلون الصف الثاني في القيادة الصدامية، فهو شخصية منتقاة بدقة وذات نسب استبدادي عريق ويحمل في تكوينات شخصيته كل مقومات هذه البنية المنغلقة على ذاتها - بنية الاستبداد - وهو حسب ما أرى الشخصية الرئيسة في الرواية، وإن جاءت الرواية بهذا العنوان المخاتل الذي يشير إلى أربعة أسرى كويتيين رمز لهم غلاف الرواية بأربعة طيور، ليوحي لنا بأن أبطال الرواية هم هؤلاء الأربعة.

إذاً يشكل أيمن - كما ذكرنا- أحد أوجه التفاعلات الداخلية لتفتيت هذه البنية، وذلك من خلال ما تسرب إلى وعيه من مقولات، ومن خلال رصده لأفعال إنسانية صادرة عن أربعة أسرى كويتيين، خالهم لفترة طويلة أعداءً متخلفين ومرتبطين بالعدو الأول. فكيف تفتحت النوافذ في وعي هذا الضابط الشاب؟

جاءت البداية في موسكو، حيث يؤدي دورة تدريبية استخباراتية ابْتُعث لها، وهناك يلتقي بأستاذة العلوم السياسية الآنسة «مارلين» ابنة الخبير الروسي الذي تزوج من عراقية مسيحية. الشابة التي تدغدغ القلب لولا أنه ابن ضابط تكريتي مرسوم له خطه الحياتي حتى عندما يفكر بالارتباط. مارلين التي زرعت أولى بذور الشك في عقله. (حاكمكم أهوج ص 43)، معللة هذا الحكم بدلائل منطقية عجز عن الرد عليها.

 

عوامل‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي

مارلين التي أدخلت في وعيه طبيعة النظم الشمولية وعلاقتها بشعوبها، وافتعال هذه الأنظمة للحروب عندما يشتد الخناق عليها، وكذلك حدثته عن نمط الأنظمة الشمولية القمعية وبطاناتها الناشبة بالسلطة كما تنشب حشرة السوسة بخشب دعامات البيت حتى ينهار على أهله وعليها. والأهم من ذلك أيضاً لفتت نظره إلى مجموعة كتب ستحدث أثرها البالغ في وعيه، روايات التكرلي وقصص محمد خضير وأشعار السياب. لقد فتحت مارلين نافذة سيصعب إغلاقها في وعي هذا الضابط، ولا نبالغ في القول: لقد أعادت هذه الشابة نصف العراقية صياغة ضمير هذا الضابط.

أما العامل الثاني في إعادة تشكيل الوعي لدى أيمن فقد جاء من بيت العريف (ريسان) حيث منحه هذا البيت البعد العائلي الشعبي، وجعله يعيش الحياة على بساطتها وعفويتها، الأمر الذي كان يفتقده في بيت أمه وأبيه القائم على تقاليد استبدادية عسكرية خاصة منفصلة عن الواقع وعن الحياة. فإذا ما أضفنا إلى هذا العامل مشاهدات أيمن لحياة الذل الذي تعيشه شرائح مختلفة من أبناء العراق النازحين في الأردن نجد أن دوافع التغيير الكامل في وعي هذا الضابط قد توافرت، لكن يبقى العامل الأهم في التغيير هو تجربته الذاتية المتمثلة في المهمة الاستخباراتية الأولى التي كلف بها بعد عودته من موسكو، وهي المحافظة على العهدة التي بحوزته. 

فتجربته مع هذه العهدة شكلت العامل الثالث والأهم في تطور وعيه، أما العهدة فهي أربعة أسرى كويتيين رفض نظام صدام تسليمهم عندما وضعت الحرب أوزارها، هم مجموعة من جملة ستمائة أسير وزعهم في مجموعات صغيرة على سجون متفرقة في أنحاء البلاد، رافضاً الاعتراف بوجودهم، إنهم طيور التاجي. فمن هم طيور التاجي؟ إنهم الصحفي جعفر فهد موسى (بدون) والبيطري فهد صالح العبدالله, والرسام غالب أحمد بن فهد، وكان يعمل مفتشاً في أحد الموانئ، والقاضي بدر فهد الفهد، شقيق الراوي في النص الروائي وفي الواقع المعيش، إنهم شريحة صغيرة جداً تمثل بصورة ما شعب الكويت، نقلوا من سجون مختلفة إلى سجن خاص في معسكر التاجي، وطلب من الضابط أيمن الإشراف عليهم ضمن مهمة سرية للغاية، فالمطلوب عزلهم عن العالم عزلة تامة، وضعوا في بيت منعزل وبعيد ضمن أسوار المعسكر، وحرموا حتى من الصعود إلى سطحه، فكيف سيتعامل رجل الاستخبارات هذا معهم؟ وكيف استطاعوا أن يكونوا العامل الأهم في بلورة وعيه؟ هنا نتوقف عند سلوك هؤلاء الأربعة الذي شكل مفاجأة مستمرة أو متجددة لهذا الضابط، فعلى مدى صفحات الرواية كاملة، وعلى مدى سنوات الاحتجاز كاملة يمكننا رصد علامات التعجب والدهشة على وجه أيمن، فوجئ بداية عندما شرعوا بتنظيف البيت، وفوجئ بكون بدر قاضياً، ثم فوجئ عندما بدأوا استنبات المساحة الخلفية للبيت ليجعلوا منها حديقة غناء، جذبت إليها الطيور بكثافة، وأيضاً كانت مفاجأة رائعة عندما اكتشف أن أحدهم رسام شهير في بلده، وكانت المفاجأة أعظم عندما اكتشف عظمة الإحساس بالكرامة والأنفة عند جعفر الذي كان في أمسِّ الحاجة إلى الدواء ورفض طلبه. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا شكلت هذه الممارسات الحياتية المعتادة عند هذه الشريحة كل هذه المفاجآت المتوالية عند أيمن؟ بمعنى آخر، ما الصورة المسبقة في ذهنه عن شعب الكويت؟ هنا لابد من العودة إلى حديثنا عن البنية المغلقة التي ولد فيها، والتي أرضعته مفاهيم المستبد عن الآخر المعادي، لقد اكتشف أيمن بالتجربة أن هذا الشعب ليس متخلفاً أو عميلاً مرتبطاً بأعداء العروبة والإسلام، لقد اكتشف بالتجربة مدى وعي وثقافة هذا الشعب، وبحكم العوامل التي غيرت نمط تفكيره وشكلت وعيه، فقد كان يتواطأ معهم مشكلاً حالة تآلف وصداقة اخترقت كل أوامر ونواهي مهمته السرية، لقد فتح لهم النوافذ في السجن وجلب لهم الأوراق والأقلام، وعدة الرسم، وصولاً إلى المذياع الذي سمعوا منه أخبار بلادهم، ما سبب له وللعريف ريسان الاعتقال في نهاية المطاف، ولولا العوامل الخارجية الفاعلة في تفكيك وتدمير بنية الاستبداد هذه، لربما كانت نهايته كنهاية هذه الطيور في قبر أجبروا على حفره بأيديهم. بذلك يكون إسماعيل فهد قد أكد أن الشعبين العراقي والكويتي ضحية هذه البنية الاستبدادية المغلقة، متجاوزاً ذلك الجرح الغائر في وجدانه، والمتمثل بشقيقه لكونه أحد الطيور الأربعة. 

كذلك نراه يكرس حقيقة لا جدال فيها تتمثل في حتمية انهيار صروح الطغاة مهما بلغ شأنها، ومن خلال هذا التنوع في شخصيات الرواية (الكويت - العراق - مصر - تشاد - البدون) نستطيع القول إن الرواية تعتمد في رؤيتها الفكرية على المشترك الإنساني الذي لا يعرف للحدود معنى.

 

انفتاح‭ ‬النوافذ

وبفضل هذا المشترك استطاع إسماعيل فهد رصد أكبر قدر ممكن من النوافذ المشتركة بين الشعبين، بالإضافة إلى رصد آلية انفتاح النوافذ في ذلك الجدار العازل الذي صنعه المستبد، أما النافذة التي كانت مفتوحة طوال الوقت أمام أعيننا ولم ينتبه لوجودها الكثيرون التي كانت، والتي استخدمها الكاتب بذكاء فهي نافذة الكلمة المكتوبة، وهنا يتجلى دور المبدع في علاقته بقضايا شعبه، فالقصة التي نشرها الراوي في الملف الخاص بمجلة العربي كان لها الدور الأكبر في إحداث نقلة نوعية بطبيعة العلاقة بين الضابط والأسرى، واستطاعت توجيه مجرى الأحداث لمصلحة السجناء الأربعة، ولو أنها توبعت على الصعيد الرسمي بجدية فربما كانت غيرت نهاية الرواية.

تلك هي حكاية الرواية، لكن الحكاية هذه ليست إلا الجزء البارز في الصورة، وكما كل صورة لابد من خلفية لها، ولابد من جزئيات هنا وهناك لاستكمال المشهد، وهذا ينقلنا بالضرورة إلى تقنية السرد التي شاءها إسماعيل فهد، أراد أن تكون روايته هذه كلوحة جدارية تمتد على طول الفصل الأول منها. وجاء الفصل الثاني الذي أسماه الكاتب «الفصل الأخير»  في سطر ونصف سطر فقط ليكون بمنزلة عنوان لهذه اللوحة الجدارية، عنوان يختزل الحزن ويجعل من حسن تداوله شرطاً لبناء صرح المحبة.

ينقسم الفصل الأول إلى أجزاء صغيرة لا يفصل بينها سوى سطر من البياض كأنها بذلك أجزاء صورة «لعبة بازل» وزعها الكاتب على صفحات الرواية كي يستمتع المتلقي بإعادة تركيبها، رغم معاناته قليلاً مع اللغة التي ينتهجها إسماعيل فهد، والتي باتت أشبه ببصمة خاصة بالكاتب >