رواية الشراع المقدس... الرهان على فجوات التاريخ
يبدو مصطلح االرواية التاريخيةب مؤشراً للمأزقية التي تكتنف عملية إنتاج نص روائي يتكئ في تشكيل عالمه على جملة من الأحداث التاريخية، فالمصطلح بصياغته النعتية الحالية يرسخ لحالة تلازم، تتبدل فيها العلاقة التقليدية بين التابع والمتبوع، بين الرواية، التي هي عمل تخيلي بالأساس والتاريخ ، الذي هو ممارسة توثيقية في جوهرها، وهو تلازم عاكس للسطوة المرجعية للتاريخي على مستويي عمليتي الإنتاج والتلقي.
لقد ظلت الكتابة السردية المستندة إلى أحداث ذات حس واقعي تجربة محفوفة بقدر غير يسير من المحاذير، التي تمتاح من هيمنة التاريخي بحضوره المتشعب والنافذ في الذاكرتين الفردية والجماعية، فالمتلقي الخاضع لشروط الفكر التوثيقي كما يمثله التاريخي لا يتعاطى مع الحكاية وهو خالي الوفاض، وإنما يقاربها عبر منظور ثنائي يرنو إلى النص الأدبي في حضرة المتن التاريخي الذي يغدو في إطار هذه العملية التناصية نصاً متعالياً – بتعبير جنيت Genette - يسعى النص السردي إلى تأسيس علاقة معه تتراوح بين المحاكاة والتحويل، وتدفع هذه العلاقة التراتبية المتلقي إلى الاستجابة لها من منظور تراتبي مواز،ٍ قد يصطدم بماهية الفعل السردي المنغمس في المتخيل، فنلفيه - أي المتلقي - يقفز فوق الأحداث المسرودة بفضل ركاماته المعرفية، متجاوزاً في أثناء هذا القفز كثيراً من التشكيلات الجمالية التي تشكل عناصر رئيسة في هيكل الخطاب السردي، أو نراه يواجه منعرجات تاريخية لا تنسجم مع خبرته التعليمية المؤسسة على معياري الصدق والكذب بمعنييهما المباشرين، بما قد يدفعه في النهاية إلى التشكك في مصداقية المتن الروائي، أو غيرها من الاستجابات التي قد تقف عائقاً في سبيل التعاطي الإيجابي مع النص، وتعمق الهوة بين المتلقي ومقبوليته للنص الذي يتحول في هذه الحال إلى نتاج مباشر لفعل الاشتباك بين التاريخي بسلطته التوثيقية المتجذرة والأدبي بقيمه الجمالية المتجددة.
وعلى الرغم من هذه الفخاخ المتراكبة، فإن الروائي القطري عبدالعزيز آل محمود يبدو مولعاً بتضفير سروده بخيوط تاريخية تحتفظ لنفسها بمخملية الحرير ومتانته، فبعد روايته الأولى «القرصان»، يعود بعمله «الشراع المقدس» ليلقي حجراً في بركة الرواية التاريخية الراكدة، محدثاً اتساعاً في قطر الدائرة الإبداعية المعنية بإعادة تشكيل التاريخي عبر أدوات فنية، أو بصيغة أخرى تجسير المسافة بين التاريخي والأدبي عبر نص شفيف ورائق.
التدفق التاريخي والقطيعة
يبدو عبد العزيز آل محمود واعياً بفداحة الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه إذا ما سمح للمتلقي أن ينزلق إلى أتون فعل المقارنة بين النص الروائي ونظيره التاريخي عبر منظور يحكمه الإيمان العميق بقداسة التاريخي ونزاهته، وذلك باعتبار أن حدوث هذه المقارنة سينتج تغيراً جذرياً في القيمة الوظيفية لفعل القراءة، الذي سيتحول إلى عملية قنص يتخلى فيها المتلقي عن دوره كشريك في تحقيق الإنتاجية الدلالية للنص، متقمصاً دوره الجديد كمحقق غير محايد يسعى لإثبات تورط النص الروائي في جريمة الاعتداء على الثابت تاريخياً من خلال تصيد عوامل التماثل والتعارض بين المتنين، مغفلاً تباين أدوات التشكيل والتعبير فيهما.
يجاوز آل محمود هذه الأزمة برمتها بدهاء عندما يعمل على تأسيس حالة من التوازن بين عدم الوقوع في هيمنة التدفق المعرفي للفعل التاريخي وعدم القطيعة الكاملة معه، وذلك من خلال الرهان على فجوات التاريخ، هذه الفجوات التي يستثمرها الروائي عبر أدواته الخاصة التي ترتقي بالحس الدرامي للعمل، وتشحن النص بمزيد من الجرعات الجمالية التي تحفظ له فحولته الإنتاجية بوصفه أولاً وقبل كل شيء نصاً منحازاً إلى المتخيل أكثر من انحيازه إلى الواقعي وإن تدثر به وأحال إليه بطريقته الخاصة، بما يجعلنا إزاء نص مواز يضمن كفاءة التجربة السردية قدر ضمانه مقبولية المتلقي لها بوصفها تجربة توظف الفعل التاريخي.
يستثمر الروائي القطري الشح البالغ في المعلومات المتوافرة حول الصراع البرتغالي للسيطرة على الشرق في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، ليمنح نصه حرية شبه مطلقة في الانفلات من مقصلة المقارنة مع السابق، لسبب يسير وهو عدم وجود هذا السابق، وكأن الرواية عبر هذا الاختيار المتقن تؤسس لنفسها مرجعيتها الخاصة.
ينسج الروائي جديلته السردية التي تبدأ زمانياً في ديسمبر 1486م عبر فضاء مدينة لزبن بالبرتغال، قبل أن يمدد بعد ذلك عبر أفضية متعددة ومتباعدة جغرافياً، راصداً المحاولات الغربية المتتابعة لبسط السيطرة على الشرق وتجارة البهارات من خلال خطة محكمة توازن بين الجانبين الاستخباراتي والعسكري، حيث يكلف ملك البرتغال جاسوسين يهوديين هما «كوفيلهام» و«بافيا» بجمع معلومات تفصيلية حول مسار هذه التجارة في الشرق والمدن التي تمر فيها ومواطن قوة وضعف كل مدينة وكيفية السيطرة عليها، يتم دفع الجاسوسين إلى هذه المهمة تحت مقصلة التهديد بتعرض أهلهما لمحاكم التفتيش، وتتتم تسمية العملية «الشراع المقدس»، وتعمل هذه التسمية بوصفها كلمة السر التي يمكن من خلالها وثوق الجاسوسين بالشخصيات التي يعرفانها والتي ستقابلهما في أثناء هذه الرحلة الطويلة، التي ستكشف عن حدود التشابك بين هذه الأفضية المتباعدة، وتباين الرؤى وتعارضها بين الشرق والغرب، مكرسة لرؤية صراعية يبدو التفوق العسكري فيها حليفاً للغرب، والتفوق الأخلاقي ملازماً للشرق، وعاكسة في الوقت نفسه لقدرة الحب على التأليف بين المختلفات وإعادة الحس الإنساني للحياة، يتم هذا عبر شخصيات متعددة تجسد مظاهر هذه التناقضات والتماثلات.
العنوان الدلالة الملتهبة
يشكل العنوان مرتكزاً رئيساً لإنتاج الدلالة النصية وإدراكها، ولا يمكن لهذه الدلالة أن تتفعل إلا في ضوء علاقة الاشتباك المتوقعة بين المتلقي وخطاب السارد، هذا الاشتباك الذي يستعين فيه المتلقي بأدوات متعددة كالتفسير والتأويل، ويبدو السارد واعياً بالتأثير الكبير الذي يمكن أن يمارسه العنوان في توجيه مقروئية المتلقي وحفزه على التفاعل مع الحدث الخطابي - بوصف المتن السردي فعلاً خطابياً - عبر خطة محددة تترسم حدودها في ذهنية مرسل الخطاب وتعبِّد الطرق لتقود المتلقي إلى حجرة قدس الأقداس، حيث يصل بنفسه إلى الدلالة ظاناً أنه قد خاض هذه الطريق وحيداً متدرعاً بخبرته في التعاطي مع النصوص، ومتسلحاً بدرجات متصاعدة من الفهم المعمق للدلالة النصية، دون أن يدري أن ثمة مؤثرات قد مورست عليه من الفاعل الخفي.
يعتمد النص لنفسه عنواناً قصيراً «الشراع المقدس»، وهو عنوان يعتمد ثنائيتي الموصوف والصفة، دون الانغماس في تحديد معنى مكتمل تهيئه الجملة. إن هذا البتر على مستوى صياغة العنوان يخدم استراتيجية السارد الساعي إلى حفز المتلقي لمواصلة تفاعله مع النص والنهوض بدوره في إنتاج دلالته، إذ يلفي المتلقي ذاته في حضور هذه البنية المجتزأة التي تغويه بإلحاقها أو رفدها بغيرها من الوحدات النصية لاستكمال دائرة المعنى المنفتحة.
غير أن السارد الحريص على دفع المتلقي إلى تلمس دلالته المتغياة يعمد إلى تفخيخ هذه العتبة النصية بمؤشرات توجيهية تحقق هدف السارد في تسليب الفعل الرئيس للرواية، وهو رحلة البرتغاليين إلى الهند ورؤيتهم الاستعمارية تجاه الشرق، يتم هذا عبر خطوات تدريجية تبدأ بالإشارة المرئية لتنتقل إلى الإلماحة النصية قبل أن تختم بالتصريح المفسر.
فسيفساء النص... التضفير السردي
تؤسس فلسفة اللوحات الفسيفسائية على مهارة الصانع في التأليف بين المنمنمات التي تبدو في حضورها المستقل متنافرة عبر رؤية عميقة تستدعي بشكل دائم ومنظم المشهد الكلي المتغيا، بحيث تغدو عملية التجاور المقصود والتراكب المنسجم والهيكلية المنضبطة شروطاً لضمان الفاعلية الجمالية للوحة في حضورها الختامي المكتمل.
تبدو رواية «الشراع المقدس» وقد اعتمدت على الآلية نفسها لغزل جديلتها الحكائية، ففصول الرواية المتتالية لا تسلم بعضها عبر متوالية تراتبية واضحة المعالم، ولكن من خلال استراتيجية تعتمد مبدأ الاستقلال المفضي إلى تجسير المسافة بين هذه المساحات المتباينة، وصولاً إلى اكتمال المشهد الكلي للعمل. إن الأمر هنا يشبه تأمل أجزاء اللوحة الفسيفسائية في حضورها المستقل وما قد يترتب على هذا من مظاهر إعجاب أو استقباح جزئية، ولكن الثابت هنا الوعي بأن هذا الجزء أو ذاك ليس سوى وحدة من وحدات لوحة كبيرة يرتهن إدراكها جمالياً بالتراجع خطوات إلى الخلف وتوسيع منظور الرؤية وانفتاحه.
إننا في رواية الشراع المقدس أمام لوحات سردية جزئية عدة، فهناك رحلة الجاسوسين اليهوديين المرغمين على القيام بهذه المهمة، وهناك حكاية حسين الكردي وارتقائه العسكري السريع وهزيمته الختامية على يد البرتغاليين، وقصة حب ابن رحال وحليمة وموته المأساوي بسبب هذا الحب، والصراع في مملكة هرمز بين الأخوين واستقواء كل منهما بقوة خارجية لضمان حيازة الملك... إلخ، حكايات تتمتع بدرجة من الاستقلالية التي لابد أن تنتهك لمصلحة كلية النص، هذا الانتهاك يتم عبر تأسيس شخصية «جوكر»، التي تتمكن من تحقيق الترابط بين هذه الأفضية الحكائية وتضمن مزيداً من التعاضد بين البنيات الجزئية للرواية، وهو أمر طبيعي في أي رواية تتسع أفضيتها الزمنية والمكانية، فكان من الضروري تأسيس شخصية حكائية تشكل أفعالها مفاصل نصية يتم عبرها التئام السرد وتضفير الحكايات التي تدور بشكل متزامن أو متعاقب في أفضية مكانية قريبة أو بعيدة، ولا تعد رواية الشراع المقدس استثناء من هذه الهيكلة، فالرواية التي تنتقل من لبزن إلى الأحساء إلى هرمز والقاهرة والإسكندرية والساحل الإفريقي والهند وتركيا تعتمد على شخصيتين لإحداث عملية التضفير تلك، الشخصية الأولى تتمثل في كوفيلهام، حيث تفتتح الرواية بفعل تكليف كوفيلهام وصديقه للنهوض بمهمة التجسس وجمع المعلومات لمصلحة ملك البرتغال عبر مهمة نعتت بالمقدسة، يتحول هذا الحضور الافتتاحي إلى حضور خافت على مدار فصول المتن الروائي، قبل أن يعود في ختام الرواية ليظهر بقوة ضامناً للرواية بنيتها الدائرية التقليدية التي تنتهي من حيث بدأت، وكأن القيمة الدرامية لهذه الشخصية داخل منظومة السرد تتمثل في تدوير الهيكل البنائي للرواية لتغدو نقطة الانطلاق هي ذاتها نقطة العودة، ولكنها عودة مرفودة بتطور بالغ في الوعي تتم ترجمته عبر صيغة زاعقة إلى حد ما.
أما الشخصية الثانية، وهي الشخصية الأكثر تأثيراً، سواء أكانت على مستوى الحضور الكيفي أم النهوض بمهمة التضفير السردي، فهي شخصية حليمة ابنة الوزير خواجة العطار وزير مملكة هرمز التي تتزوج ابن الرحال العربي القادم من الأحساء، ثم تتعرض لمؤامرة من ناصر الأحسائي الذي يقتل زوجها بغية التمكن منها، قبل أن تتعرف إلى الباشا سليمان التركي صديق حسين الكردي قائد الأسطول المملوكي، الذي تتعرف إليه بوصفه صديقاً لزوجها ابن رحال، إذا كانت حليمة هنا تشكل البؤرة التي تنسل منها خيوط الحكايات الفرعية أو تجتمع عندها بشكل مباشر، فإنها تتدخل بشكل غير مباشر في توجيه الملك البرتغالي لغزو الأحساء عندما تغريه بشجرة صنعتها من المجوهرات التي ورثتها من زوجها لإغرائه بغزو البحرين، أملاً في الانتقام من ناصر قاتل زوجها لتؤسس لعلاقات متشعبة تتجاوز الأفراد لمصلحة الكيانات.
موسم الهجرة إلى الجنوب
دأبت المخيلة الإبداعية العربية على إنتاج أعمال تطرح عبرها رؤية الذات بوجهيها الفردي والجمعي في ضبط العلاقة المضطربة بطبيعتها بين الشرق والغرب، ومُقاربتها عبر شفراتٍ جماليّة تجاوزُ النمطَ الدعائيّ للخطابات التنظيريّة - وإن لم تنفصل عنها أيديولوجياً - حيث تمت ترجمة تعارض الرؤى حول طبيعة المُواجهة الحضارية ونتائجها - على مستوى المُمارسات الإبداعية العربية - عبر نصوص مُقنَّعة بمُعطيات البلاغة السردية التي تتستر خلفها وجهةُ نظر الذات المُبدِعة التي قدَّمت طرحَها الخاص من علاقة الأنا بالآخر المؤطَّرة بحدود القضية الأشمل، قضية المواجهة الحضارية بين الطرفين، ومن الصدام إلى التصالح تعددت الأنساق المعرفية المؤطرة لفعل الإبداع، وتبدو رواية «الشراع المقدس» نموذجاً للنص الروائي المُتبني لنسق الصدام مع الآخر الغربي، حيث يبدو الصراعُ الحضاري مُتجسِّداً في الرواية عبر مظاهر متعددة، تتعاضد وتتآلف لتعكس موقف السارد النافي لإمكان تصالح الشرق مع الغرب، بما يرشح للتعامل مع الرواية بوصفها عملاً إبداعياً يمتاح من رؤية أيديولوجية تؤمن بتواصل الصراع بين الحضارتين الشرقية والغربية وامتداده المستقبلي، وهو أمر تتبدى بداهته مع بداية الرواية وانتقائها لهذه الفترة التاريخية، وعرضها عبر خطاب يشد خيوطه الدرامية عبر محورين غربي مهاجِم غاز، وشرقي مهاجِم مدافع.
تحفل الرواية بعديد المواقف والمظاهر التي تحدد طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب في إطار علاقة الضحية بالفريسة، فالرواية تعتمد منظوراً منحازاً بشكل واضح إلى الشرق لا على المستوى التاريخي فحسب، وإنما على مستوى منظومة القيم الأخلاقية والحضارية، ففي حين تمعن الرواية في رصد مظاهر التعصب الديني في البرتغال حتى يتم الحنث بقسم الملك في رعاية عائلتي اليهوديين، فيسلما إلى محاكم التفتيش، ويتم رصد مظاهر التعايش السلمي بين الأديان داخل السياق الشرقي، وهو ما يعترف به الآخر الغازي «لم يكن كوفيلهام وبافيا قد ولدا في بيئة متسامحة دينياً، ومشاهدة كل هذا التسامح والتعامل بين الناس في بيئة مفتوحة سببت لهما نوعاً من الصدمة التي لم يكونا مستعدين لها، فلم يستطيعا تحليل ما شاهداه أو إيجاد سبب منطقي لعدم غلبة دين على آخر، فكيف يستطيع أصحاب الديانات المختلفة التعايش والعمل معاً، ولماذا لا يفرض المسلمون إسلامهم على غيرهم كما تفعل محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال؟ (ص50-51)
وحين أذن لصلاة قررا أن يغادرا المسجد بسرعة، وفي طريقهما للخروج لاحظا أن أغلب من هم خارج المسجد بجميع لغاتهم وأزيائهم توافدوا إليه من دون أن يدفعهم أحد إليه دفعاً كما يحصل أمام الكنائس في البرتغال...» (ص 52).
إن اعتماد الرواية هذا النسق الصراعي في رصد العلاقة بين الطرفين يبدو مبرراً من نواح عدة، لعل أهمها قدرة هذا النسق على خدمة أهداف السارد الأيديولوجية المرتبطة بتفعيل البعد الرمزي في النص عبر ما يمكن نعته بحرية الدوال، فالرواية المؤطرة تاريخياً بحدود القرن الخامس عشر تبدو محيلة إلى السياق الحالي بجميع ملابساته، فلايزال الصراع قائماً على الفريسة الشرقية بنفطها وموقعها الاستراتيجي، ولايزال الآخر الغازي يتذرع بجملة من المبررات التي تخول له انتهاك الخصوصية الشرقية، ومازالت الانقسامات الشرقية تهدد كيانه، وغيرها من علامات التشابه بين السياقين، التي يعيها السارد أو بالأحرى يعمد إلى إثباتها لإثارة انتباه متلقيه بتوحد المعطيات الذي سيؤدي بالضرورة – إن لم يكن قد أدى بالفعل- إلى تكرار المصير المأساوي.
الحاضر متكئاً على التاريخ
إن السياق التاريخي الفائت يغدو مطية يدلف من خلالها السارد إلى الحاضر بمأزقيته وإشكاليته، ويتم تحميله بجرعات تعكس موقف الذات الساردة من الرمز الحالي المحيل إليه الرمز الماضوي، ليغدو الزمن عبر هذه الممارسة المألوفة عند توظيف التاريخ في الحكي قناعاً شفيفاً ينغمس في الحاضر أكثر من انتمائه للماضي، ونمثل هنا بالحديث التالي الذي دار بين السلطان مقرن سلطان الجبور والأحساء والرسول القادم من هرمز حول الفرس:
«سيدي السلطان... إن الصفويين لديهم معتقدات غريبة عنا، فهم يجبرون الناس على اعتناق عقائدهم بالقوة، وقد وصل إلينا بعض اللاجئين والتجار الذين تحدثوا عن مذابح تحدث في بعض المناطق التي يسيطر عليها الغزلباشية، إنهم يجبرون الناس على أشياء لا أستطيع الحديث عنها» (ص82).
لا يحتاج الأمر إلى جهد كثير لإدراك المنظور السلبي الذي يتعامل معه السارد مع السرد التاريخي، وهو منظور يبدو خاضعاً لمرشحات آنية أفضت إلى إنتاج صورة تبخيسية للآخر، ونقصد بالمرشحات الآنية هنا الصراع العربي - الإيراني الذي لا يكاد يخبو حتى يعاود الظهور بآليات جديدة.
إذا كانت الرؤية السلبية قد هيمنت على تصوير الآخر الفارسي أو الغربي، فإن ثمة جنوحا نحو تضخيم الصورة الإيجابية للمملكة العثمانية التي تحضر داخل الرواية بوصفها السند الوحيد القادر على مواجهة الأشرعة المقدسة للبرتغاليين ومن خلفهم الغرب كله، وهو أمر تبدى بوضوح رمزي عندما تم اقتران حليمة رمز الوطن المستلب في النص بسليمان التركي الذي وفر لها الحماية، واستطاع أن ينجب منها ثلاثة أبناء يشكلون نتاجاً لاندماج حضاري يراه السارد الذي يرنو إلى الحاضر ممكناً في ظل بزوغ النجم التركي بعد أفول طويل.
بقي في النهاية أن نشير إلى أن عبدالعزيز آل محمود قد وقع في بعض الأحيان في غواية الاستجابة للرصيد المعرفي الكبير الذي حصله في أثناء إعداده لهذا العمل، فبدا في بعض المواضع غير قادر على تخطي التاريخي المعرفي لمصلحة الأدبي المتخيل، فنلفيه يحشد مجموعة من الحقائق التاريخية أو المفسرة لبعض الأفعال التي يمكن الوصول إلى دلالتها من دون عناء، كحكايته عن دور الدود في تنقية الجروح في أثناء سرده لعلاج الرجل الإفريقي لجروح حسين الكردي، إذ كان من الممكن الاكتفاء بمعالجة الرجل له عبر الديدان، من دون إغراق في طرح التفسير العلمي لهذه العملية، ويتكرر هذا الأمر في بعض المواضع التي أصابت الرواية ببعض الترهل، ولكنها لم تعرقل المسار الدرامي المتدفق للرواية، ولم تنل من كفاءتها الدلالية.