جبور الدويهي... من «شريد المنازل» إلى «حي الأميركان»

جبور الدويهي... من «شريد المنازل» إلى «حي الأميركان»

منذ‭  ‬صدور‭ ‬رواية‭ ‬احي‭ ‬الأميركانب‭ ‬وهي‭ ‬قائمة‭ ‬ومتناولة‭ ‬ومتداولة‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الاهتمام،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬الحدث‭ ‬الثقافي‭ ‬الجاذب،‭ ‬ومازالت‭. ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الروائي‭ ‬جبور‭ ‬الدويهي‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬وقت‭ ‬ثمين‭ ‬امتلكه،‭ ‬جسّدت‭ ‬صورة‭ ‬المدينة‭ ‬بنبضها‭  ‬الفاعل‭ ‬المتفاعل،‭ ‬حيث‭ ‬استعمل‭ ‬المكان‭ ‬وفق‭ ‬سرد‭ ‬واسع‭ ‬للأحداث،‭ ‬وحاذر‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬القصد‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬وخطط‭ ‬له،‭  ‬فمزج‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والواقع،‭ ‬بين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬بين‭ ‬أشياء‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضي،‭ ‬ليصنع‭ ‬مكان‭ ‬الرواية‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬أرادها‭ ‬مدوية‭ ‬في‭  ‬الوعي‭ ‬والذاكرة،‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬حياة‭ ‬تدوم‭ ‬وتدوم‭.‬

 جبور الدويهي أستاذ الأدب الفرنسي بالجامعة اللبنانية، أصدر عديداً من الروايات والقصص، تناول فيها زمنه ومكانه وأسقطهما في مندرج معرفي، وسياق روائي جاذب ولافت. فهو يكتب بلغة  روائية سردية رشيقة، وسرده الروائي الصعب تسهل قراءته من الصفحة الأولى. أصدر «الموت بين الأهل نعاس» (مجموعة قصصية)، ثم رواية «اعتدال الخريف»، وحازت جائزة أفضل عمل مترجم من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة، و«ريا النهر»، و«عين وردة»، و«مطر حزيران»، التي وصلت للقائمة القصيرة بجائزة البوكر، و«شريد المنازل»،  و«حي الأميركان»، التي اختيرت في   القائمة الطويلة لجائزة البوكر.  

 من عنوان روايته الأخيرة «حي الأميركان»، يظهر المكان بصورة البطل، المكان هو بطل الحدث، فكيف يُمكن تصنيف هذه الرواية أو الحديث عن المكانية التي يستهدفها الراوي الكاتب؟  

يقول الدويهي  إن صورة المكانية راودته  أثناء الكتابة، كتابة روايته: «نعم لقد راودتني في الواقع فكرة كتابة هذه الرواية انطلاقاً من صورة «مكانية»، وظروف  بمناخات واسعة. قمت  برسم  نهر المدينة الصغير  الذي يفصل من جهة بين حيّ فقير متراكم ببيوته الصغيرة العشوائية ومواد البناء الهشّة، وقبالته في الجهة الثانية قلعة صليبية مشيدة بالحجر الرملي وصامدة منذ عشرة قرون، مائة عام. وكم حاولت الجريان مع النهر ومياهه، وكنت في الواقع  وفي الحقيقة على ضفة هذا النهر.  وإنني قد «استسلمت» لهذا الحيّ المكون من أدراج ومعابر ضيقة متعددة لا تدخلها السيارة لأرسم داخله شخصيات، هي بدورها أليفة، شاركت في ما توالى على المدينة من موجات تضامن عروبية ناصرية، وفلسطينية ــ فتحاوية، ومن ثم إسلامية - جهادية. وتماديت في هذا الرسم، دون أن أشطح، حتى وصلت إلى بناء صورة هرمية روائية للمعنى. وربما وفقت في هذا التأسيس وهذا البحث الذي ساهم بإنارة الصورة المرجوة أكثر، وإضاءة الفكرة والأفكار من جميع جوانبها».  

 

الصورة‭ ‬الافتراضية

 تحضر الشاشة الصغيرة (التلفزيون) في الرواية، في مشاهد مكتوبة بلغة الصورة. فمشهد التلفزيون الواسع في الرواية وما  يحاول عرضه الراوي في مشاهد عدّة أخرى، يوحي كأنه يريد أو يحاول  إبراز تأثير التلفزيون على الواقع، بأشكال وأساليب وأسئلة متعددة. ويرى الكاتب أن التلفزيون، قبل انبلاج  أو ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة ومع وجودها، «تحول بسرعة قياسية إلى باب مفتوح  مباشرة على عالم متناقض متنوع ومتعارض، كان ومازال تسلية رئيسة، وحاضراً ناطقاً ومتكلّماً رئيساً في الصالونات وغرف الجلوس يصعب التغاضي عنه وعن دوره». لذلك افتتح روايته بأسئلة التلفزيون، ولم يتأخر على ذكره مراراً، يقول: «لقد رجعت إلى التلفزيون وعدت إليه مراراً، ذلك أنه عنصر من العناصر المهمة في الواقع والمجتمع، وله دلالات كثيرة في حياة يومية ممتدة على مساحة حياة فقيرة ومتشظّية».

يبرز الراوي في روايته مشهداً لافتاً، حيث يتراجع إسماعيل، (أحد شخصيات الرواية)، عن تفجير حافلة للركاب في العراق، وكأنه بهذا التفسير لتراجع إسماعيل عن الموت، يحاول، بل والأرجح أنه يؤكد إبراز النزعة الإنسانية التي لابد لها أن تتغلّب على التخلف والإرهاب، مهما تمادت أفكار الجهل والظلام ومهما ارتفعت جدران التخلف. بمعنى آخر، استطاع الراوي إثبات قدرة الوعي والإنسانية على تحطيم الجدار الكبير الذي يحجب الرؤية والرؤيا، والسير في مساحة الحياة الطبيعية والصافية. فهل يا ترى تتواصل وتنمو أكثر النزعة الإنسانية وتتغلب على الأفكار الإرهابية الهدامة، والأيديولوجية المعمية للقلوب والعقول؟

إلا أن الراوي جبور الدويهي يرسم ويعلل مشهد إسماعيل  في روايته بأسباب كثيرة، كحالات التراجع عن ارتكاب عملية انتحارية «باتت معروفة، ويوجد كثير من البرامج  التي ترصدها وتتبع مسار حدوثها وتفاعلها، ويحدث ذلك لأسباب مختلفة وكثيرة، كالنقص في إعداد المتطوع، وسوى ذلك من الأسباب». أما إسماعيل الذي أراده الدويهي في روايته، «فلا أهمية روائية له إن لم يتراجع عما هو فيه من يأس وتشظّ وتخلّف. وأنا من الأساس، ومازلت أعتبر أن عليه، على هذا الإنسان، أن ينصاع لمشاعره الإنسانية ولقلبه النابض، الذي يجب أن ينبض بالحياة، وفي نهاية الأمر وفي كل حال هو إنسان/ شخص رُمي بعجالة في العراق، والعملية الانتحارية أعدت له، جهزت له من دون حسابات منطقية أو حسابات مفيدة للإنسان وأرضه وزمنه ومجتمعه».

أما الخلاصة التي يصل إليها الراوي، فتكمن في إحكام الضرورة على نتيجة يتوخاها في كتابة الرواية، وهي الخلاصة القائلة إن إسماعيل لا يشبهنا كبشر، إن لم يتراجع عن فعلته الرهيبة المدمرة لكل معنى وكيان، لكل حقيقة تنادي بحياة الإنسان على أسس سليمة وعادلة.

«حي الأميركان»  يقع في مدينة طرابلس (شمال لبنان)، إلا أن الرواية التي تحمل هذا الاسم تُسلط الضوء، بوهج كبير، على واقع عربي واسع، واقع الوطن العربي الكبير، وما فيه من تراجع وتحولات وانكسارات ومشاكل وهزائم واضطرابات وانتصارات مزعومة، وكأنها بهذا الفعل أو هذه النتيجة، ترفع صورة عالية وراية أعلى تمتد على مساحتها أحداث متنوعة ومتنقلة من وطن إلى آخر. فأحداث هذه الرواية قد تكون نسخة أخرى، ولكن منقحة بهوامش غير متشابهة، نسخة تقارب التطابق مع عالم آخر من هذا العالم الذي نحيا فيه اليوم.   

 

الشخصية‭ ‬الفردية

 الأحداث التاريخية تكاد تكون صورة أساسية في «حي الأميركان»، لكنها أيضاً، مزيج بين القسوة والرحمة، فهل أراد لها الراوي كل هذا الامتداد في الوعي؟ يشرح الكاتب في هذا السياق قائلاً: «إن الوقائع الكثيرة، العامة المعاصرة أو الماضية، شكلت وتشكل خلفية لرواياتي وما أكتبه. إن تاريخ أحداث مدينة طرابلس في العقود المنصرمة، بما فيه من قسوة وامتداد لأحداث أكبر كانت تعصف بالعالم العربي، كان لا مفر من إبرازها كمادة ونمط تتفاعل معه الشخصيات، يصنعها وتؤثر فيه، في كل حال الرواية مع ما فيها من واقعية تتعامل بانتقائية توظيفية مع التاريخ ووقائعه، وهي ليست ملزمة بالدقة الكاملة، وهذا ما حصل معي». ويعتقد الراوي أن لا رواية قبل بروز الفرد وحضوره، قبل ذلك كانت الحكاية والملحمة والميتولوجيا، والعصر الحديث الأوربي شهد ثورات عديدة، منها صعود الفردية، وهو ما تجلى في الرسم والفنون والكتابة، والرواية صوت الفرد في تمرده أو تمايزه عن الجماعة وقيمها ومصائرها، وهذا نقاش أكاديمي تاريخي بين أساتذة الأدب، وله بقية في مسار الوعي».

إن الأحداث الكبيرة التي سميت بالربيع العربي، جعلت الموت صورة نمطية طبيعية سهلة لا رادع من تحقيقها، فهل يرى الراوي، من خلال ما يكتبه، أن الموت أصبح «سلعة» محتكرة، لدى جماعات أصولية تعمل على  تزييف الوعي وتحويل مساره، لتحقيق أهدافها الغريبة العجيبة؟

فمن وجهة نظره، «الموت سلعة وغاية في الصراعات السياسية والاجتماعية»، لكنه يرى في الجماعات الأصولية أنها تسرف في استخدام هذا الصراع، خصوصاً لجهة قتل الذات، «وهذا  سلاح نوعي في سياق «الحروب اللامتوازية» التي تدور على أرض الواقع العربي».

أما شخوص وشخصيات «حي الأميركان»، فلديهم  صورة أخرى أو حالة اغتراب ولا انتماء على مدار الوقت وعلى مدى أحداث الرواية، فهل تقصَّد الكاتب هذا الأمر التصادمي؟ ولماذا؟

«لولا تميّزهم عما حولهم، لما اخترتهم في روايتي»، يقول الدويهي. «لولا أن عبدالكريم ابن عائلة وجهاء، نمطي يتبنى معاييرها وسلوكياتها، ولو أن إسماعيل كان جهادياً عادياً، لما فكّرت في اختيارهما بطلين في روايتي، وهذا أمر قائم وضروري لتفعيل أحداث الرواية، وكي تأخذ مسارها المتصاعد المتتالي العابق بالمفاجآت المتدرجة».

يكتب الدويهي بلغة عربية أصيلة، ورغم أنه أستاذ الأدب الفرنسي، ولغته الفرنسية أنيقة وقديرة، وترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية، فإنه خرج  إلى الرواية بلغة عربية، ذلك أن اللغة الأم هي الأصل، كما يقول. «كل اللغات تستوعب الأحداث والمرويات، ولكن تبقى اللغة العربية لغة أمي ولغتي الأم ولغة عيشي ومعيشتي، وأنا مقتنع بأن في كتابة الرواية شيئاً من غرائزنا الأساسية، لا يمكن إخراجها وصقلها إلا باللغة الأولى، اللغة الأم. اللغة هي أساس الوعي الذي يفتح باب الاجتهاد والإبداع، واللغة الأم هي جوهر هذا المعنى وهذا الأصل».

عناوين قصص وروايات جبور الدويهي لا تحتمل التأويل، فهي إشارات جمالية، وومض في المعنى وصوره، وهي أقرب إلى الوصف الشعري بامتياز. وربما كانت السينما حاضرة في سياقه الروائي والقصصي، يقول في أمر تأثره بما رأى وشاهد وسمع وقرأ: «ربما تأثرت بالسينما، ولكن لا  أعرف إذا كان تأثير السينما هو الذي يجعل المشاهد المكتوبة مرئية ومحسوسة بالبصر والخيال لدي. المهم هو أنني  عندما أقرأ لكتاب كبار أشعر أنني أرى وأسمع ما أقرأ لهم. ثم لا تنسى أنني من عشاق السينما، وتستهويني المشاهد المرئية» .