مواطـن

مواطـن

كان شارعنا، في الأيام الخوالي، أشبه بالمنزل العملاق. وهناك كنا نحيا، أكثر مما كنا نحيا بالمنزل، وهناك كانت لقاءاتنا، ولهونا وأفعالنا الصبيانية. وهناك أيضاً كنا نطارد الحشرات. وكان إذا وصل غريب، نذهب جميعاً للقائه. لكن ذلك كان نادراً ما يحدث. ومع ذلك، فقد جاء أحد الباعة ذات يوم، وعرض أحذية حمراء للأطفال. لقد كانت بضاعته رخيصة للغاية، هذا ما كان يقوله الصبية. كما أن كل الجيران كانوا يشترون تلك الأحذية الحمراء اللون، سواء مقابل نقود أو مقابل حبات من البرغل. وكان المرء آنئذٍ يرى الأطفال يأتون من كل حدب وصوب.

لقد كنت طفلاً صامتاً، وقد اعتدت على الحرمان منذ ميلادي. ولكن في ذلك اليوم، عندما أبصرت عيناي تلك الأحذية الحمراء، لم أعرف لماذا لم أتمكن من مقاومتها. لقد دخلت في نوبة عناد مع أمي وكانت امرأة رقيقة الحال، فلم يكن لديها مال أو برغل، ولذا لم تستطع شراء حذاء أحمر لي: «لا تبك دون طائل! توقف، إنك تستفزني! أكرر ثانية أني لا أستطيع شراء الحذاء لك! لا! لقد قلت لك لا! لا يمكن أن يحصل المرء على شيء مقابل لا شيء». لكني لم أكن قد قررت أن أصمت بعد. وفي شارعنا الضيق، وأمام كل الجيران، ووسط من يرتدون أحذية حمراء، ألقيت بنفسي على الأرض. نفد صبر أمي وأصيبت بإعياء، ثم أخذت تبكي مثلي، ثم أضافت: «هيا انهض، واذهب لتجرب حظك مع خالك، فلعله يشفق عليك ويشتري لك الحذاء». انطلقت حافي القدمين إلى  دكانه من دون أي استعداد والدموع في عيني. تهيبت من خالي عندما رأيته. وعلى الرغم من أني لم أطلب منه أي شيء، فإن نظرته كانت كافية. لكني كنت أرغب في الحصول على ذلك الحذاء، فكتمت تنهداتي، وقلت في دفعة واحدة كل ما أريد أن أقول. ضحك خالي وقال: «من يحتاج إلى حذاء في أحد أيام الصيف؟ وعلاوة على ذلك، فليس لدي نقود! اذهب بسرعة إلى البيت الآن فإن أمك قلقة عليك».
في الشارع، عندما كنت أمر أمام آخر كشك بسوق الأحذية، سمعت من يناديني، من دون أن يذكر اسمي. ومع ذلك فلقد عرفت فوراً أنه يخاطبني أنا. عدت أدراجي إلى مصدر الصوت وكان رجلاً عجوزاً عيناه لامعتان لمعان النجوم، وقد أشار إليَّ أن أدخل إلى دكانه. ودون أن أتوقف عن شكواي الرتيبة، التي تشبه السعال الذي لا دواء له، دنوت نحوه ببطء. كان جالساً أمام ماكينة الحساب، ورمقني بنظرة حانية. وكان يجلس إلى جواره رجل أكثر شباباً منه. عرفت فيما بعد لماذا أشار إليَّ. لقد أراد الرجل الشاب شراء حذاء لابنه، لكنه كان قد أتى من مكان بعيد، لذا فلم يحضر ابنه معه. لقد كان الأمر يتصل بمقاس الحذاء، فلقد كان الرجل متحيراً. وعندما رآني، قال للتاجر العجوز: «إذا كان الحذاء مناسباً لذلك الطفل الذي تراه هناك، فإنه سيكون مناسباً كذلك لابني». لذا ناداني البائع لأقيس الحذاء.
أتذكر ذلك كما لو أنه حدث اليوم، ومن دون أن أفكر في أي شيء، ومن دون أن أتوقف لحظة عن الشكوى، قفزت ثلاث خطوات ودلفت إلى الدكان. لم يسألني البائع العجوز أو القروي الشاب مَن أكون، بل وحتى لماذا أبكي. لعلهما قد فكرا على هذا النحو: «إنه طفل.. والأطفال يبكون بالتأكيد بين الحين والآخر». بادرني الرجل العجوز بابتسامة فاترة قائلاً: «تقدم قليلاً يا ولدي». تقدمت خطوتين ووقفت أمامه. وعندما كنت أرمق بعيني الأحذية الحمراء والسوداء، الكبيرة والصغيرة، المعلقة على الحائط، شعرت بيد على قدمي. لقد كان الأمر كالمعجزة، ففي القدم التي لمستها تلك اليد رأيت حذاء أحمر اللون. نعم أحمر بالغ الاحمرار. لقد جاء صوت البائع في أذني من مكان بعيد من أعلى، كما لو أنه يأتي من العالم الآخر: «إنه جميل، ذلك يناسبك تماماً! انتظر، لنربط رباط حذاء القدم اليسرى كذلك!». لقد رأيت إذاً حذاء أحمر اللون في قدمي اليسرى كذلك، كما لو كانت معجزة جديدة. تسمَّرت عيناي نحو الأسفل، كما تجمَّدت دموعي التي سالت طويلاً. لقد رأيت البائع العجوز وعلى محياه الحبور نفسه، ينظر بالتناوب إلى قدمي، ووجهي، وتخيلت أنه يود أن يرسي علاقة ما بين الحذاء والتوقف المفاجئ لتنهداتي. ولعل ذلك هو ما دفعه لأن يكرر بعد بضع دقائق: «حقاً، كم يناسبه ذلك الحذاء!» وعندها قفزت كما لو أني أخرج من حلم. وأضاف الرجل قائلاً: «حقاً، يناسبه تماماً! كما أنه توقف عن البكاء!» وبعد ذلك، سمعته يقول بتفكير عميق مرة ثانية: «انظر كيف يحدق في الحذاء! يا إلهي، كيف ينظر إليه!» لعل من سمعه كان سيعتقد أن شيئاً مأسوياً قد حدث ولم أفهم شيئاً، ولم أفكر في شيء. ودون أن أفهم شيئاً، أو أن أفكر في شيء، التصقت عيناي بالحذاء. مكثت هناك تماماً كحرف الألف. وكان الشاب القروي في الحالة نفسها تقريباً على ما اعتقدت. وقد وضع الرجل العجوز نهاية لكل ذلك قائلاً: «اذهب يا ولدي، إلى اللقاء». لقد ربت على كتفي بحنو قائلاً: «إن الحذاء لك، اذهب». نعم، ذلك ما قاله كلمة بكلمة: «إن الحذاء لك، اذهب».