أسطر بلا عنوان

أسطر بلا عنوان

سأبدأ بكتابة هذه الأسطر من دون أن أضع لها عنواناً. الكلمة هي «الناس» إذن الناس... و... أضع «و» ولست أدري ماذا سيأتي بعدها، بعد ماذا؟
أعود إلى الناس وأقول بكل ثقة إن الناس أصبحت ضائعة بين المجلات البرّاقة والأثواب الشفّافة وصور الممثلين والممثلات وصور السياسيين والسياسيات. سأقفز الآن قليلاً إلى الفن، أمرّ من لوحة إلى لوحة دون أن أتوقف، أو دون أن تدعوني لوحة ما إلى أن أتوقف وأتطلّع وأنبهر وأفرح وأحلم بها، ودون أن أكتشف عملاً فنياً، وأشعر بلذّة اكتشاف الفن الجيد الجديد، لكني اكتشفت أن كل ما رأيت من عائلة واحدة، بشعة ليس فيها سوى الإطار اللميع.

الزائرون لمعرض لوحات أكثرهم يأتون للزيارة، لزيارة صالة عرض غاليري أو متحف، يدخلون كما يخرجون، ليسوا فرحين ولا يائسين، كأنهم لم يدخلوا وينظروا إلى اللوحات ولم يخرجوا، هكذا يكون مرورهم بمكان ما، لا يغني ولا يفقر، لعل بعضهم كان يبحث عن الفرح مجرباً الفن، لكنه وجد نفسه غريباً عنه، ولا يقول الفن له شيئاً.
لنرسم ولنلوّن، هناك مواد، أقلام وأوراق وألوان، لكن المواد تغيّرت وطرق استعمالها قد تغيّرت، غيّرتها الفوضى، النحت دخل في اللوحة، واللوحة دخلت في النحت، كل هذا سمّوه فناً معاصراً art Contemporary، لكني أعلم أن المعاصرة هي الأيام التي تمر وليس الفن الكبير الذي يولد ويبقى ويتخطّى الأزمنة، هذا ما يسمى الفن الخالد... الباقي، يبقى غير آبه بمرور الأيام ولا اسم ولا عنوان له سوى كلمة صعبة التفسير... هي كلمة «الفن».
ثم عن الفن المعاصر أيضاً (هذا ما سمّوه) ليس كل ما يلمّ من أغراض مرميّة في زوايا الشوارع والزواريب وعلى أبواب البيوت، وما يُرمى من شبابيكها صالحاً لأن يُصنع منه فن... كما أنه ليس هناك معدن أو تنك يعطى لحداد إفرنجي ليصنع منه «عملاً فنياً» تمثالاً أو أي عمل... أو تمثالاً كما هو حاصل الآن بطلب من بعض «الفنانين».
 لا أنسى الهندسة، الهندسة هي التي تبني الشارع أو بيوت الشارع وتغرز في الحدائق أشجاراً وأزهاراً، لكن بيروت وغير بيروت أصبحت مع السيارات المنتنة المتسخة معرضاً لكل بشاعة، وفي البشاعة تتبشّع الناس وأخلاقهم، هذا عدا عن أذواقهم... والهندسة أبعدت الناس عن بعضها ولم تعد الجيرة موجودة.
الآن نستطيع أن نعود إلى الحاضر... أو إلى الماضي، حيث أصبح الفن مهنة وعملاً، والعمل فناً، كان الفن وكانت العملة ترافقه أو الفن يركض وراء المال... وعلى ذكر الفن، فبيكاسو - مثلاً - لم يكن يبيع لوحته أو رسمه إلا بالثمن الذي يقرّره هو، كذلك بول كليه الذي يُتعب طالب شراء لوحة محارجاً ساعات طويلة إلى أن يصل إلى اتفاق يناسب الفنان.
الفن كان ومازال يتعامل مع المال، الآن أصبح الفن بضاعة لها أسواق متنوعة، وكثيراً ما يقع هاوٍ للفن في حب عمل فني... لكنه يرى أن الثمن غالٍ... وبعد تشاور مع نفسه وعودته إلى صاحب اللوحة وعودة الحوار، يقرر ويشتريها.
أريد أن أقول إن قلة قليلة تفهم الفن وتشتريه، كما أن هناك كثيرين يشترون ليقال إنهم ملكوا لوحة لفلان من الفنانين أو للزينة... وأكثرهم، وأكثرهن، عندما أصبحوا يملكون بعض اللوحات يعتبرون أنفسهم نقّاداً للفن، ورؤيتهم هي الصحيحة، وهي المقرّرة عن العمل الفني الصحيح وعن الرديء.
التكلّم عن الفن اليوم لا ينتهي كالتكلّم في السياسة، أما الأدب فهو قليل الأدب، أعني قليل الأدب في الأدب. العاملون والعاملات في الصحف وفي الصفحات الثقافية أكثرهم، وأكثرهن، أصبحوا شعراء، فالصفحات الثقافية بين أيديهم دون من يراقب، المهم أن الصفحة يجب أن تكون ممتلئة بجمل وبصور وغيرها، أما أنا فقد ابتدأت بالكتابة والرسم في سن الثانية عشرة، وفي الوقت نفسه كنت «أخرطش» على الدفاتر والكتب وعلى أي ورقة، وأول ما لوّنت كان قبقاباً خشبياً في حديقة بيتنا... ثم تمضي الأيام وأنتهي من دراستي في مدرسة المخلص، وكان مديرها الأب اسبيريدوس رياشي، إذن في هذا الوقت أصبحت محتاراً بين الكتابة والموسيقى والرسم، لم أوفّق في الموسيقى مع عشقي لها حتى الآن، أعني الموسيقى الكلاسيكية، تابعت الكتابة والرسم، ومضت سنون أخذتني إلى باريس، هناك رسمت وكتبت، لكني لست واثقاً بما أكتبه وما أرسمه، آملا أن أصل إلى حالة فنية شاملة.