فرسان الفن... قصص حياة الرسّامين الإيطاليين

فرسان الفن... قصص حياة الرسّامين الإيطاليين

اليس‭ ‬ثمة‭ ‬شيء‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬الرسم،‭ ‬إنه‭ ‬السُلم‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬والنافذة‭ ‬التي‭ ‬ينسل‭ ‬منها‭ ‬الضوء‭ ‬إلى‭ ‬الروح،‭ ‬يحتاج‭ ‬الرسام‭ ‬إلى‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬فقيراً‭ ‬ولا‭ ‬وحيداً،‭ ‬إنه‭ ‬يخلق‭ ‬الوجوه‭ ‬التي‭ ‬يحبها،‭ ‬بينما‭ ‬يبقى‭ ‬الضوء‭ ‬والألوان‭ ‬والجمال‭ ‬ملء‭ ‬يديه،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬رساماً‭ ‬يا‭ ‬بيروجينو‭ ‬الصغير،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أتمنى‭ ‬لك‭ ‬ثروة‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬هذهب‭.‬

‭ ‬هكذا‭ ‬تخبرنا‭ ‬إيمي‭ ‬ستديمان‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬افرسان‭ ‬الفـــــــــن،‭ ‬قصص‭ ‬حياة‭ ‬الرسامين‭ ‬الإيطاليينب‭ ‬الذي‭ ‬ترجمه‭ ‬الحسين‭ ‬خضيري،‭ ‬وصدر‭ ‬عن‭ ‬مكتبة‭ ‬الأسرة‭ ‬بالقاهرة‭. 

«مَن منا لم تخلب لبه ابتسامة الموناليزا ولم تبهره لوحة العشاء الأخير؟ هل فكرنا يوماً في سيرة هذا الفنان العظيم الذي رسم هذين العملين الخالدين؟ هل عرفنا ما وراء تلك الأعمال العظيمة من آلام وآمال؟ وهل عرفنا سيرة رجالات الفن العالمي؟! سيرة هؤلاء العظماء وغيرهم من الفنانين العالميين سردتها لنا الكاتبة.

إن سيرة حياة ليوناردو دافنشي صاحب «الموناليزا» و«العشاء الأخير» حافلة، ليس بالفن واللوحات العظيمة فقط، بل بالمآسي والآلام، فقد كان حلمه بالطيران طوال حياته رفيقاً لروحه، وكانت أحداث الحياة المريرة مخيبةً لآماله، فانطوى منعزلاً بعد أن رماه الجميع بتهمة الفشل!

كما أننا لا يمكن أن ننسى تلك السنين التي قضاها مايكل أنجلو وهو يرقد على ظهره ويرسم سقف كنيسة كابيلا سستين! كان مايكل أنجلو قامةً فنية لا تبارى، مثَّالاً عظيماً بهي الروح خضع لأمر البابا ورسم سقف الكنيسة، وتحمل من المشاق سنين عدة، بل اضطر إلى أن يرقد منبطحاً على سقالة خشبية ويرسم السقف، مع أن مجرد النظر إلى السقف عشر دقائق كفيل بأن يؤلم رأسك ورقبتك.

وكم كان فرا فيليبو ليبي طفلاً بائساً حتى إنه كان يلتصق بالأحجار من فرط الجوع والبرد في شوارع المدينة، ومضت حياته من هروبٍ إلى هروب ومن مآسٍ إلى مآسٍ كانت قلوبنا تخفق معه وهو يضيق بحياة الرهبان في الدير فينسل هارباً في منتصف الليل... منتصف العتمة، وبدا له الشارع الذي لم يره منذ سنين طويلة صديقاً قديماً! وتخفق قلوبنا ثانيةً معه حين يأسره القراصنة المغاربة ويباع كالرقيق. وحين يهرب ثانية من الملك كوسيمو العظيم الذي سجنه في قصره كي يرسم له لوحةً ما، ولقد فات الملك كوسيمو العظيم أن الطيور لا تغرد إلا حين تحلق، فينسل هارباً ويفر إلى الشارع المفتوح، بعد أن حظي من الملاءات والأغطية بحبل نجاة! وحين يخفق قلبه للعذراء الجميلة التي كانت في طريقها إلى أن تصير راهبةً، فيسرق الحب قلبيهما. ينسلان هاربين إلى العالم الوسيع، حيث يبتنيان عش سعادتهما!

ستنساب دموعنا مع دموع لوكريزيا حين يأتي الربيع ولا يأتي فيليبو الذي وعدها بالمجيء مع الربيع، فيغيب عنها فيغرب ربيع حياتها معه إلى الأبد!

العديد والعديد من قصص هؤلاء العظام وأسرار حياتهم أبسطها بين يديك أيها القارئ الكريم، ولقد راعيت أن آتي بلوحاتٍ وبورتريهات لهؤلاء الفنانين لم تكن في متن الكتاب الأصلي للمؤلفة إيمي ستيدمان ولم يضمها الكتاب بين دفتيه، وذلك لإبراز تنوع ونبوغ هؤلاء الفنانين العظام وكيف تدفق عطاؤهم، ولترى معي كيف تولد الأعمال العظيمة والرجال العظماء عبر الآلام والآمال، وكيف أنه قد يبدو ما يحدث لنا أحياناً محض مصادفة، ولكن يداً قديرةً وراء كل هذا، إنها يد المبدع الأعظم لهذا الكون الجميل الذي أحسن كل شيء خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين».

هكذا قدم الحسين خضيري للكتاب، ولم ينس أن يشير إلى أن ترتيب الكتاب المترجم هو الترتيب نفسه الذي أوردته الكاتبة في النسخة الأصلية، بل أورد المترجم اسم الكتاب الأصلي عن الإنجليزية، ليؤكد أنه ملتزم بالنص الأصلي، من دون تغيير يذكر.

قسمت الكاتبة الكتاب إلى أقسام متتالية باسم كل فنان اختارته، وقسمت كل قسم إلى فصول، وفق ســــيرة الفنان وما يستغرقه السرد، فقد تستغرق سيرة الفنان فصلاً أو فصلين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة وستة، حسب تفاصيل حياة كل فنان، وعلاقته بالفن، وأشهر لوحاته، وما تعرض له من أحداث جسام، بل وعلاقته بالمجتمع والسياسة والكنيسة، وضمنت كل قسم في حياة الفنانين أشهر لوحاتهم.

تخبرنا ستيدمان أن ثمة كتاباً ساعدها على إنجاز عملها المميز هذا، وترى أن كتاب «حيوات الفنانين» لجورج فاساري هو الذي أفادت منه كثيراً، وفارساي كان رساماً يعرض في كتابه حياة هؤلاء الرجال الحقيقية وليس فقط مجرد أسماء عظيمة تُعرف بلوحات مشهورة، تقول ستيدمان: «حين كنا أطفالاً لم نكن نأبه إذا ما كانت صورنا جيدة أو رديئة مادامت ألوانها مشرقة زاهية ومادمنا نعرف ماذا كانت تعني. وحين كبرنا وأصبحنا أكثر حكمة وتعلمنا أيضاً أن نعرف ما الجيد وما الرديء، بينما كان على ألسنتنا أن تتدرب كيف تنطق وأيدينا كيف تعمل وآذاننا أن تحب الموسيقى الجيدة أيضاً وعلى أعيننا أن تتعلم أن ترى ما هو جميل.

وربما مررنا بهذا دونما عنايةٍ به ونفقد حينئذٍ بهجة رائعةً كنا حريين بها.

لذا إذا ما تعلمت شيئاً من هؤلاء الفنانين العظام وصورهم الرائعة، فسوف يقوي ذلك عينيك. ويوماً ما ستزور إيطاليا المشمسة حيث عاش هؤلاء الرجال وحيث عملوا, وسوف تشعر أنهم أصدقاء قدامى وأن لوحاتهم لن تبهج عينيك فحسب، بل سوف تعلم قلبك شيئاً أعمق وأروع أكثر مما توضح الكلمات!».

بدأت ستيدمان كتابها بعرض سيرة الفنان الإيطالي جيوتو الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، وكيف صار أعظم فناني فلورنسا، وهو الذي بدأ راعي أغنام صغيراً وفقيراً على تلال جبال قرية فقيرة غير معروفة، وسيرة انتقاله إلى فلورنسا وتعلمه الرسم. وعرضت لجيوتو لوحة دانتي أليجيري، كذلك عرضت صورة لتمثال جيوتو بالقرب من أوفيزي.

ثم أتى القسم الثاني لتعرض فيه ستيدمان سيرة حياة الفنان فرا أنجيليكو، وقد عاش في نهايات القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن الرابع عشر، والمدهش أنه عاش في المكان نفسه، فوق التلال ذاتها التي أتى منها جيوتو، فتقول ستيدمان: «مر ما يقرب من مائة عام منذ عاش جيوتو في فلورنسا وفي الريف ذاته ذي التلال، حيث اعتاد أن يرعى أغنامه، وُلد رسام عظيم آخر. 

جاء عديد من الفنانين وذهبوا وأضافوا حلقات ذهبية من الجمال إلى سلسلة الفن التي ربطت كل هذه السنين. يوماً ما ستعرف أسماءهم وستعرف ما فعلوا، ولكننا الآن سنعرض لقليل من هذه الأسماء التي ربما كانت أعظم من غيرها».وتعرض الكاتبة له لوحة «الرحلة إلى مصر» كما تعرض صورة لمقبرته.

ثم عرضت لحياة الفنان ماساتشو، وقد عاش في القرن الخامس عشر حتى منتصفه تقريباً، وتحاول الكاتبة أن تربط استعراضها لسير حياة الفنانين زمانياً ومكانياً، فماساتشو عاصر أنجيليكو، الذي عاش في التلال ذاتها التي عاش فيها جيوتو، تقول: «لابد أنه في الوقت ذاته الذي كان فيه أنجيليكو يغطي جدران سان ماركو بصوره الملائكية، كان رسام آخر من طراز مختلف يعمل في كنيسة كارمن في فلورنسا. 

لم يكن راهباً مهذباً ولطيفاً، ولكن رجلاً عادياً ذا طبيعة طيبة وصعبة كما يبدو من صوره التي رسمها. 

اهتم بالقليل فقط حيث كان ينسى حتى أن يطلب أجره حين ينتهي عمله، ليعتني بملابسه أو نظامه الشخصي، فتلك أشياء لم يعرها تفكيره ولم يرهق فيها ذهنه. لقد أطلق عليه اسم ماساتشو الذي بدا يناســبه أكثر من توماس, لذا فإن اسم ماساتشو أو توم القبيح هو الذي عُرف به الرسام. هذا الرسام مهمل في أشياء عديدة، فلقد أعار قلبه وروحه لعمله الذي اختاره، وبدا له أن الرسامين دائماً يفشلون في أن يجعلوا حياتهم جميلة كصورهم». 

وقد عرضت الكاتبة لوحتين للفنان، الأولى له وهو يرسم والثانية لوحة الجزية من أعمال الفريسكو لماساتشو في سانتا ماريا، وفيها نرى القديس بيتر أقصى اليمين يدفع الضريبة لجامع الضرائب.

كما تعرض لسيرة فنان من القرن الخامس عشر أيضاً هو «فرا فيليبو ليبي»، تقول الكاتبة وهي تستعرض حياته منذ أن كان صغيراً، وحتى دخوله الدير، ثم خروجه للعالم وتركه الرهبنة: «لم يتوقف فيليبو ليفكر ماذا سيرسم، وبدت الأشكال مسحورةً كأنها تكبر تحت لمساته. كان الرهبان في أزيائهم البنية والبيضاء يضحكون أو ينحنون بقلق، وثمة من يصلون في الكنيسة والأطفال متعلقون بجونلات أمهاتهم... والشحاذون والأثرياء، بل وحتى الكلب الضال، نعم، والبنات الجميلات اللاتي ضحكن وتحدثن في همس، لقد رسمهم جميعاً تماماً كما رآهم، وحين تم رسم آخر جزء في الجدار توقف عن العمل». 

كذلك تعرض لوحة له وسط تلاميذه، كما تعرض لبورتريه لرجل وامرأة من رسمه.

ثم تتحدث عن سيرة الفنان ساندرو بوتيتشيللي الذي عاش في منتصف القرن الخامس عشر وحتى بدايات القرن السادس عشر.

 وتستمر الكاتبة في غزل سردها، وربط الفنانين بالزمان والمكان، فما إن تنتهي من الحديث عن فرا فيليبو ليبي، حتى تتحدث عن ساندرو بوتيتشيللي، فتقول: «علينا الآن أن نرجع إلى الأيام التي رسم فيها فرا فيليبو ليبي صوره وجلب الشهرة إلى دير كارمن.في تلك الأيام كان هناك مواطن صالح يُدعى ماريانو فيليبيبي، له ابن اسمه ساندرو... وقد توجه قلقه وأحلام يقظته إلى أن يصبح رساماً, والتقط كل الموسيقى التي ملأت الأجواء وهو يصغي إلى أغاني الطيور والنسيم العليل والمتراقص بين الأشجار وكل ألوان الزهور ذات الأعواد الرشيقة الملتفة، التقط كل هذا ونسجه في صوره, وقد تعلم أن يرسم الموسيقى والإيماءة وأصبح سعيداً». وقد عرضت الكاتبة بعد نهاية الفصل بورتريهاً شخصياً لبوتيتشيللي، كما عرضت كذلك بورتريهاً لرجل وميدالية من الملك كوسيمو العظيم، بمعرض أوفيزي من أعمال بوتيتشيللي.

وهكذا تواصل الكاتبة رصد حياة الفنانين الإيطاليين حتى تختم بالفنان باول فيرونيس، الذي عاش في العقد الثالث من القرن السادس عشر حتى قبيل نهايته، وتعتبره الكاتبة آخر فناني المدرسة الفينيسية العظيمة في فيرونا، تختم به وتقول عنه: «لقد هز فن الرسم بالفعل القوانين الملزمة للتقاليد القديمة، وقد كان فيرونيس حراً يتبع خياله البهي، ولكن من الذي يجزم أن تلك الحرية تعد حقاً مكسباً؟ نُغلق سجل الفن الإيطالي، ونحن نتنهد بحسرة ٍ وندير أعيننا المتعبة بكل روعته، وهذا الوهج بشمس الظهيرة، عائدين إلى الفجر المبكر حينما كانت روح الرسام تُطل من لوحاته وتلقننا الدرس البسيط: أن العمل الذي تم من أجل مجد الله أعظم من الذي تم من أجل مديح البشر».