الشّاعــر

الشّاعــر

الشّاعرُ المُنزوي في ظُلمةِ الغَسَقِ
روحي الفِداءُ لهُ من شاعِرٍ قَلِقِ
يُرقْرِقُ الدُّرَّ من أهدابِ مُقلَتِهِ
يَغْدو على غُصَصٍ، يُمسي على أرَقِ
يَمْشي، يُقلِّبُ كَفَّيْهِ بوَحْدَتِهِ
والهَمُّ سَيَّبَهُ في عَتْمَةِ النَّفَقِ
فَصَارَ يدْعو، كما «ذو النُّونِ»، خالِقَهُ:
«يا مُبْدِعَ الكَوْنِ خَلِّصني من الغَرَقِ
«ذو النُّونِ» طالَت ببَطنِ الحوتِ غَيْبَتُهُ
فاخْتَصَّهُ الله، بعد التَّوْبِ، بالعَتَقِ
وَظُلمَتي من نسيجِ اللَّيلِ ظاهِرُها
والنَّفسَُ باطِنُها، والهَمُّ مُعْتَنِقي
فَرِّجْ همومي، أنا في بحرِ ضائِقَتي
مازِلتُ أُقْذَفُ من عُمْقٍ إلى عُمُقِ
أنا المَريضُ بداءِ الشِّعْرِ يَفْتِكُ بي
وَيَنْزِعُ الرُّوحَ من جِسْمي بلا شَفَقِ
يا لَيْتَ لي في جِهاتِ الأرضِ أَمْكِنَةً
آوي إليها خَلِياً من عَنا الرَّهَقِ»!
***
وَهْوَ الذي جَمَعَ الأَمْجادَ من زَمَنٍ
وَلَمَّها من همومِ النَّفْسِ والحُرَقِ
أمَا دَرَى أن لَوْلا الهَمُّ في دَمِهِ
لما سَبَحْنا بمَوْجاتٍ من العَبَقِ؟!
كَأنَّما الشِّعرُ داءٌ نَسْتَلِذُّ بِهِ
يا حَبَّذا الشِّعرُ لا يُبْقي على رَمَقِ
يا طِيْبَهُ مَرَضُ الأشْعارِ من مَرَضٍ
رَصَّعْتُ لُؤْلُؤَهُ طَوْقاً على عُنُقي
الشِّعْرُ، في النَّفْسِ، جُرْحٌ لا شِفاءَ لهُ
فَإنْ رَتَقْتَ جِراحَ الشِّعْرِ تَنْفَتِقِ!
***
بالأمْس كانت خيولُ الحُلْمِ صَهْوَتَهُ
يجري بها ليَصيدَ النَّجمَ في الأُفُقِ
يَصطادُهُ، ثُمَّ يَهْمي من أصابِعِهِ
حِبْراً تلأْلأَ نوراً في سَما الوَرَقِ
وكانَ لَمَّا عيونُ الغيدِ تَسْحَرُهُ
يَهْذي وَيشْرُدُ كالمجنونِ في الطُّرُقِ
يَروحُ يَبْني من الأحلامِ جَنَّتَهُ
فَيعبقُ الحُلْمُ بالنِّسْرينِ والحَبَقِ
يَلْتَفُّ حَوْلَ خصورِ النَّارِ ساعِدُهُ
يَطْوي، فتَطْويهِ رَعْشاتٌ من الشَّبَقِ
حَتَّى إذا ارتَعَشَتْ «ليلى» على يَدِهِ
نَشْوى، تَعَمَّدَ في رَشْحٍ من العَرَقِ!
***
واليَوْمَ، لا غَزَلٌ، لا نَجْمَ في أُفُقٍ
والشِّعْرُ يوغِلُ في أسلوبِهِ الغَلِقِ
فالحِبْرُ مَقْبَرَةٌ، والقَبْرُ مَحْبَرَةٌ
والشِّعْرُ بَيْنَهما في كَف مُحْتَرقِ