شهر رمضان والاحتفالات الإسلامية

شهر رمضان والاحتفالات الإسلامية

شهر‭ ‬عظيم‭ ‬ورب‭ ‬كريم،‭ ‬فمنذ‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬المؤمنين‭ ‬الصيام‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬وباركه‭ ‬بأن‭ ‬أنزل‭ ‬فيه‭ ‬القرآن،‭ ‬صار‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬شهراً‭ ‬تكثر‭ ‬فيه‭ ‬التوبة‭ ‬والطاعة‭ ‬والتقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬بالصدقات‭ ‬والإحسان‭ ‬والدعاء‭ ‬والعبادة‭. ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬كذلك‭ ‬وفيه‭ ‬ليلة‭ ‬القَدْر‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬شهر،‭ ‬التي‭ ‬يغفر‭ ‬الله‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬من‭ ‬ذنوب‭ ‬عباده‭ ‬المؤمنين‭.‬

جاءَ‭ ‬الصيامُ‭ ‬فجاءَ‭ ‬الخيرُ‭ ‬أجمعهُ

ترتيلُ‭ ‬ذِكْرٍ‭ ‬وتَحْمِيدٌ‭ ‬وتَسْبِيحُ

فالنّفْسُ‭ ‬تدأبُ‭ ‬في‭ ‬قوْلٍ‭ ‬وفي‭ ‬عَمَلٍ

صَوْم‭ ‬النّهارِ‭ ‬وبالليلِ‭ ‬التراويحُ

وهكذا يصبح شهر رمضان ذا مكانة خاصة عند المسلمين، ليتسابقوا فيه للتقرب إلى الله بالطاعات، ويفرحوا بقدومه وقضائه. وعلى مرّ السنين اتخذت هذه الفرحة ألواناً من التقدير
لا التقديس، وطرقاً لتطهير النفس من التدنيس. وأصبحت مواسم الاحتفالات الإسلامية ذات طبيعة خاصة، تجمع بين النواحي الدينية والاجتماعية والروحية. ومع مرور الزمن، مضى المسلمون في تمييز مناسباتهم باحتفالات عدة، جعلت القائمين على الدولة يولونها الرعاية الرسمية، لتخرج مراسيم بتقنين وتنظيم مثل تلك الاحتفالات. ولعل انتشار الطرق الصوفية في دولة الإسلام في العصر العباسي الثاني، وما بعد ذلك، ساعد على أن تكون مثل تلك الاحتفالات سمة لمجتمعاتها آنذاك، كان المسلمون ينتهزون كل مناسبة ليفرحوا بها، لتكون السعادة طبيعة حياة المسلم، ففي السعادة إعانة للمسلم على إنجاز عمله اليومي ورعايتة لأسرته وصلة رحمه لأهله وأحبائه. فبالإضافة إلى الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، صار الناس يحتفلون برأس السنة الهجرية، ومولد الرسول ، وغرة رجب ونصفه، وغرة شعبان ونصفه، وخروج مواكب الحجّ وعودتها. وتميزت تلك الاحتفالات بمسيرات تنظمها الدولة وتشارك الطرق الصوفية فيها، حيث كان كل فريق من تلك الطرق يسير بأعلامه وأوشحته منشداً أناشيد دينية مخصصة لتلك المناسبة، وعادة ما يكون النشيد مصحوباً بإيقاع الدفوف.  تلك الاحتفالات الدينية باتت تتراجع حتى بدأت تختفي وكاد نورها ينطفئ، ولا نراها اليوم إلا قليلاً، وفي حدود بعض الدول كمصر والمغرب وسورية والعراق. تلك الدول التي لا تزال تحتضن الصوفية وأهلها. 

عُرف التصوف منذ القدم، قدم الديانات الأولى، وهو نشاط معرفي وسلوكي يتخذه الإنسان طريقاً لمعرفة الحقيقة لتحقيق سعادته الروحية وكماله الأخلاقي.  والتصوف نوعان: ديني وفلسفي، فالديني مشترك بين كل الأديان، أما الفلسفي فيرجع أساساً للتراث اليوناني. ويأتي مصطلح «صوفي» كمصطلح دخيل على اللغة العربية، ساد استعماله عند المسلمين في القرن الثاني الهجري. يقترن التصوّف بالزهد، أو بلبس الصوف أحياناً وبالصفاء أحياناً أخرى، لكن المصطلح يرجع إلى الكلمة اليونانية sophy، التي تعني «الحكمة»، أما كلمة philo فتعني «حب» أو «محب»، وبهذا فإن كلمة philosophy، أي الفلسفة، تعني حب الحكمة. وعليه فإن الصوفي هو الحكيم العارف بالله الذي هو «الخير المحض».

عندما كثرت الفتن في صدر الإسلام، وتبعثرت الحيلة من السلطة السياسية في إقرار السلام، تفشى العنف على شكل ثورات شعبية وشعوبية، سياسية ودينية، مذهبية وطائفية، فاضطرت الإدارة السياسية للدولة إلى قمع تلك الثورات عسكرياً، ثم بدأت بتشكيل جهاز الأمن السري، لمراقبة الحركات المناوئة لسياسة الدولة، حتى أُخذ الناس بالشكّ والريبة، بدلاً من الدليل والبرهان. وشاعت آنذاك تهمتان: تهمة الخروج على الحاكم، وتهمة الزندقة، وكلتا التهمتين كانت تتطلب الإقرار بالذنب والاستتابة، وكان مجال التعزير فيهما يتراوح بين التأنيب والتوبيخ وبين حدّ الحرابة؛ وهو تقطيع الأطراف من خلاف ثم الصلب والتقتيل. بدأ التصوف في الإسلام سلوكاً تعبدياً سمته النسك والزهد بالدنيا في سبيل نيل الثواب في الآخرة. وأتت فترة «الترجمة» لتفتح على المسلمين نافذة على علوم الحضارات المجاورة، خاصة اليونانية بفلسفاتها الممتعة، فقد تحدث هيراقليطس وأفلاطون وبارميندس وأفلوطين السكندري عن الحكمة في أصل الوجود والمبدأ والمعاد. واشتغل المفكرون والزهاد المسلمون بقراءة هذا الفكر اليوناني ومن ثم أعادوا صوغه في قالب إسلامي، فمن الفلاسفة الكندي ومحمد بن زكريا الرازي وابن سينا والفارابي وابن رشد، ومن الزهاد في العراق الحارث المحاسبي
(ت. 243هـ) وأبوالقاسم الجنيد (ت. 297هـ)، وثوبان بن إبراهيم (ذو النون المصري، ت. 247هـ) في مصر، وفي سورية أبو سليمان الداراني (ت. 215هـ). وقد حاول أبو حامد الغزالي تأسيس مدرسة صوفية تنأى عن الفلسفة باستعمال علم الكلام، في كتابه «إحياء علوم الدين»، وقد لقي هذا الكتاب رواجاً عند العُبّاد أو الزهاد والمتصوفة لم يلق مثله عند الفلاسفة. وقد عدّ المتخصصون أبا حامد الغزالي مؤسساً للمدرسة الصوفية العملية، وذلك عندما تناول أطروحات من سبقه من المتصوفة، تحليلاً وتعديلاً ونقداً ونقضاً، كان أهمها وحدة الوجود وحلول اللاهوت في الناسوت، حلول الله في الإنسان، تلك التي خاض بها الحسين الحلاج (ت. 309هـ). ثم جاء كبار المتصوفة ليضفوا على التصوف الإسلامي فلسفات عقلية وعلمية؛ كأبي الفتوح السهروردي مؤسس التصوف الإشراقي، ومحيي الدين بن عربي، الذي غاص بوحدة الوجود والأديان، وعمر بن الفارض الذي مزج الخيال والحقيقة لتعيش النفس في حقيقة الخيال، دون تثريب
ولا تأنيب، فيستعير المستدرك من الكلمات ليصل إلى المشترك في المعاني، كاشتراك الحب والخمر بالسُكرِ ليكون سُكر الحبِّ في العشق الإلهي. أما عبدالكريم الجيلي (ت. 826هـ) فقد أفنى حياته في إثبات تطابق الشخصية المحمدية بالإنسان الكامل.

وتعتبر الطرق الصوفية مدارس نشأت وتطورت واستمرت إلى عصرنا هذا. ومن أشهر الطرق الصوفية في عصرنا هذا: «القادرية» نسبة إلى عبدالقادر الجيلاني (ت. 561هـ)، «الرفاعية» نسبة إلى أحمد الرفاعي
(ت. 570هـ)، «الشاذلية» نسبة إلى أبي الحسن علي بن الحسن الشاذلي (ت. 656هـ)، «المولوية» نسبة إلى (مولانا) جلال الدين الرومي (ت. 672هـ)، أما النقشبندية فسميت كذلك نسبة إلى «نقش بند»، أي ربط النقش يعني الكمال، و«الأحمدية» أو «البدوية» نسبة إلى أحمد البدوي (ت. 675هـ). وتفرعت من هذه المدارس طرقاً أخرى جديدة، وتولفت أفكار أكثر من مدرسة معاً، مثل الطريقة «النقشجمية» وتعني: («ن» نقشبندية «ق» قادرية «ش» شاذلية «ج» جنيدية «م» مولوية).

إلا أنّ التصوف في الإسلام لم يلْقَ قبولاً عند المدرسة الأصولية الإسلامية، تلك المدرسة التي حكمت على التصوف بأنه أمر محدث على الدين الإسلامي، وما يجري في الطرق الصوفية من شطح وشطط –على حدّ زعمهم- إنما هو استبداع وضلال. وقد ساد هذا المفهوم فترة من الزمن، ساعد عليه غلو بعض المتصوفة في المبالغة بفكرة تطهير النفس، ورفع مستوى شيوخهم من التقدير إلى التقديس، حتى أضفوا عليهم نزاهة الأولياء وحلل الأنبياء، كما أعطوا لعلوم الباطن مساحة روحية يرفضها العقل، كالرؤى والإلهام وتفسير الأحلام، ثم دخلوا بفكّ السحر وطرد الجان واستخدموا لذلك تعاويذ وسبلاً يرفضها العقل وينكرها الدين. وأولوا التنزيل بما يتماشى ومقاصدهم من عرافة وخرافة وتنبؤ بالغيب، فأصبحت عاداتهم جزءاً لا يتجزأ من عباداتهم. عند ذلك، بدأ الهجوم عليهم كجماعة مبتدعة، فاختلط الحابل بالنابل حتى شمل ذلك الذمّ المعتدلين وأهل الصواب منهم، وكأنهم قد تجاهلوا أو تناسوا في ذلك قول شيخ المدرسة الأصولية ابن تيمية في مجموع فتاواه، عندما قال في المتصوفة الذين سبقوا زمانه أو عاصروه: «وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم في طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين...».

وعلى العموم، إنّ الدّين هو مجموع العبادات والمعاملات والأخلاق التي يجعلها الإنسان منهجاً لحياته، وما الضير أن يعيش الإنسان سعيداً في دينه وسعيداً في حياته، ولا مانع أن يكون الإنسان في سعادة وراحة، فليست كثرة الخير بالبكاء والعناء، فإن كان الإنسان يؤجر بالصبر على الشرِّ، فإنّه أيضاً يؤجر على حمد وشكر النعَم. ولا تنتشر دعوة الدين الحقِّ إلا بالحُبِّ، ولا تتقهقر أو تتراجع إلاّ بالكره والسَّبِّ. وكل الرجاء أن يمنّ الله على الأمة العربية والإسلامية بالحبّ والسعادة والسلام، ويَردُ عنها الفرقة والحزن والآلام .